وادي الصليب. حيفا. بيوت هجّر منها أصحابها. تصوير فدوى روحانا

فدوى روحانا.. ناطورة المكان.. وأبعد

يقول غرامشي” الفن معلم من حيث هو فن، لا من حيث هو فن معلم”، فما هو إنساني, هو إنساني من حيث هو كائن، لا من حيث نراه كائن, وحتى لو بدت هذه المقولة غير واضحة، غير أن محتواها الوجودي هو ما يحدد معناها, ولا شك أن فدوى روحانا تقودنا، افتراضياً ربما ولكن بعمق على كل حال، في صورها نحو تأمل فلسفي عميق للوجود الإنساني، بغض النظر عن صراع الهويات والحدود، ومشاهد الكراهية التي تمزق عالمنا المعاصر، بدلالاتها المتوحشة .

فدوى روحانا، المصوّرة الفلسطينية، المولودة في عسفيا الكرمل\ حيفا وتعيش في بيت لحم، صاحبة عدسة مميزة، وصورة حقيقية وبصمة غير محايدة، فلسطينية جداً من خلال أماكنها وزواياها. وجوهها القريبة والبعيدة التي لا تنظر إليك مباشرةً، في عينيك، ولكن نظراتها التائهة تخترقك من الداخل لتحرك فيك الفضول الذي يدفعك إلى التفكير، إلى أين ستذهب هذه الوجوه وهل ستبكي بعد أن تمضي بعيداً عن العدسات؟ وما هي الهموم التي تثقل كاهلها لتمشي جسداً بلا روح في أرضها وهي غارقةٌ في غربتها، فتقوم بتحويل المكان إلى صورة، ولكن ليس أية صورة، في الحقيقة ما تقوم به هو تحويل المكان إلى وعي كنتاج مباشر عن إدراك الوجود، فتبدو لنا في حالات كثيرة كثيفة, تأخذ بعداً رابعاً للواقع، وهكذا تنغرس الصورة كلحظة وعي تسبق الفكرة- بالمعنى الأنطولوجي-

المكان بوصفه ملمح

تجمع فدوى في أعمالها الوجوه- الفلسطينية تحديداً- على اختلاف خلفياتها وحكاياتها في أعيادها وأتراحها، صلواتها وهمساتها، يقظتها وغفلتها، تيهها في دروبها، وتمسكها بوطنها، العدسة التي ترى فلسطين من زاويةٍ روحانية تشعل البخور على امتداد تراب الوطن المحتل من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه لتبارك ذراته وحاراته العتيقة وأرضه القديمة قدم الكون والبشرية، لتترك جزءًا منه مع قلب من رأى صورته فانطبعت في وجدانه، لتدب الحياة في طرقه المنسية وجباله الملتفة بسحب من الغموض الرمادي كتعويذة مستمرة تلقى في وجه الدخلاء والغرباء عن أرضٍ لا تعرفهم ولا تحكي لغتهم ولا تشبه ملامحهم.

تقول مثلما قال محمود درويش أنا سيدة الأرض.. أم البدايات وأم النهايات.. أنا الباقية وسيرحل العابرون.. في حالة ٍ من الحنينٍ المستمر لذاتنا وبيوتنا وأماكننا وجذورنا وأحلامنا التي احتلت ذاكرتنا وسكنت مخيلتنا وصنعت ماضينا وصبغت حاضرنا وسنحملها معاً كحقيبة سفر ٍ في رحلتنا المجهولة إلى الغد.

ابنة الكرمل كثيرة التنقل، دائمة البحث، تسعى لاكتشاف مساحات جديدة داخلها كامرأة فلسطينية من خلال الغوص داخل الأرض ومحاولة الحديث عنها، وسبر أغوارها، ودعوتها لها كصديقةٍ وليس كفنانةٍ وابنة لهذه الأرض للبوح بما يثقل كاهلها ويرهق مشاعرها، فالأشجار والطرقات والبيوت القديمة والحجارة العتيقة لها لغةٌ تتقن فدوى الاستماع إليها وترجمتها وإعادة صياغتها بإحساس ٍ كبيرٍ، ينقل المشاهد لا شعورياً الى حيفا والقدس ومناطق كثيرة في فلسطين من خلال عدستها المميزة التي تؤمن بما تراه، فتنقل المشهد بأبعاده المختلفة وحالاته المتنوعة، فتكون التلقائية هي الأساس..

المكان بوصفه صديق

حيث تستحيل الصورة إلى كيان نخضع لإغراءاته و المكان إلى ” كتلة” -بالمعنى النحتي- فتسمح لنا الصورة بتخيل حر لها بوصفها “مكان” و “كتلة” و “موضوع”  ضمن هواجسنا الوجودية و اسئلتنا الكبرى حين نصعد درجات الحياة سنة إثر سنة، فيزيد الخيال من حواسنا و نصبح نتحدث عن ذكرياتنا أكثر مما نتحدث عن أحلامنا, وهكذا تصبح كل ذكرى هامة، وكل ذكرى صورة، صورة تخصنا وحدنا (يدعوها برغسون الذكرى المحضة)  أسرارنا، التي لا نرغب في البوح بها. وهكذا نخوض صراعا مع الوعي الذي يحدد جميع الأشياء مانحاً لها صفاتها ومبتدئها ومنتهاها. ولا نستطيع إنكار مسحة الحزن الأنيق والشجن الذي يسكن التفاصيل، في محاولة للتعالي على جراح الأرض الفلسطينية بكل من عليها، وكأن الوجع وحّد الإنسان والحجر والشجر والطبيعة وصهرهم في بوتقة ٍ فلسطينية واحدة تعطي خصائصها لمن يتوحد معها بكل جوارحه، وهذا الشيء لا يستطيع أحد دراسته أو تعليمه لأنه شعور فطري يولد مع الفنان فيمنحه حساً مرهفاً عابراً لكل الحدود والفروقات، يصبغ شخصيته الفنية والإنسانية وينعكس على رؤيته وخياراته وحتى على حياته الشخصية فيكسبها طابعاً لا يشبه الإنسان العادي الذي قد يرى مشهداً يلفته ويؤثر فيه لكنه يعجز عن ترجمته وايصاله حتى لنفسه..

المكان بوصفه صورة

تجتهد فدوى، كثيراً، وتسعى باستمرار لتطوير أدواتها والتمكن منها بشكل أكبر وأكثر احترافية ويظهر ذلك جلياً لمن يتابع أعمالها في تطور واختلاف الزوايا والإضاءة والألوان وإعادة هيكلة الصورة بشكلٍ يجمع قدراً من الثقافة مع الذكاء الفني والشعور بالزمن والمكان، وهذه الاعتبارات تمثل العمود الفقري لأي فنان وأي عمل فني فلا فن بلا احساس أو ذكاء أو اجتهاد، ولا يستمر الفن مهما كان جميلاً بدون تطوير أدواته ومواكبة الحدث بحسٍ يفهم الواقع ويعرف كيف يعرضه دون الوقوع في فخ الأعمال التجارية المستهلكة التي تنتهي سريعاً مع وجود نظرة استشرافية للمستقبل لأن الفنان الحقيقي قائدٌ حقيقي يمتلك التأثير والقدرة من خلال أعماله على توجيه الذوق العام نحو منحى أكثر رقياً وجمالاً، ويزيد من عظمته مزج فنه بقضية وطنية وإنسانية تتخطى الحدود، فالكثيرون ممن شاهدوا أعمال فدوى روحانا من غير الفلسطينيين سواءً  كانوا عرباً أو من جنسيات ٍ أخرى جذبتهم صورتها وفكرتها وحالتها والتي تحمل هويةّ خاصة كعملٍ فني وتعرفوا من خلاله على فلسطين وقضيتها، وهذا أسمى ما يتمناه أي فنانٍ ومبدعٍ حقيقي، واليوم تشارك أعمالها في العديد من المسابقات وتعرض في العديد من المواقع الإلكترونية الخاصة بالتصوير الفوتوغرافي من بلدان مختلفة وتحقق إقبالاً واستحساناً من الناس مما يضفي المزيد من الشرعية والمصداقية على ما تقدمه من خلال آراء ٍ لأشخاص من دول بعيدة عن فلسطين وتقيم عملها من منظور فني وجمالي بحت..

صورها أشبه بقصيدة، تتصل مباشرة، عبر سرديتها البصرة، بما يشبه الموسيقا الداخلية، فهي أكثر من مشروع معرفي مسبق عن سابق أصرار وترصد و أكثر استرخاءّ من مجرد ومضة روحانية  تتبدى فيها السبل المعرفية المختلفة المتصلة بوعينا، فإذا كان الشعر “روحاً تتفتح شكلاً”  كما يقول باشلار، فالصورة  مكاناً يتفتح معنىً، وإذا كنا نستطيع أن نعيش، منفصلين عن واقعنا ولو مؤقتاً، مع القصيدة، فمع الصورة نختار الاتحاد مع الوجود “المادي” لها أو لذاكرتها، وهكذا تكون أعمال فدوى روحانا تعبيراً واضحاً عن ذاكرة  المكان، المشهد المكاني غير المفصل عن الناس عن أحاب هذا المشهد عن التفاصيل الدقيقة لحيواتهم. وصدىً صادقاً لماضيهم\ مواضيهم.

باختصار، تصبح الصورة وجوداً ، وربما لا يعرف الكثيرون أن فدوى تمتلك موهبة ً مميزة في الكتابة أيضاً إلى جانب التصوير من خلال كلماتٍ تجمع بين البساطة والرقي والإحساس المرهف مما يجعلها أكثر من مصورة مميزة ويضعها في خانة الفنانة المتعددة المواهب والتي قد تقدم أعمالاً قليلة لكنها مميزة وتجعل المتلقي في حالة ترقب واشتياق وانتظار ٍ دائم لجديدها..

لا تتحدث فدوى روحانا كثيراً، فعدستها تحكي بلغةٍ بصرية ثرية المفردات ما يجتهد كثر لإيصاله في حروف ٍ تشرح صورهم، لتثبت من خلال عملها، أن الصورة هوية وجواز سفر وقاموس يزخر بالمعاني في حضرة المكان وتوظيف الحالة وخجل الأضواء، وأن البطل هو العمل الذي يحكي عن صاحبه، لا صاحب العمل الذي يطغى على عمله فيخسر وجوده وعمله معاً، لتظل الوجوه والزوايا الحاضر الغائب بكل عفوية في لقاء العين باللسان والقلم، وفي احتفاء الروح بمن يلامسها وفرح العقل بمن يحترمه ويخاطبه بنضجٍ ورقي دون تعالٍ أو افتعال ودون لغةٍ خطابية لا تناسب المرحلة التي نعيشها، فأي طمأنينة نعيشها ونحن نتأمل المكان بعين فدوى روحانا؟ حين نتعرف بحواسنا على ما تتركه الصورة من انطباعات مختلفة، فنتعام كيف ” نصغي” للألوان  وكيف “نسمع” التضاد الذي عرفناه، منذ مقاعد الدراسة، بأنه الوسيلة الأكثر وضوحاً لإظهار الفكرة كحقيقة تعبيرية لا جدال فيها.

أي سلام داخلي  يزحف نحونا، فيمسّ أرواحنا فيجعلنا نتنفس، بحميمية مفرطة، الحياة بحذافيرها

تقول فدوى روحانا عن نفسها: أعمالي تبحث في الذاكرة الانسانية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص، وهي ربما محاولات لرصد الذاكرة الجمعية الفلسطينية، والتقاط انعكاساتها على المشهد الفلسطيني , للبحث عن ملامحها في ملامح الانسان وملامح الأرض, لاقتفاء اثرها عميقا داخل أرواحنا, داخل وعينا ولا وعينا، هي محاولات لتجسيد الغياب الساكن فينا داخل صورة فوتوغرافية.  لقد تطور عملي الصوري من خلال جهودي التجريبية الخاصة في رحلة طويلة مع الكاميرا. تربيتي في مكان حطّمته العقبات والظلم. لقد أصبحت الكاميرا ضرورة وجودية، ذكرياتي للاتصال بواقع لطالما جعلني بعيدة ومتغربة، كامرأة وكائن بشري. وتشير روحانا إلى موضوعها التي تعطيه عنوان ′′ الركاب في الزمن ′′ بأنه  مُنح الميدالية الذهبية في الفن التشكيلي – التصوير الفوتوغرافي المفاهيمي لجوائز ND 2019. [ومادته] مستوحاة من حُجّاج القدس وبيت لحم الذين يأتون من جميع أنحاء العالم يحملون معاناتهم ويبحثون عن الخلاص في المكان الذي تمزّقه وتمزّقه صراعات مستمرة. في هذا الموضوع استخدم العدسة للنظر إلى أبعد من الظاهر، للخروج من الزوايا الداخلية المخفية خلف الوعي البشري، حيث الذاكرة البشرية المشتركة، والآلام البشرية الجماعية، والأحلام البشرية الجماعية، وتخفي المخاوف كلها، في محاولة لفهم معنى الخلاص.

وجود الإنسان العائم في الحياة، ومرورنا الهش في الزمن.

ملاحظة: تم إعداد هذه المادة بالتعاون مع الصديق خالد جهاد والفنانة فدوى روحانا، لذا اقتضى التنوي. هيئة التحرير

فيما يلي مواقع مختلفة تنشر فيها أعمال الفنانة فدوى روحانا

https://www.artlimited.net/35981

https://gallery.1x.com/member/Fadwa

 https://www.facebook.com/OUT-of-the-BOX-Art-gallery-106606424205625/

https://www.artlimited.net/35981/art/photography-passengers-in-time-digital-people/en/11853639?fbclid=IwAR3THQ3kSumqNnqF5aqSvqFWhQSnbwTNH8ZxwbjAdMCj9E5ps98Z5FOirpo

https://tagree.de/the-other-face-of-jerusalem-by-fadwa-rouhana/

بالإضافة إلى موقعها الشخصي : https://fadwarouhana.com/

وحسابها الشخصي على موقع فيسبوك: https://www.facebook.com/fadwa.rouhana

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *