عبد الحي مسلّم زرارة

قراءة في أعمال عبد الحي مسلّم

يدرك الناس الذين يقتربون من الفن في أي ميدان من ميادينه، نتاجاً أو نقداً، صعوبة الحديث عنه -صعوبة القول: ما هو الفن، وما هي وظائفه، وكذلك الحال تكون صعوبة الحديث عن تجربة فنّان من الفنانين ومحاولة قراءة تجربته من خلال نتاجه، صعوبة يتطلب تجاوزها مقدار من الخبرة التي لا يتوفر لي إلا القليل منها، ولكن، وبما أن الكتابات النقدية أنتجت خبرات متنوعة في طرق الاقتراب من الفن ومنتجيه ونتاجاتهم، كالحديث عن الخلفية الاجتماعية والثقافية للفنان، وعن سماته الشخصية ونوازعه، وتقنياته وعلاقتها بموضوعات أعماله، وأشياءٌ أخرى كثيرة تسهل في حال خلطها والتلاعب بنسب مزيجها أن نقول أفكاراً نظنّها للوهلةِ الأولى كافيةً لإرضاء فضولنا وخلخلة كثافة ما نجهله في موضوع من موضوعات الواقع، ولنصنع بقعة ضوء من المعرفة في داخله، هذه البقعة التي نظنها ستكبر مع الوقت لا تلبث أن تختفي فجأة و دفعة واحدة لتتركنا في حيرة لا تنتهي. وما محاولتي للكتابة عن  الفنان الراحل عبد الحي مسلم إلّا محاولة لصنع مساحة من المعرفة في جانب ضئيل الحجم من بحر تجربته. ومع ذلك، أزعم أنها محاولة جريئة لم تكن لتكون لولا معرفتي به عن قرب جعلتني أظن إنني قادر على الإيفاء بواجب من واجبات الصداقة اتجاهه، بأن أقول ما يساعد في إلقاء الضوء على جانب من تجربته الفريدة من نوعها، ولا أعلم إن كان ظني بمحله أم لا .

يعدّ الفنان عبد الحي مسلم نسيج وحده، فثمة صعوبة لا تخفى على الدارسين والمختصين، وحتى على المطلعين على الشأن الفني، في  النظر إليه بوصفه نحات. لقد تطورت تجربته الفنية ببطء منذ بداياتها الأولى التي يقال أنها كانت في ليبيا، ولكن أظن أنها كانت في الأردن عندما كان عنصراً من عناصر الجيش الأردني، فهو، وبحسب ما كان يقول، بأنه كان في تلك الأيام يحب أن يسير وحيداً داخل المعسكر وهو يردد أناشيد الثورة الفلسطينية، التي كانت في ذلك الوقت قد بدأت ببواكير عملها الفدائي، كان يردد أناشيدها و كأنه يعيش تجربتها، إنها امتثال للحالة، صياغة نفسه كفدائي من خلال طقوس ترديد أناشيد الفدائيين و كان ذلك قبل أن يكتشف المادة التي سترافقه طوال ما بقي من عمره، مادة نشارة الخشب المخلوطة بالغراء ليعيد في ليبيا التجربة مجدداً بأن يحيا كفدائي من خلال طقوس صنع المجسمات التي تعبر عن الفدائيين. لقد أمضى شطراً طويلاً من حياته لا يصنع لوحات إلا بموضوع واحد، الفدائيون والمقاومة، قبل أن يكتشف مهمته اللاحقة في حفظ التراث، حفظ العادات والملابس، الرقصات والأغاني، تقاليد الأفراح والأتراح، ولكنه تناول، أيضاً، إلى جانب هذين الموضوعين الرئيسيين موضوعات عاطفية مثل مشاهد الحب وجمال المرأة. لقد أحدث انقلاباً على صعيد الموضوعات كما حاول أن ينجز انقلاباً على صعيد الشكل أيضاً، فهو في مرحلة ما من مراحل تجربته الطويلة أنجز أعمالا فراغية كمنحوتات ولكنه لم يستمر في هذه التجربة، ربما لأن المادة التي يعمل بها لم تتجاوب مع هذا المسعى، ولكن على صعيد اللوحات المجسمة تمكن من إنجاز لوحات بعناصر أقل وتكوينات متماسكة تشكيليا وحتى بدرجات لونية متقاربة و أكثر انسجاما مع بعضها .

وللتدليل على ذلك تظهر، باعتقادي، اللوحة رقم (1)  كأنا تنتمي إلى المرحلة الثانية من تجربة الفنان مسلّم، وهي المرحلة التي صارت فيها موضوعات التراث والذاكرة الجمعية تغلب على لوحاته بعد المرحلة التي كانت فيها موضوعات الكفاح والعمل الفدائي الفلسطيني هي الغالبة.

لوحة رقم (1)

[ لست أعلم إن كان لهذه اللوحة اسم أو أن عبد الحي أطلق علها اسماً ما, وتسميتها بالزيارة هي من  اقتراحي لوجاهة أراها في هذه التسمية المناسبة لموضوع اللوحة].

تصوّر اللوحة مشهداً اجتماعياً مألوفا لنا وهو مشهد “الزيارة” التي يتبادلها الناس فيما بينهم، أصدقاء ، أقارب … الخ ، وواضح من المشهد الذي تصوره اللوحة أننا أمام زيارة تقوم بها أسرة لأسرة، لكن هناك ما يثير الحيرة في هذه اللوحة – بل ربما في كل لوحات عبد الحي التي تتضمن مشهداً لنساء ورجال معاً من حيث طول قامة النساء بالنسبة للرجال، فالنساء يظهرون بنفس طول الرجال أو أطول قليلاً، صحيح أن المرحوم أبو يوسف لم يكن يلتزم بالنسب التشريحية، ولكنه كان يميل، بذات الوقت، للواقعية بتصوير نماذجه، فهو كان شديد التعلق بالتفاصيل، ولا أظن أن تفصيلاً من نوع أن المرأة أقل طولاً من الرجل كان سيغيب عن باله. وربما يكون لتفسير سياسي ما -من نوع أن عبد الحي كان يميل لتأييد المساواة بين الجنسين يقف وراء ظهور النساء بطول الرجال أو أطول قليلاً منهم- أن يكون مقبولاً لو كانت اللوحة ذات بنية تعبيرية أكثر عمومية وليست مشهداً بسيطاً من الحياة، وبتفاصيل تقترب من التسجيل. ولا أستبعد، بطبيعة الحال، وجود فكرة بجعل المرأة بطول الرجل أو أطول منه في أعمال عبد الحي مسلم، ولكن علينا أن نبحث عنها في المكان الصحيح وألا نمسك بأول فكرة تصادفنا، فكرة ذات بعد سياسي تحرري وبالتالي على صلة بالأخلاق كفكرة مساواة الجنسين، فكرة تبدو لذيذة ولكنها للأسف ضعيفة لأن علاقتها بالعمل التشكيلي المحسوس تبدو خيطية شديدة الضعف . إذن علينا أن نبحث عن فكرة حسية وثيقة الصلة بالثقافة البصرية للفنان. لماذا لا نقول إن عبد الحي كان يرغب بصنع نماذج نسائية جميلة، نساء طويلات، هيفاوات القد. ومع أن النساء عموماً، وحتى الطويلات منهن، هن أقصر من الرجال، فهذا صحيح في الواقع فقط، وليس في المخزون البصري -المخزون البصري للذاكرة القديمة التي تعود لمرحلة الطفولة، والتي استمد منها الفنان مادة الكثير من لوحاته في المرحلة الثانية من تجربته الفنية. حيث يعلب الإحساس بالنسب، في المخزون البصري، دوراً أكثر من مقارنة العناصر ببعضها، فعلى سبيل المثال: نحن نشعر بتمثال صغير الحجم بأنه تمثال لمارد تبعاً لنسبته، كما أن العكس صحيح عندما نقف أمام تمثال ضخم ونشعر أننا أمام قزم تبعا لنسبة التمثال أيضاً. نسب المرأة أكثر رشاقة بكتلتها وخطوطها الانسيابية ويكفي أن تقارن بالرجل في المخزون البصري، وليس في الواقع، لتكون أكثر رشاقةً وطولاً منه، ولكن لكي يكون ذلك ممكناً، في واقع اللوحة، فإنه ينبغي أن تحضر العناصر البشرية على حدة سواء بسواء، وأن لا تُقارن فيما بينها. يجب أن يستغرق الفنان بصنع لوحته دون أن يلقي نظرة إلا على الجزء الذي يعمل به، أن لا يرى اللوحة ككل، بل أن ينجزها كما لو كان يقف بداخلها.

يبدو مثل هذا الفرض غريباً وفي غاية الطرافة، ولكن أظن بأن جميع أصدقاء الفنان عبد الحي، الذين كانوا يترددون على مرسمه، يحتفظون بذاكرتهم كما أحتفظ أنا بالعديد من المرات التي كان الفنان فيها يطلب رأي من يزوره بجزء من لوحته وليس بلوحته ككل، أو أن يخبر زائره عن مدى السعادة التي شعر بها، وهو ينجز نموذجاً لامرأة في إحدى اللوحات، أو على سبيل المثال أن يقول بلهجته البدوية وهو يشير إلى جزء من إحدى اللوحات: “كتير كيفت عليه هاض الزلمة أبو ربابة “.

صحيح ان الإعجاب بجزء من العمل الفني هو أمر نجده لدى كل الفنانين سواء كانوا فنانين فطريين أم فنانين مراكمين للتجارب (أكادميين)، ولكن من قال أن كل نوع من هذين النوعين من الفنانين يحيا في عالم خاص لا يتقاطع مع عالم النوع الآخر، على الأغلب يتشارك الفنانون جميعاً بنفس الصفات والنوازع و لكن تختلف هذه الصفات بنسب حضور بعضها قياسا ببعضها الآخر .

تتشارك أعمال عبد الحي مسلم عموما بالعديد من الصفات التي يتكرر حضورها في لوحاته ، و من بينها التكوين الذي يعتمد على التكرار الزخرفي في توزيع النماذج البشرية على سطح اللوحة ، إنه حل سهل للحصول على تكوين متماسك و جميل , و لكنه أيضا الحل الذي يلغي عامل الصدفة أو على الأقل يخفف من دورها في صنع التكوين الفني للوحة فكل عنصر يتوجب عليه أن يظهر بصورة كاملة ليؤدي دوراً في المشهد التمثيلي للوحة صحيح انه يوجد بالإرث الذي خلفه الفنان عددا من اللوحات التي تخالف هذه القاعدة كما هو الحال في اللوحة رقم ( 2 ) التي تحتوي على قدر كبير من التعقيد في تكوينها، إلا أن ما يغلب على التكوينات التي اعتمدها عبد الحي لإنجاز لوحاته هي التكوينات البسيطة التي تظهر بنية المشهد كما هي في مخزون العقل وليست كما تتبدى للعين في لحظة من اللحظات. يستحضر الأشكال من عقله ويضعها على سطح اللوحة، فيكون الرابط بين العناصر فيما تمثله من أدوار في المشهد أكثر منه ربطا تشكيلياً.

لوحة رقم (2)

وتظهر، في اللوحة رقم (1)، الخلفية المقسمة لقطاعات بخطوط أفقية وشاقولية تقسمها إلى قطاعات ذات نسب جميلة تعكس الاهتمام الحسي الكبير بها من قبل الفنان، أما التكرار فهو بتوزيع العناصر البشرية الذين يصطفون في قطاع أفقي يمتد من طرف اللوحة حتى طرفها الآخر، وبقليل من التدقيق يمكننا أن نلاحظ بأن التكرار غير موجود، إلا إذا نظرنا لهؤلاء الأشخاص بوصفهم عناصر بنائية، عندها سيظهرون بوصفهم خطوط شاقولية تصطف إلى جانب بعضها، صحيح أنها ليست بنفس الطول ولكن ذلك لا يقلل من طابع التكرار في اللوحة، في لوحات أخرى يكون التكرار أكثر حدة كما هو الأمر في اللوحة رقم (3) والتي تمثل جنازة الشهيد، حيث نرى فيها بأن الأشخاص الذين يحملون الشهيد يتكررون بصورة رجل امرأة على الترتيب وبنفس الحركة تقريباً . بينما في اللوحة رقم (1) هناك، ثمة، تنوع أكثر بالأشخاص، رجال ونساء، بنات وأبناء، ويتوزعون في مشهد تمثيلي حيث يتوجه صاحب المنزل وزوجته باتجاه مقابل للزوّار للترحيب بهم، فيصافح صاحب المنزل، بوقار، ضيفه رب الأسرة القادمة للزيارة، في حين تقوم صاحبة البيت بتبادل القبل مع ضيفتها، وأثناء ذلك، يقف الأبناء والبنات بانتظار دورهم بالترحيب .

لوحة رقم (3)

التكرار ليس زخرفياً فقط فالتكرار يحيل إلى موضوع آخر وهو الطقس، إنه الإيقاع منتظم لحركة العناصر البشرية الذي لا يوجد في الواقع إلا عند تأدية الطقوس الدينية أو في الرقصات الجماعية . والطقس على علاقة وثيقة بالأسطورة، فإذا كانت الأسطورة تسعى لإحلال المنطق في الطبيعة، فإن الطقس يفعل الشيء ذاته ولكن في البشر. الطقس يجعل الناس يخضعون لنظام عقلاني غير موجود في طبائعهم الغريزية، يهذبهم و يسمو بهم، والطقس لا يكون إلا بالجماعة، حيث يكتسب الفرد، بداخلها فقط، معناه تماماً مثلما تكتسب العناصر معناها في الأسطورة من نسيج حكايتها، وهي معاني ثابتة لا تتغير إلا إذا تغير نسيج الحكاية نفسها، وذلك بعكس الحلم، حيث يكون العنصر نقطة تشابك لعدة معانٍ، وانطلاقا من كل عنصر يمكن أن يعاد نسج حكاية الحلم مجدداً. ولذلك تبدو اللوحات السريالية مبهمة وعصية على الفهم في حين تكون اللوحات المعمولة بحس أسطوري واضحة تماماً.

لم يكن يتناول الأسطورة، في حالة عبد الحي مسلم، كموضوع في أعماله الفنية، ولكن الموضوعات الأسطورية شيء وأسلوب الصياغة الأسطورية شيء آخر، فعلى سبيل المثال تناول الفنان الراحل جورج ماهر الموضوعات الأسطورية في الكثير من أعماله الفنية، ولكنه تناولها بصياغة رومانسية تعتمد على الحركة العنيفة للعناصر والخطوط والألوان، وإذا كانت الأسطورة واضحة فهذا لا يعني أن الغموض والسحر الذي يصنع الجاذبية غائبين عنها، ففي اللوحة رقم (1) يبدو المشهد أمامنا بسيطاً، وموضوعها شديد الوضوح، ولكن إذا نظرنا إلى الشخص الثالث الذي يحمل السبحة بيده على يسار اللوحة، لماذا يحملها؟ ما علاقتها بالمشهد؟

في الواقع ليس غريباً أن يذهب شخص لزيارة آخرين وهو يحمل سبحة في يده، ولكن واقع اللوحة شيء مختلف، وللتوضيح يمكننا أن نأخذ اللوحة التي ينتجها الفنان الأكاديمي كمثال مضاد، حيث أن الصدف التي يصنعها الفنان من درجات لونية إلى خطوط وتوزيع المضيء والمعتم على سطح اللوحة، وما يظهر وما يختفي من كل عنصر، جميعها عناصر  يجب أن تظهر كصدف تصنع تكوين اللوحة وجمالها، قد يلجأ الفنان لإضافة عنصر يدعم أو لا يدعم الفكرة ولكن -حتماً- يجب أن يدعم تكوين الشكل، فاللوحة تظهر كما لو كانت بنية شكلتها الصدف. في حين لا يلتزم فناناً فطرياً مثل عبد الحي بمثل هذه القاعدة، فالسبحة التي في يد الشخص، المذكور في اللوحة، هي واقعية كخلفية للشخص وليس كخلفية للوحة، حتى أنه يمكن القول أن اللوحة تبدو كصدفة جمعت عناصر كلّاً منها يمثل بنية خاصة، أو كما يخبرنا ليفي شتراوس أن الأسطورة لا تبنى من مواد خام بل من مخلفات مواد مصنّعة وكل عنصر يتضمن تاريخه الخاص. ولكن لوحة عبد الحي ليست صدفة فهي مشهد جرى تأليفه بعناية، مشهد يمثل الزيارة والشخص الذي يحمل السبحة وينتظر دوره بالترحيب، ربما يقوم بالتسبيح بحمد الله في نفس الوقت، أي إنه يمثل دوراً مشهدياً بالتواصل الاجتماعي ولكنه ليس عنصراً مجرداً أعده الفنان ليكون كجزء من اللوحة فهو شخص يخفي عالمه الخاص وهذا ينطبق على كل عنصر من عناصر المشهد، وهذا أيضا ما يفسر لنا لماذا كان عبد الحي يظهر سعادته بعنصر ما من عناصر اللوحة بوصفه عملاً فنياً مستقلاً .

عن محمود السعدي

شاهد أيضاً

جداريات السوري اسماعيل الرفاعي: طقوس وحدْس وطباشير طفولة

يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *