ترجمة: محمود الصباغ
” وانظرْ إلى العظامِ كيفَ نُنشِزُها ثمَّ نَكْسوهَا لَحْماً” [ البقرة 259]
تمهيد
تتبع هذه المقالة تحولات السرد والبنى المادية والطقوس التي تركّز على المشهد الحسيني، وهي تبدأ في الكشف المزعوم عن رأس [الحسين] الشهيد حفيد النبي على يد الإسماعيليين الفاطميين في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في عسقلان, وتتابع المقالة هذه الحادثة عبر نحو ألف عام لتنتهي في ذكرى إحياء المشهد على يد الحجاج في الموقع الذي يهيمن عليه السياح المنتمون إلى البهرة الداوودية*. ويستند البحث هذا إلى التوصيفات الحديثة وتلك التي تعود للعصور الوسطى للروايات التاريخية والإثنوغرافية والجغرافية وسير الأعلام والدعاة والنقوش والآثار ومسارات الحجاج والمسافرين والمحفوظات الحكومية والعسكرية والخرائط، والصور، والروايات الشفوية. وسوف ندرس زمن إنشاء الضريح في عسقلان ونقل الرفاة إلى القاهرة وزيارة الموقع في ظل حكم الدولة الأيوبيّة السنيّة والمماليك والعثمانيين في سياقاتهم السياسية والدينية. ويستعرض الجزء الأخير من الدراسة تطور الاحتفال الشعبي الفلسطيني أو ما يعرف بـ “المواسم” قرب موقع الضريح في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم هدم الجيش الإسرائيلي للضريح في العام 1950، وأخيراً تأسيس مصلّى في الموقع في العام 2000 كنتيجة للمبادرة المشتركة للداعية المطلق الثاني والخمسون لطائفة البهرة الداودية ورجل أعمال وسياحة إسرائيلي. وزار الضريح، منذ العام 1980، الآلاف من الشيعة الإسماعيليين، من اتباع البهرة الداودية من الهند وباكستان، حيث وفدوا إلى موقع الحج الغامض، الذي يقع في الفناء الخلفي لمشفى مدينة عسقلان، لزعمهم أن هذا الموقع- الذي يكرموه كنوع من إحياء تقليد يعود لأواخر القرن الحي عشر- هو مكان الدفن المؤقت لرأس الشهيد الحسين بن علي.
يذكر ن الموقع كان يضم مزاراً كبيراً يعرف باسم المشهد الحسيني، قبل هدمه على يد الجيش الإسرائيلي في العام 1950 في أعقاب حرب 1948. وسمح الوضع السياسي الجديد بعد معاهدة السلام الإسرائيلية مع مصر سنة 1979 بإحياء شعائر الحج للموقع وإنشاء نصب تذكاري رمزي في العام 2000 على هيئة مسجد رخامي متواضع مفتوح. وكما ذكر أعلاه تستند هذه المقالة على التحولات السردية والبنى المادية والطقوس التي ركزت على الموقع في الألفية الماضية، وتستند إلى التوصيفات الحديثة وتلك التي تعود للعصور الوسطى للروايات التاريخية والإثنوغرافية والجغرافية وسير الأعلام والدعاة والنقوش والآثار ومسارات الحجاج والمسافرين، والمحفوظات الحكومية والعسكرية، والخرائط، والصور، والروايات الشفوية.
ويوجز التاريخ غير المنتظم للمشهد الحسيني في عسقلان (أشكلون بالعبرية الكتابية والحالية) التقاطعات المهمة في تاريخ الشرق الأوسط، ويسلط الضوء على بعض انشقاقاته الرئيسية. ويشترك في هذا التاريخ السنة والشيعة والحكام والحجاج والنقاد الأكاديميين والصليبيين والمسلمين والإسرائيليين والفلسطينيين والقادة العسكريين ورجال الأعمال السياحيين. كل هذا لا يجعل من تاريخ المشهد وأحواله مجرد دراسة حالة جذابة للاحتفاء والذكرى والطمس، بل أيضاً يروي سردية تاريخية يمثل تفكيكها تحدياً مناسباً للبحث المتعاون. وسوف يتم، في ما يلي، تقديم إعادة بناء روايات القرون الوسطى (بالإشارة إلى المساعي العلمية السابقة) بشكل رئيسي من قبل دانييلا تالمون هيلر؛ أما تحديد البقايا الأثرية ووصف ثروات الموقع في القرنين التاسع عشر والعشرين فهو، بالأساس، عمل بنيامين زد. كيدار، في حين يعود، بشكل رئيسي، التحقيق في إحياء شعائر الحج الأخير في الموقع إلى يتسحاق ريتر.
استشهاد الحسين بن علي ورحلة “درب الآلام” للرأس المقطوع
ينظر إلى الرأس المقطوع للحسين، حفيد [النبي] محمد وزعيم الفصيل المناهض للأمويين بعد مقتل والده علي بن أبي طالب، رابع وآخر “الخلفاء الراشدين”، باعتباره أحد أكثر رموز الشهداء أهمية. وتعد قصة موت الحسين رواية رئيسية من روايات التاريخ الإسلامي المبكر، ويمكن القول إنها الحدث الأكثر أهمية في تكوين ذاكرة الشيعة وهويتهم(1). وبحسب روايات عديدة لمؤرخين مسلمين من العصور الوسطى، فقد قُطع رأس حسين الجريح أو بعد قتله في كربلاء (61/680)، حيث ذبح 72 شخصاً من أقاربه(2). بينما ُدفنت جثته في الموقع، وحُمل رأسه في موكب النصر الذي بدأه عبيد الله بن زياد، والي الكوفة. مرّت القافلة عبر العديد من المدن في طريقها إلى دمشق وهي تستعرض الأسرى التعساء (معظمهم من النساء) من كربلاء. وتقول الروايات أن عمود ضوء رافق الرأس في رحلته، وحدثت عجائب مختلفة على طول الطريق(3).
أُحضر الأسرى ورأس الحسين أمام الخليفة الأموي يزيد في دمشق، الذي أظهر، وفقًا لمعظم المرويات، ندماً على أفعال واليه على الكوفة(4). وفيما يتعلق بمكان الرأس، أفادت بعض المصادر أنه أعيد إلى كربلاء ودفن هناك مع باقي الجثة بعد أربعين يوماً من استشهاد الحسين، في العشرين من شهر صفر(5). وحسب رواية أخرى، أرسل يزيدٌ رأس الحسين إلى المدينة حيث دفن بجوار والدته فاطمة(6). كما تمت الإشارة إلى النجف والكوفة والرقة كمواقع محتملة لدفن الرأس. وبحسب تقرير نُسب إلى ريّا، المربية الجميلة والذكية (حاضنة) يزيد، بقي الرأس في دمشق في خزائن السلاح حتى عهد وريثه سليمان بن عبد الملك، فأمر بإحضاره ودفنه بطريقة لائقة، وكان قد تحول مع مرور الوقت إلى عظماً أبيضاً، فدفن في مقابر المسلمين”(7). وثمة ضريحين في دمشق يحتفل بهما كمقامين للحسين، ويقعان كلاهما في المواقع المقدسة في المدينة، أحدهما خارج الباب الشرقي للمسجد الأموي (باب جيرون)، والآخر في الركن الشمالي الشرقي من المسجد(8). ولا يزال موقع الضريح ،داخل المسجد، يُعرف حتى اليوم باسم مشهد الحسين، ووفقًا لجغرافيي القرن العاشر، مثل الإصطخري وابن حوقل، يتوافق الموقع مع المكان الذي عُرض فيه رأس حسين في العام 680، وهو أيضاً الموقع الذي قُتل فيه يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) قبل ذلك بعدة قرون(9). وهذا يتماشى مع التقاليد الشيعيّة (المعروفة فعلاً في مؤلفات تعود للقرن الثامن)، التي تربط استشهاد الحسين بسيرة حياة يوحنا المعمدان(10). وهو المكان الذي حُدد، في مرحلة لاحقة، على أنه موقع دفن البقايا. وينخرط عدد غير قليل من مؤرخي العصور الوسطى في مناقشات بحثية حول مكان الدفن النهائي للرأس المقطوع، أو بالأحرى، يعترفون، صادقين، بجهلهم مكان الدفن(11). فيستشهد الذهبي (المتوفى 748/1348)، على سبيل المثال، بمصادر مبكرة تتحدث عن أنه عندما جاء المسوِّدة (العباسيين) إلى دمشق، استفسروا عن القبر، فنبشوه ودنسوه وأخرجوا الرأس منه، و”الله وحده يعلم ما جرى له”(12).
وقد أدى هذا الغموض إلى ظهور العديد من النظريات حول مكان الدفن النهائي للرأس، ويغذي هذا الغموض انتشار الحكايات متعددة الأطياف. فأظهر الناس المزيد من التبجيل لسبعة مواقع مختلفة، يُزعم أنها امتصت، على الأقل، قطرة دم من الشهيد أو شهدت عجائب قام بها رأسه المقطوع(13) يقع بعضها في الرقة على الفرات وفي حلب وبالس في شمال سوريا، وفي النجف في جنوب العراق، وفي مرو في خراسان، وأخيراً في عسقلان في جنوب فلسطين وفي القاهرة. وسوف نركز هنا على موقعي عسقلان والقاهرة.
إحياء ذكرى الحسين في عسقلان- الأدلة النقشية والآثارية
ثمة نقش يزين منبر خشبي [الشكل1] بتكليف من القائد الفاطمي المسلم الأرميني والوزير بدر الجمّالي يعود للعام 484 هجرية / 1091-1092، يربط لصورة قاطعة قصة الحسين بمدينة عسقلان. كان بدر الجمالي، المعروف أيضاً باسم أمير الجيوش (المتوفى 487 هجرية/1094) في ذروة حياته المهنية -المنقذ والمصلح للخلافة الفاطمية في فترة الأزمة الاقتصادية والهزائم العسكرية- (14). يتكون النص من ثمانية عشر سطراً (ستة أسطر فوق “بوابة المنبر”، واثنتي عشر سطراً على الألواح التي تؤطره وعلى المنارات الجانبية) تعلن بفخر، وبخط كوفي، إظهار “رأس مولانا الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب “. ويتم تقديم الاكتشاف على أنه معجزة(15)، وآية إلهية تثني على الإمام المستنصر بالله(16) وسلالته، وشرف وسرور لأصدقائه المخلصين وشيعته المؤمنين، وفضل خاص لـ “عبده، اللامع، قائد الجيوش، سيف الإسلام، عون الإمام أبو النجم بدر المستنصري”(17)، راعي المنبر. ويشير النقش إلى الغضب الإلهي الذي يقع على رؤوس الطغاة الظالمين، الذين أخفوه من أجل “طمس نورها”.

[يرد النص الكتابي على المنبر كما يلي: «الحمد لله وحده لا شريك له، محمَّد رسول الله، عليٌّ ولي الله، صلى الله عليهما وعلى ذريتهما الطاهرة، سبحان من أقام لموالينا الأئمة مشهداً، مجداً رفع راية، وأظهر معجزاً بين كل وقت وآية، وكان من معجزاته تعالى إظهارُ رأس مولانا الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب صلى الله عليه وعلى جده وأبيه وأهل بيتهم، بموضع بعسقلان كان الظالمون سَتَرُوه فيه، وإظهاره الآن شرفاً لأوليائه المَيَامِينِ، وانشراح صدور شيعته المؤمنين، ورزق الله فتى مولانا وسيدنا معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين»- المترجم .]، كما يذكر قائمة بما أوقفه بدر الجمالي للمشهد الذي كرّسه كمكان دفن لراس الحسين وتشمل القائمة حراساً وأولياء للمشهد وأعمال الصيانة. ويذكر النقش الممارسات الدينية المتوقعة: صلاة “الراغبين في قبول صلاتهم”، طلب الشفاعة والزيارة(18). وينتهي بخطاب لجميع المؤمنين، عليهم أن يحفظوا ويقدسوا المكان المقدس ويعتنوا بنقاوته ونظافته، ويستشهد بأحد أشهر الأحاديث الشيعية المعروف بحديث الثقلين (الهديتين الثمينتين اللتين منحهما الله لشعبه: القرآن وآل البيت؛ أي العترة النبوية)(19). ولايزال المنبر موجوداً في حرم البطاركة في الخليل (باللغة العربية: الحرم الإبراهيمي، أو حرم سيدنا الخليل). ويبدو أن لوحاً من الرخام مع شظايا من نقش آخر، يحمل نفس التاريخ (484 هـ)، يشهد على المبنى الفعلي للمشهد الذي كان مخصصاً له (المشار إليه في النقش على المنبر أعلاه)(20).
يقترح فينسنت وماكاي، ومؤخرا دي سميت وويليامز، أن يأخذ في الاعتبار احتمال أن يكون الضريح الفاطمي تم إنشاؤه على تلة كانت تُعرف سابقاً باسم مكان دفن اثنين من الشهداء المسيحيين مقطوعي الرأس، وهما من ضحايا الاضطهاد المسيحي. في عصر الإمبراطور دقلديانوس (308-311)(21). ويذكر يوسابيوس، أسقف قيصرية (حوالي 260-339) استجواب العديد من المسيحيين المصريين، الذين كانوا في طريقهم إلى كيليكيا، “أمام أبواب عسقلان” ومحاكمتهم على يد الحاكم المحلي. وبحسب كتابه “شهداء فلسطين”، يذكر يوسابيوس أنه حُكم على بعض المعترفين بالتعذيب وعلى آخرين بالإعدام؛ و”تم قطع رأس بريموس وإلياس بحد السيف.”(22). غير أنه لا يحدد مكان دفنهم، ولكن خريطة مأدبا (أواخر القرن السادس إلى أوائل القرن السابع) تُظهر “مكان المصريين” خارج الركن الشمالي الشرقي من سور عسقلان”(23). وكان الحاج المسيحي أنطونينوس (أو: المجهول) من بياتشنزا، والذي زار عسقلان في طريقه من القدس إلى غزة وسيناء حوالي 570، قد كتب مشيراً إلى أنه “يستريح الإخوة الثلاثة الشهداء المصريين. ولكل منهم اسمه الخاص به، ولكن عادة ما يطلق عليهم “المصريون”)(24). ولا توجد إشارات لزيارات الحجاج المسيحيين لكنيسة الشهداء المصريين بعد زيارة رجل بياتشنزا هذا. ومع ذلك، قد نتوقع أنه في مرحلة ما، استولى المسلمون على الموقع المقدس بالفعل وحولوا موتاه إلى شهداء مسلمين قُطعت رؤوسهم. فهل كان من قام بذلك بدر الدين الجمالي في أواخر القرن الحادي عشر، أم كان الأمر مجرد إحياء تقليد إسلامي أقدم، يعود إلى العصر الأموي؟(25)
إحياء ذكرى الحسين في عسقلان – ثغرات نصية ونقل
إذا ما جادلنا بمسألة غياب الأدلة، فيمكن القول إن عدم وجود أي إشعار بوجود ضريح على شرف الحسين من العديد من تقاليد “الفضائل” التي تحتفل بفضائل عسقلان يرقى إلى حجة قوية ضد وجود ارتباط مبكر بين الحسين الشهيد والمدينة. هذا النوع الفرعي من الأحاديث التي انتشرت في العصر الأموي وبداية العصر العباسي يروّج لقدسيّة المدن الحدودية البحرية بين المسلمين والبيزنطيين (الثغور البحرية)، وتمتد من العريش إلى سوريا العليا، وتعد هذه الأحاديث بمكافآت سماوية لأولئك الذين يسكنون تلك الثغور ويشاركون في الدفاع عنها(26). وغالباً ما نالت عسقلان، من جرّاء ذلك، على لقبها الفخري “عروس الشام” أو إحدى العروسين (العروس الأخرى هي غزة).
ثمة مجموعة اقتباسات نقلت عن النبي تحمل إشارة خاصة إلى مقبرة ما في عسقلان وإلى شهداء مسلمين مدفونين هناك(27)، لكن لا شيء يشير إلى رأس الحسين “أمير الشهداء”(28). وبالمثل، هناك وصف حماسي، لكنه قصير، للمقدسي لمدينة عسقلان المزدهرة “البهية والحصينة”، ويبدو أنه أشار إلى ذلك بعد زيارته للمدينة ما بين 985 م. و990م.، دون أي إشارة إلى ضريح الحسين(29)، ودون ذكر للمسجد الموجود في سوق تجار القماش. وكل ما ذكره ناصر خسرو، الفارسي الإسماعيلي الذي زار المدينة في العام 1047 وهو في طريقه إلى مصر، كان يشير إلى وجود سوق “بازار” جيد في المدينة ومسجد جامع وقوس حجري ضخم اعتقد أنه لابد أن يكون جزء من مسجد آخر(30).
ويبدو أن محمد بن علي بن العمراني (580/1185)، مؤلف أخبار الدولة العباسية (31) [الإنباء في تاريخ الخلفاء] هو أقدم مؤرخ يذكر عسقلان كمكان محتمل لدفن رأس الحسين، والذي قام بتأريخ الفنان الذي نقل أخبار اكتشافه من خلال النقش الذي يعود للعام 484 هجري. ويقدم، العمراني، في بداية كتابه ملخصاً قصيراً عن العصر الأموي، فيروي قصة ما بعد كربلاء بأسلوب اعتبره قاسم السامرائي -محرر الكتاب- أسلوباً “فلكلورياً”(32). ووفقاً لرواية العمراني، كان رد فعل يزيد على رؤية الرأس هو الندم والألم: حيث أمر بغسله بعناية في ماء الورد ولفه في أغطية رقيقة. وطلبت مجموعة من سكان عسقلان، الذين تصادف وجودهم هناك، إذن الخليفة لدفن الرأس في بلدتهم، فاستجاب لرغبتهم. ويعلق ابن العمراني بأن الضريح الذي شيّدوه تكريماً للرأس أصبح يعرف بمشهد الرأس، “ويأتيه الزوار من كل صوب وحدب حتى يومنا هذا”(33). ويبدو أن المؤرخ المصري ابن مُيسّر (توفي 677/1278) يشير أيضاً إلى ضريح سابق لا يمكن التعرف عليه (مكان دارس)، تم نقل الرأس منه إلى المسكن الذي أعدّ من أجله في أواخر القرن الحادي عشر. ووفقاً لهذه الرواية، كان الأفضل شاهانشاه (المتوفى 515/1121) نجل بدر الجمالي والقائد العام للجيش الفاطمي(34) هو الذي زار عسقلان ورأى إعادة دفن الرفاة المقدسة. يكرر المؤرخ المتأخر المقريزي هذه القصة حرفياً تقريباً، مضيفاً أنه ربما يكون الأفضل قد أنهى فقط مشروع بناء بدأه والده(35). – والأهم من ذلك، يحتفظ المقريزي، أيضاً، برواية عن تجميل الضريح بعد حوالي ثلاثة عقود من أعمال البناء. ويفيد عن أخبار العام 516/1122، بأن الوزير الفاطمي المأمون أمر بصنع ثريا من الذهب وثريا أخرى من الفضة خاصة لكل من الأضرحة تكريماً للحسين وإرسالهما إلى كربلاء وعسقلان(36).
تأويلات السياق التاريخي
سواء أقيم الضريح بناء على تقليد مسيحي أو إسلامي سابق، أو وفقاً لـ”تقليد مبتكر” أصلي من بدر الجمالي، فوجوده وتكريسه كمكان للحج في عسقلان في أواخر القرن الحادي عشر يتلمس تفسيراً له متجذراً في السياق التاريخي. وتسعى الدراسات الحديثة للبحث عن الإجابات إما في الظروف السياسية للشرق الأوسط المعاصر، أو في المناخ الديني في ذلك الوقت، أو في التفاعل بين الاثنين. ويُنظر إلى مشهد رأس الحسين على أنه المشروع الشخصي لبدر الدين الجمالي، بهدف تعزيز مركزه القوي بالفعل في الدولة الفاطمية(37). وكبديل لهذا التأويل، ثمة اقتراح يرى إنشاء الضريح خدمة للسلالة الفاطمية، ولتأمين قبضتها على واحدة من معاقلها الأخيرة في سوريا (كانت قد فقدت معظمها لصالح السلاجقة بحلول ذلك الوقت) من خلال تعزيز المكانة الدينية لمدينة عسقلان(38). ويؤكد عدد من العلماء على أن الجاذبية العالمية لشخصية الإمام الحسين، الذي كان أيضاً حفيد النبي، يلغي أي محتوى إسماعيلي على وجه التحديد من طائفته(39). ويستعرض دادويان السياسة الدينية لبدر الجمالي باعتبارها مناورة بين زيادة نفوذ بعض الخصائص الإسماعلية ونبذ البعض الآخر وبين التدابير التي تروق للمجتمع الشيعي وتلك التي يقصد منها إرضاء الأغلبية السنية(40).
بالنظر في المقام الأول إلى المناخ الديني في أواخر القرن الحادي عشر، والسماح بدور أقل للسياسة الأسرية والصراعات الشخصية على السلطة، فإن العديد من الأعمال المنشورة حديثاً تتحدث عن القرون الحادي عشر حتى الثالث عشر باعتبارها الفترة التي حدث فيها تمركز التاريخ الإسلامي المقدس في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص، تحديد معالم المشهد المكاني عبر قبور وأضرحة مسلمة ملحوظة، وخاصة لصحابة الرسول. كانت المواقع المخصصة لـ “العلويين” التي يقدسها جميع المسلمين، سواء السنة أو الشيعة، تحظى بشعبية خاصة لدى الولاة والحُجّاج(41).
تكشف نظرة فاحصة على نص نقش منبر بدر الدين، أن مشهد رأس حسين يقع، بشكل عام، ضمن هذه الفئة الأخيرة. في البداية، يقسم العالم إلى ظالمين ملعونين من الله، ومباركين مؤمنين. وهؤلاء المؤمنون هم ” الأولياء الميامين” المخلصين لله، وهم شيعته المؤمنة به. إن الثناء المسهب (وإن كان هذا الأمر يعدّ تقليدياً) على الأئمة الفاطميين، في الماضي والحاضر والمستقبل، والاقتباس من حديث الثقلين، يؤكد أيضاً على الانتماء الشيعي للمشروع، رغم ما أعلنه بدر الدين من أنه دفن الرأس في مكان غاية في النبل والطهارة “من أجل قبول صلوات صلاة الراغبين، وشفاعة للباحثين عن وساطة، وللزوار”(42)، وهؤلاء قد يكونوا من السنة والشيعة دون تمييز.
نقل الرأس إلى القاهرة
استسلم المدافعون المسلمون عن عسقلان، آخر معقل فاطمي على الساحل الفلسطيني، في صيف 548/1153، بعد سبعة أشهر من حصار الفرنجة. وسمح الملك بالدوين الثالث للسكان بالمغادرة. فنزع رأس الحسين من ضريحه ونقل إلى ملاذ آمن في القاهرة. وبحسب ابن الأزرق الفارقي (توفي 1164-1165 أو 1176-1177)، مؤلف كتاب “تاريخ ميافارقين وآمد”, كان المسؤول عن عملية النقل حاكم وقاضي عسقلان بناء على أمر الخليفة الظافر (حكم 544 / 1149-549 / 1154)، لكن التفاصيل تختلف في نسخ أخرى من القصة. وأمر الوزير الصالح طلائع بن رزيك ببناء مسجد في القاهرة، خارج باب الزويلة (البوابة الجنوبية للمدينة المسورة)، ليكون ضريحاً ومدفناً للرفاة(44). ولكنه سبقه أفراد من حاشية الطفل الخليفة الفائز (549/1154 – 555/1160). فبنوا مرقداً في باب ديلم، داخل حدود القصر، بالتوازي مع ضريح الخلفاء الفاطميين، حيث تم وضع الرأس أخيراً(45). وقد ارتبط استخراج الجثث ونقلها بالعجائب، تماشياً مع القصص الملحمية النمطية، لاسيما تلك المتعلقة بتنقل وتجوال رفاة القتلى المعينين (46).
تربط بولا ساندرز وكارولين ويليامز إنشاء مرقد رأس حسين في القاهرة بانقلاب في البلاط الفاطمي، وحاجة الطفل الخليفة الجديد (أو مستشاروه) -أو بشكل عام، الإمام الإسماعيلي -الخليفة- إلى تعزيز شرعيته من خلال توثيق صلاته مع آل البيت ومع ماضي السلالة العلوية البعيد(47). يشير دي سميت إلى عدم إشراف الخلفاء أنفسهم على عادات تقديس أضرحة السلالة العلوية، بل تولى وزراؤهم هذا الأمر، وهم الذين كان التزامهم بالمذهب الإسماعيلي الشيعي ضعيفاً. وبالتالي، بدلاً من أن يكون إجراء يعزز مكانة الخلافة، بات يعكس انحدار النخبة الفاطمية القديمة(48). وعلى الرغم من الظروف الخاصة التي أدت إلى تكريس تقديس رأس الحسين في القاهرة، إلا أن هذه الطقوس لم تزول بزوال النظام الفاطمي وعودة الهيمنة السنية إلى مصر في سبعينيات القرن الثاني عشر الميلادي. بل، على العكس من ذلك، ظل تقديس ضريح الرأس شائعاً للغاية.
أظهر ابن جبير، الذي زار المكان في 578/1182، افتتانه الكامل بجمال المشهد الحسيني وتقوى زواره، ويقول عنه بأنه مكان رائع لا يوصف من شدة جماله، ويتابع القول بأنه مزار رائع مزخرف، مبني فوق نعش فضي يحمل الرأس. ويتجمع الحجاج حول القبر، ويقبلونه، ويطوقونه، ويلمسون غطاء القماش، ويصرخون، ويصلون بحرارة، “ويقدمون دعوات متواضعة من شأنها أن تذيب القلب وتفلق الصوان”. وينخرط ابن جبير في هذه الأجواء متمنياً أن يضم إلى أولئك الذين ينالون بركات الضريح(49). وفي الوقت الذي يظهر فيه، ابن جبير كناقل حقيقي لممارسات التقديس داخل المشهد المقدس، فإن ملاحظاته بشأن تاريخه تعتريها الشكوك، فجلّ ما يعرفه أن الرأس نقل إلى القاهرة مباشرة، ولم يذكر توقفه في عسقلان(50).
يتطابق التبجيل المستمر للمزار في ظل الدول السنيّة التي تلت الفاطميين: الأيوبيين، المماليك، العثمانيين مع نتائج ستيفاني مولدر، التي قامت بمسح حوالي أربعين مزاراً تعود للعصور الوسطى في كلٍّ سوريا ومصر وتركيا ولبنان. ووجدت أن هذه الأضرحة كانت موضع تبجيل من قبل كل من الشيعة والسنة، وقد استفادت معظم الأضرحة، في مرحلة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، من رعاية أهل السنة والعامة وكذلك الحكام(51). ويعدّ الضريح القاهري المكرس لتقديس رفاة الحسين الشهيد أحد أقدس المواقع الإسلامية في المدينة، وواحد من اثنين (مع ضريح السيدة زينب) اللذان ما زالان يواصلان جذب الحجاج من جميع أنحاء مصر. ويعرف الضريح باسم جامع سيدنا الحسين (سيدنا، بالعامية المصرية)، أو مسجد الإمام الحسين(52).
عسقلان بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر
بقي موقع المشهد الخاوي على حاله، ويبدو أن الفرنجة لم يلحقوا به، بعد كل شيء، أذىً يذكر(53)، واستمر في جذب الزوار على الرغم من عدم وجود الرفاة فيه. وقد زاره، في العام 570\1174 [أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي] الهروي، الذي ألف دليل الحجاج الأول للمقدسات الإسلامية [ الإشارات إلى معرفة الزيارات]، ويذكر عسقلان كبلدة حدودية تشتهر ببئر إبراهيم، وحصن قوي ومزار رأس الحسين، الذي سلمه المسلمون إلى القاهرة في 549/1154(54). وكان صلاح الدين [الأيوبي] قد تأكّد في العام 587/1191، بأن منبر المشهد لم يصبه أذى . بعد أن قرر مغادرة مدينة عسقلان وهي في حالة خراب بدلاً من المخاطرة بفصلها عن مصر فيما لو غزاها ريتشارد قلب الأسد والصليبيين، فأرسل المنبر إلى حرم البطاركة في الخليل، والتي كانت تخضع للمسلمين منذ العام 1187(55)، وقد وصل المنبر إلى الخليل بفضل احتياطات صلاح الدين الجيدة.
مرت عسقلان بأربعة عمليات تدمير متتالية: أولاً، في العام 587/1191 بأمر صلاح الدين، وفي العام 1192 من قبل ريتشارد قلب الأسد (الذي التزم بمعاهدة يافا- تل العجول[تعرف أكثر باسم صلح أو معاهدة الرملة] بهدم ما تم إصلاحه في عسقلان)؛ وفي العام 1247 هدم السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب حصون الفرنجة الذين بالكاد انهوا بناءها، وأخيراً هدم [الظاهر] بيبرس، في العام 668/1270 ما تبقى، وملأ مرسى المدينة (لم يكن مرفأً مناسباً أساساً) بالأنقاض(56). ويصف الموسوعي الجغرافي القزويني (المتوفى 682/1283) مشهد عسقلان بأنه “ضريح كبير به أعمدة رخامية”، كما لو كان سليماً، حيث يأتي الناس من جميع أنحاء العالم بحثا عن بركة القبر والنذور، لكنه يشير إلى دمار المدينة في العام 587 هـ / 1191 م(57). ويرثي معاصر القزويني، الرحّالة المغربي محمد العبدري، الذي أمضى عدة أيام في فلسطين في عام 689/1290 ، حال المدينة ويصف درجة دمارها بعض الشيءـ إلّا أنّه يذكر المزار الحسيني كمسجد طويل به صحن عظيم، حيث صلى صحبة رفاقه صلاة الظهر لدى وصولهم للمدينة، ويخبر (أشار، في مكان آخر من الكتاب، للمزار في معرض وصفه زيارته لمصر) بأن الضريح بني “من قبل أحد بني عبيد” (الفاطميون)، الذي أمر بتدوين اسمه فوق المدخل(58).ويضيف، أثناء وصفه، مغادرته للمكان رفقة صحبته قبل حلول الظلام “لأن البقاء هناك محفوف بالمخاطر، ولا مغيث هناك إلا الله سبحانه وتعالى”. إن الانطباعات المتطابقة عن المكان، لابن بطوطة [الرحالة] المعروف (ت 770 / 1368-9 أو 779/1377)، التي حذفت الملاحظات المتعلقة بأوقات الوصول والمغادرة والصلاة، تم نسخها بلا شك من رحلة العبدري، كما هو يوضح ذلك أميكام إلعاد(59). وكان ابن تيميّة قد وجد، في رسالتين له، أنه من الضروري دحض قدسية الضريح في رسالتين. ويذكر في كتابه “القاعدة في زيارة بيت المقدس”، الذي نُشر على الأرجح في العام 716/1316(60) عن عسقلان قوله: ” وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى ” عَسْقَلَانَ ” فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَلَيْسَ مَشْرُوعًا لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا؛ وَلَكِنَّ عَسْقَلَانَ كَانَ لِسُكْنَاهَا وَقَصْدِهَا فَضِيلَةٌ لَمَّا كَانَتْ ثَغْرًا لِلْمُسْلِمِينَ يُقِيمُ بِهَا الْمُرَابِطُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”61)، ولكن مكاناً مهجورًا مثل عسقلان، حيث لم يعد هناك منازل متبقية فيها، لم يعد من الممكن اعتبارها ثغراً، ولا فائدة من السفر إليها”(62) [فَمَا خَرَبَ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ وَلَمْ يَبْقَ بُيُوتًا كَعَسْقَلَانَ لَمْ يَكُنْ ثُغُورًا وَلَا فِي السَّفَرِ إلَيْهِ فَضِيلَةٌ]. ويؤكد، ابن تيميّة بطريقة واضحة لا لبس فيها، عن صحة الضريح، أنه معروف جيداً، ولا يمكن لأي عالم يتمتع بالنزاهة أن يدعي خلاف أن المشهد في عسقلان ظهر فجأة، بعد العام 490/1097، بعد أكثر من 430 سنة (هجرية) من وفاة الحسين. كما يؤكد عدم وجود المهد قبل ذلك التاريخ، لانقش ولا حجر ولا رحلات حج، تشير إلى وجود آثار للحسين في عسقلان. علاوة على ذلك، وفقاً للبعض كان هناك قبر رجل مسيحي، من أتباع يسوع. ولمزيد من السخرية من تبجيل رأس الحسين، ينقل ابن تيمية ابتهاج “بعض المسيحيين”، بغباء المسلمين الجاهلين، ويقارنون بين الزوجين المسيحيين “السيد المسيح والسيدة مريم”. والزوج المسلم “السيد الحسين والسيدة نفيسة”، ملمحاً إلى أن الرأس الموجود في عسقلان يعود، على الأرجح، إلى شخص مسيحي!(63).
لم توقف أطروحة ابن تيمية زيارة عسقلان. وظلت المدينة في حالة خراب لكنها استمرت في جذب المسافرين. ويشير مجير الدين (ت. 845/1522) في كتابه “تاريخ القدس والخليل”، إلى أنه لم يتم إعادة بنائها منذ هدمها من قبل صلاح الدين الأيوبي. ويلاحظ أيضاً أن لديها مواقع حج، وذكر على وجه التحديد ضريحاً كبيراً “بناه أحد الخلفاء الفاطميين في مصر، في موقع ادعوا أنه مكان رأس الحسين بن علي”(64).
وكان المفتي والصوفي النقشبندي عبد الغني النابلسي (ت. 1143/1731) قد زار المكان الموسمي، في نهاية القرن السابع عشر، وبالتحديد في محرم 1105 / تسرين الأول\ أكتوبر من العام 1693. وكانت هذه جولته الثانية لفلسطين، وقد توقف، قبلاً، في القدس والرملة واللد ويافا بحثاً عن مقابر الأنبياء، وأصحاب النبي ورجال الدين (الأولياء). وتوقف في عسقلان، في صحبة معه وهو في طريقه إلى غزة. ويذكر أنه رأى قبة جميلة، وأشار إلى زعم يفترض أن رأس الحسن (!) والحسين مدفونين تحتها، لكنه يعتبر أن هذا الادعاء “لا أساس له من الصحة”. وأفاد أنه قام بتلاوة الفاتحة هناك وقدم أدعية لله. ويتابع ذكره لكل من المشهد الحسيني المشهور والممتاز والمثير للإعجاب في مسقط رأسه دمشق، الذي يؤمّه العديد من الزوار؛ وكذلك المشهد الحسيني، الذي في القاهرة. ويخمّن أن تلك المشاهد المتعددة نصبت في أماكن تم فيها وضع الرأس عندما جُلبَ من العراق، ولكن من غير المعروف مكان دفنه بالفعل(66).
المزار في أواخر العهد العثماني وأثناء الانتداب البريطاني
أين يقع بالضبط المشهد الذي زاره النابلسي؟ تُظهر خريطة بيير جاكوتين التي أُعدّت خلال حملة نابليون بونابرت على فلسطين، في العام 1799، عن وجود تلّة تقع شرق أنقاض عسقلان، وثمة، على قمة هذه التلّة ،”برج مدمر يمكن رؤيته من بعيد”(67) . وشاهد فيكتور غورين، في العام 1863، مسجداً صغيراً، يسمى مسجد الحسن، يمكن منه رؤية عسقلان بأسرها(68). كما يصف كلود. آر. كوندر وهربرت إتش كيتشنر، في العام 1875، مشهد سيدنا الحسين باعتباره “برجاً مدمراً من بناء صغير، يبدو أنه مبنى يقع خارج عسقلان. وهذا البرج عبارة الجزء الوحيد الظاهر، وباقي أجزاء الأسس مغطاة بالرمال”(69)، ويظهر البناء على خارطتهم، التي تعود للعام 1880، كموقع يطل على الجدران الشرقية المدمرة لعسقلان(70). ويمكننا ن نعثر، في الخريطة التي أُعدتها سلطات الانتداب البريطاني، أن “نبي حسين” -الذي تم تمييزه على أنه قبر الشيخ- يوجد في المكان ذاته(71). ووفقاً للمؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ، الذي كتب في العام 1936، تم تشييد المبنى الذي تعرف عليه البريطانيون على يد رؤوف باشا، الحاكم العثماني لمنطقة القدس في السنوات 1876-1888. تبرع سكان غزة والقرى المجاورة مثل حمامة والجورة ونعاليّا بالمال والمواد والعمال لاستكمال مشروع البناء. بالإضافة إلى ذلك، تم منح عقارات الوقف -المحلات التجارية في المجدل، على بعد ثلاثة كيلومترات شمال شرق المشهد. واشتمل المبنى على طابقين: يتكون الطابق العلوي من غرفتين وقاعة كبيرة، بينما يتكون الطابق السفلي، حيث يوجد القبر، من ست غرف وأروقة للصلاة. ويقع مكان ذبح وطهي حيوانات الأضاحي بجانب المبنى(72). ولم يحدد الدباغ ما إذا كانت الأطلال التي ذكرها جاكوتين وغورين وكوندر وكيتشنر تم دمجها في المشهد الذي أعيد بناؤه. على أي حال، كان هذا المشهد موجوداً هناك حتى العام 1950. ولكن هل كان موجوداً هناك منذ القرن الحادي عشر وحتى ذلك التاريخ؟ لا يظن الم الآثار الدومينيكي البارز، الأب لويس-هيوج فنسنت ذلك، ولا النقيب إرنست ج. مكاي، الذي كان أول مفتش للآثار في فلسطين البريطانية، والذي كان له تجربة واسعة مه هذه المسألة في العام 1923، وقد وصف فنست ومكاي مقام أو مسجد الحسين بأنه “مبنى غير مميز، ومبيض بالكلس دورياً”، لم يسمح لهما حراس المقام بفحص ما إذا كان يحتوي على مكونات قديمة. وخلصا إلى أن الضريح ليس سوى بقايا تافهة من الحرم الأصلي، الذي زعموا أنه كان موجوداً داخل أسوار عسقلان ، على الرغم من كونه محط أنظار مهرجان سنوي ومركز جذب للعديد من الحجيج. واستندت نظرة فنسنت ومكاي للموقع إلى وصف ابن بطوطة* له، والذي جاء فيه أن أنقاض مسجد عسقلان العظيم، والمعروف باسم مسجد عمر، تقع جنوب المشهد الشهير الذي يحتفظ برأس الحسين. قبل نقلها إلى القاهرة. وقد فسر فنسنت ومكاي هذه الفقرة لتعني أن المشهد كان “بجواره مباشرة” (أوفي الجوار الملاصق مباشرةً) لمسجد عمر الذي عثر على بقاياه شرق مركز عسقلان مباشرةً، عن طريق حملة ليستر هيستر ستانهوب في العام 1815 ، والذي كان يقع فوق أنقاض المجمع العام الروماني الذي تم التنقيب عنه في أوائل عشرينيات القرن الماضي(73). وتجدر الإشارة إلى أن ابن بطوطة (أو بالأحرى العبدري، الذي نسخ نصه)(74) لم يفصح القول عن أن المبنيين مجاورين لبعضهما البعض: لقد كتب، بالضبط، أن مسجد عمر كان إلى الجنوب من المسجد حيث استقر رأس الحسين. وتابع أن جنوب مسجد عمر كان بئر إبراهيم(75) [انظر ملاحظة المترجم في آخر المقال] والمسافة بين ذلك المسجد والبئر تصل إلى حوالي 240 متراً(76) [انظر ملاحظة المترجم في آخر المقالم]؛ وقد نفترض إذن أن مشهد رأس الحسين ومسجد عمر كانا بعيدين بعضهما عن الآخر، حيث يقع الأول خارج أسوار المدينة، وهو في حالة خراب منذ أيام صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.
لم يضع فينسنت ومكاي فرضية تفسر لماذا، ومتى نُقل مشهد حسين المزعوم من داخل المدينة المدمرة إلى التل لجهة الشرق. والواقع أن نقاشهم المطول يحتوي على عناصر تتعارض مع مثل هذه الخطوة. وكما رأينا من قبل، فقد كتبوا أن طقوس تقديس رأس الحسين ين علي في عسقلان ربما تكون مشتقة من تقاليد التقديس المسيحية للشهداء المصريين الثلاثة، الذين قُطع رأسي اثنين منهم، كما لاحظا أن موقع “مكان [المصريين]” على خريطة مادبا يتوافق مع موقع مسجد جامع الحسين الحديث؛ علاوة على ذلك، أشار فنسنت ومكاي إلى أن النموذج المزدوج لمسجد الحسنين، الذي يشير إليه الفلاحون المحليون بالضريح، قد يكون ذكرى الشهيدين المصريين(77). فإذا كان الأمر كذلك، فسوف يكون موقع المشهد/ منذ إنشائه، في المكان الذي تضع فيه الخرائط الحديثة، لأنه من غير المعقول أن تقليداً مسيحياً من العصور البيزنطية كان لا يزال هناك من يتذكره في مدينة عسقلان المهجورة لفترة غير معروفة بعد منتصف القرن الرابع عشر، عندما -وفقاً لافتراض العلماء – نُقل المشهد إلى ما وراء الجدران المدمرة. غير أن التنقيب عن أساسات المشهد، والتي ربما لاتزال موجودة، سوف تكون العملية الكفيلة فقط بتزويدنا بتاريخ نهائي عن تاريخ البناء الأصلي للمزار. من المحتمل أن استخفاف فنسنت ومكاي من “المبنى غير المتميز” هو الذي جعل إدارة الآثار في فلسطين البريطانية تمتنع عن إعداد خطة للمزار. يظهر “مشهد سيدنا الحسين” في قائمة المواقع التاريخية للدائرة على أنه يحتوي على برج مدمر وقبرين مقببين(78). ولا توضح القائمة كيف دُمّر هذا البرج -من الواضح أن البرج الذي سجله جاكوتين في العام 1799 وكوندر وكيتشنر في العام 1875 -متعلق بالمشهد- حسب الدباغ -تم تشييده في العام 1878. ربما تم دمج بقايا البرج فيه، ولكن نظراً لأنه لم يتم إعداد أي خطط للبرج أو المشهد، فيجب أن يظل هذا الأمر مجرد تكهن. وإذا ما رغبنا في تصور المشهد في مرحلته الأخيرة، فيجب أن نلجأ إلى وصف الطبيب والإثنوغرافي الفلسطيني توفيق كنعان، الذي كتب في العام 1927 ملاحظاً ن أن “سيدنا الحسين في الجورة (بالقرب من عسقلان) ليس لديه قبر، ولكن ثمة، داخل المقام، جزء من عمود يظهر المكان الذي دفن فيه رأس الحسين. ويحمل الجزء العلوي من العمود لفة خضراء [عمامة] وتحتها قطعة قماش حمراء”. ويضيف في الحاشية: “المقام الكبير على قمة تل يبعد عن البحر حوالي 20-30 دقيقة. لا توجد مقابر أو كهوف في الحي. ويقع في حرم المقام شجرتي التوت وكروم عنب”(79). ويمكن استحضار صور أكثر ثراء عن المكان من حوالي اثنين وعشرين صورة التقطها مصورو المستعمرة الأمريكية بالقدس في 21 نيسان\ أبريل 1943 [انظر على سبيل المثال الشكل 2].

ماتسون (إريك جي وإديث) مجموعة صور، LC-DIG-matpc ‒ 21687
وكذلك من الصورة الجوية التي التقطها طاقم إسرائيلي هولندي في العام 1949 [الشكل. 3](80).

الموقع في التقاليد الفلسطينية
وتسمح لنا الصور المودعة الآن في مكتبة الكونغرس، لنا بملاحظة، أيضاً، بعض تفاصيل المهرجان الذي أقيم يومي الثلاثاء والأربعاء، 20-21 نيسان\ أبريل 1943. حيث نرى الحشود تتجمع يوم الثلاثاء في وادي النمل على الشاطئ، مع إقامة بعض المحتفلين الخيام المؤقتة، وآخرون يقومون بإعداد الجمال والخيول والحمير للاستحمام والشفاء في البحر، ثم نرى الحيوانات تعوم في الماء. وتظهر الصور التي تم التقاطها في اليوم التالي موكباً يحمل علماً يغادر المجدل في طريقه إلى المشهد. وتتجمع الحشود شرق جدران عسقلان المدمرة، وكان بعض الشباب يراقبون من أشجار الجميز. ونلاحظ تكدس أعلام الموكب والجمهور يراقب بعض الدراويش وهم يهتفون ويرقصون. ثم يصل الموكب إلى ساحة المشهد المفتوحة. حيث نرى، أخيراً، بعض المحتفلين الذين شاركوا في سباق الخيل(83) . كان مشهد الحسين، في أربعينيات القرن الماضي، من بين مواقع الحج الخمسة الرئيسية التي كرمها أهل السنة الفلسطينيين(84)، وهي مواسم كانت تعقد في تلك المواقع وجزء من ثقافة تكريم الأولياء المحليين، وكانت تعج بالغناء والرقص وتلاوة الشعر الديني وغير الديني وكذلك الشعارات الوطنية، وانتشار الأنشطة الرياضية والتجارية والوعظ(85). سمحت هذه الصور، بالإضافة إلى مسودة غير مؤرخة تظهر أنقاض الضريح والمباني المبكرة لما كان سيصبح مركز برزيلاي الطبي في عسقلان(81), تسمح لنا بتكوين صورة عامة عن المكان [ شكل 4](82). وكانت هذه المواسم حدثاً اجتماعيا أكثر منه دينياً، على ما يبدو، ويتماشى إلى حد كبير مع تأكيد فيكتور تورنر أن الحج إلى مقابر القديسين يعني زيارة موقع خارج النظام الاجتماعي، موقع لا ينتمي إلى أي مجموعة أو طبقة معينة، وهو لا يقوم على الواجب الديني، بل على الدافع الشخصي، ويكون الغرض من الزيارة، في بعض الأحيان، بهدف الشفاء أو الدعاء والتماس حاجات شخصية. مثل هذا الحجيج الشعبي ليس له محتوى طقسي كثيف، وهو غير، إلى حد ما، ويحفل بميزات “الكرنفال”(86). وارتبطت هذه المواسم على نحو غير مقيد، مثل العديد من المهرجانات المماثلة الأخرى، بمكان دفن الشخص موضع التكريم أو التقديس فقط، وهي ظاهرة لاحظها غوستاف فون غرونيباوم(87). وقد وثق شهود عيان فلسطينيون المهرجان بتشديدهم على الأبعاد الوطنية والفولكلورية له، ويصفونه، بشكل متقطع، بالشعبي، نسبة إلى الشعب، والوطني.. القومي، نسبة إلى الوطن(88).
وكان يقام موسم أربعة أيوب (أربعاء النبي أيوب) ومشهد الحسين والمقبرة القريبة من وادي النمل في فصل الربيع، في أسبوع الصوم اليوناني الأرثوذكسي (بالتزامن مع أسبوع موسم النبي موسى الأكثر شهرة). وكان موسم أربعة أيوب يجتذب الزوار من جميع المناطق الريفية القريبة من غزة، المجدل والجورة (المعروفة أيضاً باسم جورة عسقلان). وصل المشاركون يوم الثلاثاء وهم يرتدون أفضل ملابسهم ويحملون الحلويات التقليدية. كانوا يقضون اليوم على الشاطئ. وبحسب كنعان، فإن المرأة العقيمة “تستحم في البحر وتطلق نذرها:” إذا أصبحت حاملاً، يا بحر، سأذبح خروفاً على شرفك” [ كانت النسوة ترددن العديد من الأدعية مثل : يا بحر راسي عريانة بدي ولد يغطيها .. وان ما جاني ولد لقد ثيابي وارميها \ يا بحر جيتك مدهوشة بدي ولد وله شوشة.. يا بحر جيتك عطشانة بدي ولد شوشته مرجانة\ يا بحر جيتك مشتطة بدي ولد ع راسه حطة.. يا بحر جيتك من دغشي بدي ولد يدحدح ويمشي \ يا رب تعطيني زي الصبايا يا رب الجبر يا رب … إلخ – المترجم]. وكانت النسوة اللواتي حصلن على الأمومة يعدن في منتصف العام التالي، للوفاء بنذورهن فيذبحن الخراف على الشاطئ، فيتدفق الدم في البحر، ويبدأن في الصياح: “خذ نذرك، يا بحر”. في اليوم التالي من موسم النبي أيوب كان يسير المشاركون في المهرجان وهم يرفعون الأعلام ويقرعون الطبول بطريقة تشبه العرض نحو ساحة كبيرة أسفل جدار عسقلان من جهة الشرق، ويستمر الناس في التوافد على المشهد الحسيني، في وقت الظهيرة، حيث كانوا يسلون أنفسهم على قمة التل، ليعودوا مساءً مع الضيوف الذين وصلوا من القرى المجاورة(89). ويكرس الباحث الفلسطيني عارف العارف فصلاً من تاريخ غزه سنة 1943 للمهرجانات المحلية الشعبية. ويقول شارحاً أن موسم أربعة أيوب يبدأ من البحر (حيث يستحم الناس على أمل أن يشفيهم الله، مثلما شفي النبي أيوب، ويسقون جمالهم بالماء المالح كإجراء ضد المرض)؛ يستمر في السير حتى وادي النمل (حيث يتجمع الناس ويحملون الأعلام والمواد غذائية فيأكلون ويغنون ويرقصون ويقرأون الشعر الوطني) وينتهي الموسم بزيارة مقام الحسين. ويشير العارف، في كتيب خاص عن تاريخ عسقلان ( يعد للعام 1943 أيضاً) إلى أن بعض الناس يعتقدون أن الحسين استشهد ودفن في عسقلان، بينما الرأي السائد هو أن رأسه مدفون في الضريح. غير أنه لا أساس لكلا الرأيين(99), ويختتم العارف وصفه للمهرجان بتكهن حول أصول هذا المهرجان وما شابهه في مناطق أخرى من فلسطين فيذكر: “يقال.. أن صلاح ادين هو من أمر به، وكان يأمل من ذلك أن يوقف، بهذه الطريقة، التدفق الهائل للحجيج المسيحي، الذي اجتاح الأرض المقدسة بسبب الحروب الصليبية”(91). ويطرح الدباغ تخميناً مختلفاً، يعيدنا إلى زمن الفاطميين، فيقول أن المهرجان “له جذوره في احتفال يعرف باسم خميس العهد، يُزعم أنه أقيم في ظل حكم الفاطميين، وكان يعقد قبل احتفالات عيد الفصح بثلاثة أيام”(92).

كما يذكر الصحفي الفلسطيني محمود صالح، (الذي حضر في العام 1947، عندما كان شاباً، ما سوف يكون آخر مواسم الموقع) طقوس الاستحمام في البحر لعلاج أمراض الجلد والعقم. كما يذكر صالح نصوص بعض الأغاني التي كان تغنى في تلك المناسبة. ويستذكر صالح رفع، في اليوم الثاني من المهرجان، لافتة عليها نقش “الحسين بن علي” من قبل إمام مسجد المجدل الذي كان راكباً على حصانه يرافقه موكب طويل وممتع من الرجال والنساء والأطفال وأعضاء الطائفة الصوفية والموسيقيين والكشافة. وشق الحشد طريقهم إلى مسافة نحو 4 كلم التي تفصل مسجد المجدل عن مقام الحسين. ووصلت الإثارة إلى ذروتها في الضريح، عندما بدأ الحشد يدبكون هناك مع ارتفاع حدة الأغاني والأهازيج الوطنية (أي المناهضة الصهاينة والبريطانيين)، وقصائد الحب والأغاني الشعبية المحلية(93).
المشهد الحسيني ما بين 1948-1950
بعد الغزو الإسرائيلي للمنطقة في تشرين الثاني\ نوفمبر 1948، كانت آفاق الحفاظ على الضريح تبشر بالخير، في البداية. وفي 25 تشرين الأول\ أكتوبر 1949، كتب شموئيل ييفين، مدير إدارة الآثار، إلى ج. و. هيرشبيرغ، مدير إدارة المسلمين والدروز في وزارة الأديان، أنه زار المبنى المعروف باسم “النبي حسين” على تلة تقع شرق الجدار الصليبي لمدينة عسقلان ووجده مهجوراً وغير نظيفاً، على الرغم من أن هيكل المبنى ذاته بالكاد تعرض للضرر. واقترح ييفين أن يقوم قسم هيرشبيرغ بالعمل على تنظيف المبنى والفناء، وتجميع الكتب الدينية المتناثرة، وقفل المجمع وتعيينه كمكان مقدس، وهو بلا شك مبنى قديم وفقاً لقانون الآثار(94). ولسوء الحظ، لم يضع هيرشبيرغ المشهد بين المواقع التي اختارها، هو وزملاؤه في لجنة الحفاظ على المباني الدينية الإسلامية، في الكتاب الوثائقي الغني الذي صدر في العام 1950(95)؛ والذي كتب وزير الشؤون الدينية، الحاخام يهودا ميمون، في مقدمته، أنه “أصدر تعليمات إلى القسم المناسب من وزارته لحماية أماكن العبادة والمقابر التي تخلت عنها الجالية المسلمة عندما غادرت البلاد، وعبر عن “أمله في أن يقدر كل سكان بلدنا الجهود المخلصة التي بذلت وستبذل تحقيقاً لهذه الغاية”(96). ومع ذلك، لم يحظ هذا الشعور بالمشاركة من الجميع. فقد أرسل ييفين يوم 24 تموز\ يوليو 1950، رسالة تعبر عن انزعاجه، إلى يعقوب بات في وزارة الدفاع -مع نسخة إلى رئيس الأركان، يغال يادين- ويشكو فيها من أن الجيش نسف مؤخراً “المبنى الكبير داخل أنقاض عسقلان المعروفة باسم مقام النبي الحسين المقدس للجالية المسلمة، وطالب بأن يُحاكم القائد المسؤول عن هذا التعدي على توجيهات الجيش الصريحة. وأضاف ييفين أنه تم تفجير المسجد في قرية أسدود المهجورة في ذات الوقت. فأمر يادين(وهو عالم الآثار نشر قبل أربع سنوات من ذلك التاريخ دراسة وتحليل للنقش الأيوبي لمسجد بيت حانون، على بعد 14 كم جنوب المشهد(97)) مساعده يطلب منه: “معرفة ما تم تفجيره؛ ولماذا؛ وبأي سلطات”(98)، وفي الثلاثين من تموز\يوليو، أرسل المساعد هذه الاستفسارات إلى موشيه ديان، قائد القيادة الجنوبية لإسرائيل(99). وفي الرابع من آب\أغسطس نصح بات يادين بالشروع الفوري في الإجراءات القانونية ضد المخالفين(100). وفي التاسع من الشهر كرر ييفين مطالبته بإنشاء محكمة عسكرية وأبلغ بات أن أحد موظفيه زار المشهد وعلم أن ضابطاً وصل حديثاً هو المسؤول عن هدمه(101)، لكن الحقيقة كانت مختلفة. ففي الثلاثين من آب\ 30، كتب ديان إلى قسم العمليات في هيئة الأركان العامة أن الإجراء تم تنفيذه بناء على أوامره وأنه قدم تفسيراته إلى يادين(102). وفي الفاتح من أيلول\ سبتمبر، سأل قائد قسم العمليات المحتار يادين عما ينبغي عليه الكتابة إلى بات، فقيل له اكتب: “حدث خطأ مؤلم ويمكن للمرء أن يفترض أنه لن يتكرر”(103). ولكن يبدو أن ييفين قد حسم الحقيقة في وقت ما. في الثالث من أيلول\ سبتمبر ، قدم نائبه شكوى أخرى إلى بات تتعلق بمسجد يبنا الذي كان في الأصل كنيسة فرنجية، وكان قد وصف، قبل ذلك يوقت قصير، في كتاب نشرته وزارة الشؤون الدينية(104)، وتقول الشكوى: أنه تم تفجير مسجد يفنه الكبير (يبنا العربية)(105). وشجب ييفين، في رسالة إلى بات بتاريخ 27 أيلول\ سبتمبر، “الخسارة التعليمية والثقافية والعلمية” التي تسببت فيها أعمال التدمير هذه، وذكر أنه عرض القضية على مساعد يادين وعلى السكرتير العسكري لرئيس الوزراء، واعترف بأنه كان في حيرة أمره حيال ما يمكن فعله جراء هذه الأعمال(106). ثم، في العاشر من تشرين الأول\ أكتوبر، كشف مدير مكتب يادين عن غير قصد الحقيقة: تم تفجير مسجد يبنا في التاسع من تموز\ يوليو،” أي قبل أن يتم الإعلان عن وجوب التوقف عن هدم المساجد”(107). وأشار ييفين، في 27 أكتوبر، إلى يادين إلى التناقض الصارخ بين هذه الرسالة، وتوجيهات الجيش للحفاظ على المواقع ذات القيمة الأثرية أو التاريخية، فقال يادين: “أنا في حيرة من أمري ولا أعرف ما يحدث في دولتنا”(108). لم يتم توضيح سبب أمر الهدم في الوثائق، ولكن أمر ديان بتفجير المشهد بالقرب من عسقلان قد يكون مرتبطاً إلى مساعيه الموثقة من 10 تشرين الثاني\ نوفمبر 1949، لنقل عرب المجدل القريبة إلى قطاع غزة والأردن والتجمعات المحلية في وسط إسرائيل، وهو نقل تم في 11 تشرين الأول\ أكتوبر 1950 (109).
إحياء مواسم الحج
أصبح التل، في العام 1970، مع ضريحه المدمر، جزءً من مباني مركز برزيلاي الطبي، حيث تمت تسوية المنطقة وتغطيتها بالمروج. وادعى المدير الإداري للمركز، في العام 1979، رداً على استفسار من دائرة الآثار، أنه لم يكن على علم بأن التل هو موقع أثري محمي(110). ومع ذلك استمر المسلمون في تبجيل الموقع، ويمكن، رؤية مجموعات صغيرة من المصلين تأتي للمكان من وقت لآخر. ويشير الحجر المنحوت إلى المكان باعتباره الموقع الذي دفن فيه رأس الحسين ذات مرة(111). وقد بدأت مرحلة جديدة من تاريخ المشهد في العام 1980 بسبب لقاء عرضي في فندق القاهرة بين طالب التاريخ المتحمس[موشيه حنانيل]، الذي وصل مع مجموعة من السياح الإسرائيليين في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية -التي تم التوقيع عليها قبل عام – ومجموعة كبيرة من البهرة الداوديين** القادمين من الهند بقيادة محمد برهان الدين(112). ولفهم من هم البهرة الداوديين، يجب أن نعود لفترة وجيزة إلى عصر الأفضل شاهانشاه، نجل الوزير بدر الجمالي والقائد العام للجيش الفاطمي الذي قيل، كما رأينا، أنه هو من بدأ عادة تقديس رأس الحسين في عسقلان. وبعد وفاة الخليفة المستنصر في عام 487/1094، حرم الأفضل ابن نجل الخليفة الأكبر نزار ن الوصول للعرش وأعدمه [مات في السجن-المترجم] ونصب بدلاً منه الابن الأصغر للخليفة أحمد، الذي أعطاه اسم المستعلي [بالله]. مما أدى ذلك إلى انقسام الشيعة الإسماعيليين إلى “نزارية” في بلاد فارس والعراق وسوريا، و”مستعلية” في مصر واليمن وغوجارات، التي تقع غرب الهند التي وصلها أول داعٍ إسماعيلي في العام 460 / 1067‒68، وأصبح الإسماعيليون المحليون، ومعظمهم من أصل هندوسي، يُعرفون باسم البهرة، وهو مصطلح مشتق على الأرجح من الفعل فوهورو vohorvū في لغة إقليم غوجارات، والذي يعني “يتاجر”. أدى اغتيال نجل المستعلي، الخليفة الآمر [بأحكام الله] في العام 524/1130 ، إلى انقسام بين المستعلية: فقد اعترف “الحافظون” بالحافظ [لدين الله] ابن عم الخليفة الآمر كخليفة وإمام، في حين اعترف الطيبون بنجل الآمر الصغير الطيب بن الآمر كوريث الشرعي. هيمن الحافظون على مصر حتى نهاية العصر الفاطمي في العام 1171، في حين كانت معاقل الطيبين في اليمن وغوجارات. على الرغم من أن الطفل الطيب بن الآمر قتل على الأرجح، لكن مازال يُعتقد أنه اختفى وأسس خطاً من الأئمة المخفيين سوف يستمر حتى يومنا هذا. لذلك مازال يقود الطيبين منذ العام 1132 داعٍ مُطلق مفوَّض للإشراف على المؤمنين كنائب وصي للإمام المخفي. أقام الدعاة المطلقون المقيمون في اليمن وأشرفوا من هناك على البهرة الطيبون من ولاية غوجارات، الذين كانت أعدادهم تنمو نتيجة للتحول الهندوسي، ولكنهم عانوا من الاضطهاد في القرن الخامس عشر على يد السلاطين السنة. ومع ذلك، أصبح الطيبون البهرة أكثر بكثير من الطيبين في اليمن، الذين وقعوا تحت الحكم العثماني في العام 923/1517، وهكذا انتقل مقر داعي البهرة المطلق، في العام 974/1567، من اليمن إلى غوجارات. انقسم الطيبون إلى داوديين وسليمانيين بعد العام 999/1591، عندما اعترض سليمان بن الحسن على خلافة داود برهان الدين كداعٍ مطلق. واعترف معظم الغوجاراتيين البهرة بداود برهان الدين، الذي أقام في الهند، بينما اعترف معظم اليمنيين بمنافسه. وازدهر الداوديين البهرة في ظل الهيمنة المغولية (كان الاضطهاد تحت حكم الإمبراطور أورانغ زيب استثناء) ولاحقاً تحت الحكم البريطاني كمجتمع تجاري ثري، لكن هذا الرخاء لم يمنع من انفجار الصراعات الداخلية المتكررة(113).
ينقسم البهرة الآن إلى أغلبية تقليدية، وأقلية إصلاحية، تتحدى سلطة الداعي المطلق فيما يتعلق بالمسائل التي لا علاقة لها بالدين. وكان الداعي المطلق الحادي والخمسين، ظاهر سيف الدين بن محمد برهان الدين (1333-1385 / 1915-1965)، قد نجح إلى حد كبير في تحييد المنشقين وضمان سلطته الفائقة من خلال الادعاء بالعصمة في مسائل العقيدة، وتوجيه المؤمنين في الأمور الروحية والزمنية وضمان الامتثال من خلال التهديد بالطرد (تم استبداله في الخمسينيات بتهديد النبذ الاجتماعي). في الوقت نفسه، رعى التعليم العلماني وكذلك الديني وفتح المجتمع أمام جوانب الحداثة التي لا تتعارض مع المعتقدات الدينية الأساسية. كما كان أول داعٍ مطلق يزور مجتمعات البهرة خارج الهند، والحج إلى الأضرحة الفاطمية في القاهرة وسوريا وإبراز ارتباط البهرة مع العالم الإسلامي عموماً من خلال استضافة كبار الشخصيات المسلمة، ومن خلال تقديم الستائر إلى الكعبة وقبور المزارات القاهرية (من بينهم رأس الحسين) أو عن طريق التبرع لصندوق فلسطين المناهض للصهيونية(114). وفي العام 1937، بينما كان في طريقه إلى تتويج الملك جورج السادس في لندن، توقف في فلسطين حيث التقى بقادة المجتمع العربي(115) وقام بزيارة إلى مشهد عسقلان.
على الرغم من أن ابنه محمد برهان الدين، الداعي الثاني والخمسين (1385-1435 / 1965-2014)، كان أقل اهتماماً بالمسائل العلمانية، فقد أصبح الداوديين البهرة، ذكوراً وإناثاً، تحت رعايته أكثر تعليماً ومهنية، وكانت المدارس التي أنشأها تدرس المواد الدينية والعلمانية معاً. ومع ذلك فقد تجاوز رفض الجوانب المعادية للتقليدية في التحديث وفرض على المؤمنين الزي المعياري -اللحى والقمصان البيضاء والسراويل القطنية بطول الركبة للرجال والبرقع والحجاب الشبيه بغطاء النساء- الذي كان من المفترض أن يعلن بوضوح عضوية كل فرد في المجتمع. كما قام مراراً بزيارة مجموعات الداوديين البهرة في جميع أنحاء العالم وسلط الضوء على الهوية الفاطمية للبهرة من خلال إحياء جوانب مختلفة من الثقافة الفاطمية واستعادة الأضرحة الفاطمية في مصر والأردن وسوريا والعراق واليمن، وأبرزها إعادة إعمار جامع الأنوار، في العام 1980، المسجد الضخم الذي بناه الخليفة الفاطمي الحاكم [بأمر الله] في القاهرة. ونتيجة لذلك أصبح معروفاً في العالم العربي باسم “الداعي الفاطمي” أو “سلطان البهرة”، الذي شجع المؤمنين على الذهاب إلى زيارة قبور الأئمة والدعاة في مصر واليمن(116). كان عدد المؤمنين في العام 2001 ما بين 700،000 ومليون في جميع أنحاء العالم(117).
عُقد اجتماع في العام 1980 بين موشيه حنانيل ومحمد برهان الدين في القاهرة عندما جاء الأخير هناك لافتتاح مسجد الأنوار. أعجب حنانيل بشكل كبير بالزعيم الهندي، خاصة عندما لاحظ كيف كرّمه المسلمين السنة المحليين. أخبر برهان الدين حنانيل أنه في العام 1937، عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، رافق والده في زيارة لفلسطين شملت مشهد عسقلان، وأعرب عن رغبته في زيارة الموقع.
عندما اقترب الاثنان فيما بعد] إلى حد ما من موقع المشهد السابق، تعرف برهان الدين في الجزء الجنوبي من مركز برزيلاي الطبي، على تلة مغطاة بالعشب تطل على البحر، وقال إن هذا هو المكان الذي زاره مع والده(118). ويشير المهندس المعماري غيئورا سولار، الذي ساعد البهرة في بحثهم عن المكان الذي دفن فيه رأس الحسين، إلى أنهم لم يصروا على تحديد الموقع الدقيق(119). كانت زيارة برهان الدين في العام 1980 إيذاناً ببداية حج الداوديين البهرة لإسرائيل وفلسطين، مع لإقامة الصلاة في موقع المشهد المدمر كدلالة بارزة على أهميته. كان هذا الحج متماشيا مع ترويج برهان الدين لزيارات لمواقع الدفن الإسماعيلية بغرض تعزيز التماسك الطائفي، في حين اعتبر حنانيل الحج كمسعى سياحية. ونظراً لأن إسرائيل ليس لديها علاقات دبلوماسية مع الهند والدول الإسلامية الأخرى حيث يقيم البهرة، فقد كان هناك حاجة إلى قرار حكومي خاص للسماح لأعضاء البهرة بدخول إسرائيل. وكان الحل الذي تم اعتماده هو الاعتراف بالداوديين البهرة على أنهم “قبيلة”، أي أن من ينتمي إلى جماعتهم، بغض النظر عن جنسيته، سيكون قادراً على دخول إسرائيل، بما في ذلك مواطني الدول المعادية لها، مثل باكستان(120). وسعى برهان الدين، في التسعينيات، إلى بناء صرح يحتفي بالمشهد المهدوم، وحاول حنانيل مساعدته في الحصول على موافقة الحكومة. لكنه لاقى اعتراضاُ من قبل مركز برزيلاي الطبي الرافض لتشييد مبنى جديد في الموقع الذي كان يقع فيه المشهد، لكنه وافق على السماح بنصب تذكاري متواضع -قبة صلاة محاطة بجدار منخفض لا يتطلب ترخيصاً رسمياً للبناء(121). ومن أجل ذلك بعثت وزارة الخارجية مذكرة استفهامية للدكتور نسيم دانا رئيس قسم الطوائف الدينية في وزارة الشؤون الدينية، وكذلك لموشيه حنانيل، بهدف الموافقة على المبادرة التذكارية. وبعد لقائه برهان الدين في القدس الشرقية، أصدر دانا توصية إيجابية لمركز برزيلاي. عندها أقام برهان الدين في العام 2000 منصة صلاة بأبعاد 8.6 متر × 8.4 متر، محاطة بجدار بارتفاع1 متر، مشيّدة جميعها من الرخام المستورد من أغرا [الشكل. 5](122). وهي، في الواقع، أشبه بمسجد في الهواء الطلق مع محراب بارز. تم تزيين الأجزاء المستقيمة من جداره المنخفض بـ 52 قوساً مدبباً متطابقة، تم تجميعها في ثلاثيات ورباعيات والتي تمثل العناصر المحددة للطراز الفاطمي الجديد الذي يفضله داوديي البهرة(123). ومن الواضح أن الرقم 52 يستحضر إلى الذهن برهان الدين، الداعي الثاني والخمسين المطلق(124). وبناء على نصيحة حنانيل، تم تزيين مركز كل قوس بمخطط سداسي -أي بمثلثين متساويين متقاطعين- وهو ما يعتبره اليهود نجمة داود، ولكن الذي يظهر أيضاً بشكل متكرر في الفن الإسلامي في العصور الوسطى. كانت نية حنانيل تمويه الطبيعة الحقيقية للمبنى ومنع تخريبه من قبل اليهود المتطرفين(125). تم إخفاء الصرح عن الرأي العام؛ وقليل من الإسرائيليين يعرفون ذلك. وكما قال دانا: “إنهم [أي المسلمين] بنوا شيئاً رائعاً ومتواضعاً لا يسيء إلى أي شخص أو يؤذيه”(126) ومع ذلك، تعرض بناء النصب التذكاري لبعض المعارضة.
بعد شهرين من بدء المشهد الجديد في جذب الحجاج الداوديين البهرة، تعثر في الصرح بالصدفة دوف نحليلي، المفتش الإقليمي لسلطة الآثار الإسرائيلية -وهي الهيئة التي خلفت قسم الآثار الذي كان يعمل فيه ييفين، باعتبار أنه تم بناءه بدون إذنه، على الرغم من أن المنطقة بأكملها قد أعلنت رسمياً موقعاً أثرياً محمياً.
وبناء على توصيته، قدمت هيئة الآثار الإسرائيلية شكوى ضد مركز بارزيلاي الطبي ومديره لانتهاكه قانون الآثار وطالبوا بتدمير الصرح. وفي وقت لاحق، برر نحليلي مبادرته مدعياً أنه “لا يجب عليهم إقامة المساجد في هذه الأماكن، ناهيك عن أن هذا [المكان] شيعي بالأساس، وقد يأتي أهل الوقف ويقولون أن هذا هو مكانهم المقدس”(127). وخلال المداولات مع الشرطة والمركز، عبّر شوكا دورفمان مدير هيئة الآثار الإسرائيلية (1950-2014)، عن قلقه من أن المشهد قد يجتذب حجاجاً شيعة وكذلك إسلاميين متطرفين قد يطالبون باستعادة ملكية الموقع(128).

لم تتمكن سلطة الآثار الإسرائيلية من الحصول على قرار من المحكمة بهدم المشهد لكنها تمكنت من منع المزيد من العمل في الموقع وتعبيد طريق خاص إلى موقعهم المقدس(129). وعبّر نائب مدير مصلحة الآثار، عوزي دهاري، عن الموقف بشكل مختلف: “لم يكن هناك موظفين سياسة قائمة على العمل حول هذه المسألة.. كانت إدارة مصلحة الآثار منقسمة حيال هذا الأمر. ظننت أن [الصرح] لا يزعج.. هؤلاء الناس يأتون من بعيد، وليس من العالم العربي، ونحن في عملية سلام مع الشرق [المسلم].. نحليلي مدعوم من دورفمان.. وأخيراً فهم [دورفمان] أن مصلحة الآثار لا يجب أن تنحاز.. ولا يجب أن تتخذ خطوة سياسية. لقد أدرك أن هذه معركة زائدة عن الحاجة.. “برر دهاري التغيير في موقف مصلحة الآثار بقوله أنه لم تتضرر الآثار أثناء بناء الصرح، وبالتالي لم يكن هناك انتهاك لقانون الآثار. وأضاف أنه لا يتذكر أن الشرطة تتشاور مع مصلحة الآثار قبل اتخاذ قرارها النهائي(130). وبعد مداولات بين متعهدي المشهد والشرطة، قررت الأخيرة إغلاق الملف باعتباره لا يضر المصلحة العامة(131). وبالتالي حصل المشهد على شرعيته بأثر رجعي، وفي العام 2011، قام مجلس الحفاظ على مواقع التراث في إسرائيل مع بلدية عسقلان بنصب لافتة تربط تاريخ الموقع (وإن كان به أخطاء جسيمة)، يصف الصرح الحالي باسم مشهد الحسين الذي بني في التسعينيات [كذا ]، ولكنه يهمل ذكر هدم الصرح الأصلي في العام 1950(132). ولا يزال الموقع يفتقر إلى اعتراف رسمي وحماية من وزارة الشؤون الدينية. ومنذ العام 1980، زار عسقلان الآلاف من الحجاج الداوديين البهرة، معظمهم من الهند، كما أن كثيرون أتوا من باكستان ومن إندونيسيا, واعتاد برهان الدين على الانضمام إليهم ولو لمرة واحدة في السنة، على الرغم من ضغوط الدول الإسلامية التي تدعو إلى مقاطعة السياحة الإسلامية لإسرائيل(133). حج البهرة لديه خط سير ثابت، مع الحجاج القادمين من مصر أو سوريا عبر الأردن إلى إسرائيل. ينضم النساء والأطفال إلى رجالهم في رحلات الحج إلى عسقلان حيث يصلّون معاً(134). وثمة دليل إرشاد سياحي خاص مطبوع باللغة الغوجاراتية يشمل غزة وعسقلان والخليل والرملة والقدس. ويعد الحرم الشريف وكذلك قبور داود وصموئيل وجهات حج للبهرة أيضاً(135). ويشكل الداوديون البهرة غالبية الحجاج إلى مشهد الحسين اليوم. لكن الموقع يجذب أيضاً بضع مئات من الشيعة الإسرائيليين الذين يصلون إلى الموقع في العشرين من صفر حسب التقويم الهجري ليعبروا عن حزنهم على استشهاد الحسين في كربلاء(136). كما يسمح في بعض الأحيان في زيارة الموقع لبعض المسلمين السنّة الذين يعودون بأصولهم إلى بلدة المجدل (اليوم مجدل عسقلان)،والذين فروا أو رُحّلوا إلى غزة(137).
…
ملاحظات
العنوان الأصلي: Vicissitudes of a Holy Place: Construction, Destruction and Commemoration of Mashhad Ḥusayn in Ascalon
المؤلف: Daniella Talmon-Heller*, Benjamin Z. Kedar and Yitzhak Reiter
الناشر: Der Islam 2016; 93(1): 182–215
هوامش المترجم
تتضمن الدراسة عدد كبير من الإحالات والمراجع والمصادر، لم نأت على ذكرها لعدم الإثقال عل القارىء، ويمكن لمن يرغب في الاستزادة البحث عنها في المادة الأصلية
* يقول ابن بطوطة.. ثم سافرت من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان، وهو خراب. قد عاد رسوماً طامسة، وأطلالاً دارسة. وقل بلد جمع من المحاسن ما جمعته عسقلان إتقاناً وحسن وضع، وأصالة مكان، وجمعاً بين مرافق البر والبحر، وبها المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينتقل إلى القاهرة وهو مسجد عظيم سامى العلو فيه جب للماء أمر ببنائه بعض الفاطميين وكتب ذلك على بابه وفى قبلة هذا المزار مسجد كبير يعرف بمسجد عمر لم يبقى منه الا حيطانه، وفيه اساطين رخام لا مثيل لها في الحسن وهى ما بين نائم وحصيد ومن جملتها اسطوانة حمراء عجيبة يزعم الناس ان النصارى احتملوها إلى بلادهم ثم فقدوها فوجدت في موضعها في عسقلان، وفى القبلة بئر تعرف ببئر إبراهيم ينزل إليها في درج متسقه ويدخل منها إلى البيوت وفى كل جهة من جهاتها الأربعة عين تخرج من اسراب مطوبة بالحجارة وماؤها عذب وليس بالغزير ويذكر الناس فضائلها كثيرة).
**البهرة الداودية أحد فرق البهرة أو الإسماعيلية المستعلية، وهي الفرقة التي اتبعت الخليفة الفاطمي المستعلي بالله مقابل أخيه نزار بن معدّ الذي اتبعته النّزارية، وبعد غيبة الطيب القاسم -إمامهم الواحد والعشرون- تولى النيابة عن الإمام الغائب الداعي المطلق محمد عزالدين بن الحسن، وبعد وفاته سنة 1539م انتقل مركز الدعوة من اليمن إلى الهند وأصبح الداعي الهندي يوسف نجم الدين بن سليمان داعياً مطلقاً حتى وفاته سنة 1567م، فانتشرت الدعوة الإسماعيلية هناك لاسيما في ولاية كوجرات، وأطلق عيلهم اسم البهر vehruباللغة الكوجراتية وهي تعني التجارة، وبعد وفاة الداعي المطلق السادس والعشرون داود بن عجب شاه سنة 1591 م. انقسمت الفرقة، فانتخب بهرة كوجرات -وهم أغلبية الفرقة- برهان الدين بن قطب شاه داعياً مطلقاً وأخذ الرقم السابع والعشرين، وبعثوا بنص الانتخاب إلى أصحابهم في اليمن، وبات يطلق عليهم اسم البهرة الداودية، وصار لهم جامعة في سورات تسمى الجامعة السيفية تدرس علوم مذهبهم، وتنتشر البهرة الداودية في الهند وباكستان، أما أتباعهم في اليمن فباتوا يعرفون باسم البهرة السليمانية نسبة إلى سليمان بن حسن. كما ظهر حديثا [1980] فرقة البهرة العلوية التي انقسمت عن البهرة الداودية وانتخبوا ضياء الدين صاحب داعياً مطلقاً لهم، وينتشرون حالياً في بعض مدن الهند وهم أقل طوائف البهرة عدداً.