في العدمية السياسية والطهرانية الأخلاقية والواقعية الانبطاحية

لأسبابٍ كثيرةٍ، يتبنى سوريون كُثر، في السياق الحالي، موقف العدمية السياسية. والعدمية موقفٌ أخلاقيٌّ، بالدرجة الأولى؛ وهي تتمثل في الاعتقاد بأن لا معنى أو لا وجود لأي أساسٍ قيميٍّ في هذه الحياة، ولا وجود لمبادئ أو أسسٍ تسمح لنا بالتمييز بين الخير والشر، أو بالتمييز عمومًا بين الحقيقة والخطأ أو بين الجمال والقبح … إلخ. والعدمية، في المجال السياسي، تتمثَّل في القول بأن لا معنىً أو جدوى لأي قولٍ أو فعلٍ في مجال السياسة، ولا إمكانيةً للتمييز بين الجيد والسيء، في هذا المجال؛ فكل المؤسسات والأطراف والشخصيات، المشتغلة في هذا الميدان، سيئةٌ بالضرورة، لدرجةٍ أو لأخرى. ويبدو واضحًا حضور هذا النمط من الاعتقاد في السياق السوري المعاصر، حيث تسود النظرة النافرة من كل “الأطراف” السياسية: ﻓ “النظام” و”المعارضة” يتنافسان في السوء، وكثيرون ينظرون إلى كل المنخرطين في الشأن السياسي العام على أنهم مجرمون أو فاسدون أو مرتزقة أو ما شابه.

وفي مفارقةٍ طريفةٍ، تترافق هذه “العدمية السياسية” غالبًا مع “طهرانيةٍ أخلاقيةٍ” أو تفضي إليها. ووفقًا لهذا التزاوج بين العدمية والطهرانية، يكون الواقع السياسي أسوأ من أن أدنس نفسي بالعمل فيه. فالسياسة رجسٌ ونجسٌ، وهي ميدان الخبث والخبثاء؛ ولهذا ينبغي الابتعاد عنها، والتعفف عن ممارستها، وعدم الانخراط فيها أو حتى التعامل المباشر مع مؤسساتها والعاملين فيها. السياسة هنا ليست ميدانًا غير أخلاقيٍّ فحسب، بل هي ميدانٌ لا-أخلاقيٌّ، بامتيازٍ، فهي تتضمن بالضرورة الانحلال الخلقي، والتخلي عن المبادئ الأخلاقية، وتبني براغماتيةٍ نفعيةٍ ومصلحيةٍ لا-أخلاقيةٍ بالضرورة.

وتبلغ المفارقة ذروتها، عندما يفضي التمازج بين العدمية السياسية والطهرانية الأخلاقية إلى واقعيةٍ (انبطاحيةٍ) تقول بوجوب الاستسلام أو الخضوع لما هو واقعٌ/ واقعيٌّ. ولا يقتصر متبنو “الواقعية الانبطاحية” على وضع الواقع والإرادة في حالة تخارجٍ أو تغايرٍ، أو على نفي كون إرادة الإنسان وقيمه وتطلعاته وأفعاله جزءًا (فاعلًا) من هذا الواقع، بل يذهبون أيضًا إلى حد اختزال الواقع في جانبٍ منه، وهو الجانب الذي تفرضه القوى المهيمنة فيه عمومًا. وبلغة أرسطيّة نقول: تختزل الواقعية الانبطاحية الواقع فيما هو قائم بالفعل، وتغض النظر عن عالم القوة أو الإمكان، و/ أو تغض النظر عن دور الإرادة في خلق الممكنات و/ أو تحويلها من عالم القوة إلى عالم الفعل.

وعلى الرغم من أن التحلي بالواقعية أمرٌ إيجابيٌّ من حيث المبدأ، إلا أن وجود تلك الإيجابية يتضمن ويتطلَّب ضرورة عدم اختزال الواقعية في موقفٍ انبطاحيٍّ يتقبّل، أو حتى يقبَل، كل ما في هذا الواقع، ويخضع له. فبإمكان الإنسان أن يكون واقعيًّا، في رفضه لمعظم ما هو واقعيٌّ. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم قول تشي غيفارا الذي اتخذته الثورة أو الحركة الطلابية الفرنسية عام 1968 شعارًا لها: “كن واقعيًّا واطلب المستحيل”.

ثمة أسبابٌ كثيرةٌ تشرح أو تفسِّر سبب انتشار النزعة العدمية، الممتزجة مع الطهرانية الأخلاقية، لدى كثيرٍ من السوريين، في السياق الحالي. فإلى جانب السمعة السيئة الشائعة والملازمة لمفهومي السياسة والساسة، يعتقد سوريون كثر بأنهم قد تعرَّضوا لطعناتٍ كثيرةٍ من كل الجهات السياسية ذات الصلة بالثورة السورية تقريبًا. فإضافةً إلى إجرام النظام السياسي، الذي لم يتوقف حتى الآن عن تقتيل السوريين و/ أو تهجيرهم و/ أو قمعهم وسجنهم وتعذيبهم إلخ، لم تقصِّر دولٌ مجاورةٌ وغير مجاورةٍ في الإسهام، إسهامًا مباشرًا أو غير مباشرٍ، في عمليات تقتيلٍ وتهجيرٍ موازية أو متقاطعة مع عمليات النظام. والكلام ذاته ينطبق على كل المنظمات السياسية الإقليمية والدولية، كالجامعة العربية الأمم المتحدة ومجلس الأمن … إلخ. وتبلغ تلك المأساة/ المهزلة ذروتها حين يكون السوريون الثائرون على النظام ضحيةً لكثيرين ممن تنطعوا لتمثيلهم والدفاع عنهم وعن قيم ثورتهم ولتحقيق غايات هذه الثورة. فإضافة إلى الفشل الذريع لكل مؤسسات المعارضة/ الثورة، وتحولها إلى أداة ذليلةٍ/ مذلولةٍ لقوىً إقليميةٍ ودوليةٍ، أظهر أفرادٌ كثيرون من القائمين على هذه المؤسسات أسوأ الأشكال المرذولة من التبعية لهذه الدولة أو تلك، وأصبحوا ممثلين لمصالح تلك الدول وتوجهاتها، أكثر من كونهم ممثلين لمصالح السوريين الثائرين، ولقيم ثورتهم. وتحوَّل بعض هؤلاء المعارضين القائمين على مؤسسات المعارضة الثائرة إلى أُجراء مرتزقة بالمعنى الحرفي والسلبي للكلمة.

على الرغم من كل هذه الأسباب وغيرها، لا يبدو مسوَّغًا تبني موقف العدمية السياسية و/ أو الطهرانية الأخلاقية؛ لكونه لا يقتصر على المساواة القيمية بين المجرمين والضحايا فحسب، بل يتضمن أيضًا جعل المجرمين ضحايا ميدانٍ (السياسة) لا يُسمح لمن فيه إلا بأن يكون مجرمًا. فالإجرام السياسي هو، من هذا المنظور، نتيجةٌ حتميةٌ لطبيعة السياسة وبنية النظام السياسي، وليس نتاجًا لذواتٍ حرةٍ وواعيةٍ ومسؤولةٍ عما تفعله. يُضاف إلى ذلك أن تبنينا العدميةـ و/ أو الطهرانية يؤسس لامتناعنا عن القيام بما يمكن فعله، أو قوله، لدعم ما نراه إيجابيًّا أو مناسبًا، ومجابهة ما نراه سلبيًّا أو غير مناسبٍ.

يمكن للرفض الجذري للواقع القائم أن يتخذ شكلين رئيسين: العدمية والثورية. وفي حين تكتفي العدمية بالتقييم السلبي للواقع عمومًا، ولا ترى أساسًا أو معنىً أو جدوىً لأي قيمٍ أو مبادرةٍ سياسيةٍ/ أخلاقيةٍ إيجابيةٍ، تسعى الثورية إلى تغيير هذا الواقع المرفوض، تغييرًا جذريًّا، وتتبنى، ضمنًا أو علنًا، قيمًا سياسيةً/ أخلاقيةً إيجابيةً تعمل على تجسيدها في واقعٍ بديلٍ منشودٍ.

استنادًا إلى ما سبق، وفي السياق الراهن، يجد السوريون الثائرون على النظام أنفسهم أمام أسئلةٍ وتحديات بالغة الصعوبة والأهمية. إذا كان سوريون كثر قد حسموا أمرهم عام 2011، ورأوا ضرورةً ومعنىً للرفض الجذري/ الثوري للنظام/ الواقع السياسي القائم آنذاك، ما الموقف الذي يتخذونه او ينبغي لهم اتخاذه، حيال مؤسسات المعارضة القائمة. مبدئيًّا، يبدو ان هذا الموقف ينوس بين ثلاثة احتمالاتٍ رئيسةٍ. إما موقفٌ عدميٌّ يعدها قفا النظام الأسدي المستبد ومشابهةً له في كيف السوء، وإن اختلفت معه في كميته وطبيعته؛ وإما موقفٌ ثوريٌّ يرى ضرورة التبرؤ العلني من هذه المؤسسات، ورفض تمثيلها المزعوم للثورة، والتشديد على كونها أصبحت مطيةً لدولٍ مختلفةٍ، وأداةً رخيصةً لتحقيق مصالح غير السوريين، ومكانًا موبوءًا لكثيرٍ من المرتزقة والانتهازيين وعديمي الكفاءة السياسية و/ أو الاستقامة الأخلاقية؛ وإمَّا موقفٌ إصلاحيٌّ يقرُّ بالسلبيات الكثيرة والكبيرة الموجودة في هذه المؤسسات، لكنه يرى ضرورةً في بقاء هذه المؤسسات وإمكانيةً لإصلاحها و التخلص من معظم سلبياتها المذكورة. لأسبابٍ كثيرةٍ، لم يتسنَّ لكثيرٍ من السوريين/ الثائرين حسم موقفهم، من مؤسسات المعارضة القائمة ، ويبدو لي أن ضرورة حسم هذا الموقف تزداد قوةً أو شدةً، وأهميةً، مع مرور الزمن.

إن التناول النقدي للموقف العدمي و/ أو الطهراني و/ أو الانبطاحي، في السياق السوري المعاصر، ضروريٌّ. فعلى سبيل المثال يرى كثيرون في تلقي جهةٍ إعلاميةٍ ما لتمويلٍ ما، من هذه الجهة أو تلك، دليلًا على سوء هذه الجهة الإعلامية، بغض النظر عن المضمون الإعلامي/ السياسي الذي تقدمه. وهناك من يصدر حكمه بالإعدام على جهةٍ إعلاميةٍ ما، وينتقد أو يعادي من يتعامل معها، أو يعمل فيها، لمجرد كونها ممولةً من هذه الجهة الأجنبية أو تلك. ونظرًا إلى أن كل أو جلَّ منافذ النشر المتاحة باللغة العربية مموَّلةٌ من “البترودولار الخليجي” أو “البترودولار الإيراني” أو من مؤسساتٍ أوروبيةٍ أو أمريكيةٍ، ونظرًا إلى حملات التشهير المتبادلة بين الشخصيات والمؤسسات المموَّلة من الجهات المذكورة، يرى كثيرون وجوب مقاطعة كل تلك المؤسسات ورفض التعامل معها، حتى لو كان المحتوى الإعلامي المهني والسياسي والأخلاقي، لهذه المؤسسات، إيجابيًّا. فمعظم هذه المؤسسات موجودة في تركيا أو لبنان أو دول الخليج العربي. ولأسباب تتعلق بالرقابة الموضوعية و/ أو الرقابة الذاتية، تمتنع تلك المؤسسات عن نشر مقالاتٍ نقديةٍ عن البلدان الموجودة فيها.

فهل الموقف العدمي و/ أو الطهراني هو الأنسب فعلًا، أم أنه من الأفضل عدم حصر الخيارات والمبادئ في صيغة “إما كل شيءٍ أو لا-شيءٍ”؟ العدمية موقفٌ سلبيٌّ، لأنها، أو على الرغم من كونها، تتجسد في القول إن كل ما هو متاحٌ سلبيٌّ. فهي تضيف سلبيةً إلى السلبيات القائمة بدلًا من أن (تحاول أن) تقلل من تلك السلبيات. والطهرانية موقفٌ (لا-)أخلاقيٌّ، بقدر تمحورها على طهارة الأنا/ الذات وعدم تلوثها بسلبيات الواقع ومساوئه.

قد يكون مفيدًا، في هذا السياق، استحضار تمييز وليم جيمس بين طريقين/ طريقتين في الحياة: إحداهما تحاول تجنب السلبيات/ الأخطاء/ الشرور، في حين تسعى الأخرى إلى تحقيق الإيجابيات/ الصواب أو الحقيقة/ الخير. تتجسَّد ميزة أو إيجابية الطريقة الأولى في كونها تقلل من وجود السلبيات أو ارتكاب الأخطاء والشرور؛ أما سلبيتها الأبرز فتكمن في أنها بإعطائها الأولوية لطهارة الذات وعدم تلوثها بسلبيات الواقع، فإنها تقضي على أي فرصةٍ لتحقيق ما هو إيجابيٌّ. في المقابل، تبدو الطريقة الثانية سلبيةً بقدر سماحها بإمكانية وجود السلبيات أو ارتكاب الأخطاء والشرور، لكن ميزتها الأهم والأبرز تكمن في أنها تفسح المجال لإمكانية تحقيق ما نراه إيجابيًّا وحقًّا وخيرًا. يتمنى معظمنا أن يجمع المجد من طرفيه، فيتجنب السلبيات ويحقق الإيجابيات، لكنه يدرك سريعًا أن عليه الاختيار بين طهرانيةٍ سلبيةٍ تقتصر على السعي إلى تجنب السلبيات، ومخاطرةٍ إيجابيةٍ تعطي الأولوية لتحقيق الإيجابيات. وربما كان من المفيد التفكير في “الحكمة النيتشوية” القائلة: “إذا أردت أن تجني أجمل ما في الوجود، عِش في خطرٍ”.

عن حسام الدين درويش

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *