عصمت الحلاني
ترجمة محمود الصباغ
تغفل محاولات تصوير سعيد كمثال مشترك للمثقف النيويوركي البارز الفكرة القالة أن بيئته كانت، على وجه التحديد، عبارة واحدة من بيئات النضال العالمي، وتحديداً النضال الفلسطيني المناهض للاستعمار .
…..
توفي الشاعر الفلسطيني راشد حسين، في شقته في نيويورك، في الثاني من شباط1972. وكان قد وُلد قبل 41 عاماً في بلدة مُصمُص التي لا تبعد كثيراً عن الناصرة. يتذكر إدوارد سعيد كيف أصبحت السياسة بالنسبة لراشد حسين “فاقدة لسماتها الشخصية وروحها الديماغوجية الفظة”. وكان راشد قد طلب، كما كتب إدوارد صديقه الحميم، “أن نتذكر، ببساطة، البحث عن إجابات حقيقية، وألا نستسلم قط، وألا تغرينا الترتيبات البسيطة”. وكتب عنه إقبال أحمد، المحلل السياسي الباكستاني، وأحد أصدقائه: “عاش [راشد حسين] في مدينة نيويورك كما لو كانت مدينة فلسطينية”. كان حسين ينتقد بشدة مجتمعه وحكامه – كان يضع على حائطه خارطة للشرق الأوسط كُتبَ عليها، باللغة العرببة، “ممنوع التفكير هنا”، هذا فضلاً عن كونه من أنصار العالم الثالث، وكان قد أنشد في إحدى قصائده المبكرة، بعنوان “من آسيا”:
من آسيا أنا، من تراب النار من لهب الحنانِ
بلد الّلظى ومناجمِ الثوارِ، لا بلد الغواني
ولد راشد حسين في العام 1936، وكان من عمر إدوارد سعيد تقريباً. وربما تمكن من العيش لفترة أطول إلى جانبه في مانهاتن، ربما لعدة عقود أخرى، لو لم تثقل الاضطرابات في حياته كاهل روحه فيتعثر بها ليموت وحيداً في شقته، حين التهمت سيجارة مشتعلة أثاث شقته أثناء نومه. وبرغم ولادتهما في بيئات مختلفة، إلا أنهما انجذبا إلى بعضهما البعض عبر اتصال وثيق فرضته مقتضيات النصال ضد الحالة الاستعمارية في فلسطين. ينتمي راشد حسين، المسلم، إلى أصول فلّاحيّة، ولم يلتحق للدراسة في الجامعة، لكنه كان مترجماً بارعاً في اللغة العبرية وكاتباً شديد العمق والإدراك، وكان راشد قد التقى، لأول مرة في حياته، مع نظرائه العرب الآخرين، في أوروبا، بصفته مواطن فلسطيني في إسرائيل، مثله مثل الشاعرين المعروفين محمود درويش وسميح القاسم، كما وثّقت ذلك المؤرخة مها نصّارـ بصورة حيّة، في كتابها “أشقاء متباعدون: الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل والعالم العربي Brothers Apart: Palestinian Citizens of Israel and the Arab World ” (2017). وصل راشد إلى نيويورك في العام 1966. واشتغل هناك كاتباً، ومرت عليه فترة غرق فيها في الحزن، قبل أن ينطلق، في العام 1972، ليجد عملاً بين أقرانه الفلسطينيين في العالم العربي. أولاً في بيروت، ثم في القاهرة، وأخيراً في دمشق. لكن ظروفاً سياسيةً ستعيده إلى نيويورك، ليموت هناك، وكان حينها متحدثًا باسم منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة.
في هذه الأثناء، كان إدوارد سعيد قد وصل إلى نيويورك للعمل في جامعة كولومبيا كأستاذ مساعد في اللغة الإنكليزية، وهو العربي البروتستانتي المنحدر من عائلة برجوازية حضرية والمنغمس بعمق في المؤسسات المدرسية في العالم الناطق بالإنجليزية، بعد أن أمضى عقداً من الدراسة في الولايات المتحدة، أولاً في ماساتشوستس، ثم في برنستون، وأخيراً في هارفارد، حيث حصل على درجة الدكتوراه بأطروحته عن حياة وأعمال جوزيف كونراد.
لا شك في أن وقع وتأثير سعيد كان عميقاً، لكنه لم يكن وحده. فأي سياق يؤرخ للمسار الثقافي للنصف الثاني من القرن العشرين يجب أن يضع في اعتباره تعدد أجيال المهاجرين والمغتربين والمهاجرين، من إفريقيا وآسيا، الذين حملوا ركائز النضال ضد الاستعمار عبر العالم. وقد تقاطعت حياة سعيد بشكل وثيق مع العديد من الأصدقاء والرفاق، رفاق الدرب في القضية الفلسطينية والأمل الواعد بتحرير العالم الثالث. وفي الواقع، أثارت مشاركته في الحركة السياسية العالمية على وجه التحديد -رفضه المنتظم والمعلن الالتزام بإملاءات أسلوب الحياة الإمبريالي للولايات المتحدة- حفيظة الكثيرين عليه خلال حياته. قبل إعادة إنتاج هذا الغيظ والتبرم، وإعادة اختراعه مؤخراً، وكانت المجلات الليبرالية مثل نيو ريبوبليك New Republic و ديسّانت Dissent تفرد بانتظام مساحة لكتّاب الأعمدة لمهاجمة فكره وشخصيته. لكن بعض الأشخاص المثيرين للضجر من أمثال “إيرفينغ هاو” و “ليون ويسيلتيير” لم يتفقا مع سعيد قط، الذي جسد “الصلاة الأخيرة” لفرانز فانون التي وردت في كتابه “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء Black Skins, White Masks ” (1952) حين يقول: “آه يا جسدي، اجعل مني دائمًا رجلاً يسأل!”.
ومع ذلك، انتهز العديد ممن راجعوا كتاب تيموثي برينان الجديد “مطارح العقل Places of Mind: A Life of Edward Said “، الفرصة لترويض الكاتب الفلسطيني الراحل. ويوصف سعيد بأنه الممثل الحقيقي لتلك الفئة من مثقفي نيويورك الذين عادةً ما كانوا يسخرون منه ويهينونه بانتظام. ويبذل آدم شاتز جهوداً مضنيةً في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس London Review of Books ” فيقول: “إن سعيداً لا يشبه غرامشي أو فانون، بقدر ما يشبه سوزان سونتاغ”، سونتاغ هذه نفسها التي رفضت نداءات سعيد الملحّة (وعديدين غيره) بعدم قبولها جائزة القدس الإسرائيلية في العام 2001. وبدلاً من التوافق الصادق مع أسلوب التزام سعيد بالقضية الفلسطينية وانتماءاته الواعية بمناهضة الإمبريالية في جميع أنحاء العالم، والتي ميزته تماماً عن مثل هذه الشخصيات الأمريكية، فقد أظهرت المراجعات إصراراً متجدداً على متانة واستمرارية الاستشراق. حتى شاتز نفسه، الذي كان على دراية برؤية سعيد وسياساته كواحد من محرريه في صحيفة ذا نيشين Nation، يتراجع قليلاً عن مثل هذه الاستعارات عندما يصف سعيد بشخص يرتدي “بدلات من ماركة بوربيري، وليس كوفية”. وينهي توماس ميني مراجعته في مجلة نيوسيتساتمان New Statesman لحماسة ولهفة، فيذكر أن سعيداً “إلى جانب رفوفه [كتبه] الغنية جيداً والمجموعة الهائلة من تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية، احتفظ بروفيسور العلوم الإنسانية في مؤسسة أولد دومينيون بخريطة للمواقع الحالية للقوات الإسرائيلية”. كانت هذه الأنواع من الجهود تهدف، على وجه التحديد، إلى وضع الثقافة أو محاولات التصنيف مقابل رموز وممارسات العمل السياسي التي عارضها سعيد دائماً. وينبغي، إن أردنا وصف حياة سعيد، الاعتراف بانخراطه في مجتمع من المثقفين والنشطاء، بل وحتى الشهداء، الذين وجدوا التزامهم تجاه فلسطين واتجاه التزامهم بالأفكار ليست مسألة جدية وحقيقية دونما انتقاض من قيمتها فحسب، بل مسألة ضرورية أيضاً.
سوف يكون برينان، وفي جميع فصول الكتاب، في أفضل حالاته عندما يتعامل مباشرةً مع مواضيع وحجج وظروف الأعمال الكبيرة لإدوارد سعيد. فهو يمتلك حساسية تجاه الكيفية التي أثرت، وشكلت بعمق الأحكام السياسية لطريقة عمل سعيد حتى قبل أن تصبح فلسطين والعالم الثالث بمثابة الأسباب التي كرّس لها معظم صوته. وبهذه الطريقة، يُعد كتاب مطارح العقل تاريخاً فكرياً ثرياً، يلخص محتوى أعمال سعيد الرئيسية، ويتتبع ظروف نشأتها، ويوضح مدى تأثيرها. كما يصور كيف حفّزت، بالتفصيل، محادثات ومواقع محددة كتاباته، ويناقش طبيعة أعماله الشعرية وكذلك رواياته ومقالاته غير المنشورة. يعيد برينان، في الحقيقة، حياةً جديدةً في حيّز دراسات سعيد المزدحم.
لاقى كتاب سعيد “بدايات: القصد والمنهج Beginnings: Intention and Method “، الصادر في العام 1975، تقديراً واسعاً في الأوساط الأدبية النقدية. وقد وصفه أحد طلابه الأوائل، من خلال قراءته المتأنية للأدب الحداثي العالي وشرح فيكو وفوكو، بأنه “نوع من كتاب المعلّم”. وحتى أولئك، على حد قول برينان “الذين لم يحضروا فصلاً دراسياً معه من قبل يمكنهم أن يشهدوا في صفحاته على أسلوبه في التنقل في التبادلات غير المسجلة في غرفة المحاضرات”. كما أن مجموعة مقالاته “العالم والنص والنقد The World, the Text, and the Critic ” الصادرة في العام 1983، والتي يوليه برينان انتباهاً خاصاً، “كان كتاباً للمعلم بهذا المعنى بالضبط، لكنه كان أكثر رصانةً وغضباً بدرجة كبيرة إلى حد ما”. يقدم سعيد في مقالاته هذه، لا سيما مقالاته الثلاث المركزية حول الممارسات المعاصرة للنقد الأدبي والثقافي، نقداً واضحاً لأنواع نظرية الأدب، كتلك التي تبناها جاك دريدا وجي. هيليس ميللر، التي تجاوزت أقسام العلوم الإنسانية بحلول الثمانينيات. وبالنسبة لسعيد، المتورط في ثقافة الجامعة والنضال من أجل الحرية الفلسطينية، كان من الواضح ابتعاد نظرية “اليسار” كثيراً “عن لعب دور سياسي حقيقي”. وكان قد كتب: “إن زائراً من عالم آخر، سيكون محتاراً بالتأكيد إذا ما سمع ما يسمى بالناقد القديم يصف النقاد الجدد بالخطورة. ماذا؟، سوف يسأل هذا الزائر، هل هم خطر حقاً؟ هل هم خطر على الدولة؟ أم على العقل؟ أم على السلطة؟”
ولكن، كيف ينتهي المطاف بفلسطيني في نيويورك يعمل في تدريس الأدب في المقام الأول؟ تواصل النكبة -التي بدأت بتأسيس إسرائيل في العام 1948- تشتيت الفلسطينيين. لكن سكان شرق المتوسط كانوا يهاجرون بانتظام إلى الأمريكتين منذ القرن التاسع عشر، عندما أدى رأس المال بقوة إلى الإمبراطورية العثمانية إلى إحداث سلسلة من التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة هناك. وشهد القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فترة من النشاط الفكري المكثف، غالباً ما يشار إليها بـ النهضة العربية. التي تميزت بفورة في الصحافة الدورية، والترجمة السريعة للنصوص الأوروبية وتفسيرها، وظهور أنواع جديدة من الكتابة، وطرق جديدة للتجمعات السياسية، ورؤى جديدة للنظام الاجتماعي. لقد ورثت النهضة العالم العربي كما نراه اليوم بأسسه المؤسساتية والفكرية الأساسيّة. وظل العرب المهاجرون مرتبطين بشكل وثيق الصلة غير قابلة للفصل بالجهود النهضوية التي يبذلها أبناء وطنهم في المشرق، فقاموا بإصدار مجلاتهم العربية الخاصة، مثل الفنون في نيويورك، التي كان يساهم فيها كتّاباً مثل [جبران] خليل جبران وأمين الريحاني.
كان بعض المهاجرين المتجهين إلى الولايات المتحدة، في فترة الحرب العالمية الأولى، يتجهون إلى هناك لتفادي التجنيد العسكري العثماني. ومن بين هؤلاء، كان والد إدوارد، وديع سعيد، الذي سينتهي به المطاف مقاتلاً، في الجيش الأمريكي، في معاركه ضد الألمان في فرنسا. وقد أكسبته خدمته في زمن الحرب الجنسية الأمريكية له ولعائلته وعائلته، وغرست في وديع حب الأمريكيين والانتماء القوي لبلده الجديد. وتروي جين سعيد مقدسي، ابنة وديع سعيد في مذكراتها “شظايا بيروت: مذكرات حرب Beirut Fragments: A War Memoir ” (1990) كيف “كنا نذهب في نزهات إلى السفارة الأمريكية، في الرابع من تموز، فنتناول النقانق والمكسرات ونشاهد حفلات الرقص في باحة السفارة”.
ولد إدوارد سعيد في القدس في العام 1935، ونشأ بين مصر البريطانية وفلسطين البريطانية. يرسم برينان، بالاعتماد على أوراق سعيد الخاصة وأكثر من مائة مقابلة مع أصدقائه وعائلته، صورة مفصلة للحياة الأدبية والموسيقية الثرية التي عاشها سعيد الشاب في القاهرة، وهو العالمٍ الذي وصفه سعيد في مذكراته (1999) “خارج المكان Out of Place “. ولو كان سعيداً قد ولد في جيل سابق، لربما كان عضواً مهماً من أعضاء الجيل الأخير للنهضة، المنهمك في أتون سطوة وحداثة العربية. ولربما كان سيشعر بالانتماء إلى تلك المجموعة من المثقفين – مثل جبرا إبراهيم جبرا، وجورج أنطونيوس، وألبرت حوراني، وموسى العلمي، ووليد الخالدي (الذي روى لنا بيئتهم تلك)- التي كانت تتردد على حانة فندق الملك داوود في القدس، ليقضوا أمسياتهم في قراءة تي. إس. إليوت على ضوء الشموع، وبقضون ساعات عملهم في كتابة التاريخ أو الروايات أو الدفوعات البليغة، وإن كانت محكومة بالفشل المأساوي، يناشدون بها لندن وباريس وواشنطن من أجل حقهم في تقرير المصير. وكان [ألبرت] حوراني كتب في العام 1957: “قال بودلير، للقلب عهد واحد فقط. فإذا كان الأمر كذلك، فما حدث في فلسطين, سيبقى محفوراً في قلبي إلى الأبد”. يُذكر أن حوراني اعتزل العمل السياسي بعد العام 1948، وأصبح عميداً لتاريخ الشرق الأوسط في العالم الناطق بالإنجليزية من خلال منصبه في كلية سانت أنتوني، أكسفورد. وسوف يواصل آخرون، مثل سيسيل حوراني، شقيق ألبرت، تطوير المؤسسات السياسية والأكاديمية للدول القومية الجديدة في العالم العربي. ويشرح برينان تفاصيل تعامل سعيد مع بعض هؤلاء الممثلين الشباب من عصر النهضة، لاسيما أولئك المرتبطين بالجامعة الأمريكية في بيروت، التي أسسها المبشرون الأمريكيون في العام 1866 باسم الكلية السورية البروتستانتية، والتي كانت بمثابة موقع رئيسي للمفكرين العرب، وكان من بينهم شارل مالك، صاحب التأثير الفكري المبكر، وصادف أنه زوج ابنة عم والدة سعيد. وكان فيلسوفا بإمكانياته الخاصة، وكان قد تلقى دروساً، مع مارتن هيدغر، في فرايبورغ، وأنهى درجة الدكتوراه في هارفارد في العام 1937. لكنه كان أيضاً دبلوماسياً لبنانياً مهماً. ويروي برينان، أن شارل مالك كان شخصاً مليئاً بالحيوية والإنجاز وكان وجوده مهماً للغاية بالنسبة إلى الشاب الطموح إدوارد. لكنه تحول إلى محارب عدواني قاسٍ، وشوفيني متعصب لمسيحيته وشديد العداء للشيوعية، مما دفع سعيد إلى التنصل من معلمه الأول، ولطالما كان يراه “الدرس الفكري السلبي الأكبر في حياتي”. كما تواجد في تلك الفترة، في الجامعة الأمريكية في بيروت، قسطنطين زريق، المولود في سوريا، وخريج قسم التاريخ من جامعة برنستون، الذي اشتهر بكتابه “معنى النكبة” الصادر في العام 1948، والذي سعى إلى توصيف وتفسير خسارة فلسطين من خلال النظر إليها عبر ماضيها العربي ومستقبلها، وكان زريق، أيضاً، داعماً رئيسياً لتطوير الأساليب الحديثة في التدريس والبحث من خلال مهامه الإدارية في الجامعة الأميركية في بيروت، كما وثّقت ذلك، في الآونة الأخيرة، المؤرخة هناء سليمان.
كان زريق صديقاً مقرباً لعائلة مريم زوجة إدوارد سعيد. وكان سعيد يتشاور بانتظام معه خلال زياراته المنتظمة لبيروت بعد زواجه، وخاصة خلال العام الدراسي 1972-1973 الذي قضاه هناك. ويعتقد برينان إن زريق أصبح صاحب “التأثير الرئيسي” على سعيد في تلك الفترة، لكن سرعان ما انجذب سعيد إلى جيل جديد من المثقفين العرب الذين تنصلوا إلى حد كبير من السياسات الإصلاحية والأسلوب الأرستقراطي لزريق وأمثاله. ولم يكن هؤلاء الكتاب العرب -في تصنيف جبرا إبراهيم جبرا، “المتمردون والملتزمون والآخرون”- متجانسين في مواقفهم وسياساتهم بأي حال. وقد عبروا عن تمردهم وثورتهم من خلال نصوصهم في العديد من المجلات التي انتشرت في تلك الفترة مثل الآداب، والطريق، وشعر، وحوار، ومواقف، ضد الأعراف الرسمية للأدب العربي، وخاصة في الشعر، وعلى نصوص العمل السياسي الليبرالي الذي غذته النهضة .. وسوف يبدأ سعيد في قراءة ومراسلة العديد من هؤلاء المفكرين، بمن فيهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش والفيلسوف السوري صادق [جلال] العظم.
وانهالت طاقات سعيد الفكرية والسياسيّة في نقد المعرفة الإمبريالية، في خضم انخراطه العميق في الثورات السياسية والأدبية في العالم العربي في سبعينيات القرن الماضي، وبلغت ذروة نشاطه بإصدار أشهر أعماله على الإطلاق، كتاب الاستشراق Orientalism في العام 1978، الذي يعدّ في المقاوم الأول من أعمال التاريخ الفكري، يصف فيه وينتقد ما يشير إليه بـ “نظام التخيلات الأيديولوجية” الذي كان حتى ذلك الوقت يُعرف بالاستشراق بلا منازع. ويجادل سعيد، بالاعتماد على الأعمال العلمية والأدبية الرئيسية للمجال التي تم إنتاجها من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن العشرين في الإمبراطوريات الفرنسية، وبريطانيا، والولايات المتحدة، بأن الاستشراق أصبح محركًا للفتوحات الاستعمارية ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية لتلك الإمبراطوريات. وقد أثار كتاب الاستشراق جدلاً محتدماً. وكان [صادق جلال] العظم من أشد منتقديه، حيث انخرطا معاً في سيل متبادل من الآراء الحادة. وكان [صادق جلال] العظم قد بعث مراجعة نقدية حادة -ومطوّلة بعض الشيء- للاستشراق، إلى مجلة الدراسات العربية الفصلية، التي كان يحررها سعيد نفسه [بالاشتراك مع فؤاد المغربي- المترجم]، فقام سعيد بالرد عليه قائلاً ” أعتقد أن الفرق الحقيقي بيني وبينك أنك دوغمائي وحَرفي لم يمضِ أبعد من ماركسية الأممية الثانية؛ وأنا متشكك، في كثير من الأحيان، وأناركي لا يؤمن على طريقتك، بالقوانين، أو الأنظمة، أو أيّاً كان ذلك الهراء الذي يعيق تفكيرك ويحد من أفق كتابتك. وماركس بالنسبة إليك يُشبه الخميني بالنسبة إلى أتباعه: وأنت في واقع الحال، خمينيّ يقف على جهة اليسار وهو أمر لم يستطع أبطالي، غرامشي ولوكاش” ممارسته قط وأن يكونا عليه. فما كان من العظم إلّا أن قام بالرد** على سعيد مطالباً في ذات الوقت بنشر ردّه كما هو أو عدم شره إطلاقاً وهو ما تسبب بانزعاج سعيد، لكنه، رغم ذلك، وافق نشر المراجعة المكونة من أربعين صفحة بشرط أن يتم نشر إجابته عليها أيضاً.
نشر العظم مراجعته في نهاية الأمر، في عدد 1981 من مجلة خمسين Khamsin اللندنية التابعة لمجموعة من المثقفين الإسرائيليين الراديكاليين. واتهم العظم في مراجعته سعيداً بتشويه ماركس بشكل غير منصف، كما فعل نقاد ماركسيون آخرون بمن فيهم إعجاز أحمد ومهدي عامل، غير أن أهم ما في الأمر ادعاء العظم أن سعيد كان يمارس ما أسماه “الاستشراق معكوساً”، أي تجسيد قيمة جوهرية للغرب كما فعل المستشرقون -والذين كانوا هدفاُ لانتقادات سعيد- مع الشرق تماماً، عندما استهدفوا الشرق كقيمة أساسيّة في أعمالهم. في الواقع، كان العظم يخشى، في أعقاب الثورة الإيرانية في العام 1979، أن يكون نقد سعيد للاستشراق قد أفسح المجال للمزيد من الأفكار التي ترسخ معارضة الإسلام، بطبيعته، للأفكار والصور والمؤسسات الغربية. بيد أنه لم يكن إدوارد سعيد هو الهدف الوحيد لنقد العظم، آنذاك،، بل استهدف العديد من المثقفين العرب الآخرين، من بينهم الشاعر السوري أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) و[الكاتب اللبناني] الياس خوري، الذين اتهمهما بالانفتاح الشديد من خلال احتضانهم لـ “الإسلاميين” الثوريين، وأطلق عليهم تسمية أنصار الصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط.
انتهت العلاقة بين سعيد والعظم بعد نشر الأخير مراجعته، إذ لم يتحدثا مع بعضهما البعض بعد ذلك مرة أخرى، ويذكر برينان أن العظم عاد مرة ثانية، في نهاية العقد، إلى شن هجوم على الطبقة الفكرية والسياسية الفلسطينية برمتها، ومن بينهم إدوارد سعيد، وذلك في مقال بعنوان استفزازي بعنوان “الصهيونية الفلسطينية” نشره في مجلة الدراسات الإسلامية الألمانية Die Welt des Islams. ويقارن فيه سعيداً بالمنظرين الصهاينة الأوائل مثل أليعازر بن يهودا وليون بينسكر. كما يرى أن “فكرة فلسطيني” عند سعيد تحمل صلات هيغليّة واضحة عند مقارنتها بـ “الفكرة الصهيونية”. ولهذه الغاية، يخلُص العظم إلى أن ياسر عرفات كان أشبه بحاييم وايزمان، وجورج حبش صورة طبق الأصل لزئيف جابوتنسكي، ونايف حواتمة ليس سوى بن غوريون الفلسطيني. وكما يقر عدد قليل من نقاده، فإن استشراق سعيد لم يكن سوى أحدث مثال في إرث يدافع فيه المضطهَدون عن أنفسهم من الافتراءات التي صاحبت سلب الأراضي واستغلال العمالة والسيطرة السياسية.
وفي لحقيقة، نقد الاستشراق قديم قدم الاستشراق نفسه. فقد شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر، أعمالاً نقدية لبعض المفكرين العرب الذين سافروا ودرسوا في أوروبا، مثل أحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي، اللذان وجّها أسهم نقدهما صوب كتابات مستشرقين بارزين مثل سيلفستر دي ساسي، فقاما بتصحيحها، بل وسخرا منها. وقدّم جمال الدين الأفغاني، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهو مفكر مؤثر وجوّال من غرب آسيا، ردّاً قوياً على مقولة عالم اللغة الفرنسي إرنست رينان، التي تفترض أن الإسلام كان، من الناحية النموذجية، معادياً للتقدم العلمي. كان المثقفون عبر الإمبراطورية العثمانية -في الواقع، عبر إفريقيا وآسيا- يشجبون بانتظام المعرفة الإمبريالية وآثارها السياسية، خلال الثورات والانتفاضات المناهضة للاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين. كان يعدّ نقد المعرفة الاستعمارية بالنسبة للمستعمَر أمراً اساسياً. ويقول المنظّر الاجتماعي الهندي بارثا تشاترجي: “بالنسبة لي كمناهض للكولونيالية”، كان الاستشراق كتاباً يتحدث عن أشياء شعرت أنني أعرفها طوال الوقت، ولكنني لم أجد اللغة لصياغتها بوضوح.. بدا لي أنه يقول لأول مرة ما كانت أرغب دائماً في قوله”.
وكما اعترف سعيد نفسه، عن العقود التي سبقت العام 1978، حين هاجم المفكرون العرب الذين ينشرون أعمالهم في الغرب البنية الأساسية للاستشراق بضراوة ووضوح متزايدين، حيث أثبتت البنى والمواقف الإمبريالية صمودها وتماسكها حتى في أعقاب إنهاء الاستعمار السياسي. فقد نشر في العام 1964، على سبيل المثال، المؤرخ الفلسطيني، غزير الإنتاج، عبد اللطيف الطيباوي، الذي حصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في العام 1948 والذي سوف يعمل ويدرس في إنجلترا لبقية حياته، دراسة قصيرة بعنوان “المستشرقون الناطقون بالإنجليزية: نقد مقاربتهم للإسلام والنزعة القومية العربية English-speaking Orientalists: A Critique of Their Approach to Islam and Arab Nationalism “، وقبل ذلك بعام واحد كان الماركسي المصري أنور عبد الملك قد نشر مقالاً طويلاً بعنوان “الاستشراق في أزمة Orientalism in Crisis “، وتحدث عبد الملك، من منفاه الباريسي، منذ البداية، عن دور ومهمة “الاستشراق الجديد” بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة، وكذلك دور ومهام “المركزية الأوروبية” في العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام.
في الواقع، لا يمكن فصل نقد سعيد المحدد للاستشراق عن الهجوم العام على المؤسسات والأطر القائمة لإنتاج المعرفة التي رافقت الحركات الجماهيرية في الستينيات والسبعينيات على مستوى العالم. فقد نزلت جموع طلاب الجامعات إلى الشوارع حيث أصبحت الآثار العملية للعلم الإمبريالي واضحة باستمرار في خضم الحرب والتخلف اللانهائيين. أقر محررو ريفيو أوف ميدل إيست Review of Middle East Studies قصيرة العمر، ولكن المؤثرة، بهذه الحقيقة في العام 1978: “نعتقد أن الكثير مما هو خطأ في دراسات الشرق الأوسط هو خاطئ أيضاً عند النظر إلى كتابات أخرى في العلوم الاجتماعية، وخاطئ أيضاً، في تطبيقه على مناطق أخرى من العالم”. واعترفوا بأنهم مدينون لمجموعات مثل لجنة الباحثين الآسيويين المهتمين، والتي ستقود ثورتها الخاصة ضد الدراسات الآسيوية للحرب الباردة في الولايات المتحدة في خضم حرب فيتنام. سيذكر سعيد الجهود المعرفية لـ “إنهاء استعمار” هذه بمزيد من التقدير في الفصل الأخير من الاستشراق. وعلى الرغم من أن بقايا تصاميمه الإمبريالية لا تزال قائمة حتى اليوم، فإن دراسة الشرق، كما كانت، تغيرت، الآن، بشكل كبير بعد تشريح سعيد لها. وسوف تصبح دراسات الشرق الأوسط، باعتبارها مجالاً تأسس جوهرياً، في بوتقة الحرب الباردة، تنتقد بشكل متزايد مؤسساتها وأصولها. كما تجاوز تأثير كتاب سعيد في الوسط الأكاديمي المجال الذي استهدفه على وجه التحديد. وكتبت سوندرا هيل، الباحثة الأنثروبولوجية المتخصصة في الشؤون السودانية، وأحد المحررين الرئيسيين لمجلة دراسات المرأة في الشرق الأوسط Journal of Middle East Women’s Studies، في مقال لها يعود للعام 2005 “نحن النسويات نقرأ الاستشراق بطريقة بريل”، وسوف تسجل هيل التأثير العميق لكتاب سعيد على الدراسات الجندرية في الشرق الأوسط. مثل تاريخ الجنسانية History of Sexuality لفوكو، لقد كان الاستشراق غائباً إلى حد كبير عن النساء، ومع ذلك فقد أثار نقداً سيصبح أساساً في الكتابة المستقبلية حول استخدام نساء الشرق الأوسط في التبريرات الإمبريالية للحرب، كما أوضح ذلك عددٌ من الباحثات، مثل ليلى أبو لغد ولورا نادر وسعاد يوسف.
لكن سعيد، ببساطة، لم ينظر إلى كتابه بمعايير أكاديميّة. وقد أوضح، في رسالة بعثها إلى المؤرخ البريطاني روجر أوين، محرر (مع طلال أسد) مجلة دراسات الشرق الأوسطReview of Middle East Studies ،ما اعتبره الرهانات السياسية لمشروعه: “أجد العمل في حقل الاستشراق مساهمة في النضال ضد الإمبريالية”. وبالإضافة إلى مشاركته في المشهد الفكري في بيروت، انخرط سعيد بشكل متزايد في النضالات السياسية التي ينظمها العرب الذين أقاموا مثله في الولايات المتحدة. وفي الواقع، ولدت المسودة الأولى للحجّة التي طرحها في الاستشراق بتحفيز من صديقه المقرب، إبراهيم أبو لغد، في العام 1968 من خلال كتاب له، كان رد فعل على الحرب العربية الإسرائيلية الكارثية في العام 1967. وقد نشر الكتاب من قبل جمعية خريجي الجامعات الأمريكية العرب (AAUG)، التي تأسست في العام 1967 من قبل مجموعة هائلة من المثقفين العرب من بينهم الباحث اللغوي محسن مهدي، والمحامي الراديكالي عابدين جبرا، وأبو لغد نفسه. وكان أبو لغد “الذي يُصنف كباحث سياسي” التقى مع إدوارد سعيد لأول مرة عندما كانا معاً في برنستون، حيث كان سعيد في سنته الأخيرة في الكلية، وأبو لغد قد نال درجة الدكتوراة. ثم قضى الفلسطينيان بعض الوقت معاً بعد برنستون، في القاهرة، حيث تعمقت علاقتهما. ويقول برينان عن علاقتها: “لقد درّس أبو لغد، الأكبر سناً، سعيداً الملم بالفرنسية التمرد السياسي في العالم الثالث، لا سيما الأحداث التي كانت تتكشف آنذاك في الجزائر”. وأصبح سعيد منخرطاً بعمق في جمعية خريجي الجامعات الأمريكية العرب، وشارك مع أبو لغد في تأسيس مجلة الدراسات العربية الفصلية في العام 1979، والتي تم إطلاقها تحت رعاية المجموعة. وفي الوقت الذي شجعت فيه [نتائج] حرب عام 1967 المؤيدين الأمريكيين لإسرائيل، فقد كانت تلك الحرب، أيضاً مناسبة لزيادة التعبئة السياسية للفلسطينيين على الصعيد الدولي، وغالباً ما كان ذلك في صورة تحدٍ للحكومات العربية وكذلك لمؤيدي إسرائيل في الغرب. وقد أدى ذلك إلى تعرض سعيد وزملاؤه في جمعية خريجي الجامعات الأمريكية العرب، والأمريكيون العرب بشكل عام للمراقبة والمضايقة والترهيب من قبل الحكومة الأمريكية والجماعات الصهيونية مثل رابطة مكافحة التشهير Anti-Defamation League ورابطة الدفاع اليهودية Jewish Defense League.
ومع منتصف السبعينيات، كان سعيد، أثناء عمله في جونز هوبكنز وكولومبيا وهارفارد، يفكر في الخروج من الولايات المتحدة تماماً، حيث كتب، في العام 1974، إلى [قسطنطين] زريق مستفسراً عن منصب دائم لنفسه في بيروت: “أيّاً كانت معرفة الشرق الأوسط التي أمتلكها الآن، يتم الضغط عليها لخدمة الإمبراطورية الأمريكية، فلماذا لا نضعها في خدمتنا”؟ على الرغم من أن سعيد لم يتسلم المنصب الذي عُرض عليه كمدير البحوث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية Institute for Palestine Studies ، إلا أن مشاركته مع مركز العالم الثالث استمرت دون انقطاع. وبالإضافة إلى أبو لغد، الذي أسماه “معلمه guru “، أصبح سعيد قريباً من المثقفين البارزين المناهضين للحرب في الولايات المتحدة، مثل نعوم تشومسكي وإقبال أحمد. وأصبح المنظرون العظماء المناهضين للكولونيالية، وخاصة فرانز فانون وإيمي سيزير، من أركان فكره على نحو متزايد، إلى جانب الإنسانيين العرب والماركسيين الأوروبيين الذي كان جزء منهم منذ فترة طويلة. لم تترك كتابات سعيد مجالاً كبيراً للارتباك حول هدف فكره. وكتب في العام 1977: “حان الوقت الآن، لكي نكشف معاً ونقضي على نظام الارتهان، والسلب، والاستغلال، والاضطهاد الذي لا يزال يثقل كاهلنا ويحرمنا من حقوقنا غير القابلة للتصرف كبشر. إن مهمتنا هي خلق ثقافة عالمية حقيقية للأخوة والقضية المشتركة”.
كتب برينان في العام 2003، في حفل التأبين، بعد وفاة سعيد، أن كلمات سعيد “كثيراً ما كانت تعبّر عن أفكاري لدرجة أنني وجدت صعوبة بمرور الوقت في تذكر ما كنت أعرفه قبل أن ألتقي به -ما قلته وآمنت به قبل معرفته، (وعلى النقيض من ذلك) ما أخذته منه بالكامل”. ويظهر تأثير سعيد في قائمة اهتمامات برينان الرئيسية على مدى العقود الأربعة الماضية -من الدراسات الإنسانية، وفقه اللغة، ودراسات الإمبراطورية إلى جيامباتيستا فيكو، وإيريك أورباخ، وسي. إل. آر. جيمس. كانت جهود برينان في أحيتن كثيرة، مثل جهود سعيد، أكثر من جهود أدبية وما وراء نقدية، بطبيعتها، وتندرج في الكثير من أعماله مواضيع قواعد السياسة العالمية وحياة الأفكار. كما أنه لم يتورع عن القيام بأنشطة سياسيّة. وكان برينان، كطالب دراسات عليا في جامعة كولومبيا خلال سنوات ريغان، من بين أولئك الذين احتجوا على تدخل الولايات المتحدة في نيكاراغوا. لقد كانت الإمبريالية هي الهدف الأساسي لنقد برينان. أما الهدف الثاني المفضل لديه كان، على كل حال، مجال دراسات ما بعد الكولونيالية الذي يزداد تهميشاً، والذي يصفه -وأحياناً بتهكم وسخرية- بأنه جهد ما بعد بنيوي للتعتيم على الآثار الاجتماعية والسياسية للإمبريالية ولإنكار النقد المناهض للإمبريالية الذي سبقها.
ويؤكد برينان، في فصل طويل عن سعيد في كتابه “حروب الموقف: السياسة الثقافية لليسار واليمين The Cultural Politics of Left and Right ” الذي صدر في العام 2006، بأن أولئك الذين يعتبرون سعيداً سلفاً للحقل الأكاديمي المعروف باسم “دراسات ما بعد الكولونيالية” مخطئون بشدة. لقد انحرفت أساليب ودوافع ما بعد الكولونيالية بشكل كبير عن جهود سعيد الخاصة لفهم ونقد الإمبريالية في كتابه الاستشراق وفي مواضع أخرى، وكتب يقول: “لقد استمد قدر كبير من دراسات ما بعد الكولونيالية طريقه من الاستشراق دون أن يكون أميناً له”. ويردف “ارتحلت نظرية الكتاب، لكنها لم ترتحل جيداً”
كتب برينان دراسته عن حياة وأعمال سلمان رشدي تحت إشراف إدوارد سعيد، ونشر كتابه الأول “سلمان رشدي والعالم الثالث Salman Rushdie and the Third World ” في العام 1989 في الوقت الذي استحوذ فيه رشدي على الوعي العام، بسبب الجدل حول روايته “آيات شيطانية The Satanic Verses “. وتسببت قضية رشدي، كما أصبحت تعرف، في موجة من الكتابة. وخضع للاختبار، خلال عقد من الزمن مجمل التفكير الصارم المتعلق بالنزعات العلمانية والليبرالية والإمبريالية والأدب، عندما تعرض كاتب هندي مسلم في لندن لهجوم بسبب التجديف من قبل أتباع الديانات. وانطلق كل من غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وأغا شهيد علي وطلال أسد والعديد من المفكرين الرائعين الآخرين إلى المعركة لتوضيح مواقفهم من استخدامات كتابات رشدي وإساءة استخدامها.
وكان برينان يخوض نزاعاً على متن صفحات المجلة الأكاديمية الماركسية: سوشيال تكست Social Text”، مع أحد طلاب إدوارد سعيد ويدعى أمير مفتي Aamir Mufti ، حول تفسير وتلقي رواية رشدي. قد تبدو لغة النقاش غامضة بالنسبة لغير المتخصصين، ويمكن تبسيطها بالقول: عارض كل من مفتي وبرينان استغلال محنة رشدي باسم القيم الغربية المزعومة ضد “الحشود المسلمة” في أوروبا والولايات المتحدة. لكن برينان كان ينظر إلى رشدي باعتباره مشاركاً أساسياً في نقاش غربي بصفته مواطناً ميتروبوليتانياً يكتب باللغة الإنجليزية وينشر في لندن. بينما كان مفتي يرى، في قراءة مقابلة لقراءة برينان، بأن رشدي كان جزءً من “الصراع على الثقافة الإسلامية في أواخر القرن العشرين”، ويتابع مفتي، القول بأن برينان كان يخفي طبيعة هذه المعركة العالمية تحت ستار معاداة الإمبريالية. وفي المقابل، اتهم برينان، بدوره، مفتي (وآخرين، مثل سارة سوليري)، باستدعاء “النظرية العليا” ولغة الأكاديمية الغربية لتقديم حجج حول “الجماعات الإثنية” والإمبريالية المعاصرة التي لم تصمد ببساطة. واختتم برينان حديثه قائلاً: “يا مشاهير أدباء لندن، دعكم من الحديث باسم عمال مصنع برادفورد”.
على الرغم من ازدراء برينان لدراسات ما بعد الكولونيالية بشكل عام، فليس هناك ثمة شك في أن الحماس القصير للعمل الذي يندرج تحت مظلة الدراسات ما بعد الكولونيالية الواسعة كان حاسماً في حياة برينان المهنية. ورده الغاضب على مفتي، يوضح، بالتفصيل، سعة اطلاعه وخبرته في تعيين العناصر الإسلامية لعمل رشدي، ودوره في تحديدها لأول مرة، بما يعكس بدقة، مفارقات الصعود والهبوط السريعين لدراسات ما بعد الكولونيالية في أقسام الأدب في الأوساط الأكاديمية. وفي نهاية المطاف، لم تنزوِ الدراسات ما بعد الكولونيالية لتتجمد في أي نوع من المذاهب، غير أنها باتت تشير، في أحيان كثيرة، إلى بعض الاهتمام بآثار الاستعمار العديدة، وهذا أكثر مما يمكن قوله عن المناهج السائدة في العلوم الإنسانية أو العلوم الاجتماعية بصورة عامة. مهما كانت دراسات ما بعد الكولونيالية قاصرة في معالجة الحقائق المادية لحاضرنا الاستعماري، فسوف يعدُّ خسارةـ ليس أكثر، الاختفاء التدريجي لهذا الحقل واستبداله في الجامعات الأمريكية بمصطلحات جغرافية غير مرتبطة تماماً بلغة القوة والهيمنة -سواء كان الأدب العالمي أو التاريخ العالمي أو “الناطقين بالإنجليزية.
كان لدى سعيد نفسه، بخلاف حكم برينان، تقدير أكثر دقة لدراسات ما بعد الكولونيالية، وكثيراً ما كان يخفف من شكوكه في المساعي الأكاديمية البحتة بشكل عام. وحدّد بنوع من التقدير العالي، في إحدى الجامعات التي كانت تضم في ذلك الوقت -أكثر مما هي عليه اليوم- أغلبية ساحقة من البيض والذكور (مثل برينان نفسه)، أن “الدافع الرئيسي” لدراسات ما بعد الكولونيالية “كان النقد المتسق للمركزية الأوروبية والنظام الأبوي”. لكنه بدى، رغم ذلك، محبطاً كثيراً من النقد ونظرية الأدب التي كانت تُمارَس ويُحتفى بها في أقسام الأدب الأمريكية ومجلات العلوم الإنسانية مثل كريتيكال إنكويري أند دياكريتكس Critical Inquiry and Diacritics . وكان قد اعترف، في مقابلة في العام 1992، بعدم قراءته لمواد “النقد الأدبي” منذ أمد، وتابع يقول: “يبدو لي أنني كنت قبل عشر سنوات على سبيل المثال، أتطلع بشغف إلى كتاب جديد من تأليف شخص ما في جامعة كورنيل حول النظرية الأدبية والسيميائية، أما الآن فمن المرجح أن أهتم كثيراً بظهور عمل يهتم بالتاريخ الأفريقي”.
ومع ذلك، وجد سعيد أعمالاً تستحق الثناء، الأمر الذي ذكره في خاتمة الطبعة الجديدة من الاستشراق في العام 1994، حين خصَّ كتاب أمييل ألكالاي “بعد العرب واليهود: إعادة صياغة ثقافة المشرق After Arabs and Jews: Remaking Levantine Culture ” (1992)، وكتاب بول غيلروي” الأطلنطي الأسود، الحداثة والوعي المزدوج The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness” (1993) ، وكتاب موريا فيرغسون” الخضوع للآخر: الكاتبات البريطانيات والعبودية الاستعمارية، 1670-1834 Subject to Others: British Women Writers and Colonial Slavery, 1670–1834″ (1992)، فهذه مؤلفات استحقت الثناء من أجل “إعادة التفكير وإعادة صياغة التجارب التاريخية التي كانت ذات يوم قائمة على الفصل الجغرافي للشعوب”.
تميز عمل سعيد الخاص برفضه تقديم براءة اختراع للانفصال. لقد رفض فصل الأدبي عن التاريخي، والمادي عن الثقافي، وفي الواقع، الشخصي عن السياسي. وكان قد أهدى كتابه البليغ الذي صدر في العام 1979 بعنوان “المسألة الفلسطينية The Question of Palestine ” لصديقيْه الراحليْن راشد حسين وفريد حداد، والأخير، طبيب شيوعي فلسطيني، عُذب حتى الموت في أحد السجون المصرية في العام 1959. ويمكن أن نضيف إلى هذين الرجلين، كمال ناصر، وهو محام وكاتب فلسطيني لامع، قُتل على يد عملاء إسرائيليين في لبنان في نيسان 1973. وكان سعيد قد تناول العشاء معه في الليلة التي سبقت اغتياله. ولا يزال بالإمكان توسيع هذه القائمة لتشمل حنا ميخائيل، المستعرب المتميز الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، والذي تخلى عن مهنة مريحة في جامعة واشنطن لينضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن ولبنان، حيث أصبح يُعرف باسم أبو عمر. توفي حنّا ميخائيل في عرض البحر في العام 1976، في مهمة فاشلة من بيروت إلى طرابلس مع أحد عشر شخصاً آخرين. كتب سعيد عن صديقه في العام 1994: “جسّد أبو عمر المبادئ السخية وغير التقليدية للثورة الفلسطينية”.
هذا ما كانت عليه مطارح وعوالم إدوارد سعيد.
لا يمكن احتواء حياة سعيد في نيويورك، من خلال كليشيهات روايات الحرم الجامعي وضيق أفق المؤسسة الأدبية الأمريكية، ولم يتوانَ عن رسم صورة كاريكاتيرية ساخرة ومزرية للطريقة التي تم بها إساءة فهم حججه وتشويهها بانتظام من قبل منتقديه وخصومه، ولم يتزعزع التزامه قط تجاه الشعب الفلسطيني (الشعب الذي ربما أهدى برينان كتابه “مطارح العقل“). وحتى -وعلى وجه الخصوص- عندما تخلت قيادتهم عن الفلسطينيين، رفض سعيد الإذعان للوضع الراهن، أو الاحتفال بأنصاف الحلول. فأحاط نفسه بأشخاص يحترمون قضيته وكان، بدوره، معجباُ بهم أيضاً. ويُذكر أن سعيد قدّم، بمناسبة تقاعد إقبال أحمد من كلية هامبشاير-وهو يكتم دموعه- هذه التحية: “أريد.. أن أغتنم هذه المناسبة، لأقول نيابة عنهم -ليس لدي الحق في التحدث نيابة عنهم، لكنني سأحاول -أن أقول نيابة عن العديد من اللاجئين، وسكان المخيمات، والبائسين في الأرض، المنسيين من قبل قادتهم، ومن قبل إخوانهم العرب والمسلمين، أن إقبال كان أحد قدواتهم اللامعين، ولهذا لا يستطيع أي فلسطيني أن يشكره بما فيه الكفاية”.
يختلف عالم إدوارد سعيد عن عالمنا بالتأكيد. لقد انقلبت المؤسسات الفلسطينية رأساً على عقب. وعلى عكس ما كانت عليه منظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، لا تعمل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، اليوم، كموضع يمكّن الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم العمل ضمنه من أجل تحريرهم، بل باتت تخدم إدارة الاحتلال الإسرائيلي نفسه. لقد تغيرت الجامعة الأمريكية أيضاً. معظم الذين يقومون بالتدريس في الجامعات اليوم، حتى في كولومبيا، غير آمنين في وظائفهم، وسكنهم ورعايتهم الصحية. في حين أن المواقف اليسارية الحقيقية لا تزال نادرة في الجامعة، فإن المزيد والمزيد من المثقفين على الهامش -وكثير منهم من الشباب وفي الشوارع- يعبّرون عن معارضتهم لسياسة الولايات المتحدة المتمثلة في الحرب اللانهائية في الداخل والخارج، إن شئنا استخدام التعبير الإمبراطوري. ومع ذلك، ثمة أشياء ما فتئت تستمر دون تغيير. فلا تزال إسرائيل تمارس عدائيتها المتعصبة بهدف طرد الفلسطينيين من حيفا إلى القدس وإلى غزة. وكان الأنثروبولوجي الفلسطيني خالد فوراني قد أشار في العام 2018، أن [رغبة إسرائيل منذ] “سبعين عاماً ( في الواقع أطول من ذلك بكثير) لا تكمن فقط في توقها الحصول على المزيد من الأراضي، بل في تقليص أعداد الفلسطينيين إلى أقل وأقل ما يمكن”. ولايزال الفلسطينيون يُقتلون، مباشرة أو على مهل، بوتيرة يومية، ومن منزل إلى منزل، وأحيانًا من حي تلو الآخر، ويُطردون من أراضيهم، ويُحرمون من سبل عيشهم وتجمعاتهم السكنية.
ما تبقى هو الإرادة الفلسطينية على التمرد، وكما كتب سعيد في “المسألة الفلسطينية The Question of Palestine “: “كلما زاد الإصرار الفلسطيني، تعمق الإنكار الصهيوني”. وفي الوقت الذي يبدو فيه بادياً للعيان ازدياد يأس المدافعين عن إسرائيل أمام أعين جميع من يراقبهم، لا يزال الدعم الشعبي للشعب الفلسطيني يثير حفيظة مديري الجامعات والطبقة السياسية المهنية في الولايات المتحدة.
وإذن، يظل عمل سعيد ومثاله -المتناغمان مع شكل الحرية الفلسطينية القادمة- يحمل بعداً توجيهياً كما كان دائماً.
…….
العنوان الأصلي: The World of Edward Said
المؤلف ESMAT ELHALANY
المصدر: https://bostonreview.net/philosophy-religion/esmat-elhalaby-world-edward-said
…..
هوامش المترجم
*مطارح العقل: حياة إدوارد سعيد PLACES OF MINDS A life of Edward Said، تأليف تيموثي برينان. فيما يلي تقديم للكتاب من اختيار محرري “نيويورك تايمز بوك ريفيو”: “هذا الكتاب هو أول سيرة شاملة للمفكر الفلسطيني الأكثر تأثيراً وشهرة وإثارة للجدل في القرن العشرين. لقد كان لدى تيموثي برينان، باعتباره درس في فترة إدوارد سعيد وظل صديقاً له حتى وفاته في العام 2003، فرصة غير مسبوقة للوصول إلى أفكار المشرف على أطروحته وإرثه. يظهر سعيد، في هذا العمل الموثوق، رائد دراسات ما بعد الكولونيالية، والمدافع الدؤوب عن وطنه فلسطين، والناقد الأدبي المثقف. يكشف الكتاب الجوانب المختلفة من حياة إدوارد سعيد: ابتداء من حياته كمثقف في نيويورك وقدومه إل بيروت، وقيادته أوركسترا في رام الله وفايمار وراوٍ على شاشات التلفزيون، ومفاوض فلسطيني في وزارة لخارجية [الأمريكية] وممثل في أفلام يلعب فيها دور البطولة. ويتتبع برينان التأثيرات العربية على تفكير سعيد، فضلاً عن تأثير رجالات الدولة اللبنانيين، والمؤلفين الحداثيين المتميزين، وأدباء نيويورك، حيث نما سعيد ليصبح باحثاً غيّرت كتاباته المؤثرة وجه الحياة الجامعية إلى الأبد. ومع كل هذا التألق والسحر، دمج سعيد مصادره في إرث مضاد ومؤثر للإنسانية الراديكالية بوضوح قلّ مثيله مستنداً إلى خلفية الهيمنة التقنية العلمية والحرب الدينية. لقد أعطى سعيد العلوم الإنسانية سلطة جديدة في عصر الريغانية، سلطة مستمرة حتى اليوم.
يحتوي كتاب “أماكن الذهن” على مساحات رحبة عن مدى تأثير إدوار سعيد الفكري، كأحد أكبر العقول أهمية وتأثيراً في القرن العشرين، وذلك بالاعتماد على شهادات العائلة والأصدقاء والطلاب والخصوم على حد سواء، وبمساعدة ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي، والكتابات غير المنشورة، ومسودات سعيد للروايات والرسائل الشخصية. يمكن قراء المراجعة الأصلية من خلال الرابط التالي: https://us.macmillan.com/books/9780374146535
** يرد صادق جلال العظم على رسالة إدوارد سعيد كما يلي:” فيما يتعلق بنشر مقالتي في مجلة “الدراسات العربية”، لدي نقطتان: (أ) بالنظر إلى أن مقالتي تتعاطى مباشرةً مع كتابك وبالنظر إلى أن ردة فعلك قد جاءت حادة على محتوياتها (إلى حد كسر تعهداتك بعدم الرد على المنتقدين)، ظننت أنك ستمتنع تمامًا عن أخذ أي نوع من القرارات أو الاقتراحات التحريرية وما إلى ذلك، بخصوص هذا النص. (ب) أصرُّ على نشر مقالتي دون حذف كلمة واحدة وكما هي، مهما كانت مشاكلها. وهذا أمر نهائي وغير قابل لمزيد من النقاش. وفي حال وجدت المجلة طلبي غير معقول (أو من المستحيل تلبيته لسبب أو لآخر)، سأقدِّر إعادة نسختي على عنواني في بيروت في أسرع وقت ممكن.” للمزيد يمكن الاطلاع على بعض التفاصيل في مجلة نزوى العدد 106: تركي علي الربيعو: “عقلية تآمرية واتهامات” https://www.nizwa.com/%D8%B9%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A2%D9%85%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA%D8%9F/ ومقالة محمود محمد علي : ” صادق جلال العظم، ونظرية الاستشراق المعكوس” على الرابط: https://tanwair.com/archives/10959 وما كتبه محمد الدخاخني على موقع ألترا صوت بعنوان:” رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم” . الرابط : https://www.ultrasawt.com/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A5%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%82-%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D8%A7%D8%AE%D9%86%D9%8A/%D8%A3%D8%AF%D8%A8/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9 ..وغيره.