السمات الشاعرية في الصورة الفوتوغرافية: قواعد استرشادية لأعمال عامر جاسم

تأسيس مفاهيمي :-

يتحقق معيار التوصيف والاستعارة لمصطلح “شاعري” لأي نص سارد بتوفر عدة عناصر فيه يمنح وجودها شرعية اكتسابه صفته “الشاعرية” وأبرزها يتمثّل بقدرة منتج النص على تحقيق الانزياح اللغوي والابتعاد عن مسهبات الكلام والهروب من قسرية مفردات اللغة ومحاولة الاستعاضة عنها بالتكثيف والإيجاز والمجاز والتشبيه والاستعارة الدلالية لتحقيق سمة البلاغة في النص والتي تساعد على زيادة مستوى التأثير بإحساس تلقيه وتحقق فيه شروط الامتاع باقل مساحة لغوية.

هذا الحكم لا يمكن أن يكون قاعدة ثابتة في جميع أشكال الأجناس السردية فبعضها يعتمد عليه اعتماداً  كلياً  كما هو في فن الشعر الذي تؤسس الصورة الشعرية فيه محور لغته الأساسية وتفقد قيمتها بغيابه.

بينما يعتمد البعض الآخر من فنون السرد كالقصة والرواية بصورة عامة على اعتماد اللغة كأداة وصفية ويحاول السارد المزاوجة فيها بين مدياتها كأداة توصيلية وبين إتاحتها فرصة القبض على الفكرة، دون أن يفقد السيطرة على أحد طرفيها فهو يحافظ على القدر المطلوب من انسيابية متطلبات التوصيف اللغوي للحدث الذي يحاكي سياق تنمية الفكرة وبين قدرة لغته على منح قارئها شيء من التأمل الشاعري لا حدوثته، دون الإفراط في مساحة السرد بأبلغ التعابير وأقصر مساحة.

لكن هل بإمكان هذه المقاربة ان تضمن لمنتج السرد البصري، لوحة تشكيلية كانت ام صورة فوتوغرافية، النجاح والقدرة على منح اشتغاله خصوصية السمة الشاعرية داخل إطار موضوعته ولغتها الجمالية؟

هذا السؤال كثيراً ما يتردد المصورون عن الخوض فيه في حدود الاعتراف بمفاهيميته في اشتغالاتهم رغم وجود هواجس تعترف بها مقولات عناوين صورهم التي يضطر البعض منهم إلى التعبير عن صفات شاعريتها باختياره بيتا شعريا لتوصيف غرضية احدوثة صورته المغتربة عن شيئيتها الواقعية، او محاولته تفسير عمله كونه يحمل رسالة شاعرية اسردت بلغة الضوء.

وهوما نحاول في هذه الدراسة أن تتلمس بعض مبررات قصديته في أعمال مصورينا المبدعين ومنهم الفنان المصور عامر جاسم التي توفرت في شطر من أعماله السمة الشاعرية في جماليات اشتغالاتها، والتي سنتخذها قواعد استرشادية لبيان السمات الشاعرية في الصورة الفوتوغرافية.

مقاربات في إشكالية المصطلح

لاستيعاب مفهوم شاعرية الصورة الفوتوغرافية لا بد أن نستعير جزءً من مرجعياتها الأساسية في أصل ما أسست عليه، ألا وهي لغة الشعر والتي تعد الصورة الشعرية فيها هي المعيار الأساسي لصفتها التواصلية مع القارئ. ونظرا لأهميتها منذ أن ولد الشعر وتناولته قديماً آراء النقاد العرب وبحثها العديد منهم أمثال عبد القاهر الجرجاني، إذ يقول: “أنَّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصِّياغة، وأنَّ سبيل المعنى الذي يعبِّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصَّوغ فيه” ويذهب الجاحظ إلى القول في ذلك أيضاً إن “الشعر فنٌّ تصويريُّ يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعريّة، وحسن التعبير” وهوما يفضي إلى اعتبار أن الصورة الشعريّة “تعبِّر أيضاً عن عواطف الشاعر ومشاعره، فتصبح الصورة هي الشعور، والشعور هو الصورة” كما ذهب إليه رأي الكاتبة مريم غياضة في دراستها عن مفهوم الصورة الشعرية.

لكن نحتاج هنا أيضاً إلى تجنب التضاد المفاهيمي بين مصطلح الشعرية والشاعرية التي قد يقع القارئ في ازدواجية الخلط بينهما وتضيع وسطه قصدية ما يمكن أن نسترشد به لبيان المصطلح الأصوب لما تنتمي إليه الصورة الفوتوغرافية. والتي تسببت بإشكالية مفاهيمية بحثت أبعادها في أكثر من قراءة نقدية للمصطلحين ربما نوجز استعارتنا لدقة تحليل الشاعر العراقي شاكر العيبي في مدونة له في العام 2013 في جريدة المدى وفصل في هذا الاشكال وبين فيها مؤاخذته على ما تسببت به ترجمة جورج سعد لكتاب غاستون باشلار “شاعرية أحلام اليقظة” الذي ترجم من الفرنسية للعربية والتي خلطت بين الاصطلاحين اللغويين الشعرية والشاعرية والتي يعتبر فيها باشلار استناداً إلى مفاهيميته إن الشعرية كاصطلاح مؤنث La poétique ” لابويتيك” هو معيار الحكم على “صفة تتعلق بالشعر كالبحور الشعرية والأغراض الشعرية والشواهد الشعرية فهو مصطلح تقييمي يهتم “بمعالجة فنّ الشعر، والنوع الشعريّ، ويتعلق الأمر بعلم وقواعد الشعر”.

بينما يذهب مصطلح الشاعرية بهويته المذكرة Le poétique لويبوتيك وتعني “الجميل والحسّاس والمُلْهِم والمُؤثِّر والتجريديّ وغير العقلانيّ وهي توصيفاً للدفق أو الجوهر أو المناخ الشعريّ”

هذه الإشكالية لا نريد لها أن تتسبب بخلط قصدية ما نبحثه في معيارية شاعرية الصورة الفوتوغرافية إذ أن ما يهمنا هو شاعريتها وليس شعريتها التي لا تمتلكه كجنس فني محاط بقواعد ومقومات وعناصر خاصة. فاذا اعتبرنا الشاعرية هي سمة فالشعرية هي أداة ،وإذا قلنا أن الشاعرية إلهام وخيال فالشعرية قواعد وتقنين.

فشاعرية الصورة ليست قواعدها المقننة ولا ادواتها ومقوماتها الفنية بل مناخ إلهامها الداخلي الباعث على التأمل العاطفي والغرائزي والإحساس المتخيل لموضوعتها التي تنسلخ فيه من صفة الحدية في واقعيتها لتنتمي إلى مناخها الافتراضي الحالم.

وهوما وجدناه في مناخ العديد من الأعمال الفوتوغرافية التي نفذها المصور العراقي المغترب عامر جاسم بعد انسلاخ قسري من واقع محليته ليعيش واقع غربته في المهجر وقدّم خلالها أعمالاً امتازت بالصفة الشاعرية في مناخها العام ولم يسع فيها لتقديم محتوى بخطابات واقعية وصريحة بل حاول التعبير عنها بهواجس ومشاعر إنسانية يعيشها في عالم ضبابي نحاول في دراستنا تفكيك بعض من السمات الشاعرية في جمالياتها.

من واقعية الواقع نحو شاعرية الواقعة

يفكر الإنسان “المصور” في لحظة تجليات اشتغالاته البصرية وهو يعيش اغتراباً مكانياً ونفسياً بعيداً عن وطنه، إنه بحاجة إلى الابتعاد عن المصادمة الواقعية المباشرة في تفريغ مشاعر وأحاسيس خاصة تنتابه ويريد التعبير عنها بلغة الضوء لكنه يجد ضيقاً وتقييداً قسرياً تفرضها قواعد وعناصر إنتاج صورته لا نمنحه مساحة تنفيذ رؤيته الحالمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجد أن مفردات غربة شيئيات واقعه الجديد غير طيعة ولا تنثني أمام حلمه بتحقيق صورة خارج إطار شيئياتها الواقعية المباشرة ولا تساعده على استثمار عناوينها الصريحة في كتابة مشاعره الحالمة بإنتاج موضوعته الخاصة.

وكما أن “القصيدة الشعرية ” لا تنشأ نواة ولادتها في حاضنة اللغة بل تولد في رحم الخيال والمشاعر قبل أن يتمكن الشاعر من تفريغ المتبقي من محتواها على نطوع الأوراق، فإن الصورة الحالمة في ذهن المصور لا تنشئها بيئة الواقع بل يذهب إلى تطويعها وإعادة صياغتها برؤية ضبابية تغترب فيها شيئياته لتنتقل من عوالمها الواقعية الصريحة إلى ماهية العوالم الشاعرية لتجلس فيها مفردات الصورة في مديات أخرى تظهر فيها أقرب إلى الظواهر منها إلى الوقائع وتنحاز بقوة إلى عالم افتراضي تكتسب فيها بلاغتها الشاعرية.

وهذا ما نجده في أغلب محتوى أعمال عامر جاسم الضبابية التي يحاول أن يقدم فيها مضموناً لا يعكس ممارسة حياتية محددة بفعل واضح وصريح بل تنتمي أفكارها إلى مدركات مشاعر غربته وأحاسيسه وينعزل فيها عن واقعيات الواقع، فكل شيء فيها يستند إلى حلميته بعالم مثالي أكثر أماناً وأفضل مناخاً وأشد عاطفة ويتمناه للآخر البعيد كما يستشعره بذاته الحالمة، فمواضيع أعماله الضبابية لا تخاطب أحداً بذاته بل تستهدف محاكاة روح الإنسان ومشاعره.

من الإنسان نحو الأنسنة

تُطوّع الصورة الفوتوغرافية الإنسان بوصفة أداة الفعل فيها سواء كان عائماً في شيئياتها أو يكون مستهدفاً  كفاعل (بطل) رئيسي تدور حوله موضوعتها، أو يظهر بعنوانه الواقعي، متمماً لعلاقات الصورة الداخلية ويكون جزءً من نسيجها.

لكن وجوده سيشهد تحولا في مضمار شيئيته في شاعرية الصورة يغادر فيها صفة الإنسان المباشرة، بعد أن كان يظهر بعدة عناوين يكتسب فيها هوية فعله في ميدان الصورة يتحول إلى حالة وصفية معبرة عن الهواجس والمشاعر الإنسانية فهولا يظهر فيها بتسميته الشخصية ولا بهويته المهنية، أو بعنوانه الجنسي في الصورة، بل يظهر بحالته الوصفية كجزء متمّم في إنشائية شاعرية الصورة متحولاً من مادية الإنسان إلى حالة الأنسنة.

وهوما نسترشده بقوة في أعمال عامر جاسم، إذ لا نجد استهدافاً مباشراً للإنسان بذاته في شاعرية صورته، بل نعثر عليه بكونه دالة وصفية لحالة شعورية. فجميع صوره يكون وجود حالة الإنسان فيها مفرغة من صفاتها، فهي شخوص مضمرة توضع عليها علامات استفهام وتظهر رغبة عامر جاسم تركها لنا بين هلالين يريدنا أن نستبدلها بشخوصنا أو نتصف بها أو نتلبّسها أو نحلم بعالمها.

من الكائن الى الكينونة

تفقد الكائنات (نبات ،حيوان، جماد) صفاتها المادية والواقعية في الصورة الشاعرية وتظهر فيها كعوالم مساعدة على إنشاء المشاعر والأحاسيس وتسهم بزيادة الدفق الشعوري وتساعد على زيادة حالاتها المزاجية. وهذا الأثر وجدناه واضحاً في صورة عامر جاسم الشاعرية فهو يتعمد أن يترك كائنات صورته تفقد صفاتها العيانية لتظهر بحالة الكينونة لتعيش عزلتها وسكونها مسهمة بتأسيس حلمية مشهده.

ويتقصد عامر أن يصور بأجواء خريفية أو شتوية تكون فيها كائناته قد تخلت عن قيمة عطائها الماثل في صفاتها نباتات كانت أم جمادات أم حيوانات لتظهر في صورته بعلامة المكنون ومن أبرزها هي كينونة الأشجار التي تظهر وقد نزعت صبغة عنوانها المخضرة لتتحول إلى إطارات حاضنة لعوالم شيئية الصورة وتتدلى أغصانها الجرداء كشعر منساب يستظل تحته جسد المشهد الحالم. او تظهر كأياد تؤشر بأصابعها لمنع ارتحال مجهول العنوان!

أما علامة الكلب فتظهر كينونتها بصفة الرفقة والصداقة والوفاء. وغادر وصفية عنوانه العام كحارس مكان وفي أشد حالات هذا الشعور يستبدل عامر كينونة الكلب بالعصا في أحد اعماله الرائعة وقد اتخذت كرفيق درب في أحد أروع مشاهده الشاعرية.

اما الإوز الملفت الحضور في أعماله، وكما في التفاسير الحلمية فتظهر علامتها بأكثر من حالة نبوئية تكون فيها مرات مصاحبة كامرأة جميلة مفتقد لرفقتها في هذا الاغتراب! وأحياناً تكون كينونة لانتظار الحزن والهموم القادمة وأحياناً تتواجد مجتمعة في برك الماء بكثافة تعبيراً عن وفرة الخير والسعادة، لاسيما وقد سجل عامر جاسم في إحدى ضبابياته الشاعرية إوزتين انشغلتا في حالة هيام وراحت رقبتاهما تتراقصان مكوّنة علامة الحب انعكس أثرها في الماء الباعث على الحياة وكأنها تؤشر لنبوءة خير ومحبة قادمة للشخص الرائي وهو المصور المتلقي!

 

 

المكان من التبصرة نحو البصيرة

تتطلب مقاربة المصور لتجليس المشاعر والأحاسيس والتعبير عنها بصورة حالمة وشاعرية الخروج من واقعية المكان في الصورة والتواجد في واقع آخر متخيّل لا ينتمي للواقعة بعناوينها الصريحة، ويتحتّم عليه إعادة مسرحة عناصر المكان في صورته وممارسة قوية في توظيف مفهوم الإزاحة، وأبرزها هي الإزاحة المتمثلة بالمكان. فالمشاعر والأحاسيس لا تجد لها قواعد مكانية لتجلس ونستدّل على وجودها في الصورة الشاعرية، بل تكون هائمة في عوالم حسيه غير مقبوض عليها بصرياً وتنثال فيها لتسبح في بصيرة المتلقي الذي يجهد في البحث عن مكان افتراضي لها في مشاعره ،فيتحول المكان من شيئية مدركة في الصورة بأبصارنا إلى عوالم متخيّلة في بصائرنا.

في البصر نرى أشياء الواقع بعوالمها الظاهرية وفي البصيرة نكتشف ونرى أعماقها وحقائقها. فكل الشيئيات في الصورة الشاعرية لا تنتمي إلى ظواهر عناوينها، بل نرى ما ينعكس من أعماقها وحقائقها الدالة لتنعكس في مشاعرنا، وفي البصر تمتلك الشيئيات عنوان واحد ثابت، وفي البصيرة تتغير هذه العناوين من متلق لآخر وفقا الى مخالطتها بالمشاعر والتصورات والأحاسيس الخاصة، فالمكان بالصورة الشاعرية متعدد الدوال ولا يسكن بحالة واحدة.

وهوما نجده في أمكنة صور عامر جاسم الشاعرية فهي لا تنتمي إلى أي عنوان لمكان صريح فيها بل تنتمي الى مكان ضبابي غير مرئي في مشاعرنا وحواسنا ونشعر بها تنتمي إلى أمكنة في أحلامنا التي نفتقدها في عوالمنا الواقعية.

قهرية الماضي واغتراب الحاضر

جزء مما يعكسه محتوى الصورة الفوتوغرافية هو ذلك الاستفراغ الخاص لمواقف ومشاعر المصور نفسه، والتي يعبر فيها عن قضيته كحامل رسالة مجتمعية وصانع للجمال القيمي. والمتابع لأعمال الفوتوغرافي المغترب عامر جاسم يجد فيها انعكاساً واضحاً لمشاعر وأحاسيس ذاته الانسانية وهي تعيش جدلية الانتماء والاغتراب عن وطنه تنعكس حالاتهما في مساحات صورته. وبمرور سريع لمجمل منجزه الفوتوغرافي يمكننا ملاحظة اشتغالين أساسيين تتأطر بهما سمات جماليات صورته. فهو ما زال في شطر من ذاته الانسانية يعيش جدلية انتماء ويحتفظ برؤية شخصيته العراقية الحالمة بوطن تتكامل فيه عناصر العيش الكريم والمزدهر لإنسانه.  وعندما تتاح له فرصة زيارته يعود ليعيش اغتراباً موجعاً فيه وهو يسجل علامات بؤس وعذاب وتصحّر لبيئة بدأت تتآكل مخرجاتها وتضيق على إنسانها المقهور، فتفرز عدسته أوجاعاً يتركها في بواطن أعمال حملت عناوين استذكار وحنين للماضي. وتقف بالضد منه سمة أخرى في أعماله تعكس اغتراباً آخر وهو يعيش عالم تتوفّر فيه كل مفتقدات إنسان وطنه لكنه يعيش وسطها غربة قهرية يستفرغها بأعمال لا تنتمي إلى واقع غربته، بل يحاكيها كأحلام ومشاعر وأحاسيس يتمنى أن ترى بعيون أبناء وطنه الحالمة بغد افضل!

عدسة عامر جاسم تتمسك بحلمين كلاهما مر وموجع، وفيهما انتصرت مخرجات أعماله محققة ثراءً جمالياً عنونت لنا اسمه بقوة في عالم الفوتوغرافيا. 

عن د.خليل الطيار

شاهد أيضاً

جداريات السوري اسماعيل الرفاعي: طقوس وحدْس وطباشير طفولة

يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *