رجال أحواض السفن، جورج بيلوز 1912، المتحف الوطني لندن

رجال أحواض السفن: جورج بيلوز، 1912

سنذكر للوقوف على أهمية لوحة “رجال أحواض السفن” أنها اللوحة الأمريكية الأولى التي اقتناها المتحف الوطني البريطاني في لندن بهدف توسيع معروضاته لتضم لوحات “أوروبية” رسمت خارج أوروبا وبلغت قيمتها حين شرائها ما تجاوز الـ 25 مليون دولار.

ولد جورج بيلوز في مدينة كولومبوس أوهايو عام 1882 وتوفي عام 1925 فلم يتمم عامه الثاني والأربعين وكان ما زال في قمة عطائه، بانفجار الزائدة الدودية الملتهبة والمضاعفات المرافقة لها واعتُبر حينها وما يزال أحد أهم الفنانين التشكيليين في أمريكا الشمالية. كان جورج بيلوز موهوبًا منذ نعومة أظفاره وإلى جانب موهبته في الرسم تمتع بلياقة رياضية عالية وشارك في فرق كرة القاعدة في المدرسة والمدينة، وفرشت أمامه طريق الاحتراف كلاعب كرة القاعدة وكان حينها أيضًا يرسم لوحات مباريات الرياضة ويبيعها للصحافة. لكن فن الرسم امتلكه فانتقل عام 1904 الى مدينة نيويورك ليدرس فيها فن الرسم والتخصص به، وقد كانت كما هي الآن مركزًا فنيًا متقدمًا. ويلتقي فيها بالفنان روبرت هنري ويتتلمذ على يديه. يقول جورج بيلوز عن هذا اللقاء: “سرعان ما وجدت نفسي في مدرسة الفن الأولى لي وتحت اشراف روبرت هنري… لقد بدأت حياتي في تلك اللحظة”.

تمتع بيلوز بحساسية اجتماعية عالية فساهم في أعمال ونشاطات مجموعة فنانين ذوي نزعات يسارية جذرية “”The Lyrical Left وشارك بنشاط في تحرير جريدة الاشتراكيين الأمريكان في حينها ” الجماهير” (1).

كما عمل بيلوز ضمن مجموعة فنانين سميت نفسها مدرسة أش كان Ash Can) School) أي سلة المهملات. تصدر روبرت هنري المجموعة الذي كان له الأثر الكبير على بيلوز. عملت هذه المجموعة والتي ضمت فنانين فعالين سياسيًا ومشاركين في هيئة تحرير جريدة “الجماهير” الى جانب فنانين بعيدين عن السياسة، على الخروج على مسلمات الفن السائد في أمريكا الشمالية وقتها، والواقع تحت تأثير مبادئ الفن الأوروبي التقليدي والذي لم يكن قد تعرف بعد على التيارات الفنية الحديثة في أوروبا، فلم تكن قد تمكنت التيارات الفنية الثورية والحديثة حينها من بسط تأثيرها على الفن في أمريكا. لم يكن ما يميز ويوحد هذه المدرسة ولا “مجموعة الثمانية” المرتبطة بها، أسلوب فني واحد وحيد، بل المواضيع التي تناولتها؛ الحياة اليومية للناس العاديين في المدينة المعاصرة.

سيرى المشاهد في لوحات بيلوز عمالاً وأطفالاً في الحارات الداخلية للمدينة، يلعبون ويحيون حياتهم العادية، صيادي سمك وملاكمين يصارعون بعضهم البعض، عامة الشعب في أوقات استجمامه ولهوه وتتصاعد من لوحاته رائحة العرق وطعم مياه البحر المالحة. أما الناظر الى هذه اللوحة بالذات فسيربطها سريعًا مع المدرسة الانطباعية في الفن؛ ينقل الفنان ما تراه عيناه المجردتان الى اللوحة دونما تزويق أو إعمال للخيال، مسرعًا لنقل ما يراه من انطباع الضوء والظل على الموجودات قبل تحولات وتبدلات لعبة الظل والضوء هذه. وسيتذكر الناظر لوحة كلود مونيه “انطباع، شروق الشمس” 1874(2).

“انطباع، شروق الشمس” 1874 – كلود مونيه

ومن الناحية الشكلانية قد يكون الناظر محقًا لكننا وفي حقيقة الأمر أمام لوحة تنتمي من حيث المضمون الى المدرسة الواقعية، وسوف نرى أننا لسنا أمام اية واقعية بل أمام واقعية اجتماعية بل أمام واقعية اشتراكية ثورية.

مفتاح اللوحة، من وجهة نظري، هو الرجل الواقف في زاويتها اليسرى الأقرب الينا، وحيدًا في الظل منكفئا على ذاته، مكسور الخاطر؛ لن يُحصِّل اليوم ثمن قوته وقوت أطفاله، لقد أتى مع مجموعة الرجال المتجمهرة في الجهة اليمنى للوحة؛ جميعهم ينظر الى جهة اليسار بثبات. إنهم عمال مياومون يعملون مقابل أجرة يومية. حمالون وعتالون وسواهم يبيعون قوة عملهم كل يوم من جديد. ينقض الفنان على هذه اللحظة في الفجر حيث يتم اختيار بعض العمال وتسريح الآخرين. هنا نحن أمام المعادلة الاقتصادية الأولى التي تتأسس عليها بنية الاستغلال الاقتصادي لرأس المال.

تجمع هذه المعادلة شخصين؛ البائع والمشتري. البائع هو العامل، المشتري هو الرأسمالي. يبدو للوهلة الأولى أن على كل طرف من أطراف المعادلة، يقف شخص حرٌ ومساوي للآخر. لكن البائع هنا وهو العامل يبيع قوة عمله -وهو وكأنه حر يبيعها لمن يشاء- مقيد بضرورات الحياة، فحريته مستعبدة لها ولحاجته لتجديد قوة العمل، وهي ضرورات فورية لا تحتمل التأجيل، أنه وبعكس العبد المملوك لسيده كبضاعة، يقوم ببيع قوة عمله أو لنقل نفسه ولكن بالتجزئة، كلَ يومٍ من جديد، ولهذا يتحدث ماركس عن عبودية العمل المأجور. بينما وفي المقابل فإن لدى الرأسمالي ما يكفي من الوقت للانتظار ولاختيار الفرصة المناسبة لانتزاع على مقابل يراه هو مناسبًا، حينما يرى ذلك وفق ما يحقق له الحد الأعلى من الربح.(3)   يمثل هذا الشخص الواقف كسيرًا، البطالة وهي معامل إضافي في هذه المعادلة ولها وظائفها البنيوية داخل منظومة الاستغلال الرأسمالي وأهمها أنها تدفع بأسعار العمل الأجير الى الأسفل، فالعامل المعطل هو تهديد محتمل قائم دائمًا ينافس من حالفه الحظ ووجد من يشغله، فينافسه على من يستأجره، أي على بيع بضاعته هو، وهذه البضاعة هي هنا قوة العمل. هذه الوظيفة الأولى، أما وظيفتها الثانية فهي تشكيل جيش احتياطي من البروليتاريا الرثة التي ستستخدم في كسر الاضرابات والاحتجاجات العمالية حينما يتوحد العمل الأجير في نضال نقابي كهذا أو ذاك، أو في الانقضاض على منجزات نضال العمل الاجير النقابية او السياسية.

إذا ما نظرنا الآن الى اللوحة من هنا، من هذه الزاوية التي تبدأ بجمهرة العمال، بنظرة تبدأ هنا، لكنها مجبرة ولكي تجول على كامل اللوحة ذات الابعاد الضخمة، على المرور بما يشبه النفق، نفق يشكله سور الميناء من جهة وباخرة ضخمة من جهة، والباخرة هي رمز الرأسمالية التجارية العابرة للقارات، سنرى في نهاية هذا النفق ناطحات السحاب رمز الرأسمالية الصناعية الحديثة بادية في الأفق البعيد، أفقٌ حبيسٌ، فالغيوم السوداء تتكاثر ضاغطة من الأعلى عليه وعلى المشهد في كليته. إن ما ترسمه ريشة الفنان هنا هو نفق يمتد من معادلة الاستغلال القائمة على ضرورة بيع قوة العمل من أجل العيش ليصل الى تجليات هذا الاستغلال المتراكمة على الطرف الآخر وكلا الجانبين. ليس النفق اذًا سوى ممر الى فضاء يُكون وعيًا جديدًا، وعيًا ثوريًا، فريشة الفنان هي هنا “المطرقة التي يجب أن تشكل الواقع” واستيعابه، كما يقول بريخت عن وظيفة الفن.

إن هذه الواقعية الشجاعة التي يعرضها الفنان هنا لن تحول دوننا ورؤية القدرة الفنية الهائلة لديه في ملاحظة ورسم تمايزات ألوان الظلال الملقاة على الثلج ولا في رسم تفاصيل الوجوم المرتسمة على وجوه العمال. ولنشر هنا الى أنه درس وعلى مدار أشهر الخصائص الفيزيائية لانعكاس الضوء على كتل الثلوج على مدار ساعات النهار؛ إنه، أي الضوء، لا يعكس ظلالاً سوداء حقيقية بالكامل بل يمتص مقدارًا معينًا من أطياف اللون الأزرق من السماء. إنه وهو الفنان المرهف الباحث عن الالهام في جوانب الحياة المعاصرة يجده هنا في الفجر، في فجر العمل، في حياة أناس نيويورك الشعبية وأحيائها العمالية، هنا حيث تنعدم المساواة بين البشر، الأمر الذي يطيب للبعض أحيانًا تناسيه، وفي هذه المدينة وهي المدينة العمالية ومدينة المهاجرين الجدد حينها، بصخبها وضجيجها-وهي المدينة التي أحبها. ينقلب بيلوز على معايير الجمال البرجوازية والشكلانية. فيقول “هنالك عطب غريب في عقول الأناس الذين يجعلون من أنفسهم قضاة يصدرون أحكامًا بما يخص الجمال…”  مُدينًا النقد الذي يوجه له لاستحضاره وحشية الواقع في أعماله.

احتاج بيلوز الى رقعة قماش كبيرة من أجل أن يعكس ضخامة الباخرة التي تحتل حيزًا مهمًا من اللوحة وليعكس مجمل أشكال الصراع التي يريد أن يرويها لنا بريشته. الصراع من أجل لقمة العيش في هذا الفجر الشتائي القارص، صراع العمال وهم بمعظمهم من المهاجرين الجدد وهم الباحثون كل يوم من جديد عن مكان عمل، صراع الانسان وحيدًا. يستطيع المؤرخ الإشارة الى هذه الباخرة وتحديد الشركة التي تمتلكها، فهي باخرة كانت تقوم على نقل البضائع من والى البرازيل وفي الأساس البن البرازيلي. وهذه الباخرة تبدو هائلة وهي تجثم بهيئتها على مجموعة الخيول، انها تُبعد نهائيًا وسائل النقل القديمة لتبدو هذه الأخيرة وكأنها أتت الى هنا من عصور ما قبل التاريخ. لنلاحظ أيضًا ما يبدو في البعيد كجزء من جسر منهاتن، ولكن هذا الجزء يحتوي على عقدين اثنين-بدل عقد واحد- في تحوير لما هو في الواقع؛ “لست مجرد ناقل للواقع البحت” لسان حال الفنان فأنا أستطيع خلقه أيضًا.

يقال إن الفنان كان يتصارع مع الوقت لينجز هذه اللوحة قبل وصول باخرة أخرى. وهذه الباخرة الأخرى ما هي الا “التيتانك”، الباخرة التي لم يتم لها الوصول المرتقب في ربيع العام 1912 الى نيويورك، وكانت محملة ببرجوازية اليابسة الأوروبية والبريطانية خصوصًا وبعظمتيهما. ولهذا فإن هذه اللوحة هي أيضًا صراع ما بين واقع الحال القاسي والصعب لسكان نيويورك الحقيقيين، الشعبيين، الذين من لحم ودم وبين حال الوهم الذي تبثه صورة “أمريكا كأرض الفرص المتاحة للجميع”.

المصدر: https://short.link.alittihad44.com/v7iM

 شواهد واحالات

(1)  الجماهير The masses””  والتي عمل فيها في هذه السنوات جون ريد، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الأمريكي وصاحب ’’ عشرة أيام هزت العالم ‘‘ كتابه عن ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى. بعد إغلاق هذه الجريدة بأمر من السلطات الامريكية حلت محلها مجلة “المحرر” The liberator ولاحقا “الجماهير الجديدة”).

(2) تشكل هذه اللوحة بمسماها ومنطلقاتها النظرية مولد المدرسة الانطباعية في فن الرسم https://www.almrsal.com/post/540432).

(3) يُنظر العمل المأجور ورأس المال، كارل ماركس 1847.

عن هشام روحانا

شاهد أيضاً

جداريات السوري اسماعيل الرفاعي: طقوس وحدْس وطباشير طفولة

يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *