حول سرديّة النكبة في الآداب والفنون والوعي الجمعي

تمثّل النكبة ذاكرةً لصيقةً بالهوية الفلسطينية، بل وجوهرًا فيها، وتنفتح صفحات هذه الذاكرة على قضايا متشعّبة تطاول السياسي والاجتماعي والثقافي والتراثي، كما أن لهذه الذاكرة سرديّتها، أو خطابها، أو روايتها المتراكمة. ومهما تعدّدت الاصطلاحات المستخدمة في توصيف ما سطره الفلسطينيون حول هذه المأساة، خطابًا سياسيًا، أو شعرًا، أو رواية، أو قصة، أو لوحة، أو مسرحًا، أو فيلمًا، أو أغنية، أو مُلصقًا، أو غيره من أشكال التعبير والإبداع والاحتجاج، إلا أن هذه الملحمة، التي لا تزال مستمرة كتابتها، تخوض صراع بقاء، وتقاوم سياسات نفيٍ وطمس، ومحاولات اغتيالٍ للهوية والتاريخ والحقيقة.
لا شكّ في أن الفلسطيني قد استطاع التجديد في خطابه، أو سرديته، على مرّ العقود الماضية؛ غير أن الحاجة إلى التجديد في أشكال الخطاب الثقافي وأدوات الاحتجاج والمقاومة حول النكبة بخاصة، والقضية الفلسطينية بعامة، تبقى مسألة مطروحة، بل ويجب طرحها مع كل ذكرى للنكبة، حتى يبقى هذا الخطاب، بكل أدوات احتجاجه، وبأشكال مقاومته كافة، حيًا متجددًا ومتوافقًا مع تحولّات العصر وتعقيداته المختلفة.
التالي هو مداخلات قدمها فنانون وشعراء وأدباء ومثقفون فلسطينيون حول النكبة وسرديّتها، وإحياء سرديتها، في الأدب والشعر والفن التشكيلي، إضافة إلى مداخلة للمصور المصري عادل واسيلي حول النكبة والقضية الفلسطينية في الوعي الجمعي العربي.
التشكيلي منذر جوابرة: يجب تحرير الذاكرة

يمكن وصف النكبة على أنها مسار مستمر، تمأسس منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، بالتحضير والتأسيس لمشروع الاحتلال القائم على العناصر الفلسطينية للمكان والإنسان كافة، انطلاقًا من المعمار، إلى جانب التراث والتاريخ، ومن ثم الجغرافيا التي ظهرت بالاحتلال الفعلي والنكبة منذ عام 1948. وعليه، لا يمكن المرور على فكرة النكبة من دون الانتباه للتفاصيل التاريخية والتراثية كافة؛ كسرقة الألبسة التقليدية، والأكلات الشعبية الفلسطينية، والأرشيف الفلسطيني، وغيرها من عناصر الهوية والوجود الفلسطينيين، وتشريع وتسهيل سياسات الهجرة والترويج (اليهودي) للمكان. وهنا يمكن القول إن الاحتلال قائم على فكرة الإلغاء والإبادة للفلسطيني، بحيث يصبح مشروعنا اليوم ليس التطوير على ما هو قائم، بقدر ما هو تصحيح الرواية التي أفرزت رواية قائمة على الكذب والتزوير وترويجها على المستوى الدولي والعربي أيضًا.
وبالنظر سريعًا إلى المشروع الفني الفلسطيني ما بعد النكبة، ومنذ خمسينيات القرن العشرين، نرى أن الفن في كثير من حالاته شكّل إطارًا ضيقًا معتمدًا على البعد الهويّاتي، والتأكيد على فكرة المكان في مواجهة (بلدوزر) إعلامي صهيوني وظّف إمكانياته كافة لإثبات كذبته عن فلسطين. وما ساهم في إبطاء التقدم الفني هو الارتداد غير المدروس على الرواية الصهيونية، بينما كان يجب أن يعمل الفن على تحرير الفكر والمخيّلة الفنية، وتجاوز مفهوم الاحتلال والرضوخ، أو الانصياع لمفرداته ومفاهيمه، كالجدار والحواجز والجندي… إلخ. بينما كان من الأفضل تجاوز هذه المفردات، والعمل على عدم الاعتراف بفكرة الاحتلال، وذلك من أجل تحرير هذه الذاكرة. وهذا لا يعني أنه لم تكن هنالك مشاريع فنية عملت على رفع المستوى الفني والمعرفي، من خلال إنتاج أعمال فنية تقترح أفكارًا وتخيّلات مهمة تساعد بالتعرف على الثقافة الفلسطينية.
في هذا الوقت، من غير المنطقي أن نحاكم الفن بمعزل عن المشروع الثقافي بشكل عام، والذي يتفرع من التوجهات والسياسات الرسمية في اقتراح أنماط مختلفة في شكل المقاومة، وتقديم مشروع ثقافي متكامل، من دون التضييق على الفنان، أو المثقف وحده، في الدفاع عن فكر فلسطيني عام، وذلك من خلال بناء ودعم مشاريع ثقافية عامة تسعى لنقل الخطاب الفلسطيني بصريًا وشفهيًا وكتابيًا إلى الخارج، كعنصر مهم وداعم للقضية الفلسطينية. ويبدو أن الإصرار على القتال الثقافي بطريقة عشوائية وغير مدروسة تعمل على هدم المفردات والبناء التراكمي على مستوى التكامل الفني والأجيال اللاحقة، وهذا يظهر عبر إعادة النهج لنفس الأفكار والمشاريع لدى أجيال مختلفة، في الوقت الذي كان يفترض أن يكون هناك تطوّر تراكمي يساوي في تقديمه ما يقدمه الشعب من مشروع مقاومٍ نضالي.
التشكيلي رائد القطناني: التجديد البصريّ ممكن دائمًا

عندما نتحدث عن النكبة وآثارها على الأجيال الفلسطينية، ينبغي أن لا نفصل بين الآداب والفنون الفلسطينية. بدايةً، أستحضر قصيدة “العندليب المهاجر” للشاعر الكبير الراحل يوسف الخطيب، والتي يخاطب فيها طائرًا قادمًا من فلسطين، ويقول فيها “لو قشّة مما يرفّ ببيدر البلد… خبّأتُها بين الجناح وخفقة الكبد… لو رملة من المثلث، أو ربا صفد… لو عشبة بيد، ومِزقة سوسن بيد”. تمثل هذه القصيدة انعكاسًا جليًّا لمدى تأثير النكبة على جميع من عاصروها، ومن بينهم الشاعر الذي عرف هواء البلاد وقشّه وترابه. والفنانون التشكيليون الفلسطينيون يستخدمون الرموز ذاتها في الأعمال الفنية التي تستحضر النكبة؛ مثل الطائر والحمام والسنونو، ويعد هذا الأخير رمزًا مهمًا جدًا يدل على الحنين إلى أرض الأجداد، فالسنونو يهاجر ثم يعود إلى الأرض التي ولد فيها. وكان السنونو يمثل أحد رموز الثورة الفلسطينية، حيث كان حاضرًا بشكل كبير في الملصقات الفلسطينية. ولا ننسى من الأدب الفلسطيني رواية الراحل غسان كنفاني “عائد الى حيفا”، فهي من أعظم ما روي في موضوع الحنين إلى البلاد.
ويعد المفتاح كذلك من أشهر الرموز الدالة على النكبة. إضافة إلى الكواشين (جمع كوشان وهي وثيقة تسجيل رسمية للأراضي والعقارات كانت تصدر عن حكومة فلسطين قبل النكبة). وقد أنجزتُ لوحة بعنوان “كوشان الدم” تمثل قصة حقيقية لعائلة من الناصرة رأيت كواشينها التي بقيت عليها آثار الدماء ويحتفظ بها شخص من العائلة، حيث باغتتهم العصابات الصهيونية في الناصرة عام 1948، وكانت الكواشين في جيوبهم وقتلت عددًا منهم. ومن الرموز البقجة التي تختزل دلالات هامة تشير إلى النكبة، فمن يخرج للرحيل على عجل يحمل أكثر الأشياء أهمية بالنسبة إليه، وقد يحمل، في حالة الصدمة والرعب، أشياء لا قيمة لها، أو أهمية. ولكن البقجة بذاتها تمثل عنصرًا هامًا، فهي تحمل في داخلها ذكريات المهجَّرين وآمالهم وآلامهم.
أعتقد أننا لا نستطيع أن نتجاوز رموز النكبة والقضية الفلسطينية، ويمكن التجديد في كيفيات توظيفها، وفي الشكل البصري والهوية البصرية والتقنيات المستخدمة في العمل الفني. وقد طُرحت أساليب مختلفة ومتعددة في الفن الفلسطيني تبعًا للمدارس الفنية التي وظّفت فيها تلك الرموز. وكان الفنان الراحل محمد الوهيبي قد سئل عن التراث الفلسطيني، وكيف أن الفنانين الفلسطينيين لا يتشابهون في طريقة استخدامهم للرموز والعناصر ذاتها حتى لا يقعوا في فخ التكرار، أو التقليد، فقال إنها كأس موجودة أمام الجميع، وكل فنان يراها بمنظوره الفني الخاص. أنا أستخدم أسلوبي الفني الخاص، وكذلك كل فنان فلسطيني له أسلوبه المتميز والمتفرد؛ قد يتشابه بعضهم، وقد ينسخ البعض الآخر ويقلّد، ولكن دائمًا هنالك من يحاول طرح أفكار وأساليب جديدة.
الشاعر عبد الله عيسى: أنا التاريخ والمحتلّ هو “الرواية

سأعترف أنني من أوائل من تبنّى مفهوم الرواية الفلسطينية، حتى أن نقادًا في العالم العربي، أو خارجه، رأوا في ما أنجزته من نتاج إبداعي أنه يقدم الرواية الفلسطينية مشروعًا جماليًا قائمًا على السلام والتعايش في مواجهة شِرعة الاحتلال لتكريس سرديّته المؤصّلة على الحقد والقتل “المقدّس”. لكنني، وإبان عودتي المجزوءة إلى جزء من الوطن، أعلنت في رام الله أنني: أنا التاريخ، والآخر/ المحتل هو الرواية؛ فالتاريخ هو الحقيقة، فيما الرواية تتقنّع بزمن متخيّل، أو مزيف، كما أن التاريخ يتقدم مرتبطًا بجغرافياه الخصوصية نحو الأبدية، مثل حوذيّ الوقت، فيما الرواية تقيم في أزمان متعددة متنقّلة بينها بتضاريس ثقيلة عليها كونها غريبة عنها. والرواية تعيش الأمس، وتبقى فيه أحيانًا، ولا تنشغل بالفارق الحيوي بين الأمس والآن والغد، بينما التاريخ يلج المستقبل بعصا الراعي الأعمى.
أما أن نتعاطى مع تاريخنا بوصفه سرديّة، فهذا سقوط في غواية بلاغة المصطلح، والوقوع تحت وطأة تغريب المفهوم والمعنى معًا؛ فالسردية هي في معناها الاصطلاحي تجاورُ أشكال السرد المتعددة، وإن اعتُمدت مختبرًا لقراءة أجناس السرد، قصًّا أو رَوْيًا، أي قصةً أو رواية، وما بينهما. وتأسيسًا على ذلك كله، سأطرح السؤال على النحو التالي: هل استطاع الشعر أن يؤرخ التراجيديا الفلسطينية؟ بالتأكيد لا. لم يقترب أحد من شعرائنا من ملامسة النكبة الفلسطينية، وإن بقي ذلك طموح كثيرين منهم. فالشعر الفلسطيني انكفأ في فترة ما بعد النكبة، وحتى ظهور ما اصطلح عليه شعر المقاومة، أو شعر الأرض المحتلة، على ذاته، مكتفيًا بتصوير لواعج الألم على فقدان المكان الأول والحنين إلى أشيائه، مثالًا لا حصرًا، وظل إلى حد بعيد، باستثناءات قليلة، بعيدًا عن حركة التجديد والحداثة التي شهدها الشعر العربي. وهكذا أعادوا للشعر أغراضه القديمة، وظلّ شعر انفعال.
ومع دخول شعر المقاومة كنف الشعر الحديث، كما اصطلح عليه، قدّم ذاته بوصفه فكرة قائمة على الثبات والارتباط بالأرض. ولم يبتعد الشعر الفلسطيني في الشتات عن خطاب التثوير في الوعي لا التثوير في اللغة، اللهم إلا استثناءات نادرة أدرجت نفسها في سياق الشعر العربي ومنافسة له. غير أن شعر ثمانينيات القرن الماضي جسّد فعل الثورة بحق، وخلق نماذج ثارت على النموذج الشعري الفلسطيني السائد، فانشغلت بالشكل وطرحت موضوعات مختلفة آثرت الوجود للذات الشاعرة على الوجود للآخرين. لكنها في نماذجها الأساسية استنفدت طاقة الغنائية الدرامية التي تجعل من غناء الدراما أرقى أشكال الخلق الإبداعي لكتابة الذات.
بينما يغدو النكوص إلى الذات مهنة الشعر الفلسطيني بعد اتفاقات أوسلو، باعتباره خروجًا على الشعر الفلسطيني السائد بخطابه الذي وصل ذروته. لكن هذه الذات الملتبسة جعلت المحتل ملتبسًا أيضًا، بينما تعددت هذه الذات بانشطاراتها، فغدت ذواتًا والعالم عوالم في الألفية الثالثة. هذه إشارات لا بد منها، وقد يُختلف عليها، دالّةٌ على الشعر الفلسطيني. وهكذا، انحاز شعرنا إلى سياقات متعددة، فيما تبقى النكبة في عوالمه أقرب إلى استضافة الذاكرة لتذكّر الذات. وبعيدًا عن هذه الرؤية التي قدمت بها القصيدة الفلسطينية نفسها، أنا أيضًا كغيري من الشعراء أطمح إلى كتابة الإلياذة الفلسطينية، وهذا يستدعي استحضار الذات الشاعرة بوصفها الوريث الشرعي لذات السلالة منذ اللفظة الأولى بعلاقتها وتفاعلها مع عناصر عالمها، الفني والمعيشي أيضًا، وتحولاتها في المراحل والأبعاد كافة، وأثقال أحمالها كافّة.
الشاعر محمد دقّة:  إرثٌ لا يحيد عنه مبدع
عندما حلّت النكبة بالشعب الفلسطيني عام 1948، لم يكن أمام الفلسطيني إلا أن يحمل معه الحلم في ترحاله وتشرّده في البلدان، فَبِلا حلم لا يحضر الأمل، ولا يستمر الإبداع. وتشكلت لدى الفلسطيني ثقافة العودة، ونمت حيث زرعها في وعيه وذاكرته ووعي أبنائه وذاكرتهم جيلًا بعد جيل، فكانت محرّكًا لإبداعه أينما حلّ، ومصدر إلهامه في كل المجالات التي خاضها وعمل فيها، فعبّر عنها وأحياها وأنسنها في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرحية واللوحة الفنية والسينما، وغير ذلك من أنواع الإبداع. وكان هذا الإبداع متباينًا حسب المستوى الفني للمبدع نفسه، ومختلفًا حسب ما تتفجر به قريحة المبدع، ولكنه في الوقت ذاته كان وما زال وسيظل متفقًا ومتوافقًا على فكرة واحدة جليّة وواضحة، هي أن النكبة جريمة نُفّذت بحق الشعب الفلسطيني، وأنها لن تستمر إلى الأبد، حتى وإن طالت.
تعدّ النتاجات الإبداعية، وأخص الشعر والآداب النثرية في هذا، بكل ما حملته من تجديد وتطوير، من ملحقات وتوابع الأدب المتعلق بموضوع النكبة، ولذا فإننا يمكن أن نعدّ الحديث عن المنفى والغربة والعودة والثورة والانتفاضة والمخيم، من آثار النكبة، ومن القضايا التي اجترحها المبدع الفلسطيني وواكبت إبداعه على مر السنين. إن إعادة سرد النكبة من خلال الإبداع تتطلب استمرار الإيمان بالحق الفلسطيني بالأرض والعودة إليها، كما تتطلب الاستمرار بالثورة ضد الاحتلال، ليسير العمل الإبداعي جنبًا إلى جنب مع العمل الثوري والسياسي والدبلوماسي على مستوى شعوب العالم، ويستمر التجديد ونتجنب تكرار ذواتنا وتكرار غيرنا، كما نستطيع مواكبة التطور السريع في عالم التكنولوجيا، بل واستغلاله من أجل قضيتنا في إعادة سرد النكبة.
ظلّ المبدع الفلسطيني أمينًا على سرد نكبته، وسيبقى ما دامت النكبة حاضرة، فقدم كثيرًا من الأعمال الإبداعية التي تستطيع أن تُري العالم ما حلّ بشعب فلسطين، ولا أجد شاعرًا أو كاتبًا أو فنانًا فلسطينيًا غير ملتزم بقضيته في أعماله الإبداعية، وكأنّ القضية إرث يولد معه ويكتسبه جينيًا، ولا يمكن أن يحيد عنه، هذا ما يميز الإبداع الفلسطيني، وهذا ما ساهم في تطوّر الأدب والفن في فلسطين، وهو ما انعكس على فنون المنطقة العربية وآدابها كذلك.
المصوّر المصري عادل واسيلي: ليست مجرد ذكرى أو حداد

تمثل النكبة حالة انكسار شديدة للمنطقة العربية ككل، وذلك على مختلف الأصعدة، السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية. واليوم، وبعد 75 عامًا على هذه المأساة، ما زلنا نعاني من مزيد من الانكسارات. في ما سبق، كان هنالك، وفي معظم الدول العربية، تظاهرات وفعاليات ثقافية وغيرها، تحيي ذكرى النكبة، وتمثل محاولات للخروج من حالة الانكسار العامة تلك. اليوم، ومع الأسف، ومع تزايد الانكسارات منذ النكبة، ومن ثم النكسة وما تلاها من أزمات في الدول العربية، لم يعد يستذكر النكبة سوى عدد قليل جدًا، أتحدث هنا على الأقل عن مصر. وكان كثير من الفنانين والأدباء في مصر والمنطقة العربية بعامة يبتكرون أفكارًا جديدة، سواء في الفن التشكيلي، أو التصوير، أو الكتابة على اختلاف أجناسها الإبداعية، لصياغة الرواية العربية حول المأساة الفلسطينية، واليوم يصبح هذا النتاج الإبداعي قليلًا جدًا. وأتساءل: هل هذا الوضع ناتج عن يأس الشعوب العربية من الحكومات العربية، ومن موقفها من القضية الفلسطينية، أم ناتج عن الانكسارات السياسية والأزمات الاقتصادية، أم هو ناتج عن كليهما؟
أعتقد أنه يقع على عاتق الفنانين والأدباء والمثقفين دور رئيس يكاد يكون أهم من الدور الذي يلعبه السياسي؛ بل وفي حالات الانهزام السياسي يبقى الميدان للثقافة والفنون لتمارس المقاومة بالإبداع. وأعتقد أيضًا أن النكبة كمأساة مستمرة، والقضية الفلسطينية بعامة، لم ولن تنتهي في الوعي والوجدان الجمعي العربي، ولو كانت هنالك حالة عامة قد يراها البعض تقاعسًا، وقد يراها بعض آخر انشغالًا، بل وغرقًا في الأزمات الداخلية الخاصة بكل بلد عربي. لكني أرى أن القضية الفلسطينية ستبقى تشكل ما يشبه العمود الفقري للشعوب العربية، فحين تتصاعد الأحداث في فلسطين وغزة، نجد دائمًا التفافًا شعبيًا عربيًا حول الحق الفلسطيني في الحياة والحرية وتقرير المصير.
يكمن الحل في رأيي في نقاط عدة؛ أولها: الخروج من كون ذكرى النكبة موقفًا للحداد، وتحويلها إلى مقاومة، فهنالك فرق كبير بين أن تكون النكبة مجرد ذكرى لمأساة وحداد عليها، وأن تكون دافعًا لإحياء أشكال المقاومة المختلفة. ويجب ثانيًا إعادة الاتفاق والتأكيد على أن كل أشكال المقاومة مشروعة، وذلك بعد ما شهدناه في الفترات السابقة من تشتت وتفتّت حول أشكال المقاومة ومشروعيتها. كما يجب ثالثًا التذكير بأحد التمثّلات الرئيسة للنكبة وهي قضية اللاجئين، بالتأكيد على حق العودة بكل الأشكال الممكنة، الشعبية والفنية والثقافية والأدبية والإعلامية والسياسية، وأنه لا تنازل عن هذا الحق تحت أي ظرف من الظروف. وأخيرًا، يجب أن لا تنسى الأجيال القادمة، في خضم الإشكاليات الموجودة على المستويين الدولي والمحلي، القضيةَ الفلسطينية، وأكرّر التأكيد هنا على أهمية دور الفنانين والمثقفين، وتوظيفهم كافة الأدوات الإبداعية والثقافية الممكنة، لضمان توارث الأجيال للقضية، ومجابهة محاولات التعتيم عليها ومحوها في الوعي والذاكرة.
عبد الرحيم الشيخ: المقبرة الفلسطينية الحيّة!(1)

يقوم مشروع “المقبرة الفلسطينية الحية” على دراسة المقبرة، لكتابة قصة حياتها، بصفتها إحدى الجغرافيات المهمَّشة والأقل استخدامًا في أبحاث الذاكرة والتاريخ في ميدان الدراسات الفلسطينية، إلى جانب كل من المخيم والسجن. ويدشّن المشروع تواريخ موازية، أكثر من كونها تواريخ بديلة، للرواية الفلسطينية الرسمية، على المستويات المفاهيمية والسياسية والاجتماعية والثقافية، منذ سنة 1905 التي شهدت بداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين حتى اللحظة. فالتواريخ التي تختزنها المقبرة، لا تتقمص أقوال مَن فقدوا حقّهم في الكلام إلى الواجهة المرئية من الذاكرة، بل تعين أطياف وجوههم الغائبة على معاودة الظهور بالتدريج في مدوّنة التاريخ الخفية
ولأن المقبرة مكان متغاير، فهي بالضرورة مكان برزخي سياسيًا، يفصل في السياق الفلسطيني بين نكبتين: نكبة فوق أرضية (Terranean Nakba) تفصح عن حياة ينقصها كثير من الحياة التي قطع سيرورتها الطبيعية عنف الحروب والمجازر والقتل اليومي، ونكبة تحت أرضية (Subterranean Nakba) تفصح عن موت ينقصه كثير من الموت، وقطع صيرورته الطبيعية عنف المقابر الجماعية، وقصف المقابر، وتعليق الموت باحتجاز جثامين الشهداء في الثلاجات ومقابر الأرقام، وعدم الكشف عن مصير المختطَفين الذين أُعلن قتلهم من دون إبراز ما يثبت استشهادهم.
وفي هذا المقام، يصلح ما تبقَّى من بيوت قرية لفتا ومقبرتها مثالًا للنكبتين. وعلى الرغم من ذلك، وربما بسببه، فإن إمكان كتابة تاريخ سياسي فلسطيني من خلال المقبرة بدأ يتخلّق، وفيه ينقلب سحر فاعل سياسات الموت والحياة على ساحره، حين يصير في إمكان شواهد القبور، وعلى غفلة من جبروت الغالب وضعف المغلوب، أن تكون الصوت الأعلى في كتابة تاريخ آخر لا تحكمه علاقات القوة السائدة. وحين يحول المشروع الصهيوني دون ظهور دولة فلسطينية ديمقراطية ميثاقية، وتنفي طبيعته العنصرية تحوُّله إلى “دولة كل مواطنيها”، في فلسطين التاريخية، فإن ديمقراطية الموت تؤمّن “مقبرة كل مواطنيها”، حيث يكتسب كلٌّ جغرافيا قبره بجدارة الموت، ويكتب كلٌّ تاريخ ما قبل القبر بجدارة الحياة. وبذا، تصير المقبرة موقعًا لإعادة إنتاج المجال السياسي.

هامش:
(1) تمثل دراسة بعنوان “المقبرة الفلسطينية الحية”، لأستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، الشاعر عبد الرحيم الشيخ، نموذجًا حيًا للتجديد في السردية الفلسطينية للتاريخ الفلسطيني، وإعادة روايته وفق مفاهيم وأساليب معرفية وبحثية جديدة، إذ تتناول الدراسة، التي نشر الجزء الأول منها أخيرًا في مجلة الدراسات الفلسطينية، التاريخ المفاهيمي والسياسي والاجتماعي والثقافي لفلسطين من خلال المقبرة.
يمكن قراءة الجزء الأول من الدراسة على الرابط التاليhttps://bit.ly/3OkRBHr

المصدر: https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2023/5/19/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AF%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A

عن مليحة مسلماني

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *