عبد يغوث بن صلاءة: شاعر حافة الموت

“وليس في الأرض أعجب من طَرَفَةَ بنِ العبد وعبد يغوث(1)؛

وذلك أنَّا إذا قِسنا جودةَ أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما

لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية”.

الجاحظ \ البيان و التبيين ج 2 , ص 268.

أَحَقًّا – عِبَـادَ اللهِ – أَنْ لَسْـتُ سامِعـاً ……. نَشِيدَ الرُّعَـاءِ المُعْزِبيـنَ المَتَاليَـا(2)

أي شكوى هذه، تراوح عند الحد الفاصل بين الحياة والموت.. بين الوجود والعدم، بين الارتماء في حضن الخطر أو الجمود والانتظار والغرق في حزن عميق من غير جدوى. أي بوحُ خوفٍ استفهاميّ هذا، حين يقترب صاحبه من حد الموت المشبع بمشاعر الفراغ والوحدة، ويدرك أنه لن يسمع بعد اليوم أناشيد الرعاة، ليبدأ سيل الأسئلة ينهال عليه تباعاً. وحتى لو توقف للحظة وقال بشجاعة: أنه الآن حياً فهو لاشك سوف يمضي نحو العالم الآخر بعد لحظات، إلى عالم لا يعرفه، ولا يعرفه أحد من الأحياء، ولعل هذا مصدر قلقه وحزنه وخوفه, فهو في الحقيقة لا يعلم ما الذي ينتظره وراء الموت، وربما وطأة الأسئلة هذه هي التي جعلته يقول لآسريه بالتعجيل في قتله(3) بدلاً من تحويل كل دقيقة إلى نبع آلام لا يستطيع عدّها.

ثمة ذعر عديم المعنى، موضوعياً، من الموت يجعلنا نعتبر أي تأمل في الموت هو تأمل مرضي وسخيف فنحن- على حد قول سيغموند فرويد- “نتحول إلى مرضى، حين نبدأ في طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت”.. نظراً لصعوبة التحكم الموضوعي بنوعية هذه الأسئلة.

غير أنه لا يمكن إنكار سطوة سؤال الموت وإلحاحه على الصعيد الشخصي، وتمثل الإجابة عليه جزءً مركزياً من وعينا ومن تصوراتنا الدينية والاجتماعية والثقافية التي نشأ في سياقها هذا الوعي دون إغفال الجانب النفسي. وسؤال الموت هذا ليس نزوعاً متشائماً طارئاً أو احتجاجاً بطريقة ما -ولو كان كذلك لوجب اعتباره إشكالية ومعضلة حقيقية- بل هو في الحقيقية -بالإضافة إلى كل ما سبق- هاجس شخصي يلقي بثقله منذ اللحظة الأولى التي طرح فيها الفرد هذا السؤال على نفسه، بصرف النظر عن موضعه ووعيه وموقعه، وقدرته على الإجابة. وسوف يبقيه هذا السؤال متأرجحاً بين الحياة والموت إلى أن ينتصر الأخير في نهاية المطاف. وهذا ما يعد بحق خيبة أمل كبرى لوجودنا وثغرة من أكبر الثغرات في تجربتنا كأحياء، ثغرة غير قابلة للردم (إلا، ربما، بوضعها في سياق استهلال فلسفي أوسع يجعل من الموت فكرة مقبولة و”عقلانية” وذات دلالة).

ماذا يعني رثاء المرء لنفسه؟

تقول الحكمة القديمة، ليس للمرء سوى نفسه في حضرة الموت. ويقول لنا من يهتمون بشأن السلوك البشري أننا نتصرف، على العموم، وفق ما تمليه علينا مصالحنا العليا، وأن ذهن الإنسان يكون في أقصى حالات حضوره وتفتحه عند اللحظات التي تسبق الكارثة المتوقعة حيث يكون مدركاً لتفاصيل ما يدور حوله، حتى أنه ينتبه لأدقها حتى لو بدت غريبة، مثلما استرعى انتباه عبد يغوث ضحك المرأة العجوز وإغواء النساء له بما هو مدعاة فخر ذكورية حتى في أشد اللحظات قتامةً

وتَضْحَكُ مِنِّـي شَيْخَـةٌ عبْشَمِيَّـةٌ……. كأَنْ لَمْ تَرَى قبْلِـي أَسِيـراً يمَانِيَـا

وظلَّ نساءُ الحيِّ حولي رُكّداً…… يراوِدْنَ منّي ما تُريدُ نِسائِيا

لست أدري في أي صفحة من رواية “الأبله” يقول ديستويفسكي أن الإنسان “حين يداهمه هلاكٌ لا سبيل إلى تحاشيه، كانهيار منزل فوقه مثلاً، إنما يشعر عندئذ برغبة لا تقاوم في أن يقعد مغمضاً عينيه وليحدث ما يحدث”. وها نحن هنا أمام تجربة يقعد -أو سيّان يقف- فيها الفرد على حافة الوجود يستجدي فيها الحياة- ليس معنى الحياة، بل الحياة المحضة ذاتها- وقد أثمرت هذه الوقفة عن منجز أدبي عظيم مثلت خلاصة فلسفة الموت عند العربي القديم(4). ولو قدر لعبد يغوث أن يعيش فلابد سيبقى يذكر تلك التفاصيل وهو ينبهنا لقدره دون مقدمات، فلا متسع لديه من الوقت، (تبدأ القصيدة بالتنبيه وعدم اللوم وتنتهي باستذكار الأيام السابقة الجميلة والخمر والنساء والندامى) و كأنه يطلب منا مساعدته في تغيير مصيره، وهل استطاع أحد من قبله أو من بعده تغيير مصيره؟

هذا البوح الممزوج بالاستعطاف يجسد معنى الخوف الحقيقي للأحياء من الموت، فحتى الفرسان لا يرغبون فيه مهما كان “عظيماً” (وهل كان الموت يوماً ما عظيماً)؟ غير أن حزن الشاعر وخوفه منه ليس بسبب الموت بحد ذاته، بل بسبب حزنه وألمه لتركه وحيداً يواجه مصيره، بينما أبت عليه فروسيته الانسحاب من المعركة فبقي يقاتل رغم هروب قومه من ساحة المعركة، وإذن فهم الملامون لأنهم تركوه يقع أسيراً، ويؤكد أنه لو أراد الهرب لفعل، لكنه أبى فهو إنما دافع عن شرف قبيلته، ولذلك لا يرى في نفسه ” ضحية”، بل فارس “ضحّى” بحياته في سبيل قومه باعتبار أن التضحية كمضمر إنساني رفيع ومتعالي لاتعدّ ضرباً من الجنون والهبل، بل مفخرة خالدة وقيمة ثابتة، وإذا كانت التضحية في سبيل “المقدس” تعد فضيلة عليا وقيمة إنسانية لا يرقى لها مثيل، فإن مثل هذه التضحية سوف تكتسب زخماً ومعناً مضافاً عندما يكون هذا المقدس هو الإنسان نفسه حين يضحي بنفسه في سبيل إنسان آخر. وعلى هذا إذا كان الحب باعتباره “قيمة ميتافيزيقية” أحد جوانب التوازن النفسي \ الاجتماعي التي تقوم عليها الحياة الإنسانية فالتضحية، حين تبرز قيمة قدسية الإنسان من جهة وقيمة الحياة ومعناها من جهة أخرى، ستكون بلاشك على الكفة الأخرى من ميزان التوازن للتاريخ الشخصي للأفراد، فالإنسان، وليس شيء آخر، هو المقدس، وهذا ما يعوض خسارتنا للخلود ويثير فينا الحماس والإبداع، فالإنسان هو “الثابت” الوحيد في جملة المتغيرات الكونية مما يؤكد رسوخه كقيمة مقدسة رغم تبدل المرجعيات واختلال مصادر الأخلاق وتذبذبها.

أمام هذا التعقيد الذي تمثله النفس البشرية وتعييناتها الوجودية سوف يتأسس الوجود الهش للإنسان في مواجهة مصيره.

فها نحن هنا أمام فارس، شاعر، يصف بصورة درامية مكثفة لحظات الرعب السابقة لموته وما يرافقها من معاناة نفسية شديدة حيث تكون الحياة على المحك لعلمه أنه لم يعد يبقى له كثيراً مما يقوله، ورغم هذا الشعور فقد بدت له تلك اللحظات طويلة وممطوطة وبلا نهاية وكأنه سيعيشها لأكثر من حياة أو يتمنى أن يعيد عيشها فيتذكر ما يعرفه عن لحظات مشابهة مرّ بها من قبله الشاعر أمرؤ القيس الذي كان يطلب الثأر لأبيه القتيل فذكره هذه اللحظات بقوله:

                                            كَأَنِّيَ لَم أَركَب جَواداً لِلَذَّة…… وَلَم أَتَبَطَّن كاعِباً ذاتَ خِلخال

                                         وَلَم أَسبَأ الزقَّ الرَّويَّ وَلَم أَقُل…. لِخَيلِيَ كرِّي كَرَّةً بَعدَ إِجفالِ

وهذا الإحساس بتشابه الحالتين والنهايات المؤلمة هو ما خلق مثل هذا التناص بقول عبد يغوث

كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَـوَاداً ولـم أَقُـلْ……. لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِـي عـن رِجَالِيَـا

ولم أَسبَأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولـم أَقُـلْ……. لأِيْسَارِ صِدْقٍ: أَعْظِمُوا ضَوْءَ نَارِيَا .

وهكذا تمضي سردية القصيدة باتساق بين واقع الشاعر وذكرياته السابقة ومصيره على نحو يجعلنا نسمع صوته يأتينا من أعماقه لتفسير حالته الإنسانية تلك بكل أبعادها الروحية والنفسية والاجتماعية ” الحالة المميزة والاستثنائية بأن يشاهد موته لحظة بلحظة” وهذا بحد ذاته معضلة وجودية تعارض كل معاني الوجود، إذ ليس بمقدورنا بناء سردية فردية مبتورة تتجاوز عمرنا الأرضي دون الأخذ في اعتبارنا الأبعاد “الروحية” الخفية التي تتيح لنا تقبل الموت “المطلق” من غير رجعة، بطريقة تتجاهل توقنا العميق للحياة الخالدة. فللموت وجه قاسٍ حين يواجه الحياة بالفَقْد، إذ تهدم حتميته ما يمكن أن يتبقى من عقلانية نتمتع بها في مواجهته لأنه -أي الموت- ليس حالة مؤقتة بل هو فقد نهائي عبثي لا رجعة فيه، ولهذا يبقى الموت مجازفة غير مضمونة. ويقوم الشاعر -ويا لسخرية ما يقوم به- من خلال استعادة ذكرياته بمحاولة أخيرة يائسة لإقناعنا بانتمائه لنفسه وللحياة وعدم خشيته الموت وأن حزنه نسبي وليس مطلق “بسبب خيانة قومه له ليس إلا” وهو مازال يحتفظ بذكرياته الجميلة مع حبيبته (نعرف أن اسمها مليكة) ورفاقه “الذين سيفتقدهم لاشك رغم أنهم سوف ينسوه بعد حين لانشغالهم بتفاصيل حياتهم”. ولعله بسبب هذه المجازفة تتكاثر الإسقاطات العاطفية عنده وتتضخم مشاعره إزاء مصيره الذي يقف أمامه ضمن الحدود التي تفسرها التقاليد القبلية السائدة والنظرة الاجتماعية إلى الحياة الإنسانية فيأتي الموت ليعبر عن انعدام المعنى في سياق الحياة مما يجعل الفرد يفقد أمراً جوهرياً يتمثل في المعنى أو البعد البطولي للحياة فنحن بوصفنا أبناء الحياة نخاف الموت، لذلك “نعزله” أي نعزل من هو مشرف على الموت، نتركه يموت لوحده، نتعجل دفنه، ثم نتركه وحيدا بين القبور في مكان نفضل أن نبعده عن مجال رؤيتنا ونبعد كل ما يذكرنا به، ولذلك لا نطيق الحديث عنه أو عن مصادره وأسبابه. وفي هذا المعنى وهذه الحالة نعيش ارتكاساً إنسانياً رهيباً- لكن غير مبالغ فيه- .

فثقافة الموت لدى البشر مشتركة وإن كانت ليست واحدة، وهي مرتبطة بتجربتهم الوجودية وفقاً لمعطيات البيئة المحيطة بهم، وحتى هذه التجربة تختلف بين الأفراد في المجتمع الواحد فنرى تبايناً واضحاً في استقبال الموت عند هؤلاء وفقاً لطبيعة كل واحد. فالمحارب يتلقى الموت بطريقة تختلف عن الصعلوك أو رجل الدين أو العاشق أو اللص.. إلخ. فمثلما يتقن كل منا بطريقة أو بأخرى التعامل مع تفاصيل حياته اليومية، لابد أن يأتي عليه يوماً ليقف أمام الموت، وهنا تختلف التجربة، فما كان سابقاً على درجة من الأهمية “الموضوعية” يصبح بلا قيمة الآن، لينصب الاهتمام على ما هو ذاتي، ومتى اجتزنا هذا الذاتي يصبح الموت سهلاً ويفقد رهبته ويتلاشى الخوف منه ويتبدد القلق الوجودي بشأنه، فتزول معاني التأمل الفكري في الموت ليحل محلها استذكار ما كان..

تطغى الذكرى على الطموح- الحلم الذي يصبح مجرد لحظة عابرة في الحياة الأرضية تنتهي معه كل المعاناة، فالأموات لا ينظرون خلفهم، الأحياء من يفعلون، وهم من عليهم الاستمرار في المعاناة والتألم. سوف يستقر الأموات دون إزعاج من أحد أو شيء ولن يكون بمقدورهم ” تصحيح” الأخطاء البشرية، فتلك لم تعد مهمتهم على كل حال، يعيش الموتى حالة من التكامل لا تتوفر لهم في الحياة. وما صرخة عبد يغوث سوى استنكار لهذا الموت، ولعله في صوته يحارب الموت في مسعاه للبحث عن الطمأنينة، وهذه الأخيرة لن تأت إلا إذا كان الموت ليس نهاية كل الأشياء، فخلوده يكمن في استمرارية ” هويته- قصيدته” وهو ما يأمل الشاعر أن تسير بها الركبان في صحارى العرب، فمعاني الحياة الأخرى مثل الفرح والسعادة والجنس والأمل والعمل هي مفردات تخص الأحياء ولا تخصه هو، فهو سوف ينتمي لعام آخر له مفرداته الخاصة به.

قد يقول قائل أن هذا ليس سوى وهم، ليس سوى دروع هشة يتلطى خلفها الإنسان أملاً في الخلود بطريقة ما تتجاهل مركزية الوجود الجوهرية، أي أصل الإنسان وأصل الكون، وبالتالي على الشاعر أن يجيب عن سردية الوجود الكبرى هذه، قبل البحث عن سبل تقبل الموت بتلك الطريقة الميتافيزيقية التي تتخطى الأسئلة الكلية بما يعطل آلية إنتاج سرديات الوجود الكبرى بسبب من عدم إشباع الحاجة الشعورية العقلية بطبيعة الموت أو مصدره. يقول الجاحظ (الحيوان ج 7 ص 157): ” ما قرأت في الشعر كشعر عبد يغوث بن صلاءة الحارثي وطرفة بن العبد وهدبة [بن خشرم العذري]، فإن شعرهم في الخوف لا يقصّر عن شعرهم في الأمن، وهذا قليل جداً”.

قد تكون هذه الأقوال محقة لجهة صلتها الوثيقة بالوجود الإنساني عند المستوى النفسي العميق. وحين يفشل الإنسان في خلق المعنى فإن هذا يعود لإخفاقاته المتكررة في بناء سردية مكتملة وعقلانية عن علاقته بالموت وربما يعود هذا لعدم كفاية التاريخ الشخصي، كتجربة، لأي منا للتوصل لمعنى الموت بسبب المبالغة في التركيز على الذات والتمركز حولها وهذا ما يجعل تفكيرنا ينحصر في صيغ عمومية زمانية ومكانية، ولهذا لم يكن في بال عبد يغوث حين زفر من صدره تلك القصيدة أنها سوف تثير عجب كل من يسمعها أو يقرأها، وتجعله يقف أمامها مذهولاً من شدة ألمها وذاتيتها ووجعها، ولعل هذا من بديهيات الفعل الإنساني، أي التضامن الوجداني العميق مع حالات الظلم (الفردية والجماعية) المختلطة بالإعجاب لشجاعة صاحبها واصطباره على ألمها، فضلاً عن الأصالة التي نلمسها في كل كلمة وصدقها وهذا ما يجعلها عند مطارح معينة تتجاوز نطاق المعقولات لتسرح بنا بعيداً في هياكل أدبية متعددة الأغراض. وهنا يستوقفنا ملمحين أساسين في القصيدة، الموت الوشيك الذي لا مفر منه، ورثاء الذات وتأمل النجاة والتعلق بحبائل الوهم أملاً في النجاة. ويعبر عن هذين الغرضين بعاطفة صادقة شفافة، لكنها عاطفة سلبية لاشك حين لا تملك القدرة على التحول إلى أداة فاعلة تنقذ صاحبها مما ينتظره من مصير بائس، فالموت ليس خياراً في الحياة، ولا هو صفقة أو مساومة، بل مسار حتمي تنتهي به تجربة كل فرد منا في صيرورة لا فكاك منها تتغلغل في كل مظهر من مظاهر الحياة. وينصرف “تاريخ الموت” في الوقائع الإنسانية إلى تأكيد معناه من خلال حاجتنا إلى ملاذ يضخ فينا آمال جديدة أو قديمة أو حتى مستعادة، فالموت ليس إيمان بقدر ما هو مأوى، والتضامن الإنساني ضده ليس مزية بقدر ما هو واجب يمثل تدخلاً خارجياً مفيداً لتفكيك حيثيات أخلاقية معينة تحوم حول القيمة النفعية للمشاعر في ظل التأمل الذاتي لها.

وبمعزل عن معنى الموت والحياة ينصرف تاريخ الوقائع الإنسانية إلى التأكيد أيضاً على أن الإنسان هو كائن ” عادي” وليس استثناء، فهو يشبه الجميع الآخر حين يمارس نداءات الطبيعة المتنوعة فهو يأكل ويشرب وينام ويعمل ويشتم ويصلي ويمارس الجنس ويتآمر ويقتل ويكذب ويلعب ويكتب ويمرض ويموت.. إلخ وهو لا يحتاج إلى إثبات ما سبق نظراً لأنها أفعال تبرهن على ذاتها بذاتها، غير أن الفرق يكمن في تأملنا للفائدة المتحصلة لدى كل واحد منا من أفعالنا مثلما توصل عبد يغوث إلى ذلك بسهولة بقوله:

وأَنْحَرُ لِلشَّـرْبِ الكِـرَامِ مَطِيَّتِـي …….. وأَصْـدَعُ بَيْـن القَيْنَتَيْـنِ رِدَائِيَـا

ألا يشبه هذه ما يلخصه قول رولان بارت: “إن أكثر ما أثار فتنتي طوال حياتي هو الطريقة التي يجعل بها البشر العالم معقولاً”

…………….

ملاحظات

1) تذكره كتب الأنساب والإخباريين العرب باسم عبد يغوث بن صلاءة أو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة من بني الحارث بن كعب ويعود بنسبه إلى كهلان. وكان شاعراً من شعراء الجاهلية، ويوصف بأنه كان عظيم الجسم جميلاً وفارساً سيداً لقومه وقائد قومه يوم الكُلاب الثاني على بني تميم وأحلافهم فقتل وأسر من قومه عدد كبير. ثم وقع هو في الأسر، أسره شخص من بني عمير بن عبد شمس، وقُتل في الأسر كما هو في قصته المبثوثة في مؤلفات الإخباريين. ويوم الكُلاب الثاني، يصفه الأصفهاني في “الأغاني” كأحد أعظم ثلاثة أيام من أيام العرب [واليومين الآخرين هما ذي قار، وجبلة بين بني تميم و بني عامر]، والكُلاب حسب ياقوت الحموي: وادٍ يسلك بين ظهري ثهلان وهو جبل في ديار بني نمير لاسم موضعين أحدهما اسم ماء بين الكوفة والبصرة وقيل ماء بين جبلة وشمام على سبع ليال من اليمامة وفيه كان الكُلاب الأول والثاني وإنما سمّي الكُلاب لما لقوا فيه من الشر. والكُلاب الثاني من أيام العرب التي وقعت بين القحطانية والعدنانية، وخلاصته أن بني تميم خافوا، بعد أن أوقع بهم الملك الفارسي، وضعفوا أن تطمع العرب بأموالهم، وتستغل ضعفهم فتفاجئهم بغزو، فاجتمع سبعة من ذوي الرأي فيهم، وأبرزهم وأسنهم: أكثم بن صيفي الأسدي الذي نيَّف على التسعين، وقيس بن عاصم المنقري، والزبرقان بن بدر السعدي، واتفقوا على خطة حكيمة، هي أن يجتمعوا على ماء، ولا يعلم الناس أين هم مجتمعون، حتى يقوى ظهرهم وتصلح أحوالهم، فارتحلوا ونزلوا على ماء بين الكوفة والبصرة يدعى “الكُلاب” وتفرقت بطونهم: الرباب وسعد وحنظلة في مختلف أطراف الوادي. والواقع أن إحدى قبائل العرب الجنوبية من نجران “بنو الحارث بن كعب” قد بلغهم ما حل بتميم، فطمعوا بخيلهم وإبلهم ونسائهم، فأرادوا اغتنام الفرصة للسطو عليهم، فجمعوا جموعهم وساروا ومعهم مذحج وقضاعة، في عسكر عظيم إذ بلغوا ثمانية آلاف “لا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه، ومن جيش كسرى بذي قار، ومن يوم جبلة” – كما يقول ابن الأثير- يريدون بني تميم. ولما سمع بهم هؤلاء امتثلوا لمشورة أكثم بن صيفي،[ انظر, عمر فروخ: تأريخ الأدب العربي ج 1 ص 205-207].

2) وردت القصيدة في كتاب الأغاني (طبعة دار الكتب ج 16 ص 328 ) وهي من البحر الطويل ورغم أن موضوعها الرئيسي الرثاء، غير أنه لا يشكل موضوعها الأوحد حيث ينتقل الشاعر إلى أغراض مختلفة حسب الحالة النفسية التي يعيشها وضغط الوقت والخوف من الموت.. إلخ ولم يمكن الشاعر في موضوع يسمح له باختيار المفردات أو التقديم والتأخير وغيرها من ضروب البلاغة الشعرية. ويختلف عدد أبيات القصيدة من مصدر لآخر فهي عشرين بيتاً في المفضليات وفي الخزانة للبغدادي, وثمانية عشر في الأغاني, وتسعة عشر في أمالي القالي وذيل الأمالي، ويذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد ثمانية عشر بيتاً فقط وفي الحماسة البصرية لا تتعدى أربعة عشر بيتاً :

أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ مـا بِيَـا                      وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَـا

أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُهـا قليـل ٌ ,                   وما لَوْمِـي أَخِـي مِـن شِمَالِيَـا

فَيَا راكِباً إِمَّـا عَرَضْـتَ فَبَلِّغَـن ْ                       نَدامَايَ مِن نَجْـرَانَ أَنْ لا تَلاَقِيَـا

أَبَـا كَـرِبٍ والأْيْهَمَيْـنِ كِلَيْهِمَـا                          وقَيْساً بِأَعْلَي حَضْرَمَوْتَ اليمَانِيَـا

جَزَى اللهُ قَوْمِي بالكُـلاَبِ مَلاَمَـةً                   صَرِيحَهُـمُ والآخَرِيـنَ المَوَالـيَـا

ولو شِئْتُ نَجَّتْنِي مِن الْخَيْـلِ نَهْـدَةٌ                   تَرَى خَلْفَها الحُـوَّ الْجِيَـادَ تَوَالِيَـا

ولكِنَّنِـي أَحْمِـي ذِمـارَ أَبِيـكُـمُ                         وكانَ الرِّماحُ يَخْتَطِفْـنَ المُحَامِيَـا

أَقُولُ وقد شَـدُّوا لسانِـي بِنِسْعَـةٍ                     أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُـوا عـن لِسَانِيَـا

أَمَعْشَرَ تَيْمٍ قَـدْ مَلَكْتُهُـمْ فأَسْجِحُـوا                    فإِنَّ أَخاكمْ لـم يَكُـنْ مِـن بَوَائِيَـا

فإِنْ تَقْتُلُونِـي تَقْتُلُـوا بِـيَ سَيِّـداً                       وإِنْ تُطْلِقُونِـي تَحْرُبُونِـي بِمَالِيَـا

أَحَقًّا عِبَـادَ اللهِ أَنْ لَسْـتُ سامِعـاً                   نَشِيدَ الرُّعَـاءِ المُعْزِبيـنَ المَتَاليَـا

وتَضْحَكُ مِنِّـي شَيْخَـةٌ عبْشَمِيَّـةٌ                     كأَنْ لَمْ تَرَى قبْلِـي أَسِيـراً يمَانِيَـا

وظلَّ نساءُ الحيِّ حولي رُكّداً…                   يراوِدْنَ منّي ما تُريدُ نِسائِيا

وقد عَلِمَتْ عِرْسِـي مُلَيْكَـةُ أَنَّنِـي                    أَنَا اللَّيْـثُ مَعْـدُوًّا علـيَّ وعادِيـا

وقد كُنْتُ نَحَّارَ الجَـزُورِ ومُعْمِـلَ الـ..                ..ْمَطِيِّ وأَمْضِي حَيْثُ لا حَيَّ مَاضِيَا

وأَنْحَرُ لِلشَّـرْبِ الكِـرَامِ مَطِيَّتِـي                      وأَصْـدَعُ بَيْـن القَيْنَتَيْـنِ رِدَائِيَـا

وكنْتُ إِذا ما الْخَيْلُ شَمَّصَهَا القَنَـا                   لَبِيقـاً بتَصْرِيـفِ القَنَـاةِ بَنَانِيَـا

وعادِيَةٍ سَـوْمَ الجَـرَادِ وَزَعْتُهـا                        بِكَفِّي وقـد أَنْحَـوْا إِلـيَّ العَوَالِيَـا

كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَـوَاداً ولـم أَقُـلْ                     لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِـي عـن رِجَالِيَـا

ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولـم أَقُـلْ                   لأِيْسَارِ صِدْقٍ: أَعْظِمُوا ضَوْءَ نَارِيَا .

ــــــــــــــــــــ

شيخة: عجوز. عبشمية: من بني عبد شمس (من قيس، من عرب الشمال). تري مجزومة بحرف الجزم لم، وعلامة جزمها حذف النون. وفي البيت التفات من الغائب إلى المخاطب. وتقول الروايات المتعددة أن الذي أسر عبد يغوث فتى من بني عبد شمس أهوج فقالت أمه: من هذا وقد رأت منه فارساً عظيماً جميلاً  فقال عبد يغوث: أنا سيد القوم فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. وإلى هذا أشار بقوله: وتضحك مني شيخة عبشمية.. البيت فقال: أيتها الحرة هل لك إلى خير قالت: وما ذاك قال: أعطني ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أخاف أن تنتزعني سعد والرباب منه فضمن لها مائة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي وانطلق به إلى الأهتم فقال عبد يغوث:

                                        أأهتم يا خير البرية والدا   ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا

                                        تدارك أسيرا عانيا في حبالكم    ولا تثقفني التيم ألق الدواهيا

ولكنهم خدعوه فأخذوا الإبل ولم يطلقوا سراحه

3) لمّا عزموا على قتل عبد يغوث شدّوا لسانه بنسعة [ قطعة رفيعة من الجلد]، مخافة أن يهجوهم وكانوا سمعوه ينشد شعراً فقال” أطلقوا لي عن لساني, أذم اصحابي و أنوح على نفسي, فقالوا: إنك شاعر و نحذر أن تهجونا, فعاهدهم  أن لا يهجوهم, فأطلقوا عن لسانه. فقال لهم اقتلوني قتلة كريمة. فقيل له : وما تلك القتلة؟ فقال: اسقوني الخمر، ودعوني أنح على نفسي، فاسقوه خمراً  وقطعوا له عرقاً يقال له الأكحل، وتركوه ينزف يحرسه اثنان من الفتيان فقالا[ أي الشابان]: جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا، فكيف رأيت الله صنع بك؟ فقال في ذلك: أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ مـا بِيَـا   وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَـا. وهذا يخالف رواية العقد الفريد إنه قُدم وضربت عنقه. و يقول الجاحظ في البيان و التبيين ج 4 ص 45 أن العرب كانوا شديدي الخشية من الهجاء أن يبقى ذكره في الأعقاب و يسب به الأحياء و الأموات  إلى حد بلغ بهم ” أنهم إذا أُسر الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث حينما أسرته بنو تيم يوم الكلاب”

4) تتكرر صورة رثاء النفس عند العرب وهناك الكثير من شعراء الجاهلية والإسلام ممن رثى نفسه  مثل أمية بن أبي الصلت وطرفة العبد وخبيب بن عدي ومالك بن الريب وهدبة بن الخشرم وغيرهم, وثمة قصائد عديدة منسوجة على منوال قصيدة عبد يغوث نفسه, لعل أشهرها قصيدة مالك بن الريب المازني التي مطلعها :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة …….. بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

وثمة قصيدة للشاعر صريم بن معشر الملقب بأفنون التغلبي من سبعة أبيات ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء ج 1 ص 187  مطلعها :

لعمرك ما يدرك أمرؤ كيف يتقي….. إذا هو لم يجعل الله له واقيا.

وفي الأغاني ج 13 ص 45 ثمة قصيدة للشاعر الأموي جعفر بن علبة الحارثي , ومنها قوله:

أحقاً- عباد الله- أن لست رائياً…. صحارى نجد و الرياح الذواريا.

ويذكر الجاحظ في الحيوان ج 1 ص 121 أبياتا للشاعر علقمة بن سهل يقول فيها:

ودُلّيتُ في زوراء, ثمَّتَ أعنقوا…… لشأنهم, قد أفردوني لشانيا.

ومن معاصرينا يقول عبد المعين الملوحي بعد تجربة قاسية مع موت رفيقته وشريكة عمره

تمنيتَ يا ابن الريب لو بتَّ ليلةٍ       ( بجنب الغضا تزجي القلوص النواجيا)

وأمنيتي لو بتُّ في حمصَ ليلةٍ        فأسبحَ في العاصي و ألقي لداتيا

 

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

من دفاتر عادل الأسطة (17): الرواية الفلسطينية من 1948حتى الوقت الحاضر

” الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الوقت الحاضر ” هو آخر الكتب التي أقرأ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *