لطالما كانت السينما حلماً، أو بمثابة حلم، أو مدخل إلى حلم، وحين ظهرت، في البداية، كنت تبه مادة الحلم ذاته، فكانت بالأبيض والأسود، ويتدرج الرمادي ما بينهما وهو اللون الذي صنعت منه أول صورة، ففي الحلم ” لا أحد يستطيع أن يميِّز بين الخيال والواقع، وفي قاعة السينما إذا ألقيت نظرة على وجوه الناس بنظراتهم الهائمة، ستعرف أنهم يحلمون لكنه حلم بأعين مفتوحة، فمنذ أن وجدت تلك القاعة السحرية، لم يتمكن الناس من مقاومة إغراء الهروب من أنفسهم داخلها إلى احتمالات أكثر رحابة.”. ويكثر في الفضاء الرأسمالي الراسخ ” (وفي فضاءات أخرى لاشك) “استحضار “المزيف”، حيث يتحول الشأن العام إلى مجرد تقنية “إدارية”، والعلاقات الإنسانية إلى جزء من نظام داخلي لشركة تهيمن على كل شيء. فإذا كان الأصل في فهم المجتمع الرأسمالي، كما تقول الماركسية، يأتي من إنتاج الفكر النقدي القادر على تفسير معضلات الرأسمالية ووضع تصور بديل لها، بحيث يمكن البرهنة -فلسفياً أن نمط\أنماط الحياة هي من تحدد ، في الواقع، وعينا، وليس العكس، وعلى هذا سوف يكون للوعي، الدور الأساسي في أي تغيير سوف يطرأ على ما هو قائم من نمط\ أنماط للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية. فإذا كان الوعي، معرفياً، يتيعن بأنه انعكاس للواقع، فهو سوف يمارس بلاش دوره “التاريخي” في تغيير الواقع عبر مركبات مختلفة، ليس أقلها الثورة. ومع ذلك، فلا ينبغي لهذا التصور أن يستثني أو يستبعد المجهود “الفردي” للوصول أو السعي للوصول إلى الحقيقة.( فكما يرى إنغلز، ترتبط الحتمية بهذا الجهد الفردي بالضرورة).
يثرثر “وودي آلن” حين يفصح عن أحد أمانيه بأن يعيش “الحياة عكسياً، كأن تبدأ ميتاً فتتخلص من الموت ثم تصحو في دارٍ للمسنين، وتبدأ تشعر بتحسن كل يوم، فتُطرد لأنك صرت معافى تماماً ثم تذهب لتحصل علي معاشك، وعندما تشرع في العمل، تحصل في يومك الأول على ساعة ذهبية وحفل. تعمل لمدة أربعين عاماً إلى أن تصير شاباً بما يكفي لتستمتع بتقاعدك، تحتفل وتشرب الخمر. أنت الآن عربيد بالكامل ومستعد للمدرسة الثانوية، بعدها تلتحق بالابتدائية، ثم تصبح طفلاً، تلعب، ليس لديك مسؤوليات؛ ثم رضيعاً إلى أن تولد، لتمضي أشهرك التسعة الأخيرة عائماً في منتجعك المترف المزود بتدفئة مركزية، خدمة للغرف وسكن يتسع كل يوم؛ والآن انظر، ها أنت ذا تنتهي كنشوةٍ جنسية”.
بمثل هذه الثرثرة المنهجية يبني “آلن” شخصياته بعناية فائقة ويسعى لتوضيح تعقيد التنميط الاجتماعي على غرار ما فعله من قبل تينيسي ويليامز، ولكن يبدو آلن أكثر غرابة وبالتالي أكثر راديكالية. وكم يمكن لأشياء عظيمة أن تحدث عندما يكون وودي آلن واقعياً؟ فإذا كان الأمر كذلك “وهو المعروف بعبثيته”، فهذا بحد ذاته امتياز له كملمح مميز من ملامح السينما الأمريكية.
يقول آلن أنه استلهم فكرة الفيلم من تجربة واقعية لإفلاس إحدى جاراته النيويوركيات الثريات قبيل وأثناء الأزمة الاقتصادية العالمية، فاتجهتْ للقيام بأعمال شاقة ومهينة لطبيعتها البرجوازية لتكسب قوت يومها. بيد أن مثل هذه الواقعية لم تمنعه من ممارسة هوايته المميزة في العبث بعقولنا، فنراه يؤثث لفيلمه بأدوات تقنية رئيسية (حبكة، شخصيات ) تعود لأحد أشهر النصوص الأمريكية وأكثرها عنفاً داخلياً وصدقاً، مسرحية تينيسي ويليامز “عربة اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire” التي تتحدث عن الرعب الداخلي لبلانش دوبوا “ابنة المسيسيبي” حين تكتشف أن الصراعات الحقيقية إنما تكمن في داخلها وليس في مكان آخر. (باستثناء الحبكة والشخصيات والحدوتة الرئيسية، فالأفكار ليست واحدة في كلا العملين) فحكاية الفيلم تشبه قصة المسرحية لجهة البحث في معنى الحلم الأمريكي في سياق الانتقاد اللاذع، بل حتى احتقار الطبقة الراقية في المجتمع الأمريكي بالكشف عن خداعها وفسادها عبر سلسلة طويلة وكمّ هائل من العنف الداخلي الذي يعيشه أفرادها بما في ذلك خيبات أملهم وصراعهم المحموم بين الرغبة والواقع حين تتخذ هذه الآمال والصراعات في ظاهرها سمات قد لا تكون، بالضرورة، سماتها الحقيقية، إذ ليس هناك ما هو أقسى من التعبير بشكل صريح عن تلك الصراعات الخفية. وهو ما يعبر عنه تينيسي ويليامز: “ثمة ما هو اسوأ من أن يعيش الإنسان في عالم فانتازي. أسألُ نفسي، بإلحاح، ما إذا كان العالم الفانتازي ليس هو العالم الوحيد الذي يستطيع الفنان أن يعيش فيه”.
وضمن هذا الإطار (الحلم الأمريكي ومآلات آماله وخيباتها) يرصد وودي آلن حياة ياسمين السيدة النيويوركية الثرية التي تمر بأوضاع صعبة، إثر اكتشافها خيانة زوجها لها (سنعرف لاحقاً أن أختها جينجر رأته، أثناء زيارتها لها في نيويورك، يقبل امرأة أخرى، سوف تظهر ثانيةً في حفلة عيد ميلاد ياسمين. وسوف تتردد جينجر بقول الحقيقة لأختها، وتفضل التزام الصمت، على أمل أن تحافظ على زواج أختها قدر المستطاع).
تقرر ياسمين – في لحظة غضب – مواجهة زوجها، وهنا تبدأ سلسلة الأحداث غير المتوقعة فتكتشف فساده واحتياله المالي فتقرر تبليغ مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” ليُقبض عليه ويودع في السجن حيث ينتحر، فينهار كل ما حاولت ياسمين أن تبنيه وتحافظ عليه، إذ تتبخر الثروة و تتبدل حياتها رأساً على عقب، و كبداية لاستجماع قواها مرة أخرى تقرر الانتقال إلى كاليفورنيا/ سان فرانسيسكو حيث تعيش أختها في شقة متواضعة “رغم الجفاء بينهما”، لتبدأ رحلة جديدة مليئة بالمفاجآت تختلف تماماً عما سبق.
ويبدو أن معضلة ياسمين الذاتية في عدم قدرتها على فهم العلاقة الجداية بين الثابت والمتحول، فهي تعتقد أن الثابت في حياتها أ تكون غنية، صاحبة ثروة وسطوة ملامح حسنة وجسد جميل وماهة غير ثابت عندها أن تكون عكس ذلك. فحياة ياسمين هي حياة مثالية لرواد الطبقة الأرستقراطية أو البرجوازية الكبيرة في أمريكا، ( وطبعاً هذا يختلف عن مثيلاتها لدينا، من برجوازية حمقاء مشهورة بتفاهتها وابتذالها والخالية من أي طموح أو استقلالية أو تطلّع، وغير متسقه مع نفسها، مثل برجوازيات البلدان الأخرى، بل منافقة وهي تكسب وبصورة متواصلة بواسطة هذا الخداع). وبرغم امتلاك ياسمين تلك الدرجة العالية من الرفاهية “الأرستقراطية” إلا أنها تفتقر إلى رؤية ما يمكن رؤيته في عيون الآخرين “غير البرجوازيين”، فهي ترى نفسها سعيدة، وهذا بحد ذاته مدعاة للحسد من أولئك الحمقى الذين لم يتعلموا بعد كيف يجنوا الثروة، وترى ياسمين أن وجود هؤلاء أكر طبيعي , بل وجودهم ضروري كي تستمر هي في الوجود. ومن المدهش أن نكتشف أن ياسمين، وعند هذه النقطة بالذات، تمتلك درجة عالية من الحساسية والوعي للأطراف المحيطة بها وتستطيع أن تصل إلى نتائج ملموسة ولها قيمتها وثقلها.
تتشابه بطلة وودي آلن مع بلانش دوبوا غريبة الأطوار، بطلة تينيسي ويليامز، فعندما تصل بلانش الأرستقراطية الحسناء والبائسة والمفعمة برغباتها الإنسانية البسيطة إلى مدينة نيوأورليانز بعربة “وهي عربة حقيقية، ورمزية بآن معاً لزيارة أختها ستيلا ذات الحنان الفياض، ولكنها تعيش حالة من الارتباك حين تسعى للتوفيق بين واجباتها اتجاه زوجها ومشاعرها اتجاه أختها، ليتبين فيما بعد أن زيارة بلانش ستطول أكثر مما هو متوقع وستتحول إلى إقامة دائمة، وهذا ما يثير امتعاض زوج ستيلا الفظ فتبدأ المشاكل والمشاحنات بينه وبين بلانش.
تقليدياً، يُشار إلى عمل ويليامز بأنه يعكس الصراعات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي كان يعيشها مجتمع الجنوب الأميركي، والذي يعرفه تينيسي ويليامز جيداً. مثلما يعبر فيلم وودي آلن عن الجحيم النيويوركي، الذي يعرفه أيضا بكل تفاصيله والذي استطاع أن بعبر فيه عن هواجس ياسمين وبلانش دوبوا معاً، بمعنى تصوير عذابات المرأة في كلا العملين.
ينجح وودي آلن، كما العادة، في تقديم دراما بسيطة وممتعة، تحاول كل شخصية فيها تقديم دورها كما يجب دون اجتهاد مفرط وخاصة كيت بلانشيت التي أدت -باعتقادي- أحد أعظم أدوارها السينمائية، إن لم يكن أعظمها، فقد تخطى أداءها أي مقارنة محتملة، بل هو الأداء الذي يسرق من المتفرج شهقة إعجاب، مهما كان متحفظاً ويجعله يخشى أن يصاب الممثل الذي أمامه بمكروه أو يفقد وعيه لشدة انفعالاته وتقمصه لدوره. لقد قدمت بلانشيت أداءً متميزاً لامرأة تحاول السيطرة على توازنها في قبولها لوضع لم تألفه أو تختبره من قبل.. فهي منقسمة، في صراع نفسي مرير، بين جملة أحاسيس شديدة الوطأة تسيطر عليها بذات الوقت، غير أن آلن لا يعطينا فرصة للاستنتاج المنفرد إذ نكتشف (أو ربما هو يريدنا أن نكتشف)، منذ المشاهد الأولى، أن ما نراه ليس سوى لعبة بصرية تختزل الواقع المنقسم (بين ماضٍ وحاضر)، ليس تعسفياً أو اعتباطياً، بل يسير عبر رحلة مضنية لياسمين في لوحة بصرية متعددة نتعرف فيها على ما هو بحق موهبة وإبداع آلن كمخرج للشخصيات المركبة، قابضاً بشدة على الأدوات والتقنيات اللازمة لعمله لخلق فيلم ناجح وجاذب.
تستطيع ياسمين أن تفوز بتعاطفنا، باعتبارها غير مسؤولة بشكل مباشر عن انهيارها وسقوطها الذاتي, غير أنه في نهاية المطاف, إذا كان حب الذات ضروري لبناء الثقة بالنفس وعدم التماهي مع الآخرين وضروري لكي تتشكل شخصية منتجة, كما يرى “إريك فروم”، فإن أي تضخم لمثل هذا الحب أو أي ضعف لآليات الدفاع النفسي سوف يساهم في تحويل مسار الغرائز بطريقة غير سوية, وسوف يؤدي حتماً إلى الانحدار نحو العجرفة والقلق، وهذا الأخير قد يكون حقيقياً (أي وجودياً) أو أخلاقيا (أي اجتماعياً) أو مزيج منهما تنمو فيه بذور الإحباط عن طريق التقمص المزيف للاستقرار المعاكس للقلق (أي إثبات الذات)، وهذا ما يجعل ياسمين لا تنفك تعيش صراعات لا تنتهي، وهي أمام خيارين: إما القبول بالجديد أو الانسحاب باتجاه عوالمها السابقة لتقتات على أحلامها وذكرياتها. وفي حين أنها كانت لا تزال قادرة على الحفاظ على مظهرها الأرستقراطي، فإن عدم استقرارها العاطفي وافتقارها لأي قدرة لحماية نفسها من الداخل يجعلها عرضة للخضوع لمتطلبات الرأسمالية المتوحشة، فنراها تقبل العمل على مضض كموظفة استقبال في عيادة طبيب أسنان يحاول التحرش بها، وبسبب إلحاحه المتواصل على التقرب منها، تقرر ترك العمل، وراسها يكاد ينفجر وشعور العطر لا يفارقها تجاه الطبيب ومن يشبهه، فكيفما تلفتت حولها فلن ترى سوى رجال شبقين “رجال كهف”، بدائيين وحمقى وأغبياء يسهل، بالفعل، التلاعب بهم والسخرية منهم.
وهكذا كلما حاولت أن تتبصر طريقاً تبدأ به حياتها من جديد تصطدم بأمرين: موضوعي، يتمثل في قسوة المجتمع الرأسمالي بتفاصيله وضغوطاته الاقتصادية المعقدة؛ والأمر الثاني ذاتي، يتعلق بطبيعة ياسمين وعاداتها المكلّفة.
يوازن آلن هذين الأمرين بلمحات من الفلاش باك عن ماضي ياسمين، ويستطيع المشاهد أن يستنتج بسهولة أن ياسمين تعيش حياة حاضرة لكنها منقسمة فعلاً ومجازاً إلى قسمين: ماضي وحاضر متمثلان في الحاضر وهذين القسمين يضعانها أمام خيارين: أن تكون حياتها إما مأساوية أو بائسة، وعليها أن تعرف معنى البؤس والمأساة لتختار ما يناسبها، فإذا كانت المأساة تعني المرض على سبيل المثال كالعمى أو الشلل أو غيرها من الأمراض الميتة، فالبؤس هو خلاف ذلك، (يوجهنا آلن بذكاء لأن نرى أن ياسمين اختارت البؤس؛ فكونها بائسة يعني أنها محظوظة بطريقة ما).
ياسمين التي يخلقها آلن ليست سطحاً إقليدياً يفتقد للعمق، وليست رمزاً هندسياً يسبح في هذا الفضاء الإقليدي، بل كائن حي له بعده/ أبعاده العميقة والمركبة ويكتفه ما يكتنف البشر من لحظات ضعف وقوة وغرور وبساطة وحسد وكبرياء وطيبة وخبث .. إلخ، ويقذف بوجهنا جملة أسئلة دفعة واحدة، وهو ربما لا ينتظر منا إجابات مثلما أننا في المقابل لم نحصل منه على إجابات. كل ما يريده أن نشاركه اهتمامه ونزعته دون إغفال خصوصيته وخصوصيتنا (المخرج والمتلقي).
وقد يتساءل المشاهد، وهو يتابع، -بمشقة- مشاهد الفلاش باك، ماذا يريد وودي آلن بالضبط؟ بمعنى ماذا يريدني أن أرى؟ هل المطلوب التعرف على ياسمين بواقعها كسيدة ثريّة وزوجة رجل ثريّ وتعيش محاطة بكل وسائل البذخ والتقنيات الحديثة التي يمكن أن تجلب لها السعادة بهذا القدر أو ذاك؟ أم يردنا أن نتعرف على ياسمين الأنثى ،باعتبارها ابنة المدينة الصاخبة، التي تعيش أزمة المجتمع الرأسمالي باختناقاته الدورية المتعددة والمتشعبة؟ أم يريدنا أن نعرف كيف أن ياسمين الحاضر لم تعد ياسمين، لم تعد تشبه ياسمين الماضي ولن تعد تشبه ياسمين المستقبل؟ أم يريدنا أن نرى ياسمين الأخرى، تلك التي هوت من قمة الهرم نحو أسفل السلم الاجتماعي؟
ما الذي يمكن أن يرجوه المشاهد ويتوقعه من ثرثرة ياسمين؟ أو من تلك الإسقاطات الكئيبة عن سان فرانسيسكو؟ أو من التفاصيل المملة لقضايا الاحتيال والفساد المالي للشركات الأمريكية؟ هل يتحدث الفيلم عن الجنس والمخدرات والدعارة في الوسط الراقي؟ عن الضحية؟ والزوج المخدوع؟ أم العكس، عن الزوج السليط العابث والزوجة الغنية التي يتوفر لها كل شيء لدرجة أنها قلما تغادر مكان سكنها؟
كم من المفاجآت تتضمنها قصة ياسمين بتفاصيلها المأساوية المختلطة بالكوميديا، ورغم تعاليها الأجوف وسلبيتها يحق للمشاهد أن يتعاطف معها، بفضل التطور السلس لشخصيتها. ياسمين المهووسة التي تحاول -عبثاً- إعادة بناء حياتها من جديد نراها غارقة ، في نهاية المطاف، في الماضي حتى قمتها رغم أنها محكومة بالمستقبل. وليس بعيداً عن الصواب القول أن وودي آلن بالغ بعض الشيء في رسم شخصية ياسمين، حيث يضعنا أمام العديد من التفاصيل الصغيرة لتكون بمثابة بوابة نتخطى بها ما هو ظاهر لنتوغل عميقاً في شخصيتها، فنراها تتحدث عن نفسها وعن حياتها في المشهد الافتتاحي بطريقة تضعنا أمام خيارات معروفة مسبقاً فيركز على إظهار تفاصيل أخرى هي في الحقيقة مجازات على المشاهد تفكيكها، فحقيبة ياسمين من النوع الفاخر جداً وتذكرة سفرها إلى سان فرانسيسكو على الدرجة الأولى رغم أنها لا تملك نقود، والأهم من ذلك اختيارها اسم ياسمين بدلاً من اسمها الحقيقي، ثم الإكرامية السخية التي تدفعها للسائق، كل هذه التفاصيل تضعنا أمام شخصية نرجسية تتمحور اهتماماتها حول ذاتها ونظرة الآخرين لها بما يجعلها تنكر حاضرها، تنكر أنها لا تملك شيء، وتنكر أنها مفلسة، وتنكر أن زوجها مسجون بتهم احتيال وفساد مالي، ولعلّ اليقين الوحيد البعيد عن المجاز “على الأقل بالنسبة لياسمين” هو خيانته لها، وما يزيد من وطأة المجاز عنوان الفيلم، مثلما عنوان عمل ويليامز أيضاً، فيمكن للمرء أن يتفحص القاموس ليعرف المعاني الكثيرة لكلمة “Blue” والتي يمكن أن تصلح لوصف ياسمين، أما بالنسبة لويليامز فيكفي القول إن الكثير من ثقافات الشعوب تقارب ما بين “المركبة” و “الأنثى” كاسم وصفة وفعل في الدلالات المجازية، فالرغبة الجامحة هي سمة تطبع التصرفات المتهورة للبعض .
يرسم آلن الاستجابة العالية للعوامل النفسية لياسمين كشخصية متهاوية شديدة النرجسية تعاني من أزمات جلد الذات، ومن حالة إنكار متواصل لواقعها، وتسيطر عليها ذكريات الماضي بما يتضمنه من ثراء و بذخ، وبحكم نرجسيتها ليس ثمة ما هو حقيقي في أقوالها وأفعالها، فهي بارعة في التلاعب بالأحداث والمشاعر لاسيما في البداية حيث يروق لها الأمر ويبدو جذاباً وممتعاً فهي تكذب مثلاً بخصوص حياتها السابقة وتقول للأرمل الثري دوايت الذي يسعى لأن يصبح عضواً في الكونغرس أن زوجها كان جراحاً وتوفي إثر إصابته بنوبة قلبية، سيكتشف دوايت كذبها وهو يهم بشراء خاتم خطوبتهما فيغضب منها و يهجرها.
تحلم ياسمين بالماضي، بحياتها السابقة، وتسعى لاستعادتها. إلا أن كل محاولاتها تفشل، نظراً لهيمنة مركباتها النفسية السلبية وسماتها النرجسية وثرثرتها الفارغة المتواصلة، لتنوس تحت وطأة تعاليها وغرورها باعتباره جزء أصيل من شخصيتها، فضلاً عن الخداع كصفة مكتسبة لشخصيتها الحاضرة بعد فقدانها كل شيء وهذا ما يؤثر على سلوكها مع محيطها. ومثلما تصل بلانش إلى نيوأورليانز، تصل ياسمين إلى سان فرانسيسكو وهي في حالة يرثى لها ورأسها يترنح بسبب تناولها العقاقير المضادة للاكتئاب. وسوف تخوض صراح حقيقي في سياق جهدها المتواصل في التكيف للتغلب على مخاوفها وهي ترى نفسها تفقد رويداً رويداً كل شيء من حولها، يضاف إلى هذا مشاعر الحسد والغيرة التي تنتابها حيال أختها المرحة والمنفتحة، التي تعيش حياة “عادية جداً” وبسيطة جداً ولكنها سعيدة، مع حبيبها، الميكانيكي الجلف، الذي كان يخطط للانتقال والسكن مع جينجر قبيل قدوم ياسمين، لذا نرى أن عدائه لياسمين يتغذى جزئياً من مصلحة ذاتية وجزئيا من استيائه من الأجواء الارستقراطية، ومن رغبة صادقة لحماية جينجر .
لا تكف ياسمين عن الثرثرة رغم “حزنها”، والثرثرة ميزة وودي آلن سواء كان مخرجاً أم ممثلاً، ففي المشهد الافتتاحي للفيلم تثرثر ياسمين أثناء رحلتها في الطائرة مع سيدة مسنّة تجلس قربها، ونحن في الحقيقة لا نعلم لماذا تتحدث معها ولماذا تصر على التحدث معها حيث تصف حياتها الرومنسية مع زوجها السابق، و تعرّف عن نفسها بأنها ياسمين، بالأحرى تفضل أن يدعوها الناس بهذا الاسم “سنعلم لاحقاً أن اسمها الحقيقي هو جانيت”. تبدأ بالثرثرة عن حياتها دون توقف. وعند هذه اللحظة لابد لنا أن ننتبه إلى شخصية ياسمين المخلخلة، الواهمة حين يتخلى عنها الجميع لتلقي بنفسها بتهور في عالم المخدرات، مما يجعل الفيلم يبدو سهل التكهن بنهايته حين يبدأ بتعريفنا بشخصية ياسمين, إذ ليس من الصعب ملاحظة الذعر وراء عينيها مهما حاولت أن تخفي ذلك، ومهما حاولت افتعال سعادة مزيفة تصر عليها بعناد مدهش. لكن آلن، النيويوركي المشاكس، لا يحفل كثيراً بما قد يحقق الفرجة للمشاهد بقدر ما يهمه تقديم شخوصه وطريقة تطورها حتى لو كانت بشكل ملتبس، فمنذ لحظة اتخاذ ياسمين القرار بالعيش عند اختها ينشطر الفيلم إلى فلمين، واحد يدور في الزمن الحاضر حيث واقع ياسمين البائس و الثاني يتحدث عن الماضي الرغيد. وهكذا يمضيان بنا إلى النهاية, وهذا ما يجعل الفيلم يعتمد بصورة أساسية “ربما مملة للبعض” على الفلاش باك كأسلوب يفضله وودي آلن المفضل في معظم أفلامه.
يقدم الفيلم تجربة إخراجية مميزة، وهو بصورة ما أقل أفلام ووي آلن ذاتية من حيث ما يطرحه من أفكار، ومع ذلك استطاع أن يحافظ على روحه الساخرة وشخصياته المفعمة بالحياة وأسلوبه المميز وعمق رؤيته وتنوع أدواته وعشقه لموسيقى الجاز التي اعتاد أن يضمنها بأفلامه ذات النكهة النيويوركية الكلاسيكية المثيرة، ولن نفاجئ حين نعلم أن اسم الفيلم مستوحى من أحد أغاني الجاز الشهيرة.
هذه الرؤية لا تعني بأي حال أنه فيلم “صعب” أو “عسير على الهضم” فحين يعي المشاهد أسرار ياسمين يستطيع أن يلمس الصعوبة التي يبذلها الفرد في عصرنا الحالي للمضي قدماً في هذه الحياة المعقدة و المركبة.
يا الله!! لنتأمل ذلك، هل فعلا أصبح مجرد المضي في الحياة أمر صعب؟
فالكثير منا، في سياق معيشه اليومي، يعبر عن عدم اكتراثه لما هو متاح بين يديه، حتى إذا ما فقده يكتشف كم هو يحتاجه، وكل ما يصدر عنا من أفعال أو أفكار أو حديث إنما يدل على شخصيتنا، وحتى الأحلام تعبير مبهم عما بداخلنا بشكل لا شعوري، وشخصية الفرد محصلة النظام المتحد والمتكامل والمتفاعل من عوامل جسمية ونفسية واجتماعية، فالإنسان من الداخل مزيج من الدوافع والميول والقدرات والعواطف والعادات وغيرها من المكونات المسؤولة عن البنيان الطبيعي لتكوين شخصيته وسلوكه العام والخاص في المواقف المختلفة. رغباتنا الجنسية المكبوتة في أن نكون مع شخص جديد، الانصياع لعدم الإيمان. ولكن فوق كل هذا حول “ماهية” هويتنا ومحاولتنا الأبدية التمسك بفردانيتنا “إذا قدّر لنا أن نجدها”.
ربما كل هذا من أجل المشهد الختامي” الذي لا ينسى، حيث تظهر ياسمين وحيدة( فالوحدة هي مرض المجتمع الأميركي كما استنتج وليامز) تجلس على مقعد في حديقة عامة في حالة من الذهول و السخط و الاضطراب العقلي، تتحدث مع نفسها عن مشاكلها ومتاعبها التي لا تنتهي. إنه مشهد يجسد براعة آلن في استخدام أسلوب العرض المتكرر للفلاش باك للتعبير عن تخيّلات ياسمين لمراحل وأحداث حياتها السابقة، فضلا عن سلاسة السيناريو وفواصل الفلاش باك.
هذا إذن ما يحاول الفيلم قوله، وقد استطاعت كيت بلانشيت باقتدار (استحقت عليه الأوسكار) أن تنقل لنا هواجس ياسمين( وهي في الحقيقة هواجس وودي آلن نفسه): حقيقتها، زيفها، انتهازيتها. قسوتها، نرجسيتها المفرطة كخط دفاع هش أمام العالم الحقيقي، لتشكل مخاوف ياسمين الحقيقية وعلاقة هذه المخاوف بالانتماء الطبقي وبالجنس وإجرام الشركات في أمريكا. ويجسد الأداء الصراع النفسي الذي تعيشه ياسمين الحائرة بين عالمين مختلفين من خلال التداخل بين الحاضر و الماضي حيث تتداخل مشاهد الماضي مع الحاضر دون سابق إنذار إلى حد يجعلنا أحياناً لا نستطيع التمييز بينهما في البداية, فالماضي و الحاضر إنما يضعان المشاهد أمام شخصيتين لا يمكنهما أن تكونا قريبتين من بعضهما البعض” أي ياسمين و شقيقتها ” , لنكتشف لاحقاً أنهما شقيقتان بالتبني، بمعنى أنهما من أصول بيولوجية مختلفة فضلاً عن أن كل واحدة تسكن على الطرف المقابل للقارة. وهي محاولة جيدة من آلن بأن يترك لنا حرية عقد المقارنات بين الأختين كما نشاء.
وفضلا عن التمايز الإثني والمعرفي فالوضوح الطبقي أسهل ما يمكن اكتشافه وملاحظته في الحياة الأمريكية، وهو أحد أهم العوامل التي تجعل ياسمين غير قادرة على الصمود، فالخوف يجسد عقاباً لياسمين لرفضها أو لعدم قدرتها على رؤية مثل هذا التمايز والوضوح.
لقد نشأت ياسمين ونمت كفقاعة فخمة ذات امتيازات هائلة، ومع تقلب وضعها في نيويورك نكتشف أنها غير مهيأة لذلك بل هي هشة للغاية مثل حيوان الأسر الذي يشكل إطلاقه في الغابة كارثة له مع كل ما يحمل ذلك من معاني الحرية؛ ولذلك وكما هو متوقع ستصل ياسين للنهاية المتوقعة، أي الوحدة، و يالها من نهاية، الوحدة والثرثرة مع الذات، التفكير بصوت عالٍ مثل نزلاء المصحات النفسية.
لا يمكن لياسمين أن تصمت أو تخرس فهي لا تطيق أن تكون خرساء، ستبقى تثرثر إلى ما لانهاية، وبالامتلاء بهذه الثرثرة تكتشف ياسمين أن مجرد المضي في الحياة ليس بالأمر الهيّن. ربما هذا أحد رسائل وودي آلن.. الثرثرة التي لا تنتهي، سواء في الشقة أو المطعم أو الشارع، ثرثرة في كل مكان، تنغمس ياسمين في نزوة وودي آلن السينمائية المعروفة، رغم أن الفيلم يوصف بأنه أقل أفلامه التزاماً بشخصيته وأقله التصاقاً بها، ربما لقوة الشخصية النسائية المتبلورة داخل الفيلم والتي تجبر المشاهد على التعاطف معها، لذلك يدو أيضاً أنه أكثر أفلام آلن انسجاماً لناحية طرح المعضلات الاجتماعية/الاقتصادية للمجتمع الأمريكي. فالفيلم عموماً منتظم منذ البداية للنهاية ويتعامل بذكاء صارم مع الحدود النرجسية لياسمين المتعجرفة والانعزالية، ويكون انهيارها المتوقع كاشفاً لهشاشتها أمامنا بطريقة مروعة، وهنا تلعب بلانشيت بدقة الدور الذي رسمه وودي آلن: امرأة نيويوركية، نادراً ما تبتعد عن مكان سكنها في نيويورك، غافلة عما يقوم به زوجها من أفعال وأعمال خارج إطار حياتهما الزوجية. امرأة مفتونة بذاتها بحيث تعتقد أنها قادرة على مواجهة ظروفها الجديدة عن طريق احتساء الفودكا لتضع نفسها بين الواقع و بين نفسها قدر الإمكان.
وعلى صعيد خلق و رسم الشخصيات، تبدو ياسمين أحد أكثر الشخصيات الواقعية التي قدمها وودي آلن للسينما حيث ترتبط ذكرياتها عن الماضي بجملة أحداث تنذر بمدى كذب وهشاشة وجودها السابق كله. وحين يبدأ الحاضر بالتفكك بسبب هجوم الماضي تبدأ بتناول الكحول، لكن الكحول لن يمنع تعرضها لهجوم موجة جديدة من الذكريات. وهكذا تنفتح أمامنا شخصية عصابية ونرجسية ومدمنة على الكحول وفوق كل هذا تنكر كل ما سبق بتعالي غير مبرر. إذ يكفي أن تضع أنفها على حافة زجاجة المارتيني كي تنتقل بخفة، ودون مقابل إلى واقع جديد، بل على العكس سوف يزيد هذا من وحشتها وعزلتها، ألم تقل: “مع من يجب أن أنام هنا كي أحصل على كأس مارتيني”؟
سوف يستخدم وودي آلن مواقع سان فرانسيسكو بطريقة ساخرة ويركز على الهوة بين مقاطعة مارين ذات الثراء الفاحش وأحياء الطبقة العاملة المتسخة جنوب الحي المالي. وكثيراً ما نرى الكاميرة تتوقف عند سفن الحاويات المتسخة الراسية على الرصيف المجاور، ليس هذا فحسب، فسان فرانسيسكو هذه هي ذاتها المعروفة كمقصد للبوهيميين و لأصحاب الحب الحر و المثليين و المخدرات و الدعارة الراقية و الجريمة. في هذه المدينة ستحاول ياسمين ( التي تمثل النخبة الأمريكية -التي يمقتها وودي آلن-) أن تنهض، ولكن ياسمين المليئة بالعيوب والثقوب الاجتماعية والأخلاقية وحتى الوجودية, (مثل أي فرد ينتمي للنخبة)، تستمد قيمتها من تصور الآخرين لها وبالتالي حين تبدو أنها غافلة عما يدور حولها تساهم في خديعة غيرها ” كذبها على دوايت”.
يحوم عمل وودي آلن بطريقة ما حول العواقب التي يمكن أن تنجم عندما ينتاب البعض الشطط في قدراتهم فيحيدون بأبصارهم عن واقعهم وعن الحقيقة التي لا يريدون رؤيتها.
نستطيع القول ختاماً -كاقتراح اجتماعي أن الفيلم دراسة في عواقب الكذب على الآخرين، وهو من المواضيع الأكثر شيوعاً في أعمال وودي آلن، رسالة تحذيرية عن الثروة والسمعة والمكانة التي تتحقق عن طريق الاحتيال، دون الانخراط في عمل جاد يتأسس عليه مشروعهم الوجودي، بل يقضون وقتهم في ممارسة “ألعابهم الذكية” و” اختياراتهم الجريئة، بالأحرى الطائشة”، وعندما يصلون إلا النهاية باكتشافهم المأزق الذي وضعوا فيه نمط حياتهم، لن أمامهم من خيارات سوى وضع حد لتجربتهم هذه “وغالباً ما تكون النهايات بشعة”،
ولكن هل هذا ما يحدث في الواقع؟
هل تستسلم البرجوازية بسهولة، وتترك قيادة لتاريخ لغيرها؟
هل سوف يمنحون الطبقات الأخرى تلك الفرصة التاريخية للانقضاض على ناصية التاريخ؟
يقول وودي آلن: “لا أحبذ المحادثات السريعة القصيرة، بل أفضّل أن أدير نقاشاً طويلاً عن معنى الحياة والموت، والسحر والجنس والذكاء العقلي، والذرات والمجرات والفضائيين، ومخاوف الطفولة وأكاذيبها وما يمكنه أن يبقيك قلقاً مستيقظاً. أريد أن أحادث شخصاً شغوفاً ذا عقل متقد، لا أن أتكلم مع من يريد أن يعرف فقط”. ألا يشبه هذا ما كان تينيسي ويليامز يحاول قوله “انظروا ماذا يحصل عندما تقودون مركباتكم (اقرأها رغباتكم) بتهوّر واستهتار بالقوانين! انظروا ما هي نتائج الرغبات السوقية الدنيئة الجامحة!.. ها هي ياسمين الجميلة الحزينة، كم هي تعيسة حين لا ترى في الحقائق سوى أنها محض كليات صادقة لا غير، فهي لا تكاد تفصل بين العام والخاص في حياتها.
فثمة بشر لديهم القدرة على الربط “التاريخي” بين المعلومات التي يكتسبوها على مسار حياتهم، بصرف النظر عن مصادر معلوماتهم هذه، فتعمل عقولهم بطريقة جدلية لتربط وتصنف وتعرف وتجدول هذه المعلومات وتستنبط منها أفكاراً أو تخيلات أو تفسيرات تساعدهم على فهم المعنى الأنطولوجي لحياتهم وتحويل الكثير من المعضلات لى عموميات وبديهيات؛ هذا النوع من البشر لديه القدرة على إيجاد مسافة أمان بينه و بين نفسه، بمعنى أنه مجبول على ذلك، مبرمج لكي يفهم أي شيء من خلال ربطه بشيء آخر، ولذلك هو على استعداد -في أي لحظة- للتخلي عن إيمانه ببعض الأفكار أو كلها “الأفكار الأولية التي شكلت جوهر شخصيته” أو تلك التي اكتسبها من التقاليد في بدايات تنشئته. هو قادر على تجاهلها وحتى معارضتها ونقدها ليس ذاتياً، فقط بل حتى على الملء مجرد أن يظهر له دليل ما -نظري أم تجريبي- هذا النوع من البشر لا يتحكم فيه أي ولاء أو سلطان سوى ولاء وسلطان العقل، فالعلاقات الاجتماعية والقوميات والوطن والمجتمع والدين، هي علاقات لها هدف واحد فقط أن تضعه على طريق المعرفة الحقيقي. قد يدفع حياته ثمناً لهذه المعرفة في بعض الأحيان. غالباً هذا النوع من البشر يكره التناقض ويمقت القصور، أي خلل في باراديم ما يثير فيه الكثير من الحنق والغيظ.. وسوف يسعى بكل قوة لتفكيك هذا التناقض، يسعى للحقيقة بوعي نشيط متماسك لا تنفصل فيه تفاصيل الواقع عن الحقائق المعرفية بوصفها حقل بحث و تجريب لأنه يرى في الحقائق على انها كليات صادقة.
وثمة نوع من البشر، يختلفون عما سبق، لا يمتلكون تلك الدرجة من الحساسية أو الوعي بمسألة الترابط بين الأشياء، فهم مثلاً لا يرون أي أهمية أو فائدة في أن يكون هناك تناقض ما بين تلك الأشياء المترابطة، لا يرون-بطريقة أو بأخرى- أي تناقضات في الحياة، وهم هنا يختلفون عن أولئك الذين ينظرون للحقائق المترابطة، فالمطر حقيقة وتعاقب الفصول وكذلك الخوف والمرض والموت والخيانة والإبداع.. جميعها، لكن شخصاً مثل ياسمين، يراها حقائق عارية، مسطّحة غير ذات عمق، هي هكذا الحقيقة الآن وهنا، كما يحلو لمفكري ما بعد الكولونيالية القول، هذا النوع لديه القدرة مثلاً أن يكون كل شيء ولا شيء، وهو لا يرى تناقض في ذلك.. مخرجات هذا المأزق هنا هو التواطىء النفسي والفيزيولوجي: النفسي لخلق حالة توازن داخلية مع الذات، والفيزيولوجي لخلق حالة توازن مع البيئة “منعاً من الجنون او الابتعاد قدر الامكان عن حافة الجنون”.. وعلى هذا تكون الحقيقة هي “الكذبة الوحيدة القابلة للتصديق”. يقول ألبير كامو: نحن “لا نفكّر إلّا من خلال الصور، إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فاكتب روايات”، لأن الروائي يمكنه أن يقول أشياء يعجز الفيلسوف عن وصفها، على حد قول أمبيرتو إيكو.
يغرينا وودي آلن بأن نتابع فيلمه وهو القائل “لا أشاهد أفلامي بعد أن أنتهي منها؛ لم أرَ فيلماً من أفلامي قط! أشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه أفلامي. ويبقى ما هو رائع الحصول علي الفكرة. عندما تبدأ أيّاً من أفلامك يكون -حينها- لديك طموحات ضخمة، ثم وفي غرفة المونتاج تتمنى فقط لو أخرجته للنور! “
لا أشك بأن آلن قد قرأ من قبل ما قال نرسيس ” آه أيها الشقي المحبوب دون جدوى.. وداعاً “… نطق نرسيس كلماته الأخيرة هذه وهو يغمد خنجره في صدره، ولعل هذا أصدق ما يمكن أن تقوله ياسمين في مشهدها الأخير. ولاشك أيضاً أن آلن لن يسمح لياسمين الحزينة أن تسمو، ولو بمنحة سوريالي، عن واقعها ومفارقاته، ولن يسمح لها بالتخلص من كسلها ومن رخاوتها حتى لو امتلكت القوة والإرادة والتصميم.
ولو كنتُ مكانه لما سمحتُ بذلك أن يحدث، ولما ترددت، ولو للحظة، في جعل ياسمين تثرثر -همساً أو صراخاً، لا فرق- بكلمات نرسيس هذه.