فيلم رِيَش الكتابة Quills: اقتلوني أو اقبلوني كما أنا

كيف لمن شاهد الفيلم أن ينسى مادلين الجميلة؟

‏” مادلين ..مادلين ..مادلين ”. اسمٌ سيتردد صداه في أروقة قصر شارنتون مرتحلاً إلينا عبر أفواه المجانين. سيبقى عالقاً في ذاكرتنا لبعض الوقت، مندهشين من صدق ما تحس به مادلين إزاء تلك الأشياء التي لامست شيء ما لديها وهي تقرأ روايات المركيز دوساد، ولا تدري سبب عشقها لما يكتب، ولا تدري لماذا تسافر بخيالها مع شخصياته، فحين يكتب عن عاهرة تتخيل نفسها، وحين يكتب عن سفّاحة تتخيل نفسها أيضاً؛ لاشك أن هذا المركيز الوقح يغويها ويغريها، فلم تعد تطيق الابتعاد عنه، وهو الأرستقراطي المجنون الماجن العاشق للأدب، الذي ضحى بكل شيء من أجل فكرة الحرية. أليس هو القائل “هل يلام السارق على سرقاته، لا أحد يقدر أن يلومني على حريتي وأفكاري، فهي جزء مني “.

هل سبق وتخيلنا كاتباً يصل به الجنون ليستعمل دمه حبراً، فيكتب به على ثيابه، ثم يجري منتشياً يرقص فوق مائدة مجانين مثله، ثم يصرخ متحدياً الرقابة: ” كتابتي تعيش”. جملة بسيطة لكنها تحمل في أعماقها صدى صرخة تحاول أن تجعل الحقيقة، ولا شيء سواها أو بديل عنها، واضحة للجميع وأمام الجميع مهما كانت صادمة وقاسية.

هذا ما يتحدّث عنه فيلم “ريش” وهو يروي قصة نزيل مصحة الأمراض العقلية، في قصر شارنتون، أي المركيز دو ساد، اللبق الذي يبدو من الخارج عطوفاً ولطيف المعشر، ودائم التأنق يعتني بهندامه لكنه لا يخلو من بعض الوقاحة “المحببة” ..وفي العمق تبدو شخصيته مركبة ومعقدة ويصعب تقمصها. المركيز دو ساد الكاتب الأرستقراطي مرهف الحس، الثائر على جميع الأفكار المتعارف عليها، في عصره؛ شخص متمرد ووقح كما يصفه البعض، صبور كما يصفه البعض الآخر، نظراً لقدرته على تحمل سبعة وعشرين عاماً سجناً متنقلاً من مصح إلى آخر، متهم بأخلاقه وعقله، فيما يراه البعض مجنوناً بالمطلق، في الوقت الذي لم يلتفت فيه دوساد لكل هذا، فهو يعتبر مأثرته تكمن في قدرته على نقل وتمرير أفكاره التي كانت متعته ومتنفسه وعذابه وحزنه بذات الوقت، ولم يجد وسيلة لذلك سوى الكتابة، بالحبر، بالنبيذ، بالغائط، بالدم، لا يهم بماذا، المهم أن لا يتوقف عن الكتابة.

تعرض أولى المشاهد المركيز وهو يكتب قصة عن لقاء الآنسة الأرستقراطيّة الشبقة “رونار” بشخص عدواني وشبق. ومع أن الرقابة منعت مؤلفاته، لكنه ينجح في إقناع الشغالة مادلين بتهريب أوراقه إلى خارج المصحة لتعطيها لفارس مجهول ليصار إلى نشرها بالسر، فيتناقلها الناس فيما بينهم، وهنا تبدأ المتاعب، إذ تثير قصصه غضب السلطات، بسبب فحواها الجنسي المفضوح و الفاحش، فيتم إرسال الدكتور كولارد صاحب الطرق المبتكرة في تعذيب نزلاء المصحات العقلية إلى قصر شارنتون، فيقوم كولارد بتنحية مدير المصحة الراهب فرانسوا ليتولى بنفسه إعادة ضبط و تهذيب دوساد على طريقته الخاصة.

يتحرك الإطار الزمني للفيلم في فرنسا مع نهاية القرن الثامن عشر في فترة عصر “الرعب”، أحد عصور الثورة الذي أنتج منسوباً عالياً من الاضطهاد والخوف والشعور بعدم المساواة، لاسيما في الحقبة البونابرتية، حين سيطرت على البلاد سلطة مستبدة (الملك وحاشيته وفرسانه وكبار الموظفين ورجال الدين والمؤسسة الكهنوتية وحتى المهنيين كالأطباء.. وسواهم) كان في وسعها إنزال أقسى العقوبات وأقصاها في من تراه أو تعتقد مخالفته لتوجهاتها، وذلك بتشجيع من طبقة دينية و “تكنوقراط مهني” يعتقدون -بسطحية مفرطة- بإمكانية إصلاح الإنسان الفاسد من خلال تطبيق العقاب الصارم دون النظر إلى نتائج هذا العقاب، مثل أن يتم غسل قطعة قماش قذرة بماء نظيف، فربما صارت القطعة نظيفة، لكن لم يعد الماء كذلك، ومع ذلك يطلبون من البعض أن يشربوه باعتبار أنه كان نظيفاً يوماً ما.

غير أن شخصاً مثل دو ساد لا يمكن أن تنطلي عليه مثل هذه الحيلة.

في البداية، لا يستعرض الفيلم السيرة الذاتية للمركيز دو ساد، بل هو في الواقع قصة متخيله عن مواضيع متعددة حساسة قاسمها المشترك شخصية المركيز التاريخية مثل الجنون والإباحية والفن والحرية والدين والعلاج النفسي بأسلوب جذاب وحبكه مسرحيه درامية فيها الكثير من اللمحات الجمالية المذهلة. (تشير الوقائع التاريخية أن رواية دوساد الشهيرة “جوستين” نُشرت في السوق السوداء أثناء اعتقاله في مصحة شارنتون رغم تشديد الرقابة عليه، ويقال أن نابليون أمر بإحراق جميع نسخها، كما أمر بقتل الناشر). هذا هو العصر الذي عاش وبزغ فيه نجم دوساد في تلك الحقبة من عمر الثورة الفرنسية، مما حدى بشخص مثل سارتر أن يعتبره “أحد آباء عصر التنوير، أسوة بإيمانويل كانط وفولتير وجان جاك روسو، مع الاختلاف في المنهج والتطبيق”.

كان المركيز دوساد يكتب روايات من سجنه قبل أن يُمنع عنه الحبر، وهذا أمر لا بد أن كاتب السيناريو على علمٍ به، إلا أن بقية الأحداث كانت من حدس الكاتب ليس إلا، فنحن لا نعلم إن كان فعلاً دو ساد جرح نفسه من أجل الكتابة بدمه أو حتى أنه التقى فعلاً بشخصيات مثل مادلين أو الراهب الكاثوليكي الشاب فرانسوا أو الطبيب كولارد، فالسيناريو يتبع حدس المؤلف حين يفترض أن دو ساد التقى بهم، وأنه كتب روايات بدمه بمساعدة مادلين.

مثل هذه الافتراضات قد تبررها اشتراطات أدبية تتعلق بطبيعة العمل الروائي أو المسرحي الذي يختلف عن تدوين التاريخ، ولعل ما يؤكد ذلك هو اختيار المؤلف لشخصية الراهب فرانسوا كمدير للمصحة (الذي يشعر بانجذاب نحو مادلين). وقد أتى الفيلم بتوليفة مدهشة مكّنت من إعادة رسم دقيق للدور المحوري لهذا الراهب، لاسيما في اللمسات الرائعة لمشاهد النهاية، ليستكمل لوحة سينمائية متقنة ومتكاملة. وفي العموم، لم يحظَ الفيلم بالشهرة المتوقعة، ربما لغرابة موضوعه و”شذوذ “بطله. غير أن هذا الأمر هو ما جعل الفيلم، من ناحية أخرى، ثرياً ومغرياً للسجال كونه يناقش شخصية إشكالية مثل دوساد.

قام دو ساد بالتحايل على الرقابة الصارمة المفروضة عليه واستطاع نشر الكثير من أعماله سِرَّاً، رغم قوانين المنع والتفتيش وهو في قلب دائرة الرقابة. وهنا تلوح لنا تلك القدرة الإبداعية المولودة من رحم مقاومة الرقابة، وهذا ما يوحي به العنوان Quills، أي “رِيَشُ الكتابة” الذي جاء بصيغة الجمع، ليلمّح إنّه يمكن للسلطة مصادرة ريشةٌ أو اثنتين أو ثلاثة أو مئة، أو أي عدد من الريش، لكن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل مصادرة ريشاً “دون أداة تعريف”، فطالما يمتلك الإنسان الإرادة والتصميم على الكتابة فهناك إمكانيات لا تحصى لابتكار ريشٍ. ومع أنّ المؤرّخين والنقاد، اعتبروا الفيلم غير مخلص للوقائع ولحياة المركيز دو ساد نفسه، فإنّ ردّ القائمين على الفيلم يوضِّح أن تركيزهم كان قائماً على العلاقات المتداخلة للرقابة والدعارة والجنس والأمراض النفسية والدّين، وليس على تاريخية المركيز أو تاريخية القصص المحاكة حوله.

قد تقوم السينما بتغيير الحقائق فتشوهها أو تزيفها لغايات مختلفة ومتباينة، بحجة أن الغاية من الفرجة تحقيق المتعة وأن تكون مدهشة وتحقق شرط الإبهار وهذا ما يجعلنا، ربما، نغفر لهذه الصناعة “تلاعبها” أحياناً في التاريخ الحقيقي، ولعل هذا ما جعل الفيلم ممتعاً بعض الشيء، سواء في بنيته القصصية أم في سرديته البصرية، أو حتى الحوار اللغوي عالي البلاغة أو في إيحاءات العنوان ذاته، وما يؤكد ذلك أحد أجمل مشاهد الفيلم حين ينسل المركيز دو ساد خارج زنزانته ويدور بين النزلاء ليقرأوا ما كتبه على ثيابه، فيعاد حبسه في قبو مقيد بالسلاسل عارياً. فهل تأملنا وجهه حينها؟ عينيه؟ ارتجاف شفتيه؟ لقد كانت مجمل ملامحه، في الحقيقة، تفضح فشل المجتمع في ترويضه بفضل تصميمه على الكتابة، ليصرخ في وجه الطبيب كولارد مدافعاً عن نفسه: “لماذا تفعل بي ذلك ؟سأموت من الوحدة ليس لي رفقة إلا الأشخاص الذين أختلقهم”. فعشقه وشغفه للحرية وللكتابة هو ما يخلق متاعبه. وعدم تخليه عن مبادئه سيعرضه للعقاب، الذي يعني في نظر السلطة محاربة ما أصبح مرادفاً لاسم دو ساد أي الانحراف (السادية) والفكر المتحرر حتى في عصور وعقليات ترفض مثل هذا الفكر، ورغم حبسه لم تستطع السلطة إطفاء وهجه وتألقه وتدفق أفكاره: “تكمن السعادة فيما يثير ويهيّج، وليس هناك شيء يثير سوى الجريمة، أما الفضيلة، التي ليست سوى حالة خمول واستراحة، فإنها لا تفضي إلى السعادة “. هكذا يتحدث، فهو لا يهذي ولا يكتب ليتلهى، بل ليصف هذا العالم المؤذي، ينقله فقط على الورق، يتوسّلهم أن يعطوه الأوراق والحبر لأنه سوف يجن ويموت إن لم يكتب، هذا هو بفجوره وجنونه؛ ويا للهول، عندما يترافق الفجور والجنون مع الشذوذ، ويا للروعة عندما يؤطرهم الإبداع: “نعم، لقد ارتكبت المعاصي، وتخّيلت، فيما أكتب، كل ما يمكن تخيّله، لكنني بالتأكيد لم أفعل كل ما تخيّلته ولن أفعل أبداً. أنا فاجر، نعم، لكنني لست مجرماً أو قاتلاً…أنا أكتب عن الحقائق الأبدية العظيمة التي تربطناً معاً كبشر في كل أرجاء العالم. نحن نأكل، نتغوط، نمارس الجنس، نقتل، ونموت”.. هكذا يصرخ من يصفه البعض (سارتر) بأنه “أكثر العقول حُرّية على الإطلاق”.

ورغم تحذيرنا أن الفيلم لا يقدم الحقيقة “العارية”  كاملةً، بل يمزج قصة دو ساد بعناصر درامية لأغراض سينمائية بحتة، ‏فيما يشبه ملحمة عن صراع الدين والروح الطبيعية للإنسان، ويكمن نجاح هذه “الحدوتة” في اختيار فترة معينة من حياة الماركيز دو ساد، أي وجوده في مصحّة قصر شارنتون لتكون محور القصة حيث يظهر الإنسان بمثل هذه الأماكن على صورته الحقيقية البعيدة عن “الزيف” و إن بدت الصورة متطرفة بعض الشيء، بتحول دوساد إلى “حيوان” ناطق، يتجول عارياً بدهاليز القصر يمارس الجنس أمام الملأ. وكأن المخرج يدفعنا عمداً (ولكن بخفة) للإعلان عن موقفنا من دوساد سواء بأن نتضامن معه، فلا نرى قبحه وجريمته أو جرائمه، أو نقف موقف المتشكك بعقله و “إنسانيته”، فنراه فاجراً، فاسقاً ومجرماً. وفي كلتا الحالتين لابد أن نتساءل: ما الذي سيوقف دو ساد عن جنونه ومن سيكون الضحية ومن سيكون الجلاد؟.

يقول دو ساد في إحدى رسائله التي بعثها من سجنه إلى زوجته، والمؤرخة في تموز / يوليو 1777: ” يقين أنّ أمّك ترتكب وضاعة أخرى من وضاعاتها، عندما تستخدم القضاة، لإقناعي بأنّ حريتي مرهونة بإقرار كامل من جانبي بتلك النزعات الهدامة التي نسبت إليّ والتي تعرفينها جيداً. أيّ نصر ستحقّقه بالتهديد والقسر؟.. إنّ هذه المرأة فائقة الذكاء، لا تدرك أنّ أيّ شيء يوقّعه المرء في سجنه لا يساوي قيمة الورقة التي خُطّ عليها التوقيع. كما أنّها لا تعرف أنّ استرداد المرء لأملاكه، عند إطلاق سراحه، سيعود بالخذلان على أولئك الذين دُفعوا إلى الحصول عليها، وبالعار على من اتُهموا بالحصول عليها. كم كان من الأفضل أن ترضيني من دون شروط، عندها سأفعل كلّ ما تطلبه من دون إكراه. لكنّ هذا يقتضي نعمة الحساسية والإدراك وهذا ليس عندها. فتلك الكلمات ليست في قاموسها.. ربما تجهلين يا عزيزتي بعض ما فعلته أنا في هذا المجال. أخيراً، أرجو أن تفهمي بأنني لن أكون ضحيّة تلك الحيل السخيفة والحمقاء والأكاذيب والخدع التي يستخدمونها ضدّي. كما لن أكون ضحيةً لك ولأقربائك والحلفاء الفاتنين لهم.. كتبت رسالتين كي أسهّل البحث الأكاديميّ للممتحنين والمختصرين والمعلّقين ومحرّري أسلوبي. فبهذه الوسيلة سيتمكّنون من الانتقاء والاختيار.. لاشيء يمكن أن يعبّر عن معاناتي وآلامي عندما أدركت أنني لن أخرج من هنا في نهاية حزيران. لقد طال الأمر! يا الله، ما الذي سأصبح عليه؟ أستدفنني هنا وحشيتهم تلك إلى الأبد؟ اصغي إلي للمرّة الأخيرة. إن امتنعت عن الاستجابة لي والتعاطف معي، أقسم بأنني سأنساك ولن أتوجّه إليك بمزيد من الكلام. كما أقسم بأنّني سأتركك إلى الأبد عندما أغادر هذا المكان. ثمّة رقم 3 جديد كتبته في الرسالة الثالثة بحبر سرّي ويؤرّخ للثالث والعشرين من أيار. أيعني هذا لك شيئاً، أجيبي بنعم أو بلا؟. إن كان ذلك يعني أيّ شيء، أخبريني في نهاية رسالتك بالحبر السرّيّ بأنني شخص ذكيّ، وإن كان لا يعني أيّ شيء، انعتيني بالأحمق.. ثمّة طريقة خفيّة مناسبة يمكنك أن تساعديني من خلالها بشأن ما أطلبه. ويقين لن يعرّضك هذا للشبهة أبداً. تأكّدي إن أخبرتني، لن أنطق بكلمة ولن أبدي انزعاجي بأيّ حال من الأحوال.

وداعاً! امنحيني السكينة ولبّي ما طلبت. فأنا بأمسّ الحاجة إليه بعد كلّ ما قاسيته هنا في هذه الأيام. ولا تحاولي إخباري بأنّك لم تستلمي هذه الرسالة. فيقين أنّك تلقيت جميع الرسائل التي بعثت بها إليك. عندما تنكرين أنك استلمتها، فلأنّك لا تريدين أن تستجيبي لما تحتويه. أكتب هذا على نحو آليّ بالأبيض والأسود وأنت تدركين ما أرمي إليه.

أي حبيبتي إن استجبت، سأكون ممتناًّ لك مدى الحياة.”

بمثل هكذا نص سنكون الأقرب لفهم كلام سارتر السابق الذي يضع في حسبانه التفهم الفلسفي للاشتراطات الأخلاقية، باعتبارها أعراف وقيم ذات مصادر مختلفة ومتأرجحة بل ومتباينة من عصر لعصر ومن طبقة إلى أخرى، فما هو “أخلاقي” هنا، قد لا يكون “أخلاقياً” هناك.. وهكذا، بمعنى، لا يمكننا النظر إلى الأخلاق -وبدرجة مشابهة إلى الدين- على أنها مفهوم عام شامل يستغرق جميع البشر، بل أن ما يشترك به البشر هو المصلحة الذاتية والجري وراء اللذة. سيأتي فرويد لاحقاً ليسميها “الليبيدو”، وبالتالي كان همُّ دو ساد كشفُ و تفكيكُ السلطة ومنظومتها الأخلاقية، وكشفُ حقيقة سلوكنا اليومي المرتبط بشدة بفحوى غريزتنا الجنسية التي ليس بالضرورة أن يكون هدفها الإنجاب، وهو ما سوف يعارضه فريدريك إنغلز حين يرى أن الهدف الأول للوجود الإنساني “المادي البيولوجي” هو “إنتاج وإعادة إنتاج الحياة”. غير أن دو ساد يعترف بأن الرغبة ليست سوى نمط من الهوس، بيد أنه هوس طبيعي، ومن ثم، بكونه طبيعي، فالرغبة أيضاً هي رغبة طبيعية.

المركيز دو ساد رجل شجاع جرئ متحرر فكرياً لا يخشَ حتى الرب نفسه، ويدعو إلى انتقاد الدين “السلطة الدينية بالأحرى” بسبب التردي الأخلاقي للمتدينين والكهنة، وهو فوق كل هذا صاحب قلم لا يهادن. لكنه لا يكتفي بانتقاد الممارسات اللا أخلاقية للطبقة الدينية، بل نراه يحتقر تقاليدهم وعاداتهم فيتحول سلوكه إلى حالة جنسية مفرطة، عدائية وعدوانية يعزوها البعض إلى رغبة عميقة لديه تريد لصوته أن يكون صرخة احتجاج بالغة القوة في عصر كان تسيطر عليه الأفكار البرجوازية عن نقاء العرق، وتقنين كل شيء، بما في ذلك الفعل الجنسي.

وإذن، السلوك السادي هنا عبارة عن احتجاج يتجلى في قدرة صاحبه على فتح كوّة في جدار الرقابة المُصمت وابتكار وسائل وأدوات وحيل وطرق وأساليب تُعْجِزُ الرقيب، وتُؤكّد أنّ الكلمة النهائية هي للمقاومة ولحريّة الكلمة التي تتطلّع إلى كسر قيودها والتسلّل بعيداً عن عيون الرقابة، وبالأخص رجل الدين (الكاهن فرانسوا مثلاً)، رجل الرب الذي يراقب كلمات المركيز وهمساته وسكناته، بصورة سلبية مثيرة للضجر، دون أن يحرك ساكناً. وكل ما يستطيع فعله هو ترديد عبارة “تذكر أخلاقك” على أناس فاقدين للمعنى الاصطلاحي للأخلاق.

وعند هذه الومضة، وفي غفلة من السلطة ورقابتها، وفي غرفة فخمة، لا تدل على أنها في مصحة، وجد المركيز ضالته، فبدل أن يتخيل شخصيات فقدت إنسانيتها، أصبح يشاهدها على حقيقتها من نافذة صغيرة فيتناول ريشته ويكتب ما يرى: يكتب عن الجنس وعن الشذوذ وعن عنف الإنسان وعن حقيقته .

‏يعرض الفيلم، في مستوى آخر، سلوك السلطة ضيقة الأفق، فنرى كيف نصح المستشار دولبونيه نابليون بالقضاء على المشكلة من جذورها، أي، بمنع دو ساد من الكتابة، ومصادرة أوراقه وريش كتابته وأحباره، والطلب من فرانسوا تشديد الرقابة عليه. وهذا ما حصل، ولكن هذه المصادرة حرَّضتْ لدى المركيز ردود أفعال عنيفة، فما لبث أن ابتكر حيلةً أُخرى مبرهناً أنه لا توجد قوّة يمكنها أن تمنع الكاتب من الكتابة. ‏فقام دو ساد بتحويل وجبة طعامٍ، قُدِّمتْ له، إلى ريشٍ للكتابة وأحبار اصطناعية، بعد أن نشر عظمة الدجاجة وجعل منها ريشته وحوَّل النبيذ حِبراً وغطاء المائدة صفحات لروايته التي استطاع تسريبها،  كالعادة، عبر مادلين. وما إن علمت السلطات بذلك حتى فرضت عليه المزيد من الرقابة. ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يقوم بتحويل أثاث غرفته إلى ريش كتابة ودمه إلى حبر ليخط على ثيابه ما تجود به أفكاره. فيأتي الحل بأن يترك عارياً، وحيداً يصارع جدران زنزانته، بعد اكتشاف تواطؤ مادلين في تهريب مخطوطاته، التي عوقبت بالجلد ومنعت من الاقتراب من زنزانته. وفي مشهد عميق، وجميل بذات الوقت (بل ربما الأجمل في الفيلم) نرى المركيز يملي نصه الجديد والأخير بطريقة غير مباشرة على مادلين، فهو لا يكتب بدمه أو بالنبيذ، ولا يمليها النص مباشرة، نظراً لأنه لم يعد مسموح لها الاقتراب من زنزانته، بل ابتكر حيلةً جديدة بأن يتوسط مجموعة من المرضى، الذين شكَّلوا سلسلة من حملة الرسائل الشفهية، حيث قام المركيز بصنع ثقب في الجدار، ثم طلب منهم -جميعاً- صنع ثقوب في جدران زنزاناتهم، وهكذا وصولاً لغرفة مادلين. فيقوم كل نزيل بنقل عبارته إلى جاره في الزنزانة، وهذا ينقلها إلى جاره الآخر، إلى أن تصل في النهاية إلى مادلين لتقوم بكتابتها. ويعبّر المركيز عن رضاه بالقول “نثري المجيد يمرّ عبر عقول المجانين، لابأس فقد يعملون على تحسينه”. فقد كان نزلاء المصحة، أثناء نقلهم لكلام المركيز، يضيفون من عندياتهم كلمات أو تعابير تتناسب مع الطريقة التي فهموا فيها كلامه، لتتحول الرواية في النهاية إلى منجز جماعي من إبداع خيالات نزلاء المصحة، فيبادر آخر ناقل منهم (وبتأثير الشبق الداعر) بمهاجمة مادلين محاولاً اغتصابها، بينما يقوم آخر (وبتأثير مباشر من النص المتناقل) بإشعال النار في المكان، ليتحول إلى مسرح كاشف للحقيقة المستورة، فما كان ينتجه خيال دوساد تحول في لحظات إلى وقائع على الأرض: نار تحرق ما حولها، شبق يقود لاغتصاب جسد شهي، مضاجعة أمام الملأ، جنس جماعي يبين البشر بأقبح صورهم.

‏ولكن لن يتوقف الأمر هنا -وهنا ذروة الإثارة- فبعد سماع صراخ مادلين ينهض فرانسوا مندفعاً للبحث عنها، بطريقة جنونية، بين نزلاء المصحة، الذين يقومون بممارسة الجنس هنا والاغتصاب هناك، ويهرع الطبيب كولارد، فيراها وهي تُغتصب من قبل أحد النزلاء “بوتسون” بتأثير من كلمات دوساد، إلا أنه يقرر عدم التدخل  لإنقاذها، بل ينظر نحوها مستمتعاً بالمشهد، ثم يُقطع لسان مادلين، ويلقى جسدها في قدر الغسيل ،مثلما فعل بطل القصة التي كان يمليها عليهم دو ساد، فيغلق كولارد الباب على نفسه لتُقتل مادلين وتغرق في دمها، لينكشف كولارد على حقيقته كوحش على هيئة بشر. ولايغيب عن بالنا أنه متزوج من فتاة تصغره بكثير، ويضاجعها بطريقة وحشية، خالية من الإنسانية التي يتلطى خلفها، وهو لن ينسى منظر زوجته وتعابير وجهها حين اكتشف أنها تقرأ ما يكتبه دوساد -وهي المسيحية التقية التي ترعرعت في دير وتحفظ الإنجيل-، ولعل أكثر ما أثاره اكتشافه أن زوجته تمتلك تلك الغرائز والروح الطبيعية للإنسان.

تنفجر، بموت مادلين، غرائز فرانسوا، وتطغى على أخلاقياته وعلى تربيته اللاهوتية، فيظهر الجانب المخيف منه (أليس هذا انتصار لأفكار دوساد؟)، تظهر روحه الحقيقية الطبيعية، بعيداً عن الدين والأخلاق، ليقوم بتعذيب المركيز لأنه يرى فيه سبب موت مادلين، وقتلها، فيقوم بقطع لسان المركيز، مثلما قطعوا لسانها (أليس لسان المركيز سبب انحرافه؟ أليس لسانه من كان يهمم بالكلمات التي أحبتها مادلين؟ ففقدت، بسببها، براءتها؟)، ويدور بينهما الحوار التالي:

‏- فرانسوا: إنها كلماتك.. بسبب كلماتك تلك قتل بوتسون مادلين .

-دوساد : طيب.. افترض أن مجنوناً حاول المشي على الماء، وغرق، أتلوم الإنجيل على فعلته تلك؟ بكل تأكيد لن تفعل.

-فرانسوا: إنها طفلة بريئة وها هي قد ماتت

-دو ساد : العديد من المؤلفين حرموا من متعة استجابة الناس لأعمالهم، أما أنا فقد بوركت بحصولي على هذه المتعة.

من السهل القول أن فرانسوا أعجب بأسلوب دوساد وصار يحلم بمضاجعة مادلين متحرِّراً شيئاً فشيئاً من تزمّته الدينيّ وتشدُّده الأخلاقيّ، وسيتحول إلى أحد أتباع المركيز ليأخذ مكانه (بعد موته)، إلا أنه بتحميله مسؤولية قتل مادلين كان لابد من إسكاته وما قطع لسان المركيز سوى معادل موضوعي كناية عن التخلص من آخر ريش المركيز دوساد.

‏وهكذا ينتهي الأمر بالمركيز عارياً في زنزانةٍ عارية، مقطوع اللسان، وحيداً بعد موت المرأة التي تواطأت معه على مقاومة الرقابة، تأخذ صحة المركيز بالتدهور شيئاً فشيئاً، ولكنه يؤكّد عندها من جديد أن بإمكانه أن يخدع الرقابة مرة أخرى فيستخدم يده كريشة كتابة وغائطه كحبر، وجدران زنزانته كصفحات لقصته الجديدة.. ويدعو القراء لأن يهيؤوا أنفسهم لما هو قادم “للحكاية الأكثر تلوثاً على الإطلاق والتي تثب من عقل أكثر رجل ملعون..”

‏ لم ينهزم دوساد، وهذا ما كان قد وعد به مادلين، فمن مثله لا يمكن أن يهزم:

‏- مادلين : حضرة المركيز سأترك هذه المصحة، وأذهب بعيداً فأخبرني قصة أخيرة

-المركيز : كيف تقترحين أن أفعل ذلك؟ بالغبار في الهواء؟!

-مادلين : بل اهمسها لي الآن.

‘المركيز : هذا خطر يا طفلتي.

-مادلين : سوف لن أراك ثانية فدعني أنسخ شيئاً أتذكرك به .

-المركيز : ليس هذا بالزمان ولا بالمكان المناسبين لنا كلينا.. نحن ضائعان يا عزيزتي .

-مادلين : لم أفكر أبداً أني سأراك مهزوماً هكذا.

-الماركيز : لدي آلاف القصص لأخبرك بها .

-مادلين : إذن أخبرني بواحدة.. واحدة فقط.

-الماركيز : حسنٌ؛ سأفعل. انتظري مني قصة ستجعل الملائكة تبكي، ويلهث القديسون طلباً للهواء حين سماعها .

‏هذا هو دوساد دون روتوش أو تزويق، وربما هذا ما دفع فرانسوا، بعد مضي الوقت، إلى التقرب منه، بعد أن فقد مادلين وبعد أن يئس من قدرة ربّه على إصلاح روح الماركيز، فيحاول فرانسوا في محاولةٍ أخيرة أن يقدح ضوء الإيمان في قلب المركيز، فيقدّم له الصليب كطريق التوبة، ولكن دوساد، القوي حتى في أضعف حالاته لا يرى الإيمان على هذه الصورة، فما إن يُدني الراهب الصليب من شفتي المركيز حتى يبتلعه منتحراً، ليتحدى أية رقابة محتمله على روحه وعقله.

يموت دوساد، تتلاشى قوته ويفنى جسده، لكنه يترك خلفه تابعاً وفياً يؤمن بقوة الكلمة، ويسخر من بؤس الرقابة، فها هو فرانسوا يسير على خطاه، متحرراً من الرقابة الدينية المنغلقة، لينفجر معبراً عن حريته ومجونه ويترك قناعاته الدينية لغيره من الضعفاء.

زمن المشاهد التي لا تُنسى حلم فرانسوا، لما يحتويه من صدمات بصرية، فحين يبدأ الحلم سلساً، جميلاً، سرعان ما يتبدد هذا الجمال، ويتحول إلى رعب لرؤيته نفسه يضاجع مادلين الميتة هناك فوق قبة الكنيسة، وتنقل لنا الكاميرة الصورة من الأعلى، فتبدو مادلين كأنها تدب فيها الروح من جديد، فتستجيب لمداعبة فرانسوا، ثم فجأة يظهر المسيح يبكي دماً ومادلين ميته وملطخة بالدماء.

وهناك مشاهد أخرى ذات أهمية في الفيلم ليس لخروجها عن المألوف أو لاستخدامها تقنية جديدة، بل لمصداقيتها ونقلها كما أرادها الكاتب مثل مشهد الليلة الأخيرة، فقد كان مشهداً سوادياً وقلقاً بكل لحظاته. تلك الصور المخيفة عن الإنسان تجعل المُشاهد متسمراً لمتابعة مرور هذه الدقائق الصعبة حيث هناك من يمارس الجنس بطريقة مقززة، وهناك من استغل اشتعال النار لمصالح شخصية سواء للهرب أو القتل أو غيره. ويتجاوب السيناريو مع شدة الألم هذه التي تجرد الإنسان من إنسانيته ويظهره على حقيقته مخيفاً ومقززاً بتلك الصور من الأفكار الجنسية. وقد سار المؤلف كما يبدو على نهج دو ساد ذاته سواء بدراسة الجوانب النفسية أو الجنسية، وكأنه يريد التأكيد على الفكرة الرئيسية للفيلم: ليس كل نزيل مصحة نفسية يعد مجنوناً بطريقة ما أو كما نتخيل نحن، فالبعض منهم ذواقون لكلمات دوساد وعوالمه الماجنة المتحررة. ويبدو أن المؤلف أراد القيام “بتكريم” دوساد وردّ الاعتبار له، بشكل أو بآخر، فبعد كل هذه السنوات من موته أصبحنا نشاهد السادية تقتحم الأعمال الفنية سواء الروائية أو السينمائية. ولا يكف فيليب كوفمان (المخرج) عن التأكيد على مقولة المؤلف الجوهرية: “الجنون”. فالجنون، أي الجنون الحقيقي، هو شيء يختلف ربما عن الصورة النمطية للجنون التي يتخيلها معظمنا، والمرتبطة بالنفاق الاجتماعي السائد دون مراعاة لتلك الجوانب المدفونة في أعماقنا، والتي لو أتيح لها الظهور لظهرنا كلنا مجانين وفجار بطريقة ما. ورغم أن الفيلم طويل نسبياً إلا أنه ليس مملاً، تجذبنا البلاغة المفرطة، واللغة السحرية الشعرية الرنانة، والحواريات التي تخاطب روحنا وجسدنا بآن معاً وتقترب بنا أكثر لنصبح شركاء في سردية بصرية حول النزعات الجنسية والجنون والدين والرياء المجتمعي، ويزيد من متعة الفرجة موسيقا الفيلم الجذابة والأزياء البديعة والأداء المتميز للممثلين، فقد أجاد جيوفري روش بلعب دور دو ساد من حيث ارتجال الدور بشكل متوافق مع شخصية دو ساد مما رفع كثيراً من سويّة الفيلم، وزاده تشويقاً وإثارة براعته المذهلة في تقمصه الغرائبي لجنون دو ساد بمهنية عالية، إن أي ممثل لن يجد الجرأة لديه للعب دور دوساد، إلا أن جيفري روش كسر جميع التوقعات، فما قام به كان أداء يكاد يلامس أطراف السماء، وهو يظهر لنا المركيز في جنونه وصعلكته وثورته، ولاسيما، عجرفته، بالإضافة إلى الجانب الجنسي المخيف بشخصيته، فضلاً عن الأداء المميز لخواكين فوينيكس بدور الراهب دو كولميير مدير المصحة، وقدرته على إتقان الأدوار الباطنية/ النفسية، أما كيت وينسلت، التي لعبت دور مادلين، فقد أظهرت بدقة تلك الإيحاءات العميقة التي اقنعتنا بمساندتها للمركيز، ولاننسى ميكائيل كاين الذي أظهر قدراته الحقيقية في تقمص دور الطبيب الشرير الذي يستمتع بالتعذيب ويتلذذ به .

وبعيداً عن رأينا في طاقم عمل الفيلم، ثمة كثير من الأسئلة تلقي بثقلها علينا؛ لاسيما ما يتعلق بالتحول الدرامي المدهش للراهب الشاب، فبعد أن كان يرفض ما يكتبه دوساد يجد نفسه غارقاً بما كان ينهى عنه، لتظهر – بعد عدة سنوات- الحقيقة عارية كعري المركيز، فما يبعث الأمل “المخادع” عند المشاهد هو رؤية شخصية تدعو لكل ما هو مفعم بالإنسانية طوال الفيلم. لقد كان فرانسوا الشخصية الوحيدة التي تبعث الأمل عند المُشاهد، إلا أن “جنونه”، في نهاية المطاف، وجريمته وأحلامه المقززة أظهرت حقيقته. ومن هنا كانت شخصية فرانسوا إضافة جميلة، بل أنها من جوهر الحبكة بجانب شخصية المركيز، ولايمكن إضافة شخصية كهذه، في قوام تجربة المركيز، دون أن يقوم من أوجدها بقراءة مكثفة للمركيز دو ساد ليضيف شخصية مثل هذه دون أن يختل السياق.

‏ونعود للسؤال الافتتاحي، هل حقاً كتب دو ساد عن الحقائق قبل أن ينزلق به الحال نحو الجنون؟

‏يقال أن سر الحياة يكمن في قدرتنا على التخيل، ولهذا يقول دوساد “نعم، لقد كنت ماجناً وارتكبت الفظائع، وتخيّلت في كتاباتي كل ما يُمكن تخيّله. لكنني بالتأكيد لم أفعل كل ما تخيّلته، ولن أفعل أبداً. أنا ماجنٌ، لكنني لستُ مُجرماً”.

فإن كان الأمر كذلك، هل نقل لنا المخرج هذه الجزئية؟ واقع الحال التاريخي يشير إلى أن دو ساد مجرم.. لقد كان مجرماً ومداناً من قبل المجتمع، ارتكب الكثير من الجرائم “لاسيما الجنسية” التي وصفها بكتاباته، وأمضى جزء من سنين عمره متنقلاً بين السجون بتهم متنوعة ليس أقلها جرائم الفحش والهرطقة، فضلاً عن حالات اغتصاب الخادمات والعاهرات وتعذيب خدمه، وحتى في السجن لم تنج من فجوره ابنة أحد موظفي المصحة. ورغم كل هذه التفاصيل التاريخية يوقعنا المخرج في حيرة حين نجد أنفسنا منساقين للتعاطف، بشغف، مع هستيريا المركيز دو ساد، ومن شاركوه هذه الهستيريا. غير أن الجنون هو الجوهر هنا.

ربما التعاطف مع الجنون أقرب إلى ذواتنا وعوالمها الفظيعة، لو نظرنا لها كمحض جنون..

فأي جنون هذا؟

أي جموح يحمل الناس الطبيعيين على الاستمتاع بالتعذيب

أي خيال وتفصيل يدفعهم لتبني أشد الخيالات جنوحاً في نزواتهم وأحلامهم الجنسية، أو حتى مجرد التفكير فيها؟

ما شاهدناه في الفيلم تصوير أكثر ما يكون صادقاً عن ‏عذاب وألم دو ساد بسبب منعه من الكتابة، فحتى الراهب فرانسوا تعامل معه بطريقة توحي بمظلوميته، رغم هرطقته وجهره بمعاداة الكنيسة. ولعل ما يثير تعاطفنا، إصرار دو ساد على الكتابة بتلك الطريقة التي تحتاج لأكثر من عقل يملكه إنسان واحد. (نحن في غالب الأحيان نصف من يمتلكون مثل هذه القدرات العقلية و الذهنية الاستثنائية بالمجانين).

……

العنوان الأصلي للفيلم Quills من إنتاج العام 2000، إخراج فيليب كوفمان، النص الأصلي من مسرحية بعنوان  Obie للكاتب دوغ رايت والذي كتب أيضاً سيناريو الفيلم. لعب الأدوار الرئيسية جيوفري راش بدور الماركيز دو ساد، كيت وينسلت بدور  مادلين “مادي” لوكلير، خواكين فوينيكس بدور الأب دو كولميير، وميكائيل كاين بدور الدكتور روييه كولار

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

من دفاتر عادل الأسطة (17): الرواية الفلسطينية من 1948حتى الوقت الحاضر

” الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الوقت الحاضر ” هو آخر الكتب التي أقرأ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *