لن يستطيع أي مسؤول غربي، مهما بلغت درجة ذكائه وبراعته السياسية، إقناع غالبية العرب بأن إسرائيل ليست وكيلاً للغرب في المنطقة، وأن وجودها، بحد ذاته، هو مؤامرة واضحة، إذ لا يمكن إغفال التفكير بعقلية المؤامرة عند النظر إلى المسألة الفلسطينية. ويمتد الأمر لينسحب على مواضيع أخرى مثل احتلال العراق وحرب لبنان وتقسيم السودان، وثورات الربيع العربي أو التطبيع وسواها. فإذا كانت نظريات المؤامرة ليست متجذرة جميعها في المنظومات العقائدية، فمما لاشك فيه أن هناك العديد من المؤامرات هي حقائق واقعة لاشك (سايكس بيكو، صفقة الأسلحة الفاسدة، ووترغيت.. إلخ) وغيرها. حيث تُقدّم، هنا، أدلة قوية تؤكد “حقيقة” المؤامرة، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد، على سبيل المثال، أن الانقلاب ضد سلفادور ألييندي لم يكن مدبراً من قبل الولايات المتحدة، أو إغفال دور إسرائيل في الكثير من عمليات الاغتيال التي حدثت في لبنان، وفي مناطق أخرى من العالم ضد شخصيات فلسطينية وعربية مؤيدة للقضية الفلسطينية، كما يقر الجميع واقع “مؤامرة” التستر في فضيحة ووترغيت لأن التسجيلات ،التي ظهرت لاحقاً، قدمت أدلة قوية على هذا. ونظراً للطوفان الهائل للمعلومة المتداولة، لاسيما في عصرنا الحاضر، فإن ميل الناس للإيمان، ولو جزئياً، بنظرية المؤامرة أمر لا مفر منه، كما أن التطورات المتسارعة في مجالات الذكاء الاصطناعي والعلوم النفسية والعصبية والسلوكية والاستخباراتية ونظريات الفوضى المنظمة واستثمار الكوارث.. جميعها، في المجمل، توفر إطاراً ممكناً لعلم النفس السياسي والجماهيري للتركيز على مضامين الاعتقاد بنظرية المؤامرة. ووفقاً للبعض، يميل المؤمن بوجود مؤامرة واحدة إلى الإيمان بوجود مؤامرات أخرى، والعكس صحيح، كما يرى البعض أن هناك عنصراً من الإسقاط النفسي، فيما يتعلق في الإيمان بنظريات المؤامرة، يتجلى في شكل إسناد خصائص غير مرغوب فيها من الذات إلى المتآمرين. وتحويلهم إلى عدو أمر واقع أو محتمل، ومن الصعب مقاومة إغراء هذا الإيمان، حيث يخلق هذا الإيمان شكلاً من التوازن الفردي عن طريق التخلص من التنافر الكامن في الجوانب غير المقبولة من الشخصية، ونقلها للطرف الآخر “المتآمر”، وإضفاء صفة “الكونية” عليها، والسعي الحثيث للبحث عن المعنى كما هو شائع بالنسبة للمؤمنين بنظرية المؤامرة، وتطويرها وصياغة الحجج التي تناسب الأفكار الرئيسية لمقولاتهم، بما يتوافق مع الإدراك الذي يؤمن لهم انحيازاً معرفياً حصيناً يحميهم ويجنبهم التناقضات التي قد تؤثر على منظومة إيمانهم الواقع ضمن منطق “الفوضى” بمعناها الرياضي، حيث لا تعدو النظم العقائدية أن تكون سوى مصفوفات ذات طابع متداخل مع سياقاتها وقرائنها، في ذات الوقت الذي تظهر فيه بعضاً من جدليتها حين تسعى لأن تنتظم، بمعزل عن تلك السياقات والقرائن، فتتمايز بطريقة ما تبدو “منغلقة” عقلياً وفلسفياً. بمعنى أن الإيمان بنظرية المؤامرة يتجسد -شأنه في ذلك شأن أي إيمان آخر-بوعي مقولب جاهز للاستخدام، بصرف النظر عن المكان والزمان، يقع، بالتالي، في مكان ما بعيد عن الحقائق العلمية والتاريخية مما يفقده صفتين أساسيتين لأي نظرية وهما العقلانية والتاريخية. وفي هذا السياق يساهم التضامن المجتمعي أو الطائفي، وكذلك التراتبية الهرمية في تعزيز المؤامرة والترويج لها، ويلعب هذا التضامن، وتلك التراتبية، دوراً في جزء من نظرية المؤامرة من خلال خلق أو تبني طقوس معينة ذات هرمية صارمة (مثلما هو حال الجمعيات السرية سواء كانت دينية أو غير دينية ) وليس من المستغرب، والحال هذا، أن يعجب الشخص بسلوك عدوه، فكثير من الحركات المناوئة للشيوعية، على سبيل المثال، عبرت عن إعجابها بانضباط الخلايا الشيوعية السرية، كما اقتبست الصهيونية الكثير من السلوك النازي في مرحلة ما قبل العام 1948 وما بعدها. ويظهر الحالم النفسي لهذا الإعجاب، على الصعيد الفردي، مشبعاً في أغلب الأحيان بوسائل سادية مرتبطة بدوافع لا يمكن التقليل من شأنها.
تقوم نظرية المؤامرة بتقديم تفسير “متمرد” ضد التفسيرات الرسمية، وضد الصحافة الرسمية، والتاريخ الرسمي، الذي يفترض أصحابه أنهم يقدمون التاريخ الصحيح والقويم مرة واحدة وإلى الأبد. وتمتلك نظرية المؤامرة شيئاً من “روح التجريبية”، حيث يتم التركيز على الحقائق الملموسة. غير أنها تعاني، في هذه الصدد، من نضوب هائل إلى ما هو حقيقي، أو إلى ما يمكن أن يرقى لأن يكون حقيقياً دون شك، ونقصد بذلك الأشخاص، فنظرية المؤامرة تفترض أن الأحداث الإنسانية يتسبب بها أشخاص يعملون كما يعمل جميع البشر، أي التفكير والتعاون والتخطيط والغش والخداع، والسعي للسلطة. وهكذا، لا تركز نظريات المؤامرة على قوى غير شخصية مثل الجغرافية السياسية واقتصاديات السوق، والعولمة، والتطور الاجتماعي وغيرها من التفسيرات المجردة للأحداث الإنسانية. وهنا تفترق نظرية المؤامرة عن التفسير الذي تتبناه المقولات العلمية. فالنظريات العلمية لا تسعى -وليس هذا هدفها أصلاً- إلى تهميش وجهات النظر المعارضة لها، لأن ممارسة العلم تتطلب أناساً منفتحين على أي احتمال وقادرين على جمع ودراسة جميع الأدلة بصدق وبطريقة عقلانية من أجل التوصل إلى استنتاج، يليه التقويم الأخلاقي. ويبدأ الآخرون بالرغبة في تقويم أخلاقي محدد، ومن ثم العمل لجمع أي حقيقة تدعمهم، ونفي أي حقيقة لا تدعمهم، فتظهر بعض الأخطاء على أنها مجرد ارتباك، وبعضها يبدو كأنه تجاهل للحقيقة، وهذا ما لا تقوم به نظرية المؤامرة، لأن هدف المؤامرة في نهاية المطاف هو الاستحواذ على السردية التي ينبغي لها أن تؤكد على وجوب عدم إهمال منطق نظريات المؤامرة كي لا نقع في سوء تقدير للوقائع، فالأمر، إذن، ليس الاعتقاد بوجود مؤامرة محددة، بل في العمليات المنطقية التي تؤدي إلى هذا الاعتقاد، وليس من الواقعية بشيء تفسير نظرية المؤامرة بتعابير ذاتية من قبيل “نحب” أو “نكره”، فنظرية المؤامرة تمتد من السياسة والاقتصاد والاجتماع إلى ميادين الفن والرياضة والطبخ والمرض والأزياء.. إلخ. وتتجلى مرونتها بكونها مقولة وبناء فلسفيّان يقوم من خلالهما الأفراد أو الجماعة بتفسيرها وفقاً لموقعهم الاجتماعي والسياسي من الحدث. وهي علاقة ثنائية ذات حدين ومتحركة بالاتجاهين فإن وُجدت المؤامرة، فلابد من وجود حدودها، أي المتآمر والمتآمر عليه، وتفترض العلاقة الجدلية القول أن توفر هذين الأخيرين يعني بالضرورة وجود مؤامرة ينخرط فيها أفراد وجماعات، بل ودول. وتشير بعض الدراسات الاجتماعية والنفسية والبيانات الإحصائية واستطلاعات الرأي والأبحاث الاستقصائية، إلى أن نظريات المؤامرة تعتبر نظريات حية وفعّالة ونشطة في المجتمعات المختلفة، وهي غير مرتبطة بمعايير التطور التقني أو الاقتصادي، ولا حتى بمعايير أخرى مثل بعض الاعتبارات الدينية والأخلاقية. قد يبدو للوهلة الأولى نمو نظريات المؤامرة حيث تنعدم منظومة الصحافة الحرة أو تكاد، وحيث يكون مستوى التعليم ضعيفاً، غير أننا نرى أن نظريات المؤامرة تجد رواجاً لها أيضاً وتكتسب أتباعاً في مجتمعات متقدمة مثل أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا وغيرها من دول “العالم الأول”، وإن كانت ضمن أطر وتصورات مختلفة عما هو سائد في مناطق أخرى. وعلى هذا فالمؤامرة ليست حالة فريدة أو تخص مجتمعا بعينه أو تنتعش في مجتمعات دون مجتمعات أخرى، فهناك شبه إجماع على أن نظرية المؤامرة ظاهرة بارزة عبر التاريخ، وعلى هذا، فالإيمان بها يعد بحق ظاهرة “مرنة” تخص البشر ومن طبيعة استقطابية على اختلاف مشغليها وفاعليها ولاعبيها وضحاياها، سواء كانوا أفراداً أم جماعات أو حتى دول، بل أن هناك من يزعم أننا بحاجة -عند مستوى نفسي معين- إلى الإيمان بنظرية المؤامرة لتأمين التحصين الكافي ضد “رواية السلطة الرسمية”.
وقد يعود الأمر إلى أن الظروف التي تؤدي بنا للإيمان بنظرية المؤامرة تعتمد على الظروف ذاتها التي دفعتنا لقبول المؤامرة في الماضي، فنسيج العلاقات الاجتماعية المعقدة في عصرنا والتغيرات السريعة وتزايد الشكوك بجدوى الحلول الاقتصادية، هي عوامل بارزة في تعميق الإيمان بالمؤامرة لدى البعض، وهي عوامل مريحة، على الأقل من الناحية النفسية، إذ يتم بموجبها تعيين “العدو” بوضوح وتقف أمام ما يمكن أن يدفعنا للتفكير في حالات فوضوية اجتماعية. وفي حين أن نظريات المؤامرة غالباً ما تكون غير عقلانية، إلا أن التساؤلات التي تطرحها غالباً ما تكون صحية، حتى لو كانت الإجابات لم تنسبها الى مصدر ما أو كانت مخطئة تماماً، فالمؤامرة -كظاهرة مرنة لاعقلانية ولا تاريخية- يحكمها غموض مقصود يعبر عنه شبكة معقدة من “الأسرار” التي تسمح للأفراد والجماعات بإنشاء محاكمات عقلية (منطقية أو غير منطقية) خارج وعاء السلطة لخلق حالة تمرد ضد الوضع القائم، أي ضد التفسير الرسمي للحدث، الذي تروج له وسائط الإعلام المهيمنة على تشكيل الرأي العام، فتقوم المؤامرة بتفسير وشرح مقولاتها باعتبارها السبب النهائي للحدث أو لسلسلة الأحداث، ويرتبط هذا التفسير في سياق تخيلي عن “الآخر” عبر مسار تصل به للهدف المفروض مسبقاً، وهي بذلك تعبر عن موقف يبدو مبدئياً ومبنياً بطريقة صارمة وحتى جدلية. وغالباً ما يحال الأمر إلى مجموعة منظمة متآمرة باعتبارها تقف وراء الأحداث، ويزعم الكثير من مؤيدي نظريات المؤامرة بوجود هيمنة من المتآمرون على مسار الأحداث الكبرى في التاريخ من خلال إدارتهم للأحداث السياسية من وراء الكواليس.
ولكن ما هي المؤامرة؟
أتى مصطلح “مؤامرةConspiracey” في الإنكليزية من السابقة con ; التي تعني “مع، جنباً الى جنب” وspirare ” التي تفيد معنى النفس والتنفس”. ليصبح المعنى (الهمس معاً) وهو قريب من المعنى الذي تذكره المعاجم العربية بمعنى المشاورة والهمّ بفعل أمر أو شيء ما، وتوحي صيغة “تآمر” بتبادل الأمر أو الأوامر. ويذكر الجوهري في “الصحاح في اللغة”: أمر وآمَرْتُهُ في أمري مؤامرةً، إذا شاورته,.. ويقال: ائْتَمَروا به، إذا هَمُّوا به وتشاوَروا فيه وبهذا ذهب البعض لتفسير الآية “إنّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بكَ” أي يَهُمُّون بكَ . والائْتِمارُ والاستئْمارُ: المشاورة. وكذلك التَآمُرُ، ورجلٌ إمَّرٌ وإمَّرَةٌ، أي ضعيف الرأي يأتمر لكلِّ أحدٍ، مثال إمَّعٍ وإمَّعَةٍ”. فيما يعرفها قاموس “ويبستر” بأنها “تجمع من الناس، يعمل بسريّة، لغرض شرير أو لا قانوني”.. ويعتبر مصطلح المؤامرة، بتعريفها الحالي، حديث نسبياً، حيث ظهر في مقالة اقتصادية في عشرينيات القرن الماضي، وتم تداوله بصورة مكثفة في الستينيات من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية، إثر عملية اغتال الرئيس جون كينيدي، وما تولد عنها من اهتمام بارز لعلماء النفس والاجتماع لتفسير الاستجابة الشعبية للحادثة والتعامل معها ضد الرواية الرسمية التي وصفتها “لجنة وارن” لتفسير عملية الاغتيال، وما ترافق لاحقاً من تكثيف درامي قامت به هوليوود بتقديمها وجهة نظر سينمائية عن عملية الاغتيال بما يتوافق مع منطق جذب الجمهور عبر إضفاء حبكات ومؤثرات بصرية وسردية ومحاولة الاستحواذ على رواية المؤامرة ونظريتها وإعادة إنتاج سردية جديدة توافق قبول الجمهور المتنوع والخاضع لاعتبارات وتأويلات وملاذات نفسية مختلفة تكاد نكون قطعية ونهائية -تعفيه من أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية- مثل الشك والريبة والفزع الأخلاقي والإنكار والفصام والهوس الإيماني الخلاصي الذي يرى بوجود قوة أكبر تسيطر على هذا العالم الفوضوي والمعقد والذي ما زال يحتفظ بالكثير من التفاصيل التي نعجز عن تفسيرها رغم كل تقدمنا وتطورنا. ويركز علماء النفس، بصورة أكثر عمومية، على أنه لو تم افتراض وجود جماعة ما متآمرة، فغالباً ما سوف ينظر لها على أنها معادية، والسبب في ذلك يعود للرغبة القوية للبشر في البحث عن عناصر الطمأنينة والأمان، وهي مكونات متوفرة في نظريات المؤامرة لأنها مدعاة للتفكير المريح والسهل بأن التعقيدات والاضطرابات في الشأن الإنساني، خُلق -على الأقل- من قبل البشر أنفسهم، وليس عن طريق عوامل خارجة عن سيطرة الإنسان، أي أن تلك الحوادث لم تحصل عشوائياً بل بأمر وتنظيم بشري عالي الذكاء والفطنة، وهو ما يجعل مثل تلك الحوادث مفهومة مع إمكانية محتملة للسيطرة عليها.
بمعنى آخر، دائماً ما يحدونا أمل في عودة المتآمر عن تآمره ورجوعه لجادة الصواب، حتى لو كان هذا الأمل ضعيفاً، فيكفي أنه موجود بالأصل، وبالتالي نكون قادرين على كسر الحلقة التآمرية في أحد مراحلها وتخليص المجتمع من شرها، مما يعزز قدرتنا على التوازن إزاء المخاطر وتقديرنا للرضا الذاتي لأنفسنا بقدرتنا على أن نكون مسؤولين وأننا لسنا عاجزين تماماً.
وإذا كان أصحاب نظرية المؤامرة يرون أنفسهم كمضطهَدين ومهددَين بأخطارِ معينة فإنهم يقومون، في سياق عملية الدفاع عن أنفسهم بتبادل الأدوار مع ضحاياهم، فالمؤمن بنظرية المؤامرة يرى نفسه يختلف كثيراً عن المتآمرين، لكنه في الواقع يشبههم، والأخطاء التي يجدها في الآخرين عادة ما تكون أخطاءه أيضاً، وصورته عن الآخرين هي مرآة نفسه، وهو ما يدعوه علماء النفس “الارتياب السريري” وقد يعود ربط مثل هذه الحالة المرضية المشبعة بالشك إلى الميل الوراثي للبشر في البحث عن أنماط الصدفة، مما يسمح لنا، بطريقة أو بأخرى، باكتشاف المؤامرة إزاء أي حدث بحكم “التجربة” المعرفية التي نمتلكها والتي يمكن أن يساء فهمها أو استخدامها. فتتحول، بالتالي، إلى حدث مبهم ينخرط فيه آخرون مجهولون. ويمكن استنباط مثل هذه الحساسية للدوافع الخفية عند الآخرين باعتبارها سمة عامة للوعي البشري. غير أن المتآمر -بحكم تعريف المؤامرة وطبيعة الأشياء- لا يقر بأنه جزء من المؤامرة، أو أي مؤامرة لا على التعيين، بل الآخر “غير المتآمر” هو من يعطيه هذا التعريف، لذلك تنشأ نظرية المؤامرة من نمط تفكير عصابي انطباعي غير ثابت ومتشكك يتخذ مساره يمينا أو لجهة اليسار على حد سواء وتسيطر عليه “دوغمائية” متزمتة قادرة، بزعمها، على التغلب على التحيز الإيديولوجي لإجراءات السلطة التي تدعي امتلاكها الحقيقة المطلقة. ويتكرس الإيمان بنظرية المؤامرة من خلال انحيازنا للبحث عن أدلة تؤكد حقيقة وصحة أفكارنا، بدلا من البحث ولو على دليل واحد يظهر أن لدينا أفكار خاطئة في مطارح أو مطرح ما. وتقدم نظرية المؤامرة لأصحابها -على الأرجح- أجوبة جاهزة لأسئلة تعذر الرد عليها، وتساعد في حل التناقضات بين “الحقائق” المعروفة ومنظومة إيمان الفرد، حيث تظهِر الوقائع أن للمؤامرة وجهٌ يتجاوز الخوف التقليدي الذي يشعر به كل البشر.
ويستخدم كارل بوبر مصطلح “نظرية المؤامرة” لنقد الإيديولوجيات والدوغمائيات الشمولية مثل الفاشية والنازية والشيوعية. ويرى أن النزعة الشمولية تأسست أصلا على “نظريات المؤامرة” مستندة، في جوهرها، على العنصرية والشوفينية والقبلية لنمط، أو أنماط، من السيناريوهات الريبية المتخيلة لمكائد ودسائس معينة، ومن الواضح أن كارل بوبر يفرق هنا بين “نظرية المؤامرة” و”المؤامرة”، فإذا كانت الأولى عبارة عن مجمعة أفكار متخيلة فالثانية، حسب بوبر، ظاهرة اجتماعية نموذجية ينبغي الاعتراف بحدوثها، ولكن “الحقيقة اللافتة هنا أنه على الرغم من وقوع مثل هذه المؤامرات فإن عدداً قليلاً منها يمكن اعتبارها ناجحة، إذ نادراً ما ينجز المتآمرون مؤامراتهم بنجاح”. في حين يعارض تشومسكي من جهته نظرية المؤامرة بوصفها تقابل- بدلاً من التحالفات السرية للأفراد- التحليل المؤسساتي، بدرجة أقل أو أكثر، الذي يركز في الغالب على السلوك العام للمؤسسات العريقة والراسخة في المجتمع، كما تسجله، على سبيل المثال، وثائق الأبحاث أو تقارير وسائل الإعلام المهيمنة.
هناك ثمة بعض من دوافع للمؤامرة ذات بعد معرفي واجتماعي في جوهرها، وتشبه في قوامها، إلى حد كبير، قيام المرء بالبحث عن نسبه وأصول عائلته و جذورها.. فنحن هنا نبدأ بحقائق بسيطة ضئيلة، ثم نسعى لحل هذه الأحجية على اعتبار أن هناك حقائق جديدة ينبغي السعي وراءها، فنقوم بخلق استنتاجات وبناء فرضيات واستنباط حقائق جديدة، وهكذا، وربما بقليل من حسن الحظ ومساعدة الآخرين، تتكشف لنا المعلومات التي نبحث عنها والتي كان من الصعب العثور عليها لولا بحثنا، فنقوم ببناء قصتنا بعد أن نذوّتها (نضفي عليها صفاتنا الذاتية)، ثم يأتي، بعد كل هذا، الشعور بالرضا من خلال اقتناعنا الذي لا يقبل الشك أو النقض بعثورنا على هذه الحقائق، ومشاركة عملية الافتراض والبناء والاستنتاج والاستنباط والاكتشاف مع أشخاص آخرين.. ويمكن للأدبيات التآمرية أن تكون مرضية، من الناحية العاطفية، عندما تضع الأحداث في سياق أخلاقي سردي بصري سهل وقابل للفهم ويلبي الاحتياجات النفسية عن طريق “عقلنة” الحدث وإضفاء معانِ بديلة أكثر التصاقا بالفرد و الجماعة. ومن هنا كان تركيز نظرية المؤامرة على الحقائق الملموسة ذات السمة التجريبية والخاضعة للقياس وصولاً إلى ما هو حقيقي. بيد أن سذاجة التأويل تكمن في قيام نظرية المؤامرة بخلق حقائق موازية بديلة لدرجة أنه يمكن افتراض قيام شخص ما بتغيير مسار التاريخ من خلال مؤامرة، فالمؤامرة ونظرياتها تفترض أن الأحداث الإنسانية يتسبب بها أشخاص “أشباح” غير مرئيين يقومون بالغش والخداع والتخطيط والتعاون فيما بينهم (وفي حالات كثيرة لا يعرفون بعضهم البعض) في سعيهم لتحقق الهدف النهائي المتمثل في الوصول إلى السلطة. وبالتالي لا تأخذ نظرية المؤامرة في اعتبارها مسائل جوهرية أخرى “غير شخصية “مثل الجغرافيا السياسية واقتصاديات الدول والتطور الاجتماعي وغيرها من المسائل والتفسيرات المجردة للأحداث الإنسانية بل تتشرنق حول نفسها نافثةً سحرها القوي على المؤمنين بها مما يجعلها تتعامل بابتذال مع الحقائق، وتركز بصورة خاصة متهافتة على التناقضات والاختلافات، والحقائق المفقودة، وهو ما يتنافى مع مبدأ العلم الذي يركز على الحقائق البعيدة عن التزمت. فإذا كنا نريد تفسيرات أكثر صدقاً للأحداث، سواء للأحداث العلمية أو السياسية أو التاريخية، يتوجب علينا اعتماد جملة مقارنة تنافسية تشكل أرضية لكتلة من المعلومات ينجم عنها سرد متماسك ومجرّب يسعى لتفسير العالم الحقيقي بدقة كافية ولفترة كافية، مما يجعلها مقبولة كحقيقة. بعكس نظرية المؤامرة التي تتجاهل عموماً كتلة الأدلة التي تدعم وجهة النظر السائدة وتركز بشكل صارم على الاستثناء وعلى ما هو شاذ، وهما حالتين قليلتين إحصائياً بطبيعة الحال ( يقول المبدأ المنطقي التجريبي العام بأن وجود الاستثناء إنما هو تأكيد على صحة القاعدة).
ما يلفت النظر-عموماً- هو عدم القدرة الجدلية لدى المؤمنين بنظرية المؤامرة لإثبات العديد من المزاعم ذات الصفة التآمرية، كما حدد كارل بوبر، ومن أجل تعويض هذا النقص يقوم المؤمن بنظرية المؤامرة بالاستعاضة بمنطق خطابي تخيلي وتأويلات بلاغية واهمة تعتمد على البلادة الذهنية لجهة عدم القدرة على استنباط حل لمتناقضات الواقع وأزماته. فالمنطقة العربية، على سبيل المثال، يسود فيها نمط تفكير، كبر أم صغر، بأن وجود إسرائيل إنما يعود في أساسه إلى وجود مؤامرة كبرى ضد العرب والمسلمين، وبالطبع سوف يكون من يتزعم هذه المؤامرة متغيراً تارةً أو ثابتاً تارةً أخرى، حسب الرؤية لإسرائيل نفسها: فهم تارة اليهود والماسونية العالمية، وهم أحيانا أخرى الاستعمار والإمبريالية، وأحياناً يشترك الحكام العرب [باعتبارهم عملاء وتابعين للغرب ] سراً أو علانية في حبك خيوط هذه المؤامرة مع ما سبق “بهدف تفتيت الأمة ” و “السطو على ثرواتها” و”عرقلة النهضة أو الوحدة [والوحدة هنا باعتبارها منتج نهائي لعقيدة وقناعة المؤمن بنظرية المؤامرة قد تكون وحدة إسلامية أو قومية عربية أو وحدة طبقية أممية عمالية.. يسارية، سمّها ما شئت].
وبمثل هذا السياق يكون الربيع العربي مؤامرة من الغرب ضد سيادة ووحدة الدول العربية، والقضاء على الربيع العربي هو أيضا مؤامرة من نفس الغرب لمنع قيام نهضة عربية ذات طابع تحرري، و” أسلمة” الربيع العربي هو مؤامرة من ذات الغرب أيضاً ضد التوجه “الليبرالي الشبابي”.. وهكذا يتم إخضاع الحدث لمبدأ الأوليات -وهو عادة ما يكون مقياس شخصي- لوضع تعاريف مختلفة لها تتشابه أو تختلف، غير أنها تكون محكومة بروابط مميزة لنظرية وعقلية المؤامرة، من حيث قيامنا باختيار ما هو الأفضل لإبداء الرأي في حدث ما، وهذا في الحقيقة لا يحتاج إلى مستوى عالٍ من التأهيل النظري. ففي كثير من الأحيان تستند المؤامرة إلى حدث تافه، أو إلى بنية ضعيفة يقوم من يؤمن بالمؤامرة بتضخيمها من خلال تعريفات بسيطة للمؤامرة واستخدام عبارات نمطية عند وصفها، وهذا لا يمنع قيام البعض الآخر بالبحث والتقصي وبذل جهد نظري لافت وصبر مميز من أجل العثور على أدلة غالباً ما يكون لها تأثير واضح على المؤمنين بنظرية المؤامرة دون أن ينتبه هؤلاء بأنهم يعانون من مشكلة غير قابلة للحل وهي وجود طرف أو أطراف لا تؤمن بنظرية المؤامرة ورافضة لها، ففي أي مجال بحث تكون المؤامرة حاضرة فيه سنجد أراء نافية لها حتى لو كان ادعاء من قبيل الهاجس الذي يسيطر على البعض بوجود عدو خارجي أو داخلي يتوجب السيطرة عليه والقضاء عليه، وكما هو متوقع، هنا، سوف ينتقد المؤمنون بالمؤامرة معارضيهم و يتهمونهم “بالتآمر” عبر سرديات هجومية شرسة تؤيد وجهات نظرهم يغلب عليها طابع الاقتباس المجتزء المؤيد لهم والاستشهادات المبتسرة والمقتطعة عن سياقها، الأمر الذي سينعكس سلباً على حجة الطرف الآخر. وهو ما يقودنا إلى السؤال التالي: لم يتوجب علينا أن نؤمن بنظرية المؤامرة؟
يمكن القول، من خلال تتبع نظرية المؤامرة، بأن سير تطور المؤامرة عبر التاريخ ربما يساعد في قدرتنا على تفكيك مقولاتها، علماً بأن أي نظرة نقدية سوف تعبر عن مجموع آراء متعددة مصاغة توافقياً مع بعضها البعض مثل، الدوغما وتأويل بعض القضايا، والتجربة والتحيز الشخصيين، فهذه كلها عوامل، وإن كانت توافقية، تساعد، بلا شك، في فهمنا لنظرية المؤامرة. وهنا تظهر على السطح التعريفات المتنوعة لنظرية المؤامرة، ولا يبدو أن هناك حلاً نهائياً لنظرية المؤامرة. لذلك مهما كانت وضعية المؤمنين بها، أو غير المؤمنين، وقوة حجتهم سوف تستمر المؤامرة بالوجود بمرونة. فعدم القدرة على معالجة ووضع تعريف نهائي للظلم والبؤس البشري، على سبيل المثال، يجعلهما مجهولين وغامضين ما يدفعنا إلى البحث عن هوية لهما، فتنسل المؤامرة هنا على اعتبار أن البؤس والظلم ليسا سوى عمل موجّه من قبل “الأشرار” ضد “الأخيار”، وفي حالة وجود اضطراب في المجتمع مترافقاً مع انفلات أمني، فسوف تكون المؤامرة هي الإجابة الجاهزة عن سؤال: “لمَ يحدث هذا لي/ لنا دون غيري/ غيرنا؟ -على افتراض إنني/ إننا جيد/ جيدين والآخر/ الآخرين سيء/ سيئين، كمل ينبئنا سارتر (الجحيم هو الآخر)- مثل هذا الاستسهال في التفكير لحل معضلة ما هو من مميزات الإيمان بنظرية المؤامرة التي يتبناها الأفراد -و الحكومات أيضاً- الأمر الذي يتنافى مع منطق الأشياء، فإذا كان الإيمان بنظرية المؤامرة صحيحاً فإن هذا يستوجب التفكير في كيفية التصدي لها، وهذا ما يؤدي بنا إلى النظر إلى جانب مهم من مشكلة مصطلح “المؤامرة” ،مع أن البعض يميل إلى الاعتقاد بنظرية المؤامرة أو على الأقل يعتبرونها صحيحة عند حد معين. وهؤلاء هم أكثر عرضة من غيرهم للاعتقاد بوجود مؤامرات أخرى. فقد أقول في لحظة ما أن طردي من عملي هو مؤامرة والهبوط على القمر كان مؤامرة واغتيال كينيدي مؤامرة ووجود إسرائيل مؤامرة وانهيار الاتحاد السوفييتي مؤامرة.. وبطريقة أكثر حدةً وسهولة، بالأحرى استسهال، واستحضار لاعقلاني للتاريخ، ودون أي اعتبار لأي منطق، أقول أن اغتيال علي بن أبي طالب كان مؤامرة وسقوط الأندلس مؤامرة والقضاء على الخلافة العثمانية مؤامرة، ويصل الأمر إلى اعتبار بعض الأحداث الطبيعية جزء من مؤامرة ( وفاة جمال عبد الناصر، وهواري بومدين وياسر عرفات.. وغيرها) .. إلخ. غير أنه عندما تهز الأحداث التاريخية الكبرى عالمنا، فإننا نكون، بكل تأكيد، أبعد ما يمكن عن نظرية المؤامرة ،فالإيمان بنظرية المؤامرة كمبدأ عام هو من المواضيع النفسية التي اهتم بها علم التاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى حيث تفرخ نظريات المؤامرة خطابها الخاص، بطريقة يبدو فيها محصناً ضد الحجج العقلية، ضمن أنماط تفكير تتمثل في مظاهر خادعة (السلطة، والشهرة، والمال، والجنس وغيرها) تحاول أن تقول أن المؤامرات هي من تحرك التاريخ؛ وليس هناك ما هو عشوائي، والعدو دائماً هو الذي يكسب. ونظراً للعمومية الشديدة لنظرية المؤامرة فليس من المجدي الحكم عليها بأنها كلية خاطئة 100%، فمثل هذه القضايا الخلافية سوف تستمر في الوجود، وسوف يكون للتاريخ دور مهم في صياغتها وإعادة صياغتها واكتشاف خيوطها ودور اللاعبين الأساسيين والثانويين بهذه الدرجة أو تلك. ورغم كل المحاولات لفهم نظرية المؤامرة وتفكيكها.. مازال هناك الكثير ممن يعتقدون بصحتها. فالعديد من المقولات تتيح أسس مفيدة للمؤمنين بنظرية المؤامرة باعتبارها حقيقة مثبتة ولغزاً أو سراً يجب السعي للكشف عنه، فالصراع العربي الإسرائيلي وامتداداته للمحيط الاسلامي يعتبر بمثابة تربة خصبة لنمو العديد من نظريات المؤامرة (بروتوكولات حكماء صهيون مثلاً)، كما أن العداء لأمريكا والاتحاد السوفياتي السابق ولّد العديد من النظريات ذات الطابع التآمري . ويعود ذلك، بشكل أو بآخر، لطبيعة المؤامرة وبنيتها التي يتوجب عليها التوسع على الدوام لامتصاص وتحييد المعلومات المتضاربة بالنسبة لها.
وبانعدام معرفة تتبنى تفكيراً مستقلاً في نظرية المؤامرة سيكون لعوامل القلق والاستلاب وانعدام الأمن وقلة فرص العمل وتبخر الثقة بين الأفراد دور مميز في تعزيز نظرية المؤامرة والتأكيد على مشاعر الاغتراب للمؤمن بها، والذي يؤكد وجود علاقة مع بعض وجهات النظر المتماثلة، لاسيما في عملية التفكير السياسي في المؤامرة ومعايير تحديد هوية المتآمرين التي تميل في معظمها إلى استخدام سردية الضحية ممتزجة بشكل من أشكال الاعتراف الضمني بوجود المؤامرة وبطريقة تميل نحو التعميم غير المثبت، في معظم الحالات. غير أن ما هو لافت للنظر عدم ضرورة توفر معلومات معينة لرواج المؤامرة أو الاعتقاد بوجود مؤامرة. ونحن لا نعرف بصورة تامة إلى أي مدى يحمل الاعتقاد بالمؤامرة سمة إيديولوجية عامة، بمعنى كيف يمكن للمؤمنين بالمؤامرة أن يؤمنوا بمؤامرة أخرى، وما هي روابط وأسس الإيمان بالمؤامرة. وربما هذا يعود بدوره لمنشأ نظرية المؤامرة نتيجة لأحداث مثيرة، تعطي انطباعاً بأن ثمة ما هو “مريب” سواء في الأسباب أم في النتائج، وقد تخلق حالة التستر على الحدث التي تمارسها السلطات في تقوية هذه الريبة، بمعنى تبدأ نظريات المؤامرة عملها عند اللحظة التي تكون فيها التفسيرات “الرسمية” غير متناسبة مع الحقائق، وهنا تظهر استجابة البعض للحجج وفقاً لمعتقداتهم ولمنظومة أفكار مسبقة معدّة سلفاً تكون محكومة بمقولة “الصراع” بين قوتين غير متكافئتين: المتآمر القوي الخفي المتسلل والذي يمتلك كل وسائل الإغراء والسيطرة في مقابل من تقع عليه المؤامرة الذي عكس ذلك، ولذلك يبدو من المناسب القول أن كل شخص منا معرض للإيمان بمؤامرة أو أكثر خلال حياته، غير أن الاختلاف يكون في درجة الإيمان وفي القدرة على الإجابة على الأسئلة التي تلي ذلك، والتي تكون قادرة على تفسير الأحداث، آخذين باعتبارنا أننا نتكلم حكماً عن الماضي. وباعتبار نظرية المؤامرة جزء من عمل سياسي ما فهي في نهاية المطاف ليست سوى شكوى بعد وقوع الحدث .
نظرا لأن الدوافع وراء أبحاث نظرية المؤامرة هي دوافع معرفية واجتماعية فإن تعريفها يختلف باختلاف وجهات نظر أصحابها، وللتبسيط يمكن القول بأن المؤامرة بها طرفين رئيسين، هما المتآمر والمُتآمر عليه، وهي تحدث في كل مكان ووقت، بغض النظر عن المساحة المكانية والتنفيذية والزمنية لها، فقد تحدث في المنزل وقد تحدث في العمل وقد تحدث في أروقة ودهاليز الدولة/ السلطة، وقد تحدث على مستوى عالمي، ولا بد فيها من وجود طرف متآمر وطرف مُتآمر عليه، ومن الناحية الزمنية فقد يتم تنفيذ المؤامرة بشكلٍ كامل ابتداءً من التخطيط وانتهاء بالوصول للنتائج في ساعة أو يوم أو سنة أو عدة سنوات، وقد يكون أطراف هذه المؤامرة أو أحدهم على علم بها وغالباً ما يكون المتآمر هو العارف بها إلا أنه ليس ضرورياً أن يكون كذلك، فقد يقوم بالمؤامرة دون وعي منه بأنه يقوم بها، وقد تتم المؤامرة دون علم المستهدفين بها، كما يمكن أن يعلم المستهدف بوجود مؤامرة لكنه لا يستطيع تحديد أصحابها، هي كذلك ببساطة. كما يمكن أن تصل النظرية لنتائجها بشكلٍ مباشرة متجاوزةً العقبات من خلال التخطيط المُحكم واتساع الرؤية فيها، إلا أنه ليس بالضرورة ضمان الوصول لنفس النتيجة أو عدم ظهور نتائج غير متوقعة .غير ان نظرية المؤامرة هي أكثر عمقاً من الخوف، ومن الواضح أن التشكيك بأحد مؤثرات المؤامرة يؤدي بالضرورة إلى التشكيك في مؤثر آخر، ولذلك يأخذ الناس على عاتقهم شرح الأمور لأنفسهم عندما يصر الآخرون على قول ما هو غير مفيد في هذا الصدد. وتطرح نظرية المؤامرة نفسها عبر أحداث سياسية أو اقتصادية كبيرة يكون لها دور فاعل في تغيير علاقات القوة في المجتمع مما يثير المزيد من القلق والفضول بآن معاً، لدى العامة، من خلال ما يتم ملاحظته من تناقضات في تفسير الأحداث ويتحكم في مسار نظرية المؤامرة شعور عام بأن السلطة تخفي معلومات هامة عن مواطنيها عبر أساليب ملتوية من الخداع و الغش وما تقدمه هذه السلطات ليس سوى أدلة ظرفية فيما يكون المطلوب هو القيام بمزيد من التحقيقات لكشف خيوط المؤامرة، حسبما ما يرى الناس ذلك، ويميل الجمهور بطبيعته إلى اختيار تفسير يتناسب مع ملاحظاته وتفضيل تفسيره على أي تفسير آخر حتى لو كان حقيقياً، فالتفسير الذي يتوافق مع أكبر نسبة من ملاحظات الناس يكون هو المفضل والمرغوب فيه، وهذا هو المبدأ الذي تنبني عليه نظرية المؤامرة، ويكون الخوف هو أحد الدوافع العميقة للإيمان بنظرية المؤامرة بما يجعلها متلبسة بالشك والريبة، وبكل تأكيد ليس المقصود هنا هو إضفاء مثل هذه الصفات أي الشك والريبة على السياق المجتمعي ككل لأنه علينا أن نتذكر أن أصحاب نظرية المؤامرة هم أناس عاديون وسوف يظهرون أوجه قصور عادية أو عقلانية بما يمكن أن نطلق عليه سمة” التحيز المؤكد” بمعنى أننا كلنا منحازون بشكل أو بآخر للبحث على أن أفكارنا هي الأفكار الحقة والصحيحة دون أن يتبادر إلى ذهننا إمكانية وجود أدلة ممكنة تؤكد امتلاكنا لأفكار خاطئة كما تثبت ذلك السياقات المتعددة و المختلفة لحالات الجدل العديدة على مستوى الأفكار والسلوكيات والتصرف وتبني مقولات ذات صور نمطية سائدة بحكم العادة أو العرف أو العداء الظاهر أو المستتر، ومن هنا يظهر خطأ مثل هذا التحيز المؤكد الذي يعتقد به المؤمنون بنظرية المؤامرة كما هو حال العديد من المؤرخين والإعلاميين والمحللين “الاستراتيجيين” وغيرهم، وإذا كان منطق الأشياء يقول أن الإيمان بنظرية المؤامرة سيتضاءل عندما يقل أو ينخفض منسوب المؤامرات، فإن نظرية المؤامرة أو الإيمان بها لن تختفي/ يختفي بكل تأكيد. لذلك نتساءل، لمَ نحن بحاجة لنظريات المؤامرة؟ وهل الإيمان بنظرية المؤامرة ظاهرة مرضية؟
ربما ..وربما لا. تبعاً لما يتم تفسيره عن انخراطنا في المؤامرة، فهي قد تكون مرضية عندما تتحول إلى هاجس يسيطر على استراتيجياتنا اليومية. إن هشاشة الإيمان بنظرية المؤامرة يكمن في عدم قدرة المؤمنين بها على التأكيد والبرهان عليها، فضلاً عن إمكانية الدحض الجدلي لمقولاتهم بما يؤكد لاعقلانية نظرية المؤامرة في سياقها العام من أجل الوصول إلى نتائج مسبقة، فما يعتقد به الآخر أنه موجه ضده قد نؤمن به نحن على أنه مؤامرة ضدنا ويكون الفارق في المفردات وفي الاستجابة للمؤامرة في سياقها العام من أجل الوصول إلى نتائج مختلفة وإن انطلقنا من أسباب مختلفة، وهنا تكمن لاعقلانية المؤامرة، فنحن نتفاعل على نحو عقلاني مع حقائق غير عقلانية في خضم انهماكنا في البحث عن الأجوبة، حيث نسعى للإيمان بنظرية المؤامرة من أجل بعث تطمينات لنا لتجنب الخوف من العنف العشوائي والموت الذي لا يمكن التنبؤ بهما وتهيئة أنفسنا للشعور بالأمن .
من نافل القول التأكيد على “ندرة” المؤامرات التي “تحرك” التاريخ. حتى لو افترضنا جدلاً أن المؤامرات موجودة بالفعل والواقع، رغم أنها في بعض الأحيان قد تحدث فرقاً ما، غير أن هذا المنطق المحرك للتاريخ عبر المؤامرة سيصل بصاحبه الى مرحلة عدم السيطرة عليه وسوف يكون عبداً له ولن يقتنع بسهولة بأن الأحداث الكبرى إنما تحدث بفضل مجموعة واسعة من العوامل والقوى المختلفة ذات المتطلبات والاحتياجات المتنوعة، و يفترض هذا الإيمان أن الوضع سيكون أفضل لو قُضي على المؤامرة. وسوف يبررون منطقهم بالقول أن القادة السياسيين والاقتصاديين تسببوا، على مر التاريخ، بخلق لحظات وحالات، لا تحصى، من الموت والبؤس، وهم في بعض الأحيان قد يكونوا شركاء في المؤامرات، في ذات الوقت الذي ينشرون فيه الدعايات حول نظريات المؤامرة وأهدافها، إن فكرة القول بأن التاريخ محكوم، بحد ذاته، من قبل مؤامرة ثابتة وطويلة هي فكرة بائسة وساذجة وغير عقلانية ولا تاريخية، الأمر الذي يظن فيه دعاة المؤامرة أن التاريخ مكشوف لهم، وما عليهم سوى تحديد أوليات المؤامرة لفضحها، وهذا بالطبع أمر لا يخلو من أصول إيديولوجية، تتجاهل عمق مركزية التاريخ وأحداثه بوصفه مجموعة من الفرضيات الخاضعة للتأويل في كل مكان وزمان وليس شكلاً واحداً لسردية ثابتة يكون أحد أطرافها ضحية والطرف الآخر عدو تتم شيطنته، ويمكن، بالتالي، بسهولة استبعاد وإقصاء أي جماعة أو أعضاء في جماعة عن طريق هذه العلاقة الثنائية (الضحية والعدو) واكتساب شرعية ما في “النضال” ضد خيوط المؤامرة وحبكتها وما ينتج عنها من فوبيا متنوعة. وينطوي العقل التآمري على اعتقاد لاعقلاني يزعم أن بمقدور حفنة من الناس أن يحدثوا تغييراً جوهريا في العالم أو يؤثروا على مسار أحداث معينة في التاريخ، وحيث أننا، كما مر سابقاً، نميل -في حالات كثيرة- في بحثنا عن الأجوبة للتفاعل على نحو عقلاني إزاء حقائق “لاعقلانية”، فسوف تقدم نظريات المؤامرة -لنا- أجوبة جاهزة لأسئلة لم يتم الرد عليها وسوف تساعد على حل التناقضات بين “الحقائق” المعروفة ومنظومة إيمان الفرد.
لا يؤمن الأفراد بما هو غير ممكن الإيمان به، هذه بديهة. والمعنى الضمني لذلك هو تحشيد الجموع المرتبطين بمشاعر الاغتراب والسخط من النظام. وتعزيز شعور عدم الرضا يدفع الناس إلى الحاجة لعدو ملموس يفرغون مشاعرهم الغاضبة فيه. وقد تساعد نظريات المؤامرة في هذه العملية من خلال توفير عدو ملموس مسؤول لإلقاء اللوم على المشاكل التي تبدو خلاف ذلك مجردة للغاية وغير شخصية. وبطبيعة الحال سوف ينفي المتآمر اشتراكه، علناً، في المؤامرة، لكنه سيلمح ملغزاً إلى إفهام الآخر بأنه طرف فيها، وهو يضع خصمه في زاوية صعبة من أجل تحديد اصطفافه على اعتبار أن الأعداء الظاهريين هم على الدوام شركاء في المؤامرة، وسوف يسعى العدو إلى تقوية وتعزيز نظرية المؤامرة عند الآخر لأنها تضعفه وتفقده القدرة على التفكير غير التآمري في علاقته المتداخلة مع عدوه، وسوف يصل في نهاية المطاف إلى تساؤلات محيرة فعلاً -على الأقل بالنسبة له- فإذا كان العدو موجود في كل مكان، فكيف يمكن هزيمته؟ ولا يغيب عن بالنا أن الانهزامية والشعور باليأس هما استجابات طبيعية ،كما هو حال الغضب، فالقلق بخصوص مؤامرة خارجية يجعل خارطة محوري الأعداء والأصدقاء ملتبسة ومبهمة ومتحركة على كلا المحورين، وفي كثير من الحالات تستفيد القوى الخارجية من نظريات المؤامرة، فإصرار أصحاب المؤامرة على تحويل الفشل الى انتصارات يمنح العدو الفرصة للتقدم، وحتى عندما يخطأ هؤلاء، فإنهم لا يعترفون بخطئهم نظراً لأن العدو، بزعمهم، دائماً ما يكسب، وأن فشل العدو في لحظة ما قد يكون جزء من مؤامرة مكشوفة تخفي مقاصد غير معلنة. وهنا تظهر نظرية المؤامرة بوصفها تفكيك ساذج للتاريخ، فتقوم ببناء سرديتها الخاصة استناداً على انتقاص أو إهمال الآخر ومهاجمة الدوافع الرافضة لهذه السردية، وسوف يتم رفض الحجج الأخرى على اعتبار أنها تأتي من شخصية أو شخصيات مشكوك في صحتها العقلية، وقوامها الأخلاقي و الوطني والديني.. إلخ، وليس لأن هذه الحجج قد لا تكون صحيحة، ورمي المؤامرة في وجهك يعني في واقع الحال أنهم يقولون لك ” بأنك شخص غير محبوب، ولا أحد يرغب في الاستماع لشرحك” وليس صعباً تتبع ذلك في حياتنا اليومية، لقد قيل الكثير عن الشيوعية والشيوعيين والإسلاميين و الليبراليين وغيرهم من أصحاب التوجهات السياسة والإيديولوجية، واستخدمت، عبر التاريخ، صيغ انتقاص تحقيريه عديدة لعل أكثرها تداولا هو “البدعة” و ” الشعوذة” ولعل أكثرها إيذاء هو “الخيانة” حيث قامت هذه التسميات بمجرد إطلاقها “بتعيين” الهدف أو الآخر المعادي والمنافي لي والذي هو جزء من مؤامرة ضدي. وهي في أسلوبها هذا تكون أكثر سوءً و إيذاءً من أي “تهمة ” أخرى، ولازالت عبارات مثل الشيوعية تثير لدى البعض مشاعر معينة.. ليس أقلها التفكير بنظرية المؤامرة، وهو ما يجعل الكثير منا يبتعد -قصداً أو دون قصد- عن التعاطف مع أي أفكار جديدة تدخل مجتمعاتنا وتحمل في جوهرها تحدياً وإن غير مباشر لمعتقداتنا، فنبتعد عن هذه الأفكار خوفاً من تشويه سمعتنا أو أن انتقاص من مكانتنا في المجتمع. وتكمن الصعوبة في مواجهة هذه الحالة بكون الدليل المطروح ليس دليلاً على حادث ما أو قضية، بل هو نمط عام، حيث يمكن بسهولة القول بأنه طالما كانت المؤامرة هي المسؤولة عن كل مشاكلنا الأخرى فمن المنطقي ن تكون مسؤولة أيضاً عن أي مشكلة جديدة قادرة على إشغال الرأي العام لفترة تطول أو تقصر في تبنيها، وفي حالات معينة قد يصبح خبير المؤامرة مرتداً يتخلى عن اعتقاده السابق حتى لو كان هناك رجحان للأدلة، وهذا ما تؤكده الحالات العديدة من الانشقاقات السياسية في الأحزاب وتبادل التهم بين الرفاق القدامى وتبديل المواقف السياسية، لاسيما في الفترات القريبة من الانتخابات، ففي لحظة ما يمكن ملاحظة تقارب النشاط السياسي لكل من اليسار واليمين لمناهضة الحرب مثلاً أو الحريات المدنية أو تشريع ما، حيث تكون الدوافع هي الاعتقاد المشترك بنظريات المؤامرة، فضلاً عن الاصطفاف الموضوعي الذي قد نلاحظه بين لاعبين مختلفين في المنهج والعقيدة في معاداة وجهات نظر حكومية لا سيما في حالات الاستقطاب الشديد والتصدع السياسي في المجتمع، وهو ما يدفع إلى القول عن الكيفية التي يتم فيها تجميع نظريات الشك والمؤامرة، وهي رغم اقتصارها في البداية على جمهور هامشي إلا أنها في لحظة ما تشكل ملاذاً قد يكون شاملاً أو طاغياً، وهو ما تؤديه وسائل الإعلام، فتظهر حركات يمينية فاشية أو حركات يسارية فوضوية لها آثار مدمرة على الحياة السياسية للمجتمع وتساهم في تقويض النسيج الاجتماعي وتضر بحالة السلم الأهلي، فلا يمكن إغفال دور الإعلام بما ينشره من اخبار ( لا يمكن هنا إغفال دور الإعلام الموجّه بما ينشره من أخبار ملفقة في بعض الأحيان خدمة لأجندات معينة في الترويج للمؤامرة.)
وهنالك سؤال آخر يطفو على السطح،
لمَ يظهر لنا منطق المؤامرة متسرعاً وبعيداً عن الحقائق والفكر التأملي؟ مسبباً بدفع البعض منا أن يرى فيها مجرد ظاهرة مرضية وفقا لما يتم تفسيره من خلال انخراطنا في المؤامرة .
كيف يتحول الإيمان بنظرية المؤامرة إلى هاجس يسيطر على استراتيجياتنا اليومية ويعيق -بالتالي- منظومة تفكيرنا السليم؟.
ليس للمؤامرة هدف سوى الإنسان في مقاربتها لاستغلال الظروف المتاحة كافة لتعزيز مقولاتها، ومهما بلغت المؤامرة من اتساع وتخطيط فهي لا تعدو أن تكون سوى قيام طرف معلوم (أو غير معلوم) بعمل منظم سواء بوعي أم بدون وعي، سراً أو علناً، بالتخطيط للوصول لهدف ما مع طرف آخر و يتمثل الهدف غالبا في تحقيق مصلحة ما أو السيطرة على تلك الجهة، ومن ثم تنفيذ خطوات تحقيق الهدف من خلال عناصر معروفة أو غير معروفة. وتنتج المؤامرة خطابها الخاص وتكاثره في بيئة تؤمن له تحصينا ضد الحجج العقلانية فهي تتميز بنمط تفكير يميل إلى خلق عوالمه الخاصة به ويتلطى وراء خيالات أسطورية ويسعى للانتصار بأي ثمن ولذلك يقوم أنصارها بسلسلة من الأفعال التي يعتقدون أنها سوف تسهم في إنشاء عوالمهم النقية والخالية من الأعداء والشرور. وحتى حين تفشل هذه الاستراتيجية فلا يتم تفسيرها على أنها تفتقر للكفاءة، بل لأن “العدو قوي وهو يكسب دائماً” وهذا الأمر بحد ذاته مستند على مغالطة تكرس صحة الفكر التآمري الذي يرى الشر متجسداً في قصص التاريخ الغادرة ونتائجه الشنيعة وهي لا تعبر بالضرورة عن تزييف متعمد للتاريخ، بل يمكن تتبع مساراتها عبر اعتقاد مخلص-لكنه مضلل- لا يعير اهتماماً لأحد أهم قوانين الجدل أي الصدفة والضرورة، ولا يقتصر الأمر على “مؤرخين رجعيين” فحسب، فالعديد من المؤرخين الذي يتبنون نزعة نقدية “تقدمية” يميلون بصورة متدرجة إلى افتراض أن الحقيقة كانت “مخبأة” دائما ومتجاهلة، يدخل في دهاليزها الصفقات السرية والرشاوي وغيرها .وهو أمر يثير الحيرة فعلاً حيث انصب تركيز معظم الأبحاث التي درست نظرية المؤامرة على الاستبداد اليميني دون تقصي مواقف القوى اليسارية منها، في حين تؤكد المعطيات المختلفة أن التفكير التآمري هو سمة من سمات المفكرين الانعزاليين لكل من اليمين و اليسار على حد سواء، وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أن الكثير من الجهد بذل للتركيز على التيارات اليمينة ذات النزعة الاستبدادية، والأكثر إثارة للدهشة هو أن التفكير التآمري لم يكن محور تركيز الجهود الرامية إلى قياس “الاستبداد” اليساري أو في البحوث المتعلقة بالتحيز الأيديولوجي للأحزاب اليسارية السلطوية الحاكمة .
لمَ تحتاج نظرية المؤامرة إلى عدد هائل من الأدلة للبرهان على صحتها ؟
هل هي مجرد سلوك سيكولوجي اجتماعي رابطته الأساسية الخوف والذعر وانعدام الثقة والأمن يتم التعبير عنه بمزيد من تفريغ مشاعر السخط والاغتراب عن النظام القائم ؟.
ما الشيء “الطبيعي” الذي يخلق فينا حوافز تدفعنا إلى خلق عوالم بديلة مأهولة بأشباح متآمرة؟ أهي حالة من البارانويا؟
أم نحن مصابون بالتوهم و الارتياب؟
أم أن كل ما في الأمر أننا نشعر بملل من سطحية ما تجعلنا نميل لخلق تلك العوالم؟.
ليست أوهام المؤامرة مجرد تعبير عن خوف ظاهره غير متجانس، فهناك ثمة العديد من المظاهر التي يمكن ملاحظتها عند من يؤمنون بنظرية المؤامرة لعل أبرزها الهوس والذعر، وهي مرآة تعكس الهاجس الذي يحكم البعض للسيطرة على الداخل والتصدي للخارج و”دفع العدو بعيداً”، ولا يسع نظرية المؤامرة إلا التوسع كمحاولة لامتصاص وتحييد المعلومات المتضاربة، وهنا يتوسل المؤمنون بها التضامن مع “أصدقاء” أمميون للتعاطف مع نظريتهم وتتشكل حلقات عمل غريبة عجيبة إذ ترى من هو في أقصى اليمين مع أقصى اليسار يتحدون في تعريف المؤامرة ومقولاتها، حتى و إن بدوا في الظاهر على أنهم أعداء أو خصوم ( انظر لحال الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل على سبيل المثال من حيث تآكل الفوارق الإيديولوجية بين اليمين واليسار هناك)، فما يجمعهم هو اعتقادهم بأن السلطة نفسها تحيك بعض المؤامرات أو تروج لها من أجل تعزيز أجندتها الخاصة. بدورها تقوم السلطات بتحشيد الدعم الجماهيري بوصفه عملية فعالة جداً ضد “عدو” يطرح ككبش فداء باعتباره جزء من مؤامرة غادرة واسعة ضد الصالح العام؛ حتى أن البعض قد يقوم بـ”قفزات غير عقلانية” في تحليل أدلة واقعية من أجل “إثبات” الصلات والروابط، وتحويل الصراعات الاجتماعية عن مسارها بربطها بالعدو وشيطنته، وبناء وجهة نظر شاملة ميتافيزيقية مغلقة وغير قابلة للانتقاد ( انظر الخطاب الأسدي والإيراني والحزب اللاهي مثلاً). ويلعب التعميم هنا دوراً جوهرياً في قلب الحقائق وتغييب أي تعريف موضوعي للحدث، فكلما زادت العمومية كلما صار من الصعب تحديد المقصود من الحدث وسوف يدور النقاش، حينها، حول قضايا مجتمعية أوسع لا تضيف معلومات جديدة عن الحدث المقصود (انظر خطاب السلطة الفلسطينية في وجه معارضيها مثلاً). بطبيعة الحل سوف يحصل تعاطف ما مع نظرية المؤامرة وفقا للأهواء ودرجة الوعي والمصلحة العامة للأفراد أو للسلطة وسيتم طرح العديد من الأدلة الواقعية على أوسع نطاق وستكون مرشحة للاختيار والمفاضلة أو حتى ربما نفيها بأدلة جديدة ومستجدة، وسوف يقوم المؤمنون بنظرية المؤامرة بتحذير المواطنين من أن مؤامرة تخريبية غادرة لمهاجمة الصالح العام (انظر الخطاب الجزائري أو المغربي الرسمي والشعبي إزاء الخلاف بين البلدين مثلاً). بل سيعلن البعض بكل ثقة بأن الخطط شارفت على الانتهاء، بحيث لا بد من عمل سريع وحاسم لإحباط المؤامرة الشريرة (خطاب السيسي في مصر أو محمد بن سلمان في السعودية). وبهذا مهما تبدل الزمن وتغير ومهما اختلفت الأسماء والمواقع و الضحايا تبقى أساسيات هذه النظرة كما هي نفسها لأولئك الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة يمكن وصف الإيمان بنظرية المؤامرة باعتباره سمة من سمات الحركات الجماهيرية، وبين القطاعات في الصراع على السلطة داخل النخبة، أو كتسويغ لأجهزة الدولة للانخراط في الأعمال القمعية. وهذا ما يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج يمكن أن تدمر المجتمع، وتعطل الخطاب السياسي العقلاني وتخلق أهداف اعتراضية عبثية غير ذات قيمة سوى المجد الفردي وهو ما يتجلى لدى التيارات اليمينية والشعبوية بوصفها تطرفا لاعقلانية سواء بسواء مع التيارات اليسارية الراديكالية الفوضوية والمهمشة التي تتحين الفرص لتحدي السلطة وهيبتها مما يستدعي منطقيا القمع السلطوي، وبمثل هذه الاستجابة قد تقاد البلد إلى كوارث لم تخطر على بال من بدأها .