المجتمع المدني في إطار تطور الدولة والمجتمع

يتشرف مركز الجرمق بإعادة نشر نص المحاضرة التي ألقاها د. أحمد برقاوي، أسـتاذ الفلسـفة فـي جامعـة دمشـق، تحت عنوان (المجتمع المدني في إطار تطور الدولة والمجتمع) ، وذلك  في منتدى رياض سيف في أيلول\ سبتمبر  2000/ مرفقاً بالحوارات والتعقيبات التي تلقت المحاضرة .. ويقول د. برقاوي على صفحته الرسمية على موقع فيس عن هذه المناسبة : ” قبل عشرين عاما، كتب الصديق رياض سيف في كتابه ” رياض سيف -سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ” ص.105 يقول: (استمرت جلســات المنتــدى علــى مــدى أســابيع، وكان محــور «إحيــاء المجتمـع المدنـي» أول المحـاور الأربعـة التـي تـم طرحهـا فـي المنتدى. وقـد ألقـى فـي هـذا الصـدد أسـتاذ الفلسـفة فـي جامعـة دمشـق أحمـد برقـاوي محاضـر ًة جديـدة بعـد محاضـرة مقدسـي، عنوانهـا «المجتمـع المدنـي فـي إطـار تطـور الدولـة والمجتمـع» أوضـح فيهـا «أ َّن الدولـة فـي الوطـن العربـي تقـع فـي تضـاٍّد مـع المجتمـع، أو أَّن تطـور المجتمع العربـي فـي ُمجمـل بنـاه الاقتصاديـة والثقافيـة والاجتماعيـة صـار أكثـر تقدًمـاً مـنِ بنــية الدولـة نفسـها، وبالتالـي صـارت الدولـة قميًصـا أضيـق بكثيـر مـن المجتمـع. يُضـاف إلـى ذلـك أن هناك واقعـٌة مسـتمرة منذ أوائـل القـرن العشـرين، ألا وهـي أ َّن الأمـة الواحـدة غـدت مجموعـة مـن “الـدول” أو “السـلطات”، ومـع َّ أن كل دولـة تفـترض سـلطة، لكـن ليـس بالضـرورة أَّن كل سـلطة هـي دولـة، فالسـلطة المتناقضـة مع تغير الُبنــى الاجتماعيـة لا يمكنهـا أن تسـتمر إلا بآليـاِت قهـٍر واسـتبداد حتـى حـدود القهــر والاســتبداد القصــوى». وخلَــص برقــاوي إلــى نتيجــة أنــه «كلمــا ازدادت حركــة المجتمــع نحــو الأعلــى، أي نحــو التقــدم، ازداد تعســف الدولـة ذات البنيـة المتخلفـة بسـبب خشـيتها مـن الجديـد، وأ َّن طـرح المجتمـع المدنـي الآن فـي الوطـن العربـي بمضمونـه هـو تعبيـر عـن احتجاج على بنية الدولة)
……

نص المحاضرة مع الحوارات والتعقيبات

يجد المرء نفسه أمام مسؤولية مركبة عندما يتحدث أمام نخبةٍ مسؤولة وعلى سوية عالية من الثقافة، وهذا يعني أن الخطاب يجب أن يرتقي إلى مستواكم، سنحاول جاهدين أن نقدم أطاريحنا حول مسألة في غاية الصعوبة في الوطن العربي. أولاً: ما هي العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ وعندي أولاً أن الدولة هي سلطة تنظيم وإكراه لأنها تنطوي على مفهوم السلطان والسلطان يفرض التبعية له ويفرض مبدأ الطاعة، هذه العلاقة بين الدولة والشخص علاقة شبه ضرورية إن لم نقل ضرورية، فمن العبث تصور مجتمع بلا دولة، بلا سلطة على الرغم من هناك نفراً من الذين يعتقدون أن الدولة سلطة، ويمكن أن يكون المجتمع البشري في غنىً عنها، لكننا لا نوافق هذا الرأي.
السلطة ثمرة تناقضات، مختلف أشكال التناقضات، وبالتالي فإن علاقة من الاختلافات تقوم بين الدولة والمجتمع. وهناك درجة من الاختلاف تصل أحياناً إلى التناقض المطلق، وما أن يصل البشر إلى وعي التناقض هذا بينهم وبين الدولة حتى تغدو السلطة متناقضة على مستوى تطورهم وتغدو غير معبرة عن خياراتهم الحرة، عندها يصل التناقض إلى حد التضاد.
أنطلق من الفرضية التالية: أن الدولة في الوطن العربي تقع في تضاد مع المجتمع، أو أن تطور المجتمع العربي في مجمل بناه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية صار أكثر تقدماً من بنية الدولة نفسها، وبالتالي صارت الدولة قميصاً أضيق بكثير من المجتمع. يضاف إلى ذلك أن هناك واقعة مستمرة حتى أوائل القرن العشرين ألا وهي أن أمة واحدة غدت مجموعة من (الدول) و (السلطات)، وأنا أقول دول بين قوسين، فأنا أميز بين الدولة من جهة وبين السلطة من جهة أخرى، إن شئتم فإن الوطن العربي لم ينتصر فيه مفهوم الدولة، فكل دولة تفرض سلطة، ولكن ليس بالضرورة كل سلطة هي دولة.
إن الطبيعة الأساسية للسلطة في الوطن العربي هي التي تشكل “دولة”، دول مختلفة في عدد السكان، مختلفة في المساحات، مختلفة في مستوى الدخل، مختلفة في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ودولة تحترم في بعض حقوقها المرأة، في حين بعض الدول لا حق للمرأة فيها، ناهيك عن أن الوطن العربي يحتوي على كل أنظمة الحكم التاريخية من نظام الحكم الاستبدادي-السعودية، إلى نظام حكم جمهوري استبدادي نموذجه العراق، مروراً بنظام ملكي دستوري نموذجه المغرب، أو جمهوري ديمقراطي نموذجه لبنان. وهناك دول ما زالت في أقصى درجات التبعية ودول تحاول جاهدة بمعزل عن نظامها السياسي أن تفك تبعيتها للغرب، وهناك دول ما زالت فيها القبلية هي البيئة الأساسية للمجتمع، ودول تجاوزت الانتماء القبلي كمصر مثلاً، ودول ما زالت تعامل الأفراد والعرب كأفراد دول أجنبية، ودول تفتح حدودها دون تأشيرة دخول لهم على الأقل لأراضيها.
السلطة العربية بالأساس ثمرة بنى متخلفة وإذا كانت السلطة ثمرة بنى متخلفة فمن الضروري أن تكون الدولة على شاكلتها، هذا في الأساس، فإذا أخذنا السعودية والأردن والمغرب فهي أقطار استمرت فيها السلطات العائلية مع الاختلافات بين هذه الدول التي يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر ويعود بعضها إلى الربع الأول من القرن العشرين، ومن المنطقي والتاريخي أن السلطة التي أنتجها القرن التاسع عشر والعشرين لم تعد متطابقة مع المجتمع، فالبنى التقليدية والعشائرية والإقطاعية وضعف الفئات المدنية التي أنتجت السلطة المطابقة لها أصابها الترهل، إلا أن السلطة حافظت على بنيتها، وهذا هو جوهر التناقض بين مجتمع تطور بفعل التطور التاريخي، أما البنى التي أنتجت السلطة فما زالت قديمة، والسلطة المُنتجة من هذه البنى القديمة ما زالت مستمرة أنفاً عن هذا المجتمع. لنأخذ نموذج السعودية مثلاً التي أخذت المنطقة بسكانها لقب العائلة المنتصرة وانتقلت من مجتمع بدوي ورعوي وقروي وزراعي وبيئة متخلفة ووعي محلي ضيق إلى دولة نفطية ريعية يتراكم فيها رأس المال لدى العائلة الحاكمة ولدى فئة من رجال الأعمال الجدد ويفيض رأس المال فيها على مجموع عدد السكان، لقد تم بناء المدارس والجامعات وتوحدت القرى والمدن عبر شبكات الاتصال وعبر شبكات الطرق وظهرت فيها مؤسسات المجتمع المالي، الشركة، السوق، العلاقات الاقتصادية مع الدول الرأسمالية، فتغيرت بنية المجتمع الطبقي وظهرت فئات وسطى وظهر التجار وظهر المثقفون والمبدعون.
كل هذا ولَد التعرف على منتجات العالم ورغم ذلك فهذا البلد يحتفظ بنمط السلطة وجوهرها، ملكية، اوتوقراطية، فنظامها السياسي الذي نشأ قبل مئة عام ما زال، والسلطة بهذا تقع في تناقض مع التطور الموضوعي والضروري، فالمقولة النظرية تقول أنه يجب أن تتغير السلطة بما يتوافق مع تطور المجتمع.
ولكن لماذا استمر الأمر على ما هو عليه، لماذا بقيت السلطة ملكية اوتوقراطية وما زالت العائلة المتصرف الأوحد بمقدرات البلد، إن هذا التناقض لم يرفع حتى الآن بسبب استمرارية آلية السلطة ضد التاريخ الواقعي ولأسباب كثيرة سأشرحها فيما بعد، فالسلطة المتناقضة مع تغير البنى الاجتماعية لا يمكنها أن تستمر إلا بآلات قهر واستبداد حتى حدود القهر والاستبداد القصوى. فكلما ازدادت حركة المجتمع نحو الأعلى، أي نحو التقدم ازداد تعسف الدولة ذات البنية المتخلفة بسبب خشيتها من الجديد، وهذا الأمر يتطلب تقوية لجهاز الدولة القمعي بكل أشكاله، الحرس الملكي، الأمن العام، سلطة رجال الدين، قوانين الحد من الحريات، استمرار الايدولوجيا المذهبية الدينية أي الوهابية كإيديولوجيا سلطة ووحيدة، يُضاف إلى ذلك بقاء العلاقات القبلية القديمة عن طريق شراء الزعامات التقليدية، أي أن هذه الدولة كي تستمر يجب في شكل من أشكال أن تعيد إنتاج العلاقات القديمة، وأن تحافظ على البنى القديمة التي أنتجتها لكي تجد شروطاً لاستمرارها. وهناك دول، وهذه مفارقة تاريخية، تحولت فيها العائلة-السلطة إلى طبقة، فيما الحركة الطبيعية للتاريخ تشير إلى أن الطبقة تتحول إلى سلطة. ففي كل تاريخ البشر، الطبقات هي التي تتحول إلى سلطة، لكن هنا العائلة تحولت إلى طبقة، فالنفط نقل الشيوخ من مجرد زعماء تقليديين بحكم السلطة الناتجة عن السن والعلاقات الخارجية إلى طبقة تتحكم بالسوق، إنها الآن المالكة لرأس المال فحوّلت أقطارها إلى مجرد أسواق وتقوم هي بوظيفة شهبندر التجار، فالبنوك والوكالات وعمليات الوساطة بين السوق المحلية والسوق العالمية كلَُ ذلك ممتلكٌ أساساً من العائلة التي تحولت إلى طبقة، والعائلة الطبقة لكي تستمر سلطة سياسية وسلطة اقتصادية لابد لها من إبقاء القطر في بنيته السياسية من جهة وإبقاء القطر منفرد أيضاً عن بقية المجتمعات العربية، وبالتالي تعتبر كل انفتاح هو إقلال من السيادة المحلية. وهكذا نشأت وتطورت السلطة من حيث هي ملكية شخصية شأنها شأن أي سلطة كانت فلم تعد السلطة سلطة مجتمع بل سلطة ضيقة ووسيلة خاصة لفئة محددة من الناس. ولكننا هنا نتحدث عن واقع فيه نوع من المفارقة وهذه الحالة (التناقض) بين بنية السلطة المتخلفة وتطور المجتمع ما كان يمكن أن تستمر إلا كما قلنا بسبب آليات القمع من جهة ومن جهة ثانية بسبب الثروة، ومن جهة ثالثة، بسبب أن هذه الثروة لم تخلق بعد تلك القوى الاجتماعية السياسية التي تحول دون نشأتها عوامل الكبح والضغط.
في الغرب مثلاً، الوضع مختلف على الرغم أن هناك أيضاً دولة ملكية، فالسلطة التقليدية نشأت في المغرب فواجهت معارضة شديدة قابلتها السلطة بأعنف درجات القمع كاختطاف المهدي بن بركة مثلاً، غير أن تطور المجتمع السياسي وتطور المجتمع المدني حال دون وجود فراغ يحكم الملك من خلاله دون أن يأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات السياسية والقوى الشعبية والطبقات الاجتماعية. ورأت السلطة الحاكمة أنها ستبقى مقطوعة الجذور عن القوى السياسية الفاعلة إن هي سارت في طريق القمع الأقصى. نموذج المغرب وهو نموذج ممتاز للدراسة، يشير إلى أن مستوى تطور المجتمع المغربي انعكس بقوة على مستوى أداء السلطة السياسية فإذا كانت السلطة الملكية قادرة لفترة زمنية أن تتجاهل حركة التطور هذه، لكنها لا تستطيع إطلاقاً أن تتجاهل إلى الأبد هذه القضية، لأنها لا تستطيع أن تملأ الفراغ في السعودية أو الخليج، هذه الدول تستطيع أن تملأ الفراغ بأشكال متعددة من الشراء والبذخ وتحسين حالة المعيشة، أما في المغرب، فهذا من الصعب أن يحدث. وبهذا فشل الملك في تهميش القوى السياسية كما فشلت عمليات القمع، وأنا عندما أتحدث عن عمليات القمع التي مارسها المغرب، أتحدث عما لا يمكن تصوره، لم تستطع هذه الدولة-السلطة أن تتغير، فنشأ نوعٌ من التطابق بين المجتمع وتطوره. هذه مسألة كبيرة ومهمة في عالمنا العربي، الفرق هنا بين درجات التطور، نحن هنا لا نستطيع أن نناقش المسألة في الوطن العربي على سوية واحدة، فالمجتمعات التي شهدت تطوراً تاريخياً في منتصف القرن التاسع عشر والتي شهدت (النهضة) جرت في طريق مختلف عن الطريق التي سارت عليه تلك الدول التقليدية القبلية في دول الخليج العربي خاصة في السعودية.
فبلاد الشام والعراق ومصر والمغرب ذات تاريخ مختلف كلية عن تاريخ تلك الدول، وبالتالي إذا كان الطلاق ما بين المجتمع والدولة ما زال راهناً، وإذا كان الوطن العربي عموماً وبدرجاتٍ مختلفة ينطوي على هذا التناقض بين صيرورته الاجتماعية التاريخية وبين بنية الدولة فإننا نشهد أنه كلما ازدادت هذه الحركة الاجتماعية الطبقية والثقافية والسياسية والقيمية، ازداد الاستبداد السياسي أو بالعكس ضعف الاستبداد السياسي. يزداد الاستبداد السياسي عندما يكون المجتمع راكداً، والمجتمع الراكد هو المجتمع الذي لا ينطوي على أي قوى اجتماعية طبقية حية قادرة على طرح مشروعها السياسي، هذا هو المجتمع الراكد، رغم ما يظهر في صورته العامة أنه مجتمع رفاه وثروة وانترنت وما شابه ذلك، يمكن أن يظل هذا المجتمع راكداً، وفي المجتمعات التي تنطوي على قوى فاعلة فإن عملية تصالح بين بنية الدولة مع المجتمع تكون أكثر. من هنا نفهم لماذا كانت الدولة في لحظة ظهورها كانعكاس للقوى التقليدية أقل استبداداً من الدولة في مراحلها اللاحقة، لماذا؟ لأنها متطابقة مع البنى، لأنه عندما تنشأ دولة قبلية في مجتمع قبلي لن يكون هناك تناقض بين المجتمع والدولة وبالتالي لا حاجة لاستعمال القمع الأقصى وهكذا تبدو بالنسبة للإنسان العربي في نهاية القرن الواحد والعشرين، أن السلطة القديمة أرقى بكثير من السلطة الجديدة، وهي ليست أرقى بالمعنى التاريخي، وبعضهم يترحم على الحكم الملكي، وبعضهم يترحم على الحكم القبلي ببساطة كان هناك نوع من التطابق بين النسبتين، عندما جرى نوعٌ من الخرق لهذا التطابق كان لابد أن تظهر السلطة الاستبدادية، هذا يعني أن السلطة المعاندة للتاريخ في الوطن العربي لا تستطيع أن تُلغي التاريخ الواقعي. لماذا لأن هناك حركة موضوعية أقوى من السلطة، لكن بما أن هذه السلطة تكبح شيئاً فشيئاً الإدارة الفاعلة للبشر عن قمع أي محاولة تغيير سياسي أو مدني فإنها تبدو متحكمة في الظاهر في العملية التاريخية إلا أنها غير متحكمة بها بشكل فعلي، لذلك لا تخلق حالات سياسية، لأن الفاعلية السياسية تتحرك ضد مجهول لكن رد الفعل يتحرك وفق آلية تدمير، من هنا نفهم أن الحركات الأصولية هي من قبيل هذه الحركات ذات رد الفعل غير الواعي التي تنطوي على نزعة التدمير لأنه في ظل الفراغ السياسي لا يبقى إلا النزعة النكوصية. وهذا يخلق لدى السلطة نوعاً من الخوف الواقعي وغير الواقعي من أجل تبرير استمرار السلطة السياسية خاصة في الوطن العربي، وغالباً ما نتحدث عن خطر يهدد الدولة القطرية وبخاصة الخطر الخارجي. أي أنها تهيب بالمجتمع أن يتوحد في إطار الخطر على تفتيت الدولة القطرية، لكن التفتيت هو سوسة قائمة في قلب الدولة، وليس خارجها، وإذا كان هناك من عامل خارجي فلن يكون أكثر من عامل مساعد. ولهذا فهي لا تكتفي بأعلى درجات القمع ولا باستخدام الوسائل الاقتصادية والسياسية والإعلامية فحسب، بل تعوّل على جهاز أيديولوجي رسمي لتأكيد ذاتها ثقافياً وهذه أيضاً مشكلة ذات خطورة شديدة على بنية المجتمع. الآن إذا ميزّنا ضمن المجتمعات بين مجتمعات نشأت تاريخياً من بنى تقليدية متخلفة وأنتجت دولتها المشابهة لها كدول الخليج، ومجتمعات سارت في طريق التقدم التاريخي ثم انقطع هذا التقدم، وهذا ينتج شكلين من الوعي، وعي تناقض الدولة مع المجتمع في الحالة الأولى، قد لا يكون هذا الوعي بالتناقض إلا من زاوية وعي السلطة في العالم أي من روح العالم المسيطرة والتي تفرض بأن العالم أي الدولة والمجتمع، فيكون الوعي هو وعي نخب سياسية وثقافية. هذا الوعي يعبّر عن نفسه بأشكال متعددة. في الحالة الثانية وعي النخب يتطابق ووعي البشر فلا تعيش النخبة حالة منفردة عن واقعها وإنما تعبر عن إجماع تاريخي لتطور هذه البلدان كبلاد الشام والعراق ومصر، ومن هنا تطرح فكرة بنية الدولة، ما الذي نريدها من الدولة؟ وما هي صورة الدولة التي نريدها؟ نطرح القضية على مستوى الوطن العربي على نحو شامل! لكن لنطرح الصورة التالية في تلك البلاد التي قطعت شوطاً طويلاً في طريق التقدم، أقصد إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية، الحكمة من ذلك إيجاد سلطة متطابقة مع المجتمع.
السلطة التي تعبّر عن تطور سلطة المجتمع ستكون مختلفة عن تلك السلطة التي تتناقض مع تطوره، من هنا فالدولة الوطنية الديمقراطية هي التي نطرحها. أي دولة المواطنة، نقصد بالمواطنة انتصار الخيارات الحرة للأفراد داخل الوطن. وبالمواطنة تتحقق مصالح المواطنين، والقصد بالديمقراطية طريق اختيار المواطنين للنظام السياسي، دولة كهذه من شأنها أن تقطع العلاقة بين السلطة وملكية السلطة وتقضي على دولة الرعية. في دولة المواطنة حيث الحرية حق فاعلية الأفراد، ينتصر مفهوم التربية السياسة، وفي دولة الرعية يسود مفهوم الترويض، في دولة المواطنة تنتصر الوطنية مقابل دولة الرعية. والمواطن في دولة المواطنة لن يخسر شيئاً إطلاقاً إذا فقد دولته القطرية في دولة أعم من دولته القطرية، ففي دولةٍ أعم تتحقق مصالح مادية ومعنوية مرتبطة بالكرامة الشخصية أكثر بكثير من دولة أخرى قطرية.
هل هناك إمكانية لتحقيق دولة وطنية ديمقراطية كمشروع في الوطن العربي أو في أغلب أرجاء الوطن العربي، إن بنية المجتمع الآن متطورة وأنا أميل إلى أن الوطن العربي مختلف كلية الآن عن الماضي. التمايز الطبقي أكثر من قبل، ومتبلور أكثر، القوى المناهضة للواقع المعيشي أكثر اتساعاً وأكثر وعياً من مرحلة الخمسينات والستينات.
الآن البشر أكثر وعياً من الماضي، على الأقل هم يعرفون بالضبط الآليات التي تجري في الوطن العربي، وأكثر اطلاعاً وأكثر فهماً. وأعداد الفقراء في تزايد ملحوظ وبخاصة في المدينة العربية، فالقوى الهامشية تنطوي على إمكانية الثورة والهامشيون بفعل غياب الحركة السياسية، بالمناسبة الحركة السياسية يمكن أن توحد أهدافها الطبقية بوعي سياسي، هذه القوى الهامشية عرضة لشتى أنواع التشكل وقابليتها للعمل السياسي ضعيفة حتى الآن لاسيما العمل السياسي التحرري، واندراج أجزاء منها بأشكال الاحتجاج الديني دليل على قابليتها للفاعلية، وأكثر هذه القوى الآن مندرجة في إطار الاحتجاج الديني وهو أقوى أشكال الاحتجاج وهذا مفهوم.
ولن ندعي كما يدعي البعض أن الفئات الوسطى قد فقدت فاعليتها، ومن الخطأ أن نعتقد، كما كنت أعتقد أنا مخطئاً، أن فشل المشاريع الكبرى هو فشلٌ للفئات الوسطى، لأن المجتمع يعيد إنتاج الفئات الوسطى دائماً والفئات الوسطى هي قلب المجتمع الحي، وحتى الآن في الوطن العربي نجد أن الفئات الوسطى هي حاملة المشروع السياسي والثقافي والتحرري، فبعد انتهاء عزلة القرية عن المدينة، وانخراط الكثير منهم في الجامعات ومؤسسات الدولة، أصبحت قوة شبيهة بالقوى التي نشأت في المدينة وهذه الفئات يمكنها أن تتحول إلى قوة طبقية حاملة لمشروع وطني. فكل المشاريع السابقة هي مشاريع الفئات العربية الوسطى، المثقفون بتوسع هائل وقوة حيوية في المجتمع. ناهيك عن أن البرجوازية الصناعية في الوطن العربي والتي تنمو ببطء ذات مصلحة حقيقية في توسيع سوقه، وبهذا المستوى الطبقي الممكن القائم للفئات السائدة في الوطن العربي يمكن القول على المستوى النظري أنها قادرة على إنجاز مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية. وهناك تمايزات في فاعلية تلك الفئات، إن تمويل الوعي الممكن الصامت لا ينفصل عن الممارسة السياسية. البعض يقول لكي نجعل هذه الطبقات تصل إلى شكل من أشكال وعي الشخصية السياسية لابد من دولة ديمقراطية، الدولة الديمقراطية تنتج عن ذلك، لكن هناك ظاهرة الاحتجاج الصامت أو الثورة بكل أنحاء الوطن العربي عبر آليات الرفض الشعبي وعبر الوعي الممكن والقائم يتنامى الوعي بضرورة التجانس، إذا نظرنا عملياً لذلك فإنني أطرح ما يلي: إن أي تغيير في إطار مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية لا يمكن أن يأتي من حركات عنفية أصولية أو غير أصولية بل على العكس. لا أمل بانقلابات عسكرية وإعادة إنتاجها فهذه التجربة تعود إلى الماضي. وبالتالي لا تعول على أي شكل من أشكال الانقلابات العسكرية بالوطن العربي. ولا أعتقد أن هناك إمكانية لثورات كبرى جاهزة كالثورة الفرنسية أو الثورة البلشفية. فعصر الأيديولوجيات الكبرى انتهى. وقد يقول البعض وماذا عن النموذج الإيراني وهو نموذج خاص وأنا لا أحبذه على النحو الذي هو عليه من حيث الحركة التاريخية مع أنه من حيث الضرورات الوطنية والعملية شيء مهم.
العصر الراهن ليس عصر العمل السري، فوسائل الاتصال والإعلام وقدرة الدولة على شمّ كل شيء أصبح كبيراً كما أن حجم المشكلات أكبر من حجم الحركات السرية.
إن أي تعويل على عنصر خارجي لإحداث تغيير في بنية السلطة هو نوع من الخيانة الوطنية، لذلك فإني أرى أن المعارضة العراقية التي تجتمع في أمريكا هي معارضة خائنة، على الرغم من رفضها للنظام السياسي الدكتاتوري القائم الآن في العراق.
هنا يطرح المجتمع المدني، فهل هو وسيلة سلمية لتحقيق نوع من التصالح بين بنية المجتمع من جهة وبنية الدولة؟
قيل في المحاضرة الماضية الكثير عن المجتمع المدني، وإذا عرّفناه من زاوية رؤيتنا للمجتمع المدني على أنه مؤسسة اجتماعية وطنية حرة ذات شكل وآليات عمل منظم ينخرط فيها الأفراد استناداً إلى أشكال الانتماء الطبقي أو الفكري أو المهني أو الأيديولوجي، هذا المجتمع المدني هو مجتمع فاعلية إن صح التعبير، وطرح المجتمع المدني الآن في الوطن العربي بمضمونه هو تعبير عن احتجاج على بنية الدولة. وأكثر من ندوة عُقدت منذ سنوات حول المجتمع المدني. المجتمع هذا هو الأثير لدينا ولدى أغلب الماركسيين في الوطن العربي، فإذا كان هذا المجتمع وسيلة إيجاد التصالح بين المجتمع والدولة وطريقة لتنظيم التناقض بينهما فإنه لا يقوم على نفي متبادل، أي لا الدولة تنفي هذا المجتمع المدني ولا المجتمع المدني عملياً قادر على نفي الدولة. فالعلاقة هنا علاقة اعتراف بوظيفة كل طرف، ويعتقد البعض أن المجتمع المدني شيءٌ والمجتمع السياسي الفاعل شيءٌ آخر. لا وجود لمجتمع طوعي حر قادر على إنجاز سلطة متطابقة معه، وبهذا المجتمع كظاهرة متطورة في المجتمع البرجوازي هو موضوع هيمنة من المجتمع السياسي (الدولة- الحزب السياسي) أشكال الممارسات كما عرفها المجتمع المدني موضوع هيمنة سياسية، إذا هيمنا على المجتمع المدني سياسياً نستطيع أن نهيمن على سلطة الدولة. السياسة هي التي تلعب الدور الأساسي.
على المستوى الواقعي، المجتمع المدني بأشكاله ابتُلع من قبل الدولة في الوطن العربي وبالتالي صار جزءاً من آليتها، نحن لا نقول أن المجتمع المدني خارج الهيمنة السياسية ولكن مع الهيمنة السياسية يظلُّ المجتمع المدني معبراً عن أولئك الذين ينخرطون فيه، بمعنى أن الحزب الشيوعي الفرنسي يمكن أن يسيطر على النقابات الفرنسية وتصبح قوى سياسية في يد الحزب الشيوعي الفرنسي لكن تظل معبرة عن الطبقة العاملة الفرنسية في إطار الدولة الديمقراطية. لهذا فان المجتمع المدني ليس بديلاً عن المجتمع السياسي إطلاقاً، إذا انتصرت الدولة الوطنية الديمقراطية يزدهر المجتمع المدني وتزدهر أشكال الهيمنة عليه من القوى السياسية، لكن الهيمنة عليه لا تلغي وظيفته ويجب أن لا تلغي وظيفته.
هل يثير المجتمع المدني إشكالات في الوطن العربي؟ نعم، لأنه لا يُطرح في إطار النظرة السياسية الأيديولوجية، لم نقل الدولة الوطنية الديمقراطية، بالنسبة لمجتمعاتنا هذه ذات أهمية كبيرة جداً. بعض دول الوطن العربي أعطت هامشاً للمجتمع المدني والسياسي ليتطوروا، مثلاً الأردن أساساً دولة وظيفية في خدمة إسرائيل والسلطة في الأردن على هذا النحو لم تتغير وظيفتها، هذه السلطة سمحت بالمجتمع المدني وبأشكال ديمقراطية، لكنها هي دولة غير وطنية وديمقراطية فوقعت الشبهة بالمجتمع المدني فكأن الشبهة لا تجمع الوطنية والديمقراطية فكلما كان المجتمع ديمقراطياً كان وطنياً لا، الخيار هو الوطني الديمقراطي، ليس هناك تناقض بين الوطني والديمقراطي.

 

التعقيبات والمداخلات

*عادل المعلم: عشت في القاهرة وعدت منها منذ أشهر، وعشت هناك العلاقة بين الدولة والمجتمع وكانت علاقة تنافر مطلق على كافة المستويات السياسية والاقتصادية، إلا أن هناك حيوية في المجتمع المصري، ولكن الخصخصة هناك زادت من أعداد الفقراء وزادت من أعداد المختلسين، فأموال الخصخصة أُعيد اختلاسها، الحركة السياسية في مصر وعلى الرغم من وجود أحزاب فإنها ضعيفة، فهناك عزوف عن الخطاب السياسي وهناك إيمان بالتمايز وهناك تناقض بالرغم من معارضة المجتمع للتطبيع. ما مدى علاقة السلطة وتفاعلها مع حركة المجتمع المدني؟.

*جاد الكريم الجباعي: أخشى أن يُظلم المجتمع المدني بوصفه محاولة لتدمير الدولة، أنا اعتقد أن هذا الكلام غير صحيح، ليس هناك تناقض بين المجتمع المدني والدولة، ولكن هناك تماثل بين المجتمع المدني والدولة مهما كان المجتمع متخلفاً أو متأخراً لأن الجماعة المتأخرة عندما تنشئ وجودها السياسي إنما تقوم بإنتاج أفضل ما لديها وأرقى ما لديها بدليل أن الجماعات البدائية أنتجت قوانين وأديان وأساطير، إن تناقض الدولة مع المجتمع أميل إلى تسميته تعارض في إطار وحدتهما الجدلية، الوضع لدينا لا يصب في خانة تعارض الدولة والمجتمع لأن هناك شيء أخطر وهو تخارج الدولة والمجتمع وهذا يعبر عن نفسه في انقطاع الصلة بين الحاكم والمحكوم، وهذا يؤدي إلى التخارج وممارسة الحرية خارج إطار الدولة، عندما نقول تعارض ثم تكامل بين الدولة والمجتمع تصبح فكرة الحرية داخل الدولة، فكرة الحرية لدينا منذ القديم خارج إطار الدولة مما يؤكد أهمية الدولة بأوضاعها الراهنة، المثقف العربي والسياسي العربي إذا خيّر بين الدولة واللا دولة فعليه أن يختار الدولة وعليه أن يختار الدولة القوية والحديثة المعبّرة عن البنية الاجتماعية التي يرى كل مواطن صورته السياسية فيها. علاقة السلطة بالمعارضة في كل مكان هي مسألة فرعية منبثقة من علاقة الدولة بالمجتمع، فعندما تكون علاقة المجتمع صحيحة وتكون علاقة المعارضة بالسلطة من هذا القبيل. وهذا ما يمكن أن نسميه وحدة السلطة والمعارضة الجدلية.
من أهم ميزات المجتمع المدني أنه حقل سياسي مشترك بين جميع أطرافه وفئاته وطبقاته وأحزابه، هذا الحقل السياسي المشترك بين الجميع هو التعبير عن الوحدة الوطنية، فلا معنى للوحدة الوطنية إذا لم يكن هناك حقل سياسي للجميع، تتجادل فيه وتتقاطع وتتداخل وتتحاور أيديولوجيات مختلفة، فالحقل السياسي هو العلامة الفارقة بين المجتمع المدني وما قبل المجتمع المدني، قال الدكتور برقاوي أنه لا وجود للمجتمع المدني خارج المجتمع السياسي، لأن المجتمع السياسي محكوم بالمجتمع المدني.

*د. أحمد برقاوي: أنا لم أتحدث عن تماثل بين السلطة والمجتمع في أي مجتمع من مجتمعات الأرض وفي أرقى درجات الدولة الديمقراطية الأوروبية، أنا لم أتحدث عن ذلك وإنما تحدثت عن إطلاق المجتمع بشكل الدولة، وبشكلٍ خاص يوجد شي اسمه مجتمع مدني مختلف عن المجتمع السياسي، فالمجتمع المدني لا يخلق المجتمع السياسي، ولا المجتمع السياسي هو الخالق المجتمع المدني، كلا المجتمعين هما نظرة تاريخية للعملية الاجتماعية، ما قبل الدولة البرجوازية لم يكن مجتمعاً مدني، تحوّل الأفراد في إطار هذه الأوضاع إلى واعين لمصالحهم الخاصة مما منع فكرة الحرية، وقد كوّن المجتمع آليات كبح لسلطة الدولة عبّر من خلالها عن طموحاته ومصالحه – وليس كل مصالح المجتمع المدني هي مصالح سياسية-هناك مصالح غير سياسية للمصالح النقابية التي هي بالأساس مصالح غير سياسية، ومصالح جمعية المكفوفين مصالح غير سياسية وهي من صلب المجتمع المدني، عندما تتعسف الدولة في تحقيق مصالح البشر يتحول المجتمع المدني إلى وسيلة من وسائل المطالبة بتحقيق ذلك، المجتمع السياسي في أرقى درجات تطوره تعبير عن المجتمع ككل يخلق معه مجتمع مدني.

*جاد الكريم الجباعي: الدول العربية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في فترة الأربعينات، ونشأت بمحاكاةٍ للغرب كنموذج للدولة-الأمة أو الدولة القومية. كما هو الحال في بلاد الشام والعراق والأردن وشمال أفريقيا ما عدا مصر لذلك الشاه الإيراني قال أن هناك ثلاث دول حقيقية في المنطقة هي إيران وتركيا ومصر وما تبقى هي دول خلقت من جديد، لقد وضعت اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 وقسمت بلاد الشام وخلقت إسرائيل أيضاً ككيان يهودي، هذه الدول لم تمر بمرحلة الدولة الأوروبية التي مرت بمراحل تاريخية منها كما قرأنا في العلوم السياسية نشوء الدولة، هذه الدولة كانت عبارة عن كبار الملاك وكبار التجار الذين ركبوا الثورات الوطنية، في سورية مثلاً سلطان باشا الأطرش يُعتبر قائد الثورة التحررية مثل ماوتسي تونغ الذي وصل إلى السلطة، لكن سلطان باشا الأطرش لم يصل إلى السلطة، في الخمسينات كان هناك مجال لمحاكاة النظام الفرنسي بأن تقوم مجموعة من الأحزاب كانت تتوزع بين البرجوازية الصغيرة والحزب الشيوعي وحزب البعث وحركة القوميين العرب، أو في حركات بين المعلمين والمثقفين، فلم تستطع الدولة في الوطن العربي أن تتطور وتأخذ منهج التطور الذي حصل في أوروبا، لذلك نشأ عندنا الدولة التي ركبت موجة العسكر لأنه لا يوجد قوى سياسية تقف بوجه العسكر الذين دخلوا إلى السلطة في مصر وسورية والعراق والجزائر وليبيا والسودان، وهؤلاء باعتبارهم القوى الوحيدة المنظمة في المنطقة، الجيش هو القوة الوحيدة والأحزاب كانت عبارة عن تجمعات ليست منظمة وكانت تُضرَب بين الحين والآخر وبالتالي لم يتح لها أن تأخذ بعدها التنظيمي، والبرجوازية الصغيرة هي فئة متذبذبة غير قادرة على قيادة الدولة والمجتمع، والتجربة على ذلك أن البرجوازية الصغيرة تنشدُّ إلى السلطة عندما تلوّح لها السلطة بالمغانم والمكاسب وتنجذب إلى صفوف المعارضة إذا اضطهدتها السلطة، هذا بالنسبة لنشوء الدولة في الوطن العربي أما بالنسبة لنشوء المجتمع المدني أنا أقول أن الدولة هي انعكاس طبيعي وتاريخي ويقال “كما تكونون يولى عليكم”، باعتبار أنه لا يوجد قوى سياسية عربية، مثلاً بعد وفاة عبد الناصر وبعد 18 سنة من الحكم تغير خط عبد الناصر نهائياً، بعد ستة أشهر من وفاته الاتحاد الاشتراكي عمل مجموعة من الأحزاب السياسية في الانتخابات الأخيرة لم يصعد أي منها إلى المجلس، أما الحزب الحاكم فهو الذي نجح، وكذلك الأمر في الأردن. عندنا نقابة المعلمين والعمال يطالبون برفع مستوى المعيشة، اتحاد الفلاحين نفس الشيء جميع النقابات تطالب بنفس الشيء، لكن رئيس اتحاد العمال هو نفسه منذ 20 سنة.

*د. أحمد برقاوي: الدولة فعلاً في الوطن العربي هي دولة حديثة نسبياً، والتاريخ الدرامي لتطور الدولة العربية وحتى في مصر، بدون استثناء أحد، هو نفسه، فالبرجوازية العربية تكونت في منتصف القرن التاسع عشر ، بالمناسبة زوال الدولة العثمانية أحدث كيانات وهذه الكيانات بفعل عاملين وليس بفعل عامل خارجي وحسب بل بفعل عوامل داخلية وبنى داخلية أيضاً في الوطن العربي تحولت إلى سلطات في الوطن العربي، ففي الدول الأكثر تقدماً ورثت البرجوازية السلطة وراثة فأرادت أن تكوّن مجتمعاً ودولة جديدة مع استخدام هذه السلطة في توسيع وتسريع عملية التطور لأن الدولة الحديثة بحاجة لمجموعة كبيرة من المهندسين والمعلمين والأطباء والمحامين والجيش فوسّعت وسرّعت بشكل هائل إنجاز أعداد هائلة من الطبقات المتوسطة المدنية والفلاحية والفقيرة، ومع دخول هذه الفئات إلى مؤسسة الدولة وتوسعها ترافق مع بروز الأيديولوجيات القومية والماركسية والأيديولوجيات الاشتراكية فنشأ لدى هذه الفئات الوسطى الفلاحية والفقيرة وعي طبقي ضد البرجوازية والإقطاع فوحّدت صفوفها وقضت على الدولة البرجوازية إيماناً منها بأن الدولة أداة تسليح للمجتمع، وبعد أن توحّد هذا الجسم الطبقي عملياً عاد إلى صراعه مع السلطة ليتغنى في بناء قوى هي قائمة أساساً في المجتمع وليست خارج المجتمع. فالحزب الشيوعي عندما كان يريد شتم القوميين أو الأمة العربية كانوا يصفونهم بأنهم قوميون وبرجوازيون صغار ما زالوا في إطار الفكرة القومية، والأحزاب الشيوعية نفسها في الوطن العربي تفتت على أساس بنى أثنية، لماذا انتصرت الفكرة الأثنية على الفكرة الأممية؟ هذا ما جرى في المنطقة لكن مع استمرار التطور فإن نفس القوى باتت تتعنت فصار الوعي أرقى، لذلك عندما كان يُعلن عن إلغاء الدستور كانت الناس تصفق، أما الآن فالناس تطالب من أجل الدستور في الوطن العربي وهذا هو المأزق الثاني أي غياب التراكم التاريخي، أي أن المرحلة الاستثمارية قضت على التراكم التاريخي الذي بدأ من منتصف القرن التاسع عشر، حركة التحرر الوطنية قضت على التراكم التاريخي الذي أججته البرجوازية العربية في مصر وبلاد الشام، ففترة ما بعد السادات قضت على مرحلة التراكم التاريخي للمرحلة الناصرية فكان تاريخنا بلا تراكم وتاريخ بلا تراكم لا يمكن أن يُنجز شيئاً إيجابياً في تاريخ المجتمعات، ومن هنا البدء من نقطة الصفر، وهذه تجربة مهمة لدى التطور اللاحق للمجتمعات العربية لا يجوز أن يُلغي التطور التاريخي ففيه استمرار التاريخ.

*محمد زاهر القدسي: هل يمكن تبديل بنية السلطة أو بنية الدولة بدون تغيير السلطة ذاتها، وإذا كانت السلطة والدولة في المجتمع العربي قد ابتلعت المجتمع المدني فكيف نطالب هذه السلطة ذاتها بمنع هيمنتها عليه؟.

*د. أحمد برقاوي: عندما نقول أن السلطة متناقضة مع بنية المجتمع فنحن نحتاج إلى سلطة متطابقة، القوى الأساسية مازالت غامضة مجهضة عبثية أحياناً، ولا مبالية أحياناً أخرى، المشكلة ليست باستبدال سلطة بسلطة قد تكون المعارضة أكثر تخلفاً من السلطة لأن المشكلة ليست على هذا النحو، طرحنا فكرة إنتاج المجتمع لسلطة متطابقة وهذا يحتاج إلى فاعلية سياسية اقتصادية اجتماعية فما زالت الدولة في الوطن العربي قوية في صورتها الراهنة، والسبات الطويل للمجتمع لا يُنتج يقظة نشطة وتراكم الانهيارات لا ينتج انتصاراً هائلاً، فالمشكلة ليست في استعجال التغيير في العالم العربي، إذ يمكن للمجتمع المدني أن يتحرك لابتلاع السلطة لكن لوحده لا يستطيع، وأنا لا أعول على المجتمع المدني، فقوة المجتمع المدني بقوة المجتمع السياسي وضعفه بضعف المجتمع السياسي، السلطة قوة الجماعة وعندما تتنازل كل القوى لصالح قوة واحدة فلا يمكن أن نفكر إطلاقاً بأن جمعية ما قد تخلق مجتمعاً. المجتمع المدني تعبير عن عجز الإدارة الفاعلة.

د. وليد البني: هاجمت وسائل الإعلام بشدة على فكرة صغيرة نشأت عند بعض المثقفين تتعلق بفكرة إنشاء جمعية لأنصار المجتمع المدني، وبعد الهجوم الشديد الذي تعرضتم له من قبل بعض المثقفين كنت أتمنى لو علق الدكتور برقاوي على ذلك، هل كان هؤلاء الناس سيئين إلى هذا الحد ليتعرضوا لهذا الهجوم. ومن ناحية أخرى تحدثتم عن الدولة الوطنية الديمقراطية، فهل يمكن لديمقراطية حقيقية أن لا تكون وطنية؟ أليست الديمقراطية هي التي أفرزت ذلك الشعور الرائع الوطني أثناء ثورة الجزائر؟ ثم في الفترة التي كان فيها هامش من الديمقراطية في سورية هو ما دفع بالناس إلى التبرع بمجوهراتها من أجل العدوان في 1956؟ وهل يمكن للديمقراطية أن لا تكون وطنية إذا كان فيها شعور حقيقي وتعبير عن شعور الشارع والشعب؟ أنا أعتقد أن كل ما مرَّ به الشعب السوري يعبر عن تراكم حقيقي إذ لم تقض التحولات التاريخية التي مر بها على التراكمات السابقة، ولكن المجتمع السوري كغيره من المجتمعات العربية عبارة عن مجتمعات حديثة التشكيل حديثة التعامل مع الدولة الديمقراطية لذلك لم تستطع أن تقف في وجه الديكتاتوريات التي مرت على المنطقة، ولكن عندما كانت تضعف هذه الديكتاتوريات كان المجتمع المدني الحقيقي وكل منظمات المجتمع المدني تظهر لتدافع عن مصالحها، وهذه ضمن عمل المجتمع المدني.

*د. أحمد برقاوي: الدولة الوطنية تأتي كنقيض للدولة التابعة التي هي فاقدة لسيادتها الوطنية ولا تملك قراراتها الداخلية، دولة كبيرة في الوطن العربي سكانها 60 مليون ولا تمتلك قرارها السياسي حتى لو اتخذت قرارها فهو من وحي خارجي.
الدولة الوطنية المستقلة يجب أن تكون ديمقراطية لكن عندما أرى أن الدولة تعطي هامشاً ديمقراطياً وهي غير مستقلة ومستبد بها فما هي هذه الدولة الديمقراطية المُستبد بها من الخارج هذه ليست دولة خاصة إننا لسنا بمراحل تطور اجتماعي، لا زلنا بمراحل استقلال وطني ومازالت الصهيونية وإسرائيل والاستعمار موجودين، أنا أكنُّ العداء المطلق لأوروبا وأمريكا كدول، ولو قالوا لي الآن سأرسل لكم الآن عشر مفاعلات ذرية لإنتاج الكهرباء سأسأل لماذا؟ ما هي مصالح أوروبا في المنطقة؟ إن التجربة التاريخية مع الغرب والولايات المتحدة خلقت مثل هذه الحساسية.
أقصد التراكم التاريخي أن عبد الناصر قام بثورة طبقية عام بالمعنى الحقيقي عام 1953، ولكن مصر كانت تعيش تجربة ديمقراطية عمرها عشرات السنين، قضى عبد الناصر على هذه التجربة الديمقراطية وقضى على مؤسساتها وأعاد إنتاج النظام السياسي على غرار آخر وبالتالي قدَم وكوّن تراكماً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في مصر، ثم جاءت المرحلة الساداتية فقضت على التراكم الاقتصادي والثقافي وبيع في المزاد العلني كل نتاجات المرحلة الماضية، لا شيء يُطبع في التاريخ فالتاريخ ينتقم لنفسه آجلاً أم عاجلاً دائماً.

*رياض سيف: اسمح لي أن أعلّق على الدولة الوطنية الديمقراطية، ففي محاضرة حضرتها لأحد كبار المفكرين الأمريكيين عن العرب والديمقراطية، قال هذا العالم الأمريكي بأن عدم وجود ديمقراطية في البلاد العربية يعود إلى خمسة أسباب، السبب الأول والأهم هو أنها تتعارض مع المصلحة الأمريكية بالذات، وذكر مثالاً بسيطاً فعندما قررت أمريكا أن تأتي إلى الخليج لحرب العراق وإخراجه من الكويت في عام 1990 وتأتي بخمسمائة ألف عسكري بكل معداتهم ومشروباتهم، فلو كان هناك نظام ديمقراطي في السعودية لتعذّر مجيء الأمريكيين، أو على الأقل لاحتاج الأمر إلى ستة أشهر بين مداولات الأحزاب والبرلمان والموافقة، بينما قُضِيَ الأمر بستة دقائق وعبر الهاتف، وفي اليوم التالي كانت القوات بطريقها للسعودية، وهكذا وبالضرورة فكل حكم ديمقراطي هو وطني.

د. أحمد برقاوي: كل الغرب ضد الديمقراطية في الوطن العربي قولاً واحداً ولا مصلحة لهم بها.

*أ. الناعم: تحدث الدكتور برقاوي عن التناقض الذي بدأ يظهر بين بنية السلطة وبنية المجتمع، بمعنى أن السلطات في الوطن العربي لم تواكب التطور الاجتماعي، وكان واقع الحال هو أن هذه الدول في بنيتها عندما نشأت كانت مطابقة للبنية الاجتماعية، والذي أراه أن أشكال أنظمة الحكم هذه جاءت مستوردة ولم تنشأ أساساً من بنية المجتمع وذلك بسبب الفهم التاريخي المترسب في المجتمع العربي خاصة بالنسبة لمفهوم السلطة والدولة الذي يُفهم وكأنه مشروع إلهي (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) بدليل أن كل أشكال الدولة في المجتمع العربي، من الأنظمة الملكية حتى الأنظمة الجمهورية التي رفعت شعارات الديمقراطية، استخدمت نفس الوسائل والأساليب في تثبيت سلطتها، لم يكن هناك في البداية أي تعارض بسبب غياب الحراك الاجتماعي الذي سيفرز فيما بعد طبقة جديدة لها مشروعها الخاص، أنا أتساءل فقط هل كان غياب التناقض في البداية بسبب عدم غياب التضارب بين بنية الدولة والمجتمع أم بسبب غياب الطبقات الاجتماعية التي تفرز مشروعها؟
أما بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي، فقد تحدثت عن دور هذه المؤسسات وعلاقتها مع السلطة فقط، لكن ما هو دور هذه المؤسسات في علاقتها مع البنية الاجتماعية؟

د. أحمد برقاوي: لا يوجد مجتمع بلا بُنى إطلاقاً، إما أن تكون البنى تقليدية، حديثة، قبلية، طائفية، عشائرية، رأسمالية، لا مشكلة، المهم أن هناك بنى، فالدولة في الأربعينات والخمسينات كانت متطابقة مع تلك البنى التقليدية التي أنتجها المجتمع، ومن الصعب أن تتخيل أن المجتمع لم ينتج تلك البنى، يوجد عامل خارجي، هذا صحيح، ولكن العامل الخارجي من الصعب أن يتحكم تحكماً مطلقاً في إنتاج سلطة غير متطابقة مع بنية المجتمع العربي.
في الجزيرة العربية الحجاز كان يمثلها الهاشميون وآل الرشيد في نجد وآل سعود في الدرعي، مجتمع عشائري كان يحكم والحروب كانت قبلية، والحرب التي خاضها ابن سعود كانت حرب قبلية ضد قبائل أخرى دمرها ووحّد المناطق تحت حكمه، من الطبيعي أن تنتج السعودية دولة مطابقة لهذا التكون القبلي، بعد مئة سنة من تطور السعودية بقيت هذه الدولة نفسها التي انتصرت قبل مئة عام وهذا تناقض تاريخي بين المجتمع والدولة، فعندما نقول إرث تاريخي فإن هذا الإرث جزء من بنية هذه المجتمعات، سواءٌ أكان هذا الإرث التاريخي نظري أم واقعي أم اجتماعي، عندما قلت أن المجتمع المدني هو ثمرة انتصار البرجوازية أردت أن أقول أن المجتمع المدني هو تعبير عن مجتمع حديث، ما قبل المجتمع الحديث فيمكن أن نتحدث عن مجتمع أهلي، فالمجتمع الحديث ينتج مجتمع مديني، إذا أردت إقامة مجتمع مدني في اليمن، وأنا قد عشت في اليمن، فإن هذا لا يمكن أن ينطبق على المجتمع إلا بالاسم فقط، لأن هذا المجتمع في بنيته لا يمكن أن يكون مدنياً، لماذا؟ لأن العنصر الأساسي في المجتمع اليمني هو القبيلة، الانتخابات التي تجري في اليمن تتم على أساس قبلي، الحرب التي قامت في جنوب اليمن بين جناحي الحزب الاشتراكي تحولت إلى حرب قبلية، بصراحة في كتابي “العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ” بحثت لماذا بقيت الأيديولوجيا هشة وقشرة خارجية لبنى أقوى منها، ببساطة حزب اشتراكي ماركسي لينيني يقود حرب قبلية، هزمت الايدولوجيا ليس بسبب بنيتها وإنما بسبب أن علاقتها بالتاريخ كانت ضعيفة جداً، كان هناك آمال لدى ميشيل عفلق بقيام أمة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج وهو صادق، لكن القوى كانت أقوى منه ومن أنطون سعادة ومن زكي الأرسوزي ومن خالد بكداش، ونفسه خالد بكداش كان خاضعاً للقوى، المعادلة معقدة أكثر من ما نتخيل.

*صبحي سعيد: التحدث إلى أستاذ فلسفة صعب، فلم يُطرح سؤال إلا وناور عليه وبرره، لتأكيد وجهات النظر الحادة تقريباً، كل إنسان ينظر إلى الواقع من رؤية خاصة ومنظار خاص لتبرير وجهة نظره، وأنا أتساءل وأقول أنه لا يمكن أن يكون هناك تاريخ واقعي أو تاريخ سريالي، هناك تاريخ واحد وكل إنسان ينظر إليه من منظاره الخاص وعبر علاقاته الخاصة، وأعتقد أنك أطلقت أحكام مطلقة حول السلطة، المجتمع، النظرية النسبية هي المرجعية كما أعتقد عند التحدث عن السلطة، ففي السعودية تمثل السلطة طبقة مهما كانت بدائية وتطورت ضمن ظروف موضوعية، وأعتقد أن عبد الناصر لم يقض على التحول الديمقراطي، وهل من المعقول القول أن مصر في المرحلة الاستعمارية كانت ديمقراطية، هذا كلام خطر، أما التناقض بين السلطات والمجتمع، فأعتقد أن الإنسان لا يتناقض مع نفسه وإنما يغير رأيه لأن الحياة تتغير.
أعود إلى دولة محمد علي باشا وإبراهيم باشا، لماذا لم تأخذ طريقها في التاريخ؟ لأن هناك ظروف تاريخية كبيرة، الحكومة التركية ظلت لفترة طويلة معلقة لأنه لا يمكن أن نتحدث عن سورية الا ضمن ظرفها التاريخي ونتاج عشرات العوامل الخارجية.

*مظهر جركش: الوعي الشعبي يفرض على الحكومة أن تنفذ ما من شأنه الحفاظ على كينونة التطور الاجتماعي في ذلك المجتمع، أقول هل الشعب العراقي هو أدنى تطوراً من الشعب المغربي؟ وهل هو الذي فرض على نفسه ما هو فيه الآن؟ وإذا كانت الحركات التحررية كما طَرَحت المحاضرة، تتكون غالباً عن طريق الحركات الأصولية، فالسؤال، هل الأصولية في العراق هي أدنى مما هي عليه المغرب؟

*د. أحمد برقاوي: في العراق مجتمع انتقل من السلطة العثمانية إلى سلطة آل هاشم وبدأت تتكون الدولة في العراق، كما أن تثبيت السلطات التي جاءت بعد الاستعمار استدعت النموذج الأوروبي في النظام السياسي، النموذج الأوروبي في النظام السياسي وجد صعوبة في البنى المتخلفة في العراق، مجتمع عشائري لذلك فالمدينة في العراق لم تنتصر انتصاراً حاسماً. وأي تطور خارج تطور المدن هو تطور غير حداثي، فمنذ أيام النظام الملكي الذي استعار النموذج الديمقراطي نشأ النموذج الأوروبي في النظام السياسي في السلطة العربية، وكل السلطات في الوطن العربي، نشأت عبر الحكم العسكري وتوالت الانقلابات العسكرية والصراعات على السلطة، وتوجهت بأن تحولت السلطة معتمدة على السلطة ذات الأيديولوجية القومية، العراق، الأيديولوجية الرسمية للدولة هي الأيديولوجيا القومية، وهذه عصبية، كل سلطة تحتاج عصبية، سواء كانت عصبية طبقية أو دينية أو أيديولوجية أو مناطقية ، .. ، الخ، السلطة تحتاج عصبية هاجس الاستمرار في السلطة فأعاد في العراق السلطة القبلية المناطقية فالعراق محكوم بعصبية ضيقة، لا يوجد خيار إلا الديكتاتورية ببساطة، فيما السلطة في المغرب (بالمناسبة، العائلة الحاكمة في المغرب عائلة مقطوعة الجذور) شريفة واستخدمت النسب الشريف، وأذكركم أن الثورة اليمنية التي قادها عبد الله السلال هي ثورة القبائل ضد الأشراف، الأشراف في أي منطقة كانوا ضعافاً لأن عصبيّتهم تستمد من الإرث النبوي، وعندما تحولت العصبية من هذا الإرث إلى إرث قبلي مناطقي صارت أكثر تخلفاً وأقوى، هناك تعقيدات كثيرة بالنسبة لهذا التاريخ الواقعي بمعنى أن التاريخ الواقعي هو الذي حصل وليس التاريخ المتخيل الذي نقصّه على هوانا، التاريخ لا يُقص.
الأصولية في المغرب أضعف منها في العراق، والأصولية ضعيفة في كل الأنظمة الملكية لأسباب كثيرة، في العراق كان هناك حركة الإخوان المسلمين وأحزاب دستورية وحزب شيوعي كان قوياً وقاب قوسين أو أدنى من أن يستلم السلطة، نشوء حزب الدعوة الإسلامي في العراق كأنه شكل من الأشكال المعارضة الطائفية للنظام الذي له طابع سيئ، بمعنى من المعاني، فتفجرت التناقضات المختلفة في المجتمع العراقي الذي كاد أن ينتقل إلى مستوى أرقى، وهكذا وبالعودة إلى الوراء عبر التاريخ نلحظ أنه كانت لدينا نهضة، ثم نكوص، ثم بوادر نهضة سرعان ما انتهت، وهذا يدعو إلى التأمل وتلك قضايا حساسة تحتاج إلى تعمق وتحليل دقيق لا مجال له الآن.

*فاتح جاموس: شكراً على ما قدمه الدكتور أحمد برقاوي في محاضرته، ولكن في الواقع جعلني في حالة من الالتباس الشديد، تحديداً حول النموذج الأكثر التباساً الذي تحدث عنه في مداخلته، الطبقة الوسطى ونموذج الدولة، الدولة الشمولية ونموذج الطغيان الذي يمكن مشاهدته في النموذج الطبقي البيني إن صح التعبير، وكم كنت أرغب أن يستمر في فك التباسات هذا النموذج، فكّها بالمعنى النظري والتاريخي، والإتيان بنماذج أكثر عيانيّة إن صح التعبير من النموذج التاريخي، الذي يمسك بكل تلابيب المجتمع، صغائر المجتمع نسبة إلى المجتمع المتطور بمعنى البنية العصرية والفلسفة التقنية والأيديولوجية، لا ليمسك بأصغر صغائرها وإنما بأكبر كبائرها، هناك عين، هناك أذن، هناك بندقية ربما أحياناً، هناك قبضة وضغط حراري في كل مكان، هناك تدخل عندما تحاول أي مجموعة أو أي حالة فردية حل مشاكلها بذاتها. المدنية في الفعل السياسي، أيضاً التباسات هذا النموذج وأخطرها، فكيف يمكن للقوى الصادقة بالمعنى الديمقراطي أن تفكّر بصورة صادقة في المجتمع المدني لتخلق حالة فكاك بين المجتمع المدني الذي أمسكت السلطات الشمولية فيه وضمته إلى ذاتها وانصهرت بداخله تماماً، هذا التباس هائل وخطير، عدم الافتراض النظري الدقيق وعدم الاعتراف بالممارسة الصحيحة والعينية والديمقراطية التي تمثل بأفضل وسائل العصر بالمعنى الأخلاقي والحضاري، هناك صعوبات كبيرة أمام أي حركة ولكن للأسف هناك نكوص في الممارسات العامة، كيف يمكن أن نقترب من حل هذه المسألة – الالتباس، هذه الدولة جمعت كل أشكال التناقضات في قلبها، وللأسف وضعت الوطن في لحظات كثيرة على حافة أخطر المخاطر كما جرى في أكثر من مرحلة في سورية، هناك إشكالية كبيرة بسبب نسف المجتمع بكل تفاصيله ويمكن أن يخلق مخاطر كبيرة من داخل ومن خارج الدولة، نحن الآن في مرحلة انعطافة من التطور التاريخي والزمني إن صح التعبير، فكيف يمكن أن نجري هذا الانفتاح بين المجتمع المدني والدولة التي التصقت به والتصق بها دون إرادته بالتأكيد، وإنما بإرادتها، نحن مقدمون في سورية خلال هذه المرحلة الانتقالية القصيرة ويجب أن نوظف مشهداً رائعاً بالصدق والحرص على أهم القضايا الصحيحة والتي تُثار لأسباب غير صحيحة وللأسف تكون حياناً خطيرة، ما هي هذه القضايا التي تُثار أحياناً لتعارض بين الديمقراطية وبين المجتمع المدني، وتُثار أحياناً مسائل مثل أن هناك تعارض ما بين المجتمع الديمقراطي والمجتمع ذو البنى المتخلفة وأعتقد أن تراجع العصبيات الأيديولوجية لصالح العصبية الطائفية من قبل الدولة أصاب النسيج الوطني، تُثار أحياناً قضايا العامل الخارجي الأكثر ضيقاً هذا موضوع صحيح وهذه قضايا ربما تكون أحياناً صحيحة لكنها تُثار لأغراض سيئة جداً وورائها مصالح، وأرغب شخصياً أن نتعظ من بعض التجارب، أولاً ندخل في تنافس حضاري راقي وأخلاقي لا أحد يريد إسقاط سلطة الدولة أي أن كل ما يريده البشر تغيير طابع السلطة من طابع شمولي إلى طابع ديمقراطي عصري وأخلاقي، والسلطة تتحرك أحياناً وأداتها الدولة، لكن الدولة لكل المجتمع، تعالوا نجرب وندخل في تنافس لنقنع السلطة أننا نريد تغيير، ليصبح هناك توافق مع بنية المجتمع، ثانياً لنفكّر كيف يمكن جعل المسألة الوطنية مسألة مركزية في بدايات تحركنا نحو صيرورة مجتمع مدني، تعالوا لنفكّر بالتنافس كي نكون مواطنين من الدرجة الأولى بعد ما انتهكت حقوقنا وربما غدونا مواطنين من الدرجة الثالثة بالمعنى الوطني.

*علي ورّاد: هناك تمفصل وتناقض بين السياسي والديني في مجتمعنا العربي، هذا التمفصل شكّل جوهر الأزمة تاريخياً في المجتمع العربي، هل ترى أن هذا التمفصل هو جوهر للأزمة أم لا، أنا أرى أن هذا التمفصل يُعاد إنتاجه منذ قرون عدة وحتى اجتماعنا هذا الذي يُراد له أن يخرجنا من الشرعية الثورية وأنت محق، لكي يمكننا من الدخول في حوار سلمي، عقلاني، علني، دينامي يلفُّ كل شرائح المجتمع من داخل السلطة وخارجها.

*د. أحمد برقاوي: أعتقد أن أي تحليل للوضع في المنطقة العربية يجب أن لا ينسى مسألة هامة هي أن الصراع السياسي ليس دائماً ذو أسباب طبقية واجتماعية واقتصادية، السلطة نفسها بالمناسبة موضع صراع من أجل السلطة، السلطة هيبة، السلطة قوة، ثروة، قرار،..، والانتقال من الصراع السياسي الطبقي إلى استلام السلطة هو مهمة جديدة في تاريخ السلطة وهناك مهام كثيرة تؤديها السلطة لكنها عجزت عن إنتاجها، لأن الصراع تم داخل السلطة السياسية، فكان الهدف الأساسي هو كيف يتم الحفاظ على السلطة وهذا ما أدى إلى الكثير من المشكلات اليومية… وهذا مأزق الوطن العربي والمأزق الخليجي بالمناسبة وليست أزمة نظام بعينه، ولو أردنا أن نفكر كيف نفك العلاقة بين السلطة والملكية، وفك العلاقة بين السلطة والثروة وفك العلاقة الطبيعية بين السلطة والمجتمع، كيف السبيل؟ الكثير لا يعرف كيف السبيل؟ ما هي الآلية؟ يا زملاء طرح الأهداف مسألة مهمة، آلية تحقيق الأهداف مسألة أهم، لذلك فالسؤال المطروح من عشر سنوات وحتى الآن في الوطن العربي من مثقفين ومفكرين ومن سامعين وقارئين هو (ما هو الطريق) أليس كذلك، ما هو الطريق الموصل، ثورة، تنمية، حل ديمقراطي، أما لو كان لديّ طبقات صاعدة تاريخية (مجتمع مدني) كالبرجوازية الفرنسية، والطبقة العاملة الروسية، فالطبقة الوسطى هيالحل ولكن ليس لدينا هذه الطبقات فمن أين نأتي بها.

Top of Form

Bottom of Form

عن د. أحمد برقاوي

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *