ساعي بريد نيرودا Il Postino: الوعد بوصفه خذلان

“ستكتشفين أنني أحبك حين لا أحبك. وطالما للحياة وجهين، تستطيع الكلمة أن تكون للصمت جناحاً، وللنار نصيبها من البرد.”

البداية، إيطاليا في العام 1952،بعد سنوات قليلة من الحرب. إيطاليا ما بعد الفاشية حيث جلبت الهزيمة تغيرات سياسية واقتصادية هامة. في ذلك الوقت كان يعيش في خليج نابولي، شاب يدعى ماريو في جزيرة صغيرة، تدعى بروسيدا، تسودها العلاقات الأبوية حيث الفقر يحد من فرص البقاء، وحيث تبدو حياة الرجال والنساء فيها تقليدية للغاية. فالرجال هم رواد المطعم الوحيد في البلدة، وتقوم على خدمتهم دونا روسا وابنة أخيها، الصبية بارعة الجمال، باتريشا -وهما إلى جانب ماتيلدا زوجة نيرودا النساء الوحيدات اللواتي يظهرن في الفيلم تقريباً-. ورغم أن ماريو لا يبدو أنه يؤدي دور الذكر التقليدي، تظهر دونا روسا على أنها “أمٌّ” إيطالية نمطية بامتياز، فهي تشعر بالخوف على ابنة أخيها كلما اقترب منها ماريو، ومحاولته إغواءها بمجاز الكلام، وباعتبار السيدة دونا روسا أرملة، فهي لا تتردد- مثلها مثل معظم النساء- في اتخاذ دور نشط “أي ذكوري” للحفاظ على عائلتها، فهي تهدد ماريو بالقتل أن اقترب من باتريشا (يختلف الأمر بعد زواجهما فيصبح ماريو- في نظرها- “رجل المنزل”. ولكن المفارقة هنا أن هذا لا يُحدِث فرقاً في الأدوار الاقتصادية فمازالتا دونا روسا وباتريشا تديران المطعم، بينما ينتهي الحال بماريو في المطبخ.)

يكتشف ماريو “من خلال الشعر”. رغم أنه يعيش حياة بسيطة، غير متكلفة، في جزيرة منسية يعمل أهلها بالصيد، المهنة التي لا يحبها، ويشاء القدر أن يجمعه- بسبب عمله المؤقت كساعي بريد- مع الشاعر بابلو نيرودا الشخصية “التاريخية الحقيقية”. وينبغي القول أن الفيلم- لمن شاهده، والرواية لمن قرأها- لا يتحدثان عن الثقافة والمثقفين، أو هيمنة السياسي على الثقافي، ولا هو رسالة إيديولوجية من أي نوع، بل هو فيلم يتحدث عن المشاعر العميقة ببساطتها، المذهلة بشغفها، والحنونة برومنسيتها (لعل هذا أحد أسباب نجاحه وشعبيته، ولعل البعض مازال يتذكر الفيلم وظروفه تفاصيله والنقاشات حوله رغم مرور زمن ليس قليل على عرضه الأول) .

في هذا المكان المنسي من العالم سيحط الشاعر الكبير بابلو نيرودا رحاله برفقة زوجته ماتيلدا منفياً من وطنه تشيلي بسبب مواقفه السياسية. يقرأ ماريو أثناء عودته إلى البيت إعلاناً عن وظيفة ساعي بريد مؤقت، فيخبر أباه عن الوظيفة وعن رغبته في الهجرة إلى أمريكا. وتدور الكاميرة لتنقل لنا بيئة ماريو: فيبدو المنزل متواضعاً ومظلماً، وفي لقطة مقربة، حيث يجلس ماريو ووالده، نلاحظ بطاقة بريدية لسيارة أمريكية لامعة تناقض الإحباط المحيط بماريو. تعود الكاميرة لتركز على والد ماريو الذي يهز رأسه ويقول- نزولاً عند رغبة ابنه- “اختر ما تريد، اقبل الوظيفة أو هاجر. ولكن عليك أن تكبر قليلاً فأنت لم تعد طفلاً بعد الآن”.

ينطلق ماريو باتجاه مكتب البريد ويقابل جورجيو مدير المركز (الشيوعي) ويخبره بقبوله الوظيفة، ولدهشته يكتشف أنه سيكون ساعي بريد لعنوان واحد فقط، البيت الذي سوف يسكنه الشاعر التشيلي. يحذره جورجيو من أنه سوف يتعامل مع شخصية مرموقة سواء في الأدب أم في السياسة ولذلك عليه أن يكون لطيفاً ومؤدباً أي غير متطفل ولبق، مضيفاً بلغة الواثق أن الشاعر العظيم يمتلك قلباً كبيراً مليئاً بحب الفقراء، وحين يقول ماريو بأن النساء هن أكثر المعجبين بقصائده، ينهره جورجيو معترضاً بأن نيرودا هو الشاعر الذي “يحبه الناس.. (ولكن هذا لا يمنع أن يكون لدى النساء في تشيلي اهتمامات سياسية)، فيبادره ماريو بالقول ” الناس.. والنساء أيضاً”. لا يرى ماريوـ بعكس جورجيو “الإيديولوجي حتى النخاع”، ضيراً في ذلك، فمن لا يحب أن تحبه النساء؟

يبدأ ماريو بتوصيل البريد إلى الشاعر، وأثناء إحدى زياراته يشاهده يرقص مع زوجته، والشهوة تنضح من عينيه، على أنغام أغنية تانغو، فيستنتج -هكذا ببساطة- أن السبب هو الشعر، فيقرر أن يصبح شاعراً، ولكن حين يطرح الموضوع على نيرودا يرفض هذا الأخير الفكرة ويطلب منه أن يبقى ساعي بريد، ولكن ماريو يطرح سؤالاً أكثر دقة عن الطريقة التي صار فيها نيرودا شاعراً

-ماذا يعني أن تكون شاعراً؟

فيرد عليه نيرودا بما يشبه السخرية: يعني أن تكتب الشعر، فيتابع ماريو وما هو الشعر؟ فيرد عليه نيرودا بشيء من التعالي هذه المرة: “سأشرح لك في الغد”. ولكنه ينسى في اليوم التالي أن يجيبه، ولا يفطن للموضوع إلا بعد أن يلاحظ أن ماريو لم ينصرف بعد أن أعطاه بريده، فيقول “آه.. لحظة، لحظة، تذكرت، وعدتك بأن أحدثك عن الشعر.. يمكنك أن تقول أن الشعر هو “استعارات”  كأن تقول لفتاة تحبها “إن ابتسامتكِ تنتشر على وجهكِ مثل فراشة”.. أي أنها جميلة مثلما الفراشة جميلة، وابتسامتها حلوة مثل رفرفة فراشة زاهية، وكما ترى، إنه” المجاز”.. يكفيك أن تقوم بجولة على الشاطئ وتتأمل ما حولك حتى تكتشف هذا “المجاز”، وعندها ستصبح شاعرا., تظهر الدهشة الممتزجة بعدم التصديق على وجه ماريو فيندفع بسؤال جديد” آه، وعندها سوف يأتي هذا الشيء؟.. ما هو؟ آه المجاز؟ فيجيبه نيرودا بثقة المعلم. أجل سوف ينهال عليك المجاز.

هو فيلم يتخذ، إذن، هيئة قصيدة رقيقة يكثر فيها المجاز حتى تكاد لا تميزه عن الصور الحقيقية. مجازات نستشعرها دون الغوص في متاهات التحليل والتنظير الجاف السقيم. أليس هذا ما يقوله الشاعر لساعي البريد: “يفقد الشعر معناه حين تفسره ويصبح مشابهاً للكلام العادي”. (سنكتشف لاحقاً أن هذه المقولة صحيحة في حالات معينة فقط، فرسالة الفيلم تقول أن الشعر لن يفقد معناه عند أولئك الذين يحتاجونه، و “لابد من تذوق الكلمات، وعلى المرء أن يتركها تذوب في فمه”). فإذا كانت التجربة- كما يقال- معيار للمعرفة، فعلى ماريو أن يغوص في الواقع أي “الجزيرة والبحر وما بينهما”** ويتلفت حوله كي يخلق منه المجاز “اللحظة الشعرية” التي يقصدها نيرودا. وهذا ما يجعل من اكتشاف الطبيعة المنفتحة تجربة مثيرة لا تحتاج إلى الكثير من المجاز لفهمها، وسوف يعمل المخرج على تفسير الفيلم بذات الطريقة التي يعمل بها الشاعر على تفسير شعره، فإذا كان السير على طول الشاطئ أحد السبل المتاحة لفهم المجاز وقوله، فسوف نشعر بالرضا والقبول لدعوة المخرج لنا بالاطلاع عل مسار أحداث الفيلم كأننا شركاء في صنعه، ولعل هذا ما يجعل الفيلم لا يحتاج إلى تلك الحبكة الدرامية الاحترافية واللقطات السينمائية الكلاسيكية العميقة

في الواقع تنطوي هذه النظرة الإخراجية للشعر، رغم رقتها، على تجريبية لا تخلو من السطحية، مما يفسد جمالية المعاني والتشابيه في الحوار بين الشاعر وساعي البريد، فالدعوة للسير على شاطئ البحر لا تعبر عن رؤية درامية عميقة ولا عن شغف بالشعر(بل قد تبدو للبعض نوع من التعالي والتبرم من الشاعر دون بابلو نيرودا اتجاه ماريو). وحتى إن بدى لنا الفيلم في نهاية المطاف قصة جميلة ومؤثرة لصداقة “نادرة الاحتمال” بين رجل بسيط وشاعر عميق، فلم يستطع المخرج أن يقدم المغزى من وراء الأحداث المتراكمة لمواضيع مختلفة مثل الحب والقيمة البشرية والجمال والسياسة والتمرد واكتشاف الذات والخذلان والتعالي والتواضع…إلخ، وهي مواضيع اكتفى المخرج بخدش سطحها فقط.

‏قد نجد عذراً له بأن هذه الأشياء الحساسة والدقيقة وشديدة الانفعال لا تحتاج إلى كثير جهد لملاحظتها ولا إلى عميق كلام لفهمها، بل لا تحتاج أكثر من أن نشعر بها حتى نفهمها. وأن نضع في بالنا أن الكلمة الشعرية ليست على الدوام مجازاً، وماريو، حين يلتقط جمال الكلمة بحثاً عن الحب، يقع في فخ السياسي الذي سيقوده نحو هلاكه.

‏وإذن ما نفع القصيدة هنا؟

من الواضح أن ماريو يتعامل مع الأمور (الشعر هنا) ببساطة وسذاجة، فهو لا يعرف معنى كلمة “استعارة” حتى يبدو كأنه يسمع للمرة الأولى بهذه الكلمة الصعبة، فيسأل عن معناها بحذر، فيجيبه نيرودا بأسلوب المعلم المتحفظ أن الاستعارة هي الصورة الشائعة عند المقارنة بين شيئين مختلفين وكثيراً ما يستخدمها الشعراء في قصائدهم، مثل قولنا “السماء تبكي”. لم يفهم ماريو في البداية معنى “المجاز” بسبب من مقاربته للمعنى المباشر السطحي وليس المعنى الكامن وراء دلالات الكلمة. ولكن ما إن يقترب من المعنى بصورة حدسية بتشجيع من معلمه حتى يفهم على الفور معنى المقابلة بين الدموع والمطر، وهنا يكتسب المشهد دفقاً عاطفياً يطغى على العلاقة القائمة بين المعلم وتلميذه. ورغم ذلك يلازمه الشعور بالإحباط ولو مؤقتاً لعدم قدرته على خلق مجازه الخاص. يقترب من ذلك أكثر فأكثر لكنه يفشل. بيد أنه لن ينتظر طويلاً قبل أن يخلق استعارته، فبعد بضعة أيام من حديثه مع صديقه الشاعر، سوف يجلسان على الشاطئ وهناك سيلقي نيرودا إحدى قصائده، فيقول ماريو بدهشة “تموج الكلمات، لحظة خروجها من فمك، ذهاباً وإياباً مثل موج البحر، في الواقع شعرت كأني قارب يرمح بين تلك الكلمات”، فينظر نيرودا نحوه بدهشة ويقول: “.. انظر لنفسك، ها أنت تقول مجازاً هنا”. وهكذا تنزلق التشابيه منه بتلقائية فيعتقد جازماً أن المجاز حكر على الكتّاب والشعراء فيخضع ماريو لإلهام معلمه ويصبح أكثر انفتاحاً، ويتعامل مع المجاز بشقين: بوصفه بداهة “أي سليقة”، وبوصفه إدراك معرفي، فإذا كان الوعي المعرفي لدى ماريو محدوداً بطبيعته (بسبب تكوينه الثقافي ودرجة تعليمه) فقد استطاع في نهاية المطاف بناء استعارة قابلة للفهم حدسياً.

يتغير الموقف حين يلتقي بالجميلة باتريشا في المطعم، فبينما كانت علاقته مع نيرودا تتمحور حول الشعر وصوره ومجازه، يصبح هذا المجاز بوحاً حسياً وبوابة عبور لقلب باتريشا، فعندما يراها في المطعم يُؤخذ بجمالها فيبقى مشدوهاً، فاغراً فاه لا ينطق، إذ لا يملك من المفردات ما يكفي ليعبر بها في تلك اللحظة (ربما شعر هنا بأهمية وجود شخص مثل نيرودا في حياته). وسوف نلاحظ فيما بعد، عندما تمارس باتريشا سطوتها عليه بجمالها، كيف لا يكون أمامه سوى استخدام مجاز معلمه نيرودا: “أحب صمتك لأنه يجعلك تبدين غائبة”. وسوف نلاحظ أيضاً كيف سوف تذهل باتريشيا بهذه الكلمات، فيتابع ماريو بمجاز أكثر إلقاء صوراً حسيّة وبلاغية: “تنتشر ابتسامتك على وجهك مثل فراشة”.

وهكذا يختبر ماريو ما لم يكن يعرفه من قبل حين يرى وقع تشابيهه في لمعان عيون باتريشا، فالمجاز كأحد أكثر التعابير الأدبية/الإنسانية تنوعاً لوصف المشهدية الواحدة بعدة صفات يمكّن ماريو أن يظهر ما يشعر به تجاه باتريشا- وهي أحاسيس يحتاج لتحويلها إلى “كلمة”  كي تكون أكثر قوةً وثباتاً وإقناعاً وخلوداً- ونحن نعلم أن المجاز أمر جوهري لنيرودا بحكم أنه شاعر، وهو ضروري لماريو لأنه يمنحه جرأة للاحتيال على خجله للتعبير عن مشاعره، بينما ترى دونا روسا في المجاز خيال لا قيم له، بل خطر، فمجاز ماريو ليس سوى إغواء لباتريشا، وسبب مقتها للمجاز إنما ينبع من خوفها من المجهول، وهي مثل مايو ربما لم تسمع في حياتها قط بكلمة مجاز من قبل. فكل ما تعرفه أنها كلمة إيطالية طويلة لكنها تقر بقوتها -ربما ليس بالطريقة نفسها التي يعرفها ماريو ونيرودا وباتريشا- فدونا روسا التي تعرف كيف يمكن أن تكون الكلمات “سيئة” لا تستطيع أن تتخيل تفسير باتريشا عشقها لساعي البريد حين تقول: “لقد منحني التشابيه”.

هكذا فهمت باتريشا معنى علاقتها بماريو، ولم تنظر للكلمات على أنها “أسوء من أي مخدر”، حتى عندما تسألها دونا روسا أين كانت؟ فتجيبها على شاطئ البحر مع ماريو:

-دونا روسا: وماذا فعلتم

-باتريشا: لا شيء، تمددننا على الرمل و تحدثنا

-دونا روسا: تحدثتم عن ماذا؟ ماذا قال لك؟

-باتريشا: قال لي كلمات.. مجازات واستعارات

-دونا روسا: مجازات؟ مثل ماذا؟

-باتريشا: “تنتشر ابتسامتك على وجهك مثل فراشة”

-دونا روسا: عندما يلمسك الرجل بكلماته، لن يكون جسدك بمنأى عن يديه.

-باتريشا: لا حرج في الكلمات.

-دونا روسا: الكلمات هي أسوأ الأشياء على الإطلاق. أفضّل أن يلمس مؤخرتك سكّير في حانة على أن يقول لك أحدهم “ابتسامتك تطير مثل الفراشة!”

باتريشا: تنتشر.. بل تنتشر مثل فراشة!

-دونا روسا: أيّاً يكن، لا فرق، فالذباب ينتشر أيضاً. يعني نفس الشيء! فلتنظري لنفسك يا فتاة، بإشارة واحدة من إصبعه.. إشارة واحدة وتقلبين على ظهرك في الحال .

-باتريشا: أنت مخطئة. إنه شخص محترم

-دونا روسا: أوووو ..كفى ..كفى …لا فرق بين الشاعر أو الكاهن أو حتى الشيوعي عندما تصل الأمور إلى السرير.

ثم تختم دونا روسا القول بأن: “الكلمات هي أسوأ شيء على الإطلاق”.. و يا ويلي، تلطم دونا روسا، هذا كلام خطير، حيث تتأكد مخاوفها وتفترض أنه أقام علاقة معها (في الحقيقة ماريو لم يكتب، بل “سرق” مجازات نيرودا، وعدم خوض ماريو علاقة جسدية مع باتريشا -حتى الآن- ربما يعني، من ضمن ما يعنيه، أن المجاز مازال حتى الآن هو مجاز نيرودا وليس مجازه هو الذي ينبغي أن ينبع من داخله باستخدام الصور التي يمر بها، على سبيل التجربة، بمعنى ليس بسهولة سرقة المجاز دون أن يفقد ولو جزء من معناه الأصلي و ألقه، و لا ننسى أن ماريو كان قد أخبر نيرودا عن باتريشا وطلب منه أن يكتب لها قصيدة، الأمر الذي رفضه الشاعر بشدة).

يعتقد ماريو أن الشاعر هو الشخص الوحيد القادر على التعبير عن الحب “لا أحد سواك يستطيع مساعدتي، فالجميع هنا كما ترى صيادي سمك” فيأتيه جواب المعلم الخبير “ولكن يا ماريو، يا صديقي حتى هؤلاء يحبون، ويبثون مشاعرهم لأحبتهم، ويقترنون يبعضهم البعض في أغلب الحالات”. ولو سأله أحدهم قبل أن يلتقي بنيرودا كيف يحب الناس بعضهم البعض لما وجد جواباً. ولذلك حين يلتقي بالشاعر، يشعر كأنه يمتلك مفاتيح الكون، ويصل إلى نتيجة ترى أن مجاز الشاعر هو الوحيد القادر على فك ما استغلق من المعاني العصية على شخص مثل ماريو. ولكن ما يؤلمه أن الشاعر لا ينظر له كما يراه هو، فحين يطلب من نيرودا أن يكتب له إهداء، يوقع الشاعر ويكتب “مع تحياتي” دون أن يذكر اسم ماريو، الأمر الذي اعتبره ماريو بلا معنى، وحين يتحدث مع جورجيو ويقول له أنه سوف يطلب منه غداً تغيير الإهداء ينهره جورجيو بقوله “هل تظن أن الشاعر يعجز عن التفكير وهو ممسكا ببصلة”؟ ثم يتابع توضيح الأمر بعيداً عن المجاز بأن نيرودا له اهتماماته ومشاغله العديدة، ولا يمكنه أن يفرغ نفسه من أجل تحقيق متعة فلان أو فلان، لكن ماريو لا يفهم الأمر هكذا فيقول لصديقه بصيغة تهكمية “لكنه شيوعي.. ألم تقل قبل قليل أن الشيوعيين يحبون الناس؟”

تدور استفهامات ماريو في خانة الأسئلة التي نخجل من طرحها على “الشعراء”، لاسيما عندما تغرق قصائدهم في المجاز والتجريد العالي، فعندما ردد ماريو بعضاً من قصائد ديوان “أغنيات بدائية” [أول ديوان مطبوع للشاعر بابلو نيرودا] ويبدأ الشاعر في الحديث عن معنى الاستعارات، يسأله ماريو عن معنى قوله “سئمت كوني رجلاً”. ثم عن السبب الذي يجعل شاعراً بحجم نيرودا يتساءل عن الدافع الذي من أجله “تجعلك رائحة دكاكين الحلاقة تتنهد”؟.

لا يدرك ماريو المعاني الضمنية الخفية هنا، فقبل هذا كانت حياته واضحة لا مجاز فيها، ثمة بحر وشاطئ وقوارب صيد وسمك، وهذه أمور لا تحتاج إلى مجاز لفهمها أو التعامل معها، وحتى هذه الكلمات لا تحتاج إلى شعر لكي نفهمها، و إن استحالت شعراً بطريقة ما فلا ينبغي تفسيرها بعمق كي لا تفقد معناها الأصلي، فالشرح يفقد الشعر جوهره ويحوّله إلى كلام عادي.. لم ينتبه ماريو هنا إلى أنه حتى الكلام العادي يحمل من المجاز ما يفوق أحياناً مجاز الشعر.

فإذا كان هذا الكلام صحيحاً، فلمن ينتمي الشعر إذن؟ للذي يكتبه أم للذي يحتاجه؟

رغم بساطة ماريو، إلا أنه يضع هنا إصبعه على الإشكالية التي لا حل لها عن معنى الشعر ووظيفته. و لأن رسالة الفيلم عن المجاز وجوانبه المختلفة، يصبح الفيلم برمته صورة مجازية من خلال الصور المتعددة لماريو، ولكن ينبغي الحذر هنا من الإفراط في تحليل الفيلم على أنه استعارات فقط، فالجبل في النهاية سيبقى جبلاً ولن يصير شيخاً جليلاً أو “أرعناً طماح الذؤابة عارياً”.. ولن تتحول الرمال الصفراء ذهباً،  ولا القمر زروق من فضة ولا النرجس أجراس صفراء في بحر أخضر.. إلخ. وحتى الصورة التي رسمها الشاعر لعامل منجم الفحم “لقد كان قناعاً من هباب فحم وعرق” عاشها ماريو واقعاً وليس مجازاً، حين يتحول في النهاية إلى أسطورة بطريقة ما، يتلاشى اللون إلى الأسود والأبيض والرمادي مثل غبار الفحم. يتحول من ابن صياد وساعي بريد شبه أمي إلى شاعر وجد هدفه في الحياة وشهيداً في سبيل القضية. وهو بالتالي يقوم عملياً بما يكتبه الشعر كاستعارات في قصائده (تحويل المجاز إلى واقع) فهو شجاع بما فيه الكفاية لأن يتحدى السلطة، ويدرك أخيراً انتمائه للمكان، فيموت في سبيل قضيته، مُطارداً من قبل الشرطة وليس من نساء معجبات يتزاحمن على تحيته.

نحن إذن أمام مشهديه العلاقة بين المعلم وتلميذه، يتعامل معها الفيلم ببراعة، عبر التركيز على شغف ماريو الشديد للتعلم، وعلى تعالي المعلم المشوب بالحنان. مشهديه تجمع بين السياسي والشاعر، وبين الحزبي والعادي قوامها عالم اللغة والمجاز والاستعارات. مشهدية الوعي السياسي التلقائي الذي يدفع رجل بسيط، مثل ماريو، نحو التفكير في قيمته كإنسان ودوره المكرّس على الأرض، وهو هنا، بطريقة ما، في تعارض مع والده “الجيل السابق”؟ الجيل الذي صفّق لصعود الفاشية، وحلم بإعادة مجد روما، لكنه انهار أمام سطوة الاستبداد فلاذ إلى الصمت، ولعلّ الملاحظات التي يبديها ماريو عن صمت أبيه هي أحد التأويلات هنا، رغم أن الفيلم لا يتحدث بصورة مباشرة عن إيطاليا.

ولكن اللحظات السعيدة لا تدوم طويلاً، فأثناء حفل زفاف ماريو وباتريشا يتلقى نيرودا برقية تخبره أنه يمكنه العودة إلى بلاده، بعد صدور عفو عنه. فيقرأ واحدة من قصائده للعروسين، ثم يعلن أنه سيعود إلى تشيلي، ويطلب من ماريو أن يعتني بحاجياته التي سيبقيها في الجزيرة تحسباً لما يخبئه المستقبل.

يغادر نيرودا الجزيرة، ويبقى ماريو وحيداً، منقطعاً عن رمزه ووحيه الشعري، ويبقى على أمل أن تصل إليه رسالة من صديقة الشاعر، لكن الوقت يمضي، ويغرق ماريو في روتين الحياة كزوج وحبيب ومناضل شيوعي وشاعر فطري وعامل مطبخ في مطعم دونا روسا. يعرف ماريو شيئاً واحداً، حب باتريشا والالتصاق بها “سوف يلغي فكرة الهجرة إلى أمريكا، بل لم يعد يفكر بها”. ولكن لا جواب من الشاعر ولا حتى كلمة واحدة. وبعد انتظارٍ لنحو عام تصل الرسالة أخيراً، لكنها للأسف ليست من الشاعر، بل من سكرتيرته تطلب منه بلغة رسمية ومحايدة أن يجمع متعلقات الشاعر ويرسلها إلى تشيلي. وهذه أصعب اللحظات على ماريو، فالرسالة أتت واضحة وبدون أي تلميحات أو مجازات على عدم أهميته بالنسبة للشاعر، لكنه يرفض اتهام الشاعر بالانتهازية التي تظهرها بعض التلميحات من دونا روسا وباتريشا، ويستنتج أن عدم اهتمامه به يعود إلى أنه -أي ماريو- مجرد شخص عادي، ساعي بريد لا أكثر و لا أقل، لا قيمة له في حياة شاعر عظيم ومشهور مثل نيرودا. فماريو ليس شاعراً ولا مرشحاً لجائزة نوبل ولا تتهافت عليه المعجبات، وهو ليس بالسياسي المخضرم أيضاً، إنه مجرد صياد عاطل عن العمل اشتغل مؤقتاً ساعي بريد، وها هو الآن يدفن حياته في مطبخ دونا روسا ويكرس حياته للعناية بباتريشا وابنه القادم..

هذا هو ماريو باختصار، وهو حتى عند إحساسه بالخذلان، لا يتردد في الدفاع عن الشاعر فيقول عن نفسه أمام هجوم دونا روسا وباتريشا على صديقه الشاعر “أنا من كان يزعجه.. هو لم يزعجني قط، كنت أسلمه بريده ولكني كنت أزعجه بأمور أخرى، كان يعلم إني لست شاعراً، ومع ذلك لم يتذمر بل كان متسامحاً معي…”. يحفظ ماريو الجميل لنيرودا كمعلم قدّمه إلى عالم الشعر وأرشده كيف يستخدم المجاز والاستعارات، ليفوز بقلب المرأة التي يحبها، كما علّمه أيضاً أن يكون له موقف سياسي.

لا يرى ماريو في نفسه شخصاً مهماً حقاً، بل ابن صياد بسيط. وهنا يضعنا الفيلم أمام مفارقة واقعية، صحيحة على الأغلب، ترى أن ليس بالضـرورة أن يتساوى شخص مشهور مع شخص آخر معجب به. بل ليس من الواقعية بشيء أن يكونان متساوين. وفي الحقيقة هذا تتويج واقعي، وليس مجازي لمآلات شخصية ساذجة مثل ماريو حين يتمسك بضعفه وعجزه، بدلاً من مواجهة عبء التراتبية الاجتماعية-الثقافية، وهو ما ترفضه باتريشا التي تصف ماريو بالشاعر “الجيد”، وهي لن تسمي ابنها بابليتو على اسم نيرودا، هي تحب ماريو وهذا ما يعنيها بالدرجة الأولى و.. “الحب شيء أكبر من الصداقة” على حد قولها. ومن المفارقات التي تكسر حدة المجاز أن الشاعر لا يعرف شيئاً عن “واقع” ماريو هذا إلا حين عودته بعد بضعة سنوات فيعلم أن ماريو قُتل في المظاهرة. ولابد من القول هنا أن نيرودا يظهر شخص نخبوي بخلاف معتقداته السياسية (يصفه جورجيو “الرفيق والأخ”)، يتم التعامل معه بطريقة خاصة فيُمنح منزلاً “فخماً” في الجزيرة الفقيرة، ويُفرز له ساعي بريد خاص به.

يشعر ماريو أيضاً بخيبة الأمل من نيرود حين يقرأ ما يقوله عن جزيرتهم: “لقد أمضيتُ أياماً سعيدة بين أكثر الناس بساطة”، في إشارة إلى الفترة التي قضاها في الجزيرة. ولعلنا سنتساءل هل يمكن للكاتب أن يمتلك شخصية تختلف كثيراً عن كتاباته؟- أو بطريقة أكثر دقة لم يجرؤ ماريو على طرحها- بمَ يختلف نيرودا هنا عن رجال السياسة المنافقين؟

للوهلة الأولى يبدو أنه يشبههم، لكنه يتلطى وراء قناع جميل من الاستعارات المبثوثة في قصائده، لا يستذكر سوى “جمال الجزيرة” فالناس هناك مجرد ديكور يحبون المناظر الجميلة التي تناسب قصائده، دون أي ذكر لماريو وعلاقتهما (بطريقة ما يغرق نيرودا بمجاز مبتذل حين يهرب من الواقعية الفجّة)، فماريو في الحقيقة ليس محطة مهمة بالنسبة لشاعر بأهمية نيرود، رغم وعد الشاعر له بمراسلته “سوف أفتقدك.. سوف أكتب لك”.. وإنما مجرد حلقة من حلقات الحياة، تجربة قد تتجسد ذات يوم في قصيدة وقد لا، وليس من المنطقي أن يتذكر المرء كل حلقات حياته، بالأحرى لا يستطيع أحد القيام بذلك، وربما فهم ماريو هذه المسألة بصورة عفوية، حين يرفض التهجم على صديقه، و لعلنا نتذكر خلال زيارات ماريو لنيرودا والحديث المتشعب بينهما، لاسيما عن الشعر ورغبة ماريو في أن يصبح شاعراً وكيف يقول نيرودا أن سبب كتابته للشعر إنما تعود “لمساعدة الإنسان في نضاله”. ويسترسل في حديثه عن عمال المناجم في تشيلي، ويصف ما قاله أحدهم: “أينما تذهب، تحدث عن أخيك الذي يعيش تحت الأرض في الجحيم”.

قد يكون وصول ماريو إلى هذه النتيجة هو ما دفعه للقيام بشيء ما جديد، تسجيل الحياة في جزيرته، صوت الحياة الحقيقي، الحاضر والأزلي المتمثل في الريح وموج البحر والطمأنينة في صوت جرس الكنيسة والمستقبل المتمثل بنبضات قلب ابنه الذي لم يولد بعد. هذه كلها مجازات تدل على أن ماريو لم يزل حياً ولم يمت أو لم ينسَ. فيكتشف من خلال هذه الأصوات عمق انتمائه للمكان (ربما بسبب وجود باتريشا) فيكتب قصيدة ويهديها لشاعره ومعلمه ويسميها “نشيد إلى بابلو نيرودا” يعجب بها أحدهم فيطلب منه أن يلقيها أمام الجمهور في نابولي، لتكون نهايته هناك.

وإذن نيرودا الذي استولد الشاعر في ماريو، كان السبب في موته كإنسان، وهذا لا علاقة له بالمشاعر والعواطف ولا بالشعر، موت ماريو كان سياسياً بالدرجة الأولى بسبب انحيازه للبسطاء في حين كانت القصيدة انحيازه لمعلمه. ولكن الأمر لا يخرج، في نهاية المطاف، عن الشعر الذي هو جوهر الفيلم، فالشعر كان سبباً وراء لقاء نيرودا وماريو، والشعر هو الذي ألهم ماريو للبوح بحبه لباتريشا الجميلة. في الحقيقة كان الشعر جسراً بين ماريو ومن يحب، أي نيرودا من جهة وباتريشا من جهة أخرى، كما أنه، أي الشعر باعتباره أداة تواصل، كان جسراً بين الجمهور والفيلم، حتى لو كان للعمّة دونا روسا رأي آخر، حين تفترض أن ماريو لا بد أنه رأى باتريشا عارية بسبب أنه قارن صدرها العاريين بالنار، ولم تلتفت لكلام نيرودا عندما حاول أن يشرح لها المقصود من هذه الاستعارة، بل رددت:” يا للكلام.. يا للكلام.. الكلمات شيء فظيع، ألا ترى كلماته في كل مكان، انظر كيف تنتشر في الأنحاء.. ثم ستتبعها يديه بلا شك”

في الحقيقة قد يكون للكلمات وقعاً غير محموداً، كما يمكن للشعر أن يكون ضاراً، لنلاحظ الارتباك الذي بدى على ماريو لحظة كغادرة معلمه للجزيرة ” اعتقدت أنك ستأخذ معك جميع الأشياء الجميلة، لكني استطيع أن أرى الآن كم من أشياء تركتها خلفك”. وعندما يشرع في البحث عن الجمال، يقع في فخ السياسة التي بالكاد يستطيع فهمها. وها هو يقف سعيداً أمام جمهوره لأول مرة. جمهور لا ينظر له كشاعر فحسب، بل كمناضل يدافع عن قضاياهم.. (في الحقيقة يموت ماريو لهذا السبب، وليس لأنه شاعر). يرغب ماريو أن يسمع الجمهور قصيدته المهداة إلى معلمه، يرغب في سماع تصفيق الناس عند ذكر اسم معلمه، ولكن، للأسف، لابد للمجاز أن يستكمل دورته هنا أيضاً. فقبل أن يلقي ماريو قصيدته، تقتحم الشرطة المكان، ويُقتل ماريو قبل أن يسمع الناس نشيده الخالد المكرس لمعلمه الشاعر، وتطير أوراق القصيدة لتسقط تحت أقدام المتظاهرين.

يعود نيرودا للجزيرة مرة ثانية بعد خمس سنوات من مغادرتها، فيستمع إلى صوت ماريو، وإلى الأصوات الأخرى التي سجلها ماريو مع صديقه جورجيو، صوت الموج يضرب شاطئ الأبدية بلا هوادة ولا كلل، أصوات النوارس القبيحة التي يشبه زعيقها لسعة هراوات رجال الشرطة، وهي تنهال على أجساد المتظاهرين، جرس الكنيسة الذي يستحيل هنا توتراً ونذيراً بما هو سيء، وأخيراً ينغلق المجاز على صوت رجال الشرطة وصراخ المتظاهرين وأصوات الرصاص.

يمضي نيرودا نحو الشاطئ وحيداً، فنرى ماريو على وشك أن يلقي قصيدته أمام جمهور نابولي، وتبدأ الشرطة بمهاجمة الناس، يحاول ماريو أن يشق طريقه وسط الحشد، فيسقط على الأرض ثم يختفي.

يشير مشهد النهاية، حيث يظهر نيرودا يتطلع صوب البحر، إلى أنه يعترف ويحترم ماريو كزميل شاعر وصديق. ولكن المفارقة الأهم في الفيلم تكمن في تخلي ماريو عن المجاز قبل ذلك بقليل حين يصف الجزيرة لصديقه، فلا يجد كلمات مناسبة فيستعيض عنها بـ “أصوات الجزيرة نفسها” لاعتقاده أن هذه الأصوات وحدها قادرة على نقل الجمال الحقيقي: صوت الموج والرياح، وجرس الكنيسة، وشبكات الصيادين، وضربات قلب الجنين الذي سوف يصبح بابليتو.. جميعها صور حقيقية وليست مجازاً. ليس هذا فحسب بل أن موت ماريو هو موت حقيقي أيضاً وليس مجازاً.

ترتبط الاستعارة بالكلمة بصورة وثيقة، غير أن الصورة تقترب من “الملموس” أكثر، فتثبت الزمن. قد لا تثنيه لكنها تكسر إيقاعه عند لحظة ما لا يستقيم فيها المجاز (لعل هذا يفيد معنى آخر للمجاز حين تعطي الصورة قوة داخلية للتعبير عن “الأشياء والموضوعات” بدلالة السردية البصرية وليس بدلالة الكلمات والإشارات، فتصبح الصورة بحد ذاتها مجازاً بطريقة ما، وتعكس جمال الجزيرة التي يريد ماريو أن ينقلها لصديقه الشاعر، بل ربما تكون الاستعارة البصرية أرقى من استعارة الخطاب لأنها لا تحوي ازدواجية في المعنى أو تداخل في المترادفات. الصورة أمامنا لا تخدع، نعلم أن نيرودا طلب من ماريو ذات يوم أن يخبره عن أجمل ما في الجزيرة، فيجيب ماريو بلا تردد ودون مجاز “باتريشا روسو”، لا مجاز هنا، لا مجاز لوصف جمال باتريشا، على الأقل في ذهن ماريو. ( كان نيرودا أول شخص يعلم بحبّه لباتريشا حين قال له بهدوء وبساطة مدهشة: “دون بابلو.. إنني عاشق”)

من المؤسف حقاً أن يموت ماريو قبل أن يسمع مع صديقه شريط “الأصوات” .

ينتهي الفيلم إذن، من حيث بدأ على الجزيرة، ولكن بدلاً من ضجيج الصيادين، يقف الشاعر وحيداً-دون ساعي بريده- على الشاطئ يستمع إلى الأصوات، ينتبه دون بابلو إلى تلك التفاصيل (..دون بابلو….إنني عاشق) وكأنه يراها أو يسمعها لأول مرة، وهو الذي تكاد تقتله التفاصيل بسبب امتلاكه ناصية اللغة، تنسحب الكاميرة بعيداً عن الشاطئ في لقطة واسعة بحيث يصغر معها الشاعر ويتضاءل ويتضاءل ليتسع البحر وتفيض مساحة الجبال والمنحدرات.

أليست هذه هي الصورة التي سجلها ماريو؟

هل تفوق التلميذ على معلمه حين استعاض عن المجاز بالصوت بدلاً من الكلمة؟ “هل هذا العالم كله الذي نعيشه فيه مجاز لشيء آخر”؟ ربما، وربما لا، فالفيلم ليس سوى مجاز الكلمة وبها ينتهي**:

وكان أن أتى حينٌ من الدهر جاء فيه الشعر يبحث عني

لست أدري.. لست أدري من أين وكيف

أمن النهر؟ أم مع قدوم الشتاء أتى!

لا أعرف كيف أو متى.

ولكن ..لا، ليس صوتاً، ولا كلمات، ولا حتى صمت وسكون.

بل  أتاني، مثل ندّاهة، في أهداب الليل من الطرقات

هكذا، انتشلتني، على حين غرة، من الآخرين

من بين غرامياتي العنيفة أو العود وحيداً

هناك, حيث كنت

هناك، كنت بلا وجه… حين لامسني [الشعر].

دون بابلو نيرودا

………………….

العنوان الأصلي للفيلم Il Postino أي ساعي البريد ، لكنه اشتهر في العربية باسم “ساعي بريد نيرودا” من إخراج مايكل رادفورد 1994، وطاقم تمثيل إيطالي فرنسي يتألف من ماسيمو ترويسي بدور ماريو روبولو وفيليب نورييه بدور بابلو نيرودا، وماريا غراتسيا كوتشينوتا بدور باتريشا روسو وليندا ماريتي بدور دونا روسا وآنا بونايوتو بدور ماتيلدا يوروتيا وسيمونا كاباريني بدور إلسا مورانتي وريناتو سكاربا يدور جورجيو وماريانو رييللو بدور دي كوسيمو. و الفيلم “مأخوذ بتصرف حر” من رواية “الصبر المحترق” للكاتب التشيلي أنطونيو سكارميتا، التي نشرت لأول مرة في العام 1985. وتدور أحداثها في موطن الشاعر الأصلي “تشيلي”. والعنوان الأصلي اقتباس من نيرودا نقلاً عن بيت شعر من أحد قصائد الشاعر الفرنسي أرتور رامبو: A l’aurore, armés d’une ardente patience, nous entrerons aux splendides villes ”  عند الفجر، مسلحين بصبر محترق، سوف ندخل إلى المدن الرائعة”. وكان المؤلف قد قام قبل ذلك بكتابة و إخراج فيلم بنفس العنوان سنة 1983. لم يبتعد الفيلم كثيراً عن المعمار الدرامي للرواية التي مزج فيها الكاتب الواقع بالخيال عن الأحداث الحقيقية التي وقعت أثناء حياة الشاعر نيرودا، سواء لجهة الشخصيات الرئيسية أو الأحداث، فماريو خيمينيث”بطل الرواية” ذو السبعة عشر عاماً يقرر تغيير حياته فيهجر مهنة الصيد في جزيرة “إيسلانيغرا” ويصبح ساعي بريد لشخص مشهور هو الشاعر بابلو نيرودا، ومن هنا يظهر إعجاب ماريو خيمينيث بالشاعر نيرودا و بشعره، ويراوده طموح أن يكتب له الشاعر بضع كلمات على كتاب ليتباهى أمام أصدقائه. تتوطد العلاقة بين الشاعر و ساعي البريد، علاقة مفعمة بالشعر و المجاز و الاستعارات و السياسة و أمور الحياة…. يتزوج ماريو وبياتريث ويذهب نيرودا إلى باريس سفيراً، ويعمل ماريو طباخا في حانة أم زوجته بعد أن كثر زوار الجزيرة للتعرف على إيسلانيغرا المكان الذي عاش فيه الشاعر، وتتوالى الأحداث السياسية في تشيلي وانقلاب بينوتشه وحصول نيرودا على جائزة نوبل. ومن الجدير ذكره أن الفيلم حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي سنة 1995

….

* يعتمد تصوير الفيلم على إظهار البيئة الجميلة للبحر المتوسط، لاسيما المشاهد التي يظهر فيها ماريو وهو يقود دراجته في طريق متعرج يظهر من خلاله امتداد البحر والجبال خلفه مما يشكل لوحات رائعة التي تترافق مع موسيقا تصويريه لا تقل روعة، عبر لحن بسيط، مثل حياة سكان الجزيرة، تشبه في نسقها خط الفيلم من البداية إلى النهاية لتلتحم مع الدراما وتشكل كتلة واحدة متناسقة تجمعها مع الصورة والحركة. وطالما اتفقنا أن السياق الموسيقي بسيط فهو لا شك يعبر أكثر ما يعبر عن ماريو نفسه، ماريو البسيط والمحب والسعيد والحزين بآن، وسوف يكون للموسيقا دور في الكشف عن العلاقة بين ماريو ونيرودا حين تشكل خلفية لهما تمتاز بالرخامة والحيوية، وسوف تتعين وظيفة الموسيقا، من الناحية السينمائية، من خلال ترافقها مع بانوراما المكان (البحر والجبال والطرق المتعرجة وبيوت البلدة ومنزل الشاعر.. إلخ)، غير أنها سوف تكشف لنا حياة ماريو الباهتة والعادية، بعكس حيوية وتدفق حياة الشاعر نيرودا حين يظهر كأنه النور الذي سوف يلون حياة مارية المستقبلية.. غير أن هذا الوضوح في الموسيقا سيستحيل إلى نوع من الغموض حين يلتقي ماريو وباتريشا، وهذا منطقي بسبب السائد في اعتبار العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة موضوعاً صعباً كما تجسدها السينما عبر الحوار والاحتكاك، وهكذا حاول المخرج تجسيد علاقة الحب بين ماريو وباتريشا بنوع من الذهول يبدو على ماريو وتبدو الموسيقا كأنها دوامة تحوم في دماغه فنكاد “نسمع” تردده وخجله وارتعاشه وتوتره، لتنتقل الصورة إلى باتريشا فتبدو الموسيقا مثل مد بحري هائل، فنكاد “نسمع” أنينها الداخلي ولهفتها وتبرمها وحساسيتها ونقاوتها. يقول المخرج مايكل رادفورد: “الموسيقى تعبير أساسي عن الثقافة”، ولعل هذا يتجسد بصورة دقيقة في هذا الفيلم.

** أتت هذه القصيدة في ختام الفيلم بمثابة تكريم لروح الممثل الكوميدي الإيطالي وابن مدينة نابولي الذي شارك أيضاً في الإخراج وفي كتابة السيناريو  ماسيمو ترويسي (روبولو ماريو) الذي توفي بعد  12 ساعة فقط من انتهاء التصوير إثر نوبة قلبية بعد تأجيله لعملية جراحية في القلب حتى نهاية التصوير.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

الروائي ناقداً لأعماله الروائية: سحر خليفة مثالاً

لطالما اعترض أدباء على ما وجه إلى نصوصهم من نقد، ويمكن هنا أن أقتبس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *