النيوليبرالية والفاشيين الجدد: تطفل، تعايش، تكافل

ترجمة: محمود الصباغ.

مرت أربعة عقود، قبل الآن، منذ أن بدأت العولمة النيوليبرالية في إعادة تشكيل النظام العالمي. استطاعت خلالها، وعبر أجندتها المعلنة، أن تقضي، تقريباً، على حقوق العمال، كما فرضت قيودًا صارمة على العجز المالي، نظراً للإعفاءات الضريبية الهائلة التي فرضتها وعمليات الإنقاذ المتواصلة لرأس المال الضخم، والتضحية بالإنتاج المحلي لسلاسل التوريد متعددة الجنسيات، وخصخصة أصول القطاع العام بأسعار مخفضة. والنتيجة اليوم: نظام فاسد، تحدده حركة رأس المال الحرة والسهلة نسبياً عبر الحدود الدولية، حتى عندما يتم التحكم القاسي في حرية حركة وتنقل الناس عن طريق ارتفاع منسوب الخلل في الدخل بين الأفراد، والتفريط المتواصل في الديمقراطية. وبغض النظر عمن سيصل إلى السلطة، وبغض النظر عن الوعود التي قُطعت قبل أي انتخابات، غالباً ما يتم اتباع السياسات الاقتصادية عينها. وبما أنه يمكن لرأس المال، وخاصة المالي منه، أن ينسل من أي بلد على هيئة كتلة ضخمة في غضون مهلة قصيرة للغاية -مما يؤدي إلى حدوث أزمة مالية حادة، إذا ما حصل انعدام ثقة مالية في بلد ما- فسوف تضطر حكومة تلك البلد  إلى الانقلاب على الوضع الراهن وانتهاج سياسات مالية تراها مناسبة للتمويل والمطالبة فعلاً برأس المال اللازم. أي، تُستبدل سيادة الشعب بسيادة التمويل العالمي والشركات المحلية المندمجة به. وعادة ما تبرر النخب السياسية والاقتصادية هذا الاختزال للديمقراطية وانحسارها في المجتمع، على قاعدة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتبعة  التي ستعمل على رفع الناتج المحلي الإجمالي GDP -وهذا ما يمكن تشبيهه بعصارة الخيرsummum bonum التي يجب أن تستهدفها جميع السياسات المطبقة في البلاد.

وقد أدى العصر النيوليبرالي، في العديد من البلدان-لا سيما في آسيا- إلى تسارع ملحوظ لوتائر النمو بطريقة مغايرة عما كان عليه في الفترات السابقة التي كانت تسيطر فيها الدولة على الأمور الاقتصادية والاجتماعية. غير أن هذا النمو نادراً ما كان يصيب غالبية الناس: وترتبط السياسات النيوليبرالية، في الواقع، ارتباطاً وثيق الصلة بارتفاع مستويات الخلل في الدخل أكثر من ارتباطها بنمو الناتج المحلي الإجمالي. (حتى أن، خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، مثل: جوناثان دي أوستري وبراكاش لونجاني ودافيد فورسيري، أقرّوا بهذه النقطة في مقالهم الصادر في العام 2016 بعنوان “الليبرالية الجديدة: بيع مفرط”). لكن الليبراليين الجدد سوّقوا رداً قوياً على هذا الاعتراض، بقولهم: ينبغي النظر في زيادة الخلل أو عدم المساواة في الدخل كثمن مقبول ينبغي دفعه مقابل الحصول على وتائر نمو أسرع، لأن مثل هذا النمو لايزال يبرهن أنه يعني تحسناً مطلقاً في ظل ظروف أسوء. وقد كان التصور الإيديولوجي الأساسي للنيوليبرالية هو أن النمو سيرفع جميع القوارب*، حتى لو ارتفعت بعض القوارب أكثر من غيرها.

ربما لا يوجد مثال مضاد أفضل عن مثل هذا الزعم مثل الهند، حيث أدخلت السياسات النيوليبرالية منذ  العام 1991 – الأمر الذي حفّز الارتفاع في معايير معينة للفقر المطلق وتردي الزراعة وكذلك إلى الخلل الدراماتيكي في نسب الدخل بين الأفراد. وفي العام 1982، أي بعد أكثر من ستة عقود من فرض ضرائب قوية على الدخل، كان نسبة 1% ممن هم على قمة أصحاب الدخل يمثلون 6 % فقط من الدخل القومي، وتضخم هذا الرقم، بحلول العام 2014، إلى 22% وفقاً لكل من لوكاس تشانسيل وتوماس بيكيتي، وهو أعلى مستوى له منذ قرن. وفي غضون ذلك، ارتفع معدل الفقر أيضاً في المناطق الريفية في الهند، كما أظهر الخبير الاقتصادي أوتسا باتنايك في تقرير حديث إلى المجلس الهندي لأبحاث العلوم الاجتماعية، حيث كان المعيار لتعريف الفقر هو عدم الحصول على 2200 سعرة حرارية للفرد في اليوم، وزادت نسبة الفقراء في إجمالي السكان من 58 % في أعوام 1993-1994 إلى 68 % بين عامي 2011 و2012 وهو آخر عام تتوفر فيه بيانات مسح عينة كبيرة. وينطبق هذا النمط على المناطق الحضرية أيضاً، حيث كان المعيار 2100 سعرة حرارية للفرد في اليوم: وزادت نسبة الفقراء من 57 % إلى 65 % خلال الفترة الزمنية ذاتها. وعلى الرغم من هذه التشققات وغيرها في ذريعة المد المتصاعد الذي “سيرفع جميع القوارب” والتي أصبحت واضحة تماماً بحلول مطلع القرن، فقد احتفظت الرواية القائلة بأن النيوليبرالية ستفيد الجميع، بذات الطابع حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك لسببين على الأقل: أولاً، قيل إن العولمة النيوليبرالية جعلت أداء شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى يظهر وتائر جيدة، وتوسعت فرصها بفضل الاستعانة بمصادر خارجية لمجموعة من الأنشطة من البلدان المتقدمة وزيادة حصة الفائض الاقتصادي، بسبب تدني الأجور وزيادة إنتاجية الطبقة العاملة، كما ساهمت هذه العولمة النيوليبرالية في الحد بشكل مذهل من الفقر في الصين -شكّك الاقتصادي براناب باردهان بقوة في هذه القصة التقليدية في هذه الصفحات-: ثانياً، ساهمت العولمة النيوليبرالية في تعزيز الآمال في أن النمو السريع سوف “يتدفق” عليهم عاجلاً أم آجلاً، حتى لدى أولئك الذين تضرروا من النظام النيوليبرالي، وهي آمال يغذيها الضخ الإعلامي  الذي تهيمن عليها الطبقات الوسطى والعليا. غير أنه سرعان ما انحسرت هذه الآمال، حيث انتهت مرحلة النمو المرتفع للرأسمالية النيوليبرالية في العام 2008 بانهيار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة، مما أفسح المجال لإطالة أمد الأزمة الاقتصادية، والركود في الاقتصاد العالمي. ونظراً لأن الدعامة القديمة للاقتصاد المتدفق إلى الأسفل فقدت مصداقيتها، فقد استدعت الحاجة إلى دعم سياسي جديد للحفاظ على النظام النيوليبرالي، وجاء الحل على شكل تحالف بين رأس مال الشركة المتكامل عالمياً وعناصر الفاشية الجديدة المحلية. وظهرت هذه الديناميكية في عدة بلدان حول العالم، من صعود ناريندرا مودي في الهند وجاير بولسونارو في البرازيل إلى دونالد ترامب في الولايات المتحدة.

تعكس بعض جوانب إدارة ترامب، بالنسبة لبعض المراقبين، -مثل مقترحاته الحمائية، ودعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- ابتعاد الفاشية الجديدة عن النيوليبرالية. لكن هذا التحليل يبالغ في أهمية انفصال ترامب عن الأرثوذكسية النيوليبرالية، في ذات الوقت الذي يُهمل فيه الرابط المميز بين الفاشية الجديدة والنيوليبرالية في العالم النامي. ولا نحتاج، من أجل الحصول على دليل على العلاقة بين الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة، إلى النظر أبعد من الحقيقة  القائلة بعدم وجود تشكيل سياسي للفاشية الجديدة فرض، فعلاً، ضوابط على التدفقات المالية عبر الحدود. وفي النهاية، لا يمكننا الهروب من هذا التحالف إلا من خلال تنفيذ مثل هذه الضوابط -جنباً إلى جنب مع سياسات الرفاهية المحلية القوية. ولتقويم احتمالات مثل هذا التحول، بات من الضروري تقدير السمات المميزة للفاشية الجديدة المتواجدة في جميع المجتمعات الحديثة تقريباً، وإن كانت محصورة بعناصر هامشية قد تحتل مراكز الصدارة في فترات الأزمات فقط، بدعم من رأس مال الشركات، الذي يوفر الوصول إلى الموارد المالية الضخمة والسيطرة على وسائل الإعلام المملوكة للشركات والوسائل الأخرى التي تساهم في صنع وتشكيل الرأي. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات المميزة للفاشية الجديدة، مثل سابقاتها الكلاسيكية، في شيطنة “الآخر”، سواء أكانوا مسلمين في الهند، أم أقليات عرقية وجنسية في الولايات المتحدة والبرازيل. وهي استراتيجيات يختلف  تنفيذها من بلد إلى آخر، ويمكن، بالطبع، أن تتخذ هذه الشيطنة أشكالاً متعددة: فقد لا تشير إلى الأزمة الاقتصادية على الإطلاق، بل تركز، بدلاً من ذلك، على حاجة مجتمع الأغلبية لاستعادة “احترام الذات” الذي يُزعم أنه تضرر على يد الأقلية. أو قد تُحمّل الأقلية المسؤولية عن المشاكل الاقتصادية، بصرف النظر تماماً عن دورها المزعوم في الإضرار باحترام مجتمع الأغلبية لذاته. وسوف توجه للحكومات غير الفاشية تهمة “القوادة” على الأقلية من خلال اللعب بسياسة “الاسترضاء، سوف يترافق الهجوم على “الآخر” من قبل  الفاشية الجديد الهجوم على منتقديها، أيًّا يكن، مثلما فعلت نظيرتها، الفاشية الكلاسيكية، وتصفهم بـ “أعداء القومية” من خلال عدم التفريق بين انتقاد الحكومة وخيانة الأمة. وتلصق في أحزاب المعارضة جميع ما يخطر لها من أنواع المخالفات (انظر في محاكمة “لولا” في البرازيل). إنها تخلق جواً، في المجتمع، يهيمن عليه من الخوف -من خلال من خلال تقويض استقلال مؤسسات الدولة، وزج الناس في السجون دون محاكمة؛ وكذلك السخرية من القضاء أو الاستفادة منه لمصلحتها؛ أو إلغاء الحقوق الدستورية للشعب؛ وترويع السياسيين المعارضين للانضمام إلى حزب الفاشية الجديدة في الأماكن التي يخسرون فيها الانتخابات؛ وإطلاق العنان لعصابات الشبيحة والبلطجية في الشوارع، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة المعارضين؛ وتوجيه اتهامات زائفة ضد المعارضين؛ وما إلى ذلك. وتتلقى الفاشية الجديدة، جميع الأحوال، دعماً من خلال وسائل إعلام طيّعة وسهلة الانقياد، مما يجعلها تستخدم صعودها لمساعدة قطاع الشركات على مهاجمة حقوق العمال المكتسبة عبر عقود من النضال. وفي حين اعتمدت الفاشية الكلاسيكية على جميع هذه العناصر، فمما لا شك فيه، أن الفاشية الجديدة تنحرف أيضاً عن سابقاتها التاريخية بطرق مهمة.

ظهرت الفاشية الكلاسيكية قبل عولمة رأس المال، بمعنى أنها كانت تحمل بصمة أصلها القومي بشكل أوضح: وانهمكت في تنافس شديد إمبريالي بين رأسمالي مع البلدان المتقدمة الأخرى، وهو التنافس الذي حشدت فيه، الفاشية الكلاسيكية، دعمها لدولتها القومية التي تنتمي إليها. كان الهدف الفاشي هو إعادة تقسيم عالم مقسّم بالفعل إلى مناطق اقتصادية. بينما تحتل الفاشية الجديدة اليوم، وعلى نقيض الفاشية الكلاسيكية، نظام تمويل معولم، يتم فيه كتم التنافس  الإمبريالي البيني بسبب ظاهرة التدفق الحر لرأس المال. وبما أن رأس المال المعولم يطمح، عازماً، على إبقاء العالم بأكمله مفتوحاً لحركته الحرة، فهو لن يشجع، بطبيعة الحال، أي إجراء تنافسي بين الإمبريالية وتجزئة العالم إلى مناطق اقتصادية متنافسة. وتقدم الهند توضيحاً حيّاً للعلاقة بين الفاشية الجديدة والنيوليبرالية. وذلك لسبب واحد، فالفاشيون الجدد المتفوقون من الهندوس الذين وصلوا إلى السلطة في العام 2014 لم يكن لهم أي علاقة بنضال الهند ضد الاستعمار (في الواقع، اغتال أحدهم المهاتما غاندي). بل هم في الحقيقة نيو ليبراليون، حتى أكثر من الحكومات النيوليبرالية السابقة. ويتركز موقفهم السياسي بالكامل، حتى أثناء الوباء، حول إبقاء العجز المالي تحت السيطرة خوفاً من الإساءة إلى التمويل المعولم، والذي بسببه كانت الهند واحدة من البلدان التي تقدم المساعدة الحكومية الأكثر هزالةً للأشخاص المتضررين من الإغلاق. كما تبدو حكومة الهند، اليوم، أكثر حرصاً مما سبق على خصخصة مؤسسات القطاع العام، وتقديم المساعدة للشركات، لاسيما لتلك القلّة من الشركات التي تحظى بأفضلية لدى الحكومة. كما كانت، الحكومة الحالية، أكثر حرصاً من أي حكومة سابقة على حماية انتهاكات الشركات في المجال الزراعي وعمليات الإنتاج الصغيرة.

في الواقع، ومنذ الأيام الأولى للنيوليبرالية في الهند، كان هناك ارتفاع مأساوي في أعداد الفلاحين المنتحرين -وصل الرقم إلى أكثر من 300 ألف شخص  خلال الفترة التي تلت العام 1991 وحتى  العام 2016. ويعود السبب إلى تزايد مديونية الفلاحين، وعدم القدرة على السداد. لقد انفجر الدين في مواجهة ارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية المخصخصة الذي ترافق مع انخفاض حاد في أرباح الزراعة الفلاحية، بعد إلغاء الدعم على أسعار المحاصيل النقدية، وتقليصه في الحبوب الغذائية. كان الضغط على زراعة الفلاحين، وهو قطاع يوظّف ما يقرب من نصف إجمالي القوى العاملة، حاداً للغاية لدرجة أن عدد “المزارعين” تقلص بمقدار 15 مليونًا بين إحصاء 1991 و 2011. وتحول جزء منهم إلى عمال، وهاجر البعض الآخر إلى المدن بحثاً عن الوظائف غير الموجودة أصلاً، مما أدى إلى تضخم جيش العاطلين عن العمل أو العمالة الناقصة، وهو ما أدى يدوره إلى إضعاف الموقف التفاوضي للعمال النقابيين القلائل نسبياً. صحيح أنه حدثت زيادة في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، لكن  الصحيح أيضاً، حدوث انخفاض -في الواقع انخفض إلى النصف- في معدل نمو العمالة، مما جعله أقل حتى من المعدل الطبيعي لنمو القوة العاملة. ويهدف التحريض الهائل للفلاحين، الذي يهز البلاد حالياً إلى التراجع عن ثلاثة قوانين زراعية، سنتها حكومة مودي العام الماضي، والتي سمحت بموجبها بتمدد النظام النيوليبرالي. وبينما تنتقد الإدارة الأمريكية، وصندوق النقد الدولي، طريقة تعامل الحكومة الهندية مع التحريض، إلا أنهما يدعمان التوجه نحو تبني تراجع الحكومة عن القوانين الثلاثة. وهكذا فإن الفاشية الجديدة لمودي واضحة تماماً في دفاعها وتعزيزها للأجندة النيوليبرالية.

ما مدى استقرار هذا التحالف العالمي بين النيوليبرالية والفاشية الجديدة؟ وإلى متى يمكن أن نتوقع من أن دعم الفاشية الجديدة  سوف يستمر في مساندة النيوليبرالية التي تترنح تحت وقع الأزمة؟

قد يعتقد البعض أن الفاشية الجديدة بمثابة قدر وجدت لتبقى، بسبب من أن التمويل العالمي لن يقبل باندلاع حروب بين القوى الرأسمالية الكبرى ،أو حتى الصغيرة ولكن، من ناحية أخرى، تخضع الأنظمة الفاشية الجديدة للقيود عينها التي يفرضها هيمنة التمويل العالمي، وهذا التمويل محدد، من ناحية واحدة، بصورة لا تقبل الجدل، فهو يعطّل من قدرة الفاشية الجديدة على إحياء منظومة التشغيل ووضع حد لارتفاع معدلات البطالة. لنتذكر، عملت الفاشية الكلاسيكية على إعادة التشغيل والتوظيف من خلال الإنفاق على التسلح الحكومي الذي حصل على القسم الأكبر من تمويله عن طريق الاقتراض -أي من خلال إدارة عجز مالي كبير،  وعبر هذه الجهود، كانت اليابان أول دولة خرجت من الكساد الكبير في العام 1931، كما كانت ألمانيا أول دولة أوروبية تخلق طفرة في الأعمال التجارية في العام 1933 في ظل الحكومة النازية. ونتيجة لذلك، تواجدت فترة وجيزة، فصلت بين نهاية البطالة الجماعية وبداية أهوال الحرب، وهي الفترة التي تمتعت فيها الحكومات الفاشية بدعم جماهيري كبير.

وتبدو الفاشية الجديدة، على النقيض من الفاشية الكلاسيكية، غير قادرة على إنهاء البطالة الجماعية. ولا يقتصر الأمر على أن مثل هذا الهدف يتطلب نفقات حكومية أكبر، وهو بالفعل موضوع ازدراء بين النيوليبراليين؛ إذ يجب تمويل هذه النفقات من خلال فرض ضرائب على الرأسماليين أو من خلال عجز مالي -وتستبعد النيوليبرالية كلا الحلّين هذين، ففرض ضرائب على الرأسماليين سواء من خلال ضريبة الأرباح أو ضريبة الثروة، وفقاً للعقيدة النيوليبرالية، من شأنه أن يؤثر سلباً على “أرواحهم الحيوانية”**، على حد قول كينز -أي مجموع المواقف التي تعزز الاستثمار الأكبر من خلال الرأسماليين. ولا يحبّذ التمويل، من ناحية أخرى، ظهور عجز مالي كبير لأنه سوف يضع الشرعية الاجتماعية للرأسماليين موضع تساؤل وريبة (خاصة المصالح المالية التي تشكل ما أسماه كينز “المستثمرين العاطلين عن العمل”). ويطرح هذا الموقف مشكلة فيما يتعلق بسيطرة الفاشية الجديدة على السلطة. فقد يؤدي عدم قدرتها على التخفيف من أزمة النيوليبرالية إلى هزيمتها في الانتخابات (بافتراض أنها لا تزورها أو تتجاوزها تماماً): ويمكن القول إن هذا ما حدث في الولايات المتحدة إثر خسارة ترامب أمام جو بايدن. ولكن حتى إذا ما خسرت الفاشية الجديدة على المدى القصير، فإنها سوف تظل منافساً قوياً للعودة إلى السلطة، طالما أن الحكومات اللاحقة عادت إلى العمل النيوليبرالي كالمعتاد، كما كان النمط لبعض الوقت.

ومن أجل كسر هذه الحلقة، من الضروري ألا تستأنف الحكومة اللاحقة السياسات النيوليبرالية القديمة التي تؤدي إلى الخلل في المساواة والفقر المتزايد والبطالة المتزايدة. يجب أن يكون هناك تحول حاسم نحو دولة رفاهية قوية، تتزامن مع إحياء الخدمات الاجتماعية العامة، والسلع العامة، والعمالة المرتفعة -وعلى وجه التحديد، السياسات التي أحبطتها هيمنة التمويل العالمي. أمّا من الناحية الكميّة، فإن هذا التحول ممكن تماماً. ففي دولة مثل الهند، تشير التقديرات إلى أنه من أجل إرساء خمسة حقوق اقتصادية عامة وقابلة للتقاضي في البلاد -الحق في الغذاء، والحق في العمل (أو الأجر الكامل إذا لم يتم توفير العمالة)، والحق في الرعاية الصحية المجانية من خلال الصحة الوطنية. الخدمة، والحق في التعليم المجاني الممول من القطاع العام (على الأقل حتى مرحلة ترك المدرسة)، والحق في معاش الشيخوخة وإعانة العجز الكافية- تتطلب إنفاق ما نسبته 10 % إضافية من الناتج المحلي الإجمالي فوق ما هو موجود بالفعل لمثل هذه الحقوق. وسوف يتطلب الأمر، من الناحية العملية، زيادة موارد إضافية تصل إلى 7 % من الناتج المحلي الإجمالي، لأن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي على حساب هذه النفقات سيحقق تلقائياً إيرادات إضافية على أي حال. (ناقشت أنا وجياتي غوش هذه الحسابات في مساهمتنا في الكتاب الذي ظهر مؤخراً ” نحن الشعب: تأسيس الحقوق وتعميق الديمقراطية” We the People: Establishing Rights and Deepening Democracy من تحرير نيخيل داي وأرونا روي وراكشيتا سوامي). ويمكن زيادة هذه النسبة البالغة 7 % من خلال ضريبتين فقط، تُفرض فقط على أعلى 1 % من سكان البلاد: ضريبة الثروة بنسبة 2 %، وضريبة الميراث المفروضة على نفس المجموعة إلى حد الثلث لما ينتقب بين الورثة كل عام. وقد اكتسبت ضريبة الثروة، أيضاً، مكانة في المناقشات العامة في الولايات المتحدة بعد مقترحات بيرني ساندرز وإليزابيث وارين في موسم انتخابات العام 2020؛ حتى أن قلّة من المليارديرات الأمريكيين أيدوا اقتراح وارن. باختصار، هناك فهم عام يتطور في جميع أنحاء العالم بأن الهروب من الوضع الحالي يتطلب تحركاً ملموساً نحو تعزيز إجراءات دولة الرفاهية التي تم التراجع عنها خلال صعود الليبرالية الجديدة.

وسوف يشكّل هذا التحول تحدياً، من الناحية السياسية. وستؤدي محاولات فرض ضرائب على الأثرياء إلى تنفير المستثمرين، وإذكاء المخاوف من هروب رأس المال أو عدم كفاية التدفقات المالية الوافدة لتغطية العجز التجاري الآخذ في الاتساع الذي سيترتب على ذلك. ومهما طال الأمر، لابد في نهاية المطاف أن تتضمن الإجابة السيطرة على التدفقات المالية الخارجة، رغم أن مثل هذه الإجراءات لا تتسبب بالضرورة في كارثة للعالم النامي. يمكن للاقتصادات الكبيرة والمتنوعة إدارة العواقب: وبسبب جفاف التدفقات المالية في أعقاب مثل هذه الضوابط، يمكن التغلب  على الصعوبات قصيرة المدى لإدارة العجز التجاري بمرور الوقت من خلال تنويع الإنتاج بهدف زيادة الاكتفاء الذاتي. كما يمكن للاقتصادات الصغيرة أن تدار من خلال التضافر لتشكيل تكتلات تجارية محلية. إن السبب الحقيقي للقلق هو ما إذا كانت الدول المتقدمة، “حراس” العولمة، تفرض عقوبات تجارية وتتدخل بطرق أخرى ضد البلدان التي تحاول الهروب من الفاشية الجديدة من خلال تبني مثل هذه السياسات الاقتصادية المؤيدة للشعب.

إن هجوم الفاشيين الجدد على الديمقراطية هو محاولة أخيرة من جانب الرأسمالية النيوليبرالية لإنقاذ نفسها من الأزمة. ويجب، للهروب من هذا الوضع، تعبئة الرأي العام العالمي بشكل حاسم ضد النيوليبرالية، وحشد دعم الحركات الديمقراطية العالمية. عندها فقط ستنتهي هذه الأرض الخصبة للفاشية الجديدة.

هوامش المترجم

*القصد هنا من مجاز “النمو سيرفع جميع القوارب” الإشارة إلى تحركات الأسعار في سوق الأوراق المالية، أو الاقتصاد بشكل عام، حيث يؤدي ارتفاع  قيمة  السوق الاقتصادية إلى ارتفاع قيمة جميع الأسهم، حتى الأسهم الضعيفة منها. ظهر هذا التعبير بتأثير من “الريغانية” التي ترى أنه إذا كان من  القائمون على الاقتصاد يؤدون مهامهم جيداً، فسوف يعمل الأخرون بشكل جيد أيضاً-المترجم.

**الأرواح الحيوانية مصطلح استخدمه الاقتصادي البريطاني  جون ماينارد كينز في كتابه (النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال- 1936) لوصف فترات الانتعاش الاقتصادي وما يرافق ذلك من “تفاؤل ساذج” وسطحي وفهم غير عميق للمبادئ الاقتصادية. يستعير كينز مصطلحه من المعنى الذي كان متداولاً لوصف الغرائز والميول والعواطف التي تؤثر ظاهرياً على سلوك البشر وتوجهه. فهو يطرح السلوك الساذج لثقة المستهلك بالاقتصاد المنتعش ويعتبره مثالاً على “الروح الحيوانية” لمثل هذه الثقة. حيث لا يخوض المستهلك غمار نقاش ما حول التوقعات الاقتصادية اللاحقة أو مؤشرات أسواق المال والمضاربة وغيرها، نظراً لأن الانتعاش الاقتصادي يخلق نوعاً من الحصانة الزائفة يشعر بها الأفراد ضد أي خسارة “اقتصادية” محتملة قادمة  ولاحظ كينز كيف يستخدم رجال السياسة هذه الظاهرة لتمريرِ سياساتهم الاقتصادية، رغم أنهم، بسب معاندة الواقع لرغباتهم، يفشلون في ذلك في أغلب الحالات.

…………….

العنوان الأصلي: Why Neoliberalism Needs Neofascists

المؤلف: برابهات باتنيك

المصدر:https://bostonreview.net/class-inequality-politics/prabhat-patnaik-why-neoliberalism-needs-neofascists

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *