تاريخ الصهيونية في ميزان نظرية “ما بعد الكولونيالية”

جدعون شمعوني

ترجمة: محمود الصباغ

استهلال

لن يجيبك أحد، في الغرب،  ممن يتم تعريف الواحد منهم على أنه “خبير استراتيجي في شؤون الشرق الأوسط” (وهي التسمية الأكاديمية البديلة التي باتت مقبولة للمستشرق) عما يمكن أن يحدث غداً في منطقتنا . وعدم الإجابة لا تأتي من عدم “علميّة”، أو من “سطحيّة” السؤال الذي يشبه سؤال هل تتوقع أن ينفجر الكون بعد 10 دقائق من الآن؟ بل يعزى الأمر  ،على الأغلب،  إلى أحد الخصائص الجوهرية المميزة للثقافة الغربية في السرد الاستشراقي ، أي، عدم القدرة على التنبؤ بمواقف وسلوك الناس الذين يعيشون فيه (أي الشرق). فلطالما كان التنبؤ أحد سمات التفكير العقلاني والمنطقي ومحفزاً لاستشراف رؤى مستقبلية وهو ما لاينطبق على عقلية الشرق حسب السردية الاستشراقية. ويستشهد البعض على ذلك بما ذكره سعيد نفسه عند تقديمه النسخة العربية من كتابه “الثقافة والإمبريالية”، من توظيف “الاستشراق” على نحو مخالف لمقاصده ولما أراد له في البلاد العربية؛ و يتساءل “إن الأمر في نظري ليقع على مشارف اللغز أو السرّ؛ لماذا ساعد “الاستشراق” في باكستان والهند وأفريقيا واليابان وأميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة، على إطلاق العديد من أنهاج الإنشاء الجديدة وأساليب التحليل الجديدة، وإعادة تأويل للتاريخ والثقافة، فيما ظلّ تأثيره في العالم العربي محدودًا؟

برزت الدراسات “ما بعد الكولونيالية”، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، تقريباً، كنظرية نقدية مؤثرة في مواجهة نزع الطابع الكولونيالي عن الخطاب الغربي. وشكّل كتاب إدوارد سعيد الريادي Orientalism من ظهوره، في العام 1978، صدمة عميقة (على حد قول الناقد الأدبي الألماني شتيفان فايدن). كما أشار العديد من النقاد إلى أن “الاستشراق” مهد الطريق لتخصص معرفي جديد دعي بالدراسات ما بعد الكولونيالية. وقد امتلك سعيد نظرة عميقة في كشفه الارتباط الفظ (في الغرب) بين إنتاج المعرفة الأكاديمية و الإمبريالية . وهذا ما حاولت الدراسات ما بعد الكولونيالية التلميح إليه  منذ نشأتها  باعتبارها نظرية نقدية تحاول لفت الانتباه لهذا الارتباط و لنقد المعرفة كما أنشأها الغرب، وهي تسعى، بذلك، لبناء معرفة “الآخر”.  تلك المعرفة التي ضاعت و أهملت أو قمعت في الدراسات الغربية. علاوة على أنها قراءة -أو إعادة قراءة- تتحرى الرابطة بين الكولونيالية و نصوصها الثقافية. وهي بذلك توصف باعتبارها استراتيجية متاحة للجميع لقراءة الأنماط المختلفة للمنتج الأدبي إذا ما أقر القارئ بآثار العميقة الكولونيالية العميقة على الإنتاج الأدبي المتنوع . كان إدوارد سعيد، في نهاية المطاف، مناهضاً صلباً لأشكال الهيمنة والتمركز الكولونيالي كافة، المتمثلة في التواطىء القائم بين المعرفة والخطاب الاستعماريين. وقد شكّل، بمجمل أطروحاته ملمحاً هاماً ومؤثراً من ملامح النقد ما بعد الكولونيالي، وساهم في تحديد الأطر العامة لهذا النقد في كشفه للخطاب الاستعماري الغربي إثر اجتياحه للعالم في ظاهرة ارتفعت أنساقها “الإمبريالية” منذ منتصف القرن التاسع عشر (كما يتبين ذلك في كتابيه المرجعيين “الاستشراق “و “الثقافة والإمبريالية)

في هذه الدراسة يحاول “جدعون شمعوني” الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس  رمي الكرة في ملعب “سعيد” على مبدأ (رمتني بدائها وانسلت) حين يستشهد بألد خصوم سعيد  ( برنارد لويس) في أجل نفي الصفة “الاستعمارية” عن الصهيونية مشدداً على أنها “حركة تحرر قومي” .

لا يحبذ  مؤرخي الحركة الصهيونية استخدام مقاربات “ما بعد الكولونيالية” في معرض تحليل تاريخ الصهيونية ، لاسيما الصهيونية الأوروبية، وعلاقات التبعية والهيمنة، ناهيك عن الحديث عن إسرائيل كدولة ما بعد كولونيالية . وينظرون إلى هذه الدراسات على أنها غير مناسبة أو لا تمت للموضع بصلة، ( يعني شو جاب الاستعمار وما بعد الاستعمار للصهيونية.. من وين لوين). ويميل هؤلاء إلى  “إسالة” المفاهيم ما بعد الكولونيالية عن الحالة الصهيونية، بحث  تمنعنا من استكشاف العلاقة  بينها وبين “الاستعمار”  والاستعاضة عن ذلك بمجموعة من مفاهيم/ بالأحرى، تأويلات ثابتة للبنية المعرفية   للهوية واللغة  في السياق الصهيوني الصهيونية  لليهودي الأبيض الذي تربطه ذاكرة ملتبسة بالشرق ومازال  يعيش ويحمل “هوية” الهولوكوست؟

….

ليست النظرية هدفاً بحد ذاتها، مهما كانت طبيعتها، للمؤرخ، الذي يهدف تخصصه الأكاديمي العلمي إلى كسب أشكال معرفة تخصيصية أكثر منها تعميمية، بل مهمة النظرية أن تكون أداة منهجية لاكتساب فهمٍ وتفسيرٍ لظاهرة معينة، قائمين على أسس تجريبية -في حالتنا هنا هي الحركة الصهيونية. والسؤال الذي نتناوله هنا يتمحور حول ما الذي أو يمكن أن تقدمه نظرية ما بعد الكولونيالية لفهم تاريخي حقيقي وأصيل صميم لهذه الظاهرة، أي الحركة الصهيونية؟. ويبدو لي أن نظرية ما بعد الكولونيالية في جوهرها، عبر التنقل بموقف منفتح ضمن المجال المعرفي الغارق تقريباً في المصطلحات لنظرية المعقدة وصعبة التفسير  ما بعد الكولونيالية، شرط أن يكون هذا التنقل  دون تحيز وتصلب، تفترض أن حالتي “الكولونيالية” و “ما بعد الكولونيالية” بمثابة منظار تصوري نمطي paradigmatic لرصد وفهم وشرح ظروف الوجود والوعي لموضوع البحث والتحقيق. وتتمثل رؤية نظرية ما بعد الكولونيالية الرئيسية في أن التصورات، وبالتالي التمثيلات، لـ “الآخر” تتميز بتشوهات على الصعيد العالمي وذات طبيعة انتقاصية، تخدم مصالحها الذاتية. وتشتق حدة البصيرة هذه من اندماجها مع التصورات الفوكوية التكميلية والغرامشية باعتبار الخطاب الكولونيالي أداة مخادعة للسلطة والسيطرة والهيمنة والاستغلال. ومن ثم، يعتبر هذا الخطاب عاملاً أساسياً في تحديد جميع أشكال سياسات القوة والأدب وتشكيل الهوية والعلاقات بين الجماعات. لذلك، يعطي مؤيدو نظرية ما بعد الكولونيالية أولوية مطلقة لهذا العامل في فهمهم المزعوم لمجموعة متزايدة من الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية في إطارها الأوسع.

ونسمي الخطاب الكولونيالي المفترض المدروس في الحالة الراهنة ما أطلق عليه إدوارد سعيد تسمية “الاستشراق”، والذي يصفه كخطاب يتلطى وراء ستار البحث العلمي، بحيث يعزز التمثلات المهينة للشرق (اختار سعيد التركيز  من هذا الشرق، في المقام الأول، المجتمعات العربية الإسلامية وثقافتها). وسوف تخدم هذه التمثلات وظيفة الحفاظ على القوة والهيمنة الغربية المسيطرة. وفوق كل هذا سيمثل تصنيف أي شيء بأنه كولونيالي أو استشراقي وصمة غير قابلة للإصلاح. وقد شكلت فئة الباحثين الاستشراقيين الأكاديميين، مصدر وحي أصيل لدى سعيد لتوجيه اتهاماته الحادة، لكن نظرية ما بعد الكولونيالية عملت على توسيع هذه القاعدة لتشمل أمور كثيرة حتى بات أي خطاب مهيمن عن الآخر يصنف خطاباً استشراقياً. وكما لاحظ برنارد لويس، فقد نجح إدوارد سعيد في تحويل  مصطلح “استشراق” كمجال دراسي تخصصي لمجتمعات وشعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا إلى مصطلح يحمل إساءة سياسية(1). فأصبح نموذج paradigm ما بعد الكولونيالية أداة إيديولوجية لتثمين من هم ضحايا مفترضين وشجب وإدانة من هم مروجين مفترضين للخطاب الكولونيالي أو الاستشراقي. وسوف تختار في القسم الثاني هنا تجاهل هذه الوظيفة الإيديولوجية المتحزبة لنظرية ما بعد الكولونيالية التي أطلقها برنارد لويس، وسوف نستعرض، بدلاً من ذلك، جوهرها الحقيقي المادي فقط. وسنطرح سؤالاً تاريخياً فقطي: ما هي القيمة العلمية لنظرية ما بعد الكولونيالية أو النموذج التفسيري لاكتساب معرفة مثبتة تجريبياً حول ظاهرة الصهيونية؟ بمعنى، من أجل فهم:

(أ) سببها ونشأتها وتطورها، ودورها في قيام إسرائيل

(ب) تفاعل الصهاينة مع بيئتهم الاجتماعية والسياسية في فلسطين، ودورهم في الصراع الإسرائيلي العربي المستمر.

نشأة الصهيونية

تصبح بعض الأفكار التالية شديدة الوضوح، عند تطبيق نظرية أو نموذج ما الكولونيالية التفسيري فيمل يتعلق بنشأة الصهيونية:  تشابهت حالة اليهود في العديد من النواحي المهمة مع حالة الشعوب المستعمّرة في العالم، وهذا يعني أن اليهود كانوا ضحايا “تابعين subaltern”، خاضعين لأشكال مختلفة من الهيمنة من قبل مجتمع الأغلبية قبل عملية الانعتاق emancipation اليهودي في القرن التاسع عشر، ليس أقلها خطاب ثقافي مهيمن يمثل اليهود على أنهم الآخر الشرقي الجوهري(2). ويمكن، وفقاً لذلك، تعيين العديد من التأثيرات المميزة للوضع الكولونيالي، التي تسترشد بنظرية ما بعد الكولونيالية بشكل مماثل، على يهود أوروبا. ومن أبرز هذه التأثيرات خلق التابعين لسردياتهم المضادة في رد فعل دفاعي على الخطاب “الاستشراقي” المتحيز ضدهم. ومن الواضح أن مشروع التنوير اليهوديWissenschaft des Judentums ليهود ألمانيا كان مجرد مثلاً على سردية مضادة لتعزيز الذات كرد فعل على التمثيل المهيمن المسيحي لليهود(3). كما يمكننا، علاوة على ذلك، إظهار كيف يبدي السلوك اليهودي، بعد الانعتاق، تحولات أو طفرات مختلفة وأنماط هجينة للهوية اليهودية من ذات النوع تماماً الذي أشار إليه العديد من الرموز البارزة نظرية ما بعد الكولونيالية الاستعمار مثل هومي بابا Homi Bhabha(4). وتشمل هذه التحولات تقليد الآخر المهيمِن واستيعاب صوره المهينة عن اليهودي، وبلورة التأنيب الذاتي الحاد وحتى الكراهية الذاتية الصارخة مثل قضية سيلبست هاس Selbst-Haas سيئة السمعة لأوتو فينينغر Otto Weininger في كتاب فيينا على أعتاب قرن جديد fin-de-siècle Vienna (5) في نهاية القرن التاسع عشر. علاوة على ذلك، لم تكن الصورة الفكرية والرمزية لليهود التابعين فقط، والتي رعتها الغالبية المهيمنة (على غرار النظام الكولونيالي)، وحدها المثال الواضح على “التمثيل” المتحيز والمشوه وذو المصالح الذاتية، ولكنها كانت أحد أكثر الجوانب انتشاراً في هذا التمثيل من خلال وصفه بالغرابة في الأساس – “شرقي” بطبيعته، بما يناقض هذا التصنيف أو الوصف المهين مع الثقافة الغربية العالية والمتفوقة وقيم وجماليات “الممثلين” المهيمنين لليهود، إذا جاز التعبير. وليس من قبيل المصادفة أن الكلمة الرمزية لكراهية اليهود التي أصبحت سارية منذ أن نشرها فيلهلم مار في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر كانت “معاداة السامية”، كما ظلت حتى يومنا هذا. وما يسمى بـ “السامية” كانت صورة مخترعة تتعلق بالبنية الغربية لما يسمى بـ “المشرق”.

ويظهر الارتباط الواضح لليهود بالشرق، بشكل لافت للنظر، في العمائم العثمانية التي صورها رامبرانت لشخصيات مثل داود وأوريا. وكما هي العادة في كثير من أشكال الفن الأوروبي الذي يستلهم أفكاره وتصوراته من الديانة المسيحية والذي يعود إلى قرون عديدة، يظهر يسوع الإلهي كشخصية غربية في جوهرها على النقيض من اليهود الشرقيين الكتابيين الواضحين(6). علاوة على ذلك، ينعكس قيام اليهود أنفسهم بتضمين هذه الصورة الشرقية ورعايتها، على سبيل المثال، في الهندسة المعمارية ذات الطراز المغربي للعديد من المعابد اليهودية الأوروبية. وظهرت في وقت لاحق، تعابير أخرى أقل لطفاً لهذا التأثير الداخلي للاستيعاب تمثل في موقف بعض اليهود الألمان المثقفين تجاه المهاجرين اليهود القادمين من أورويا الشرقية  “يهود أوروبا الشرقية Ostjuden”، ولاحقاً في موقف بعض اليهود الأشكناز في إسرائيل من اليهود (الشرقيين) “المزراحي”.

وهكذا يمكن القول، توفر نظرية ما بعد الكولونيالية شرحاً ملائماً للحالة اليهودية وما يصاحبها من تحولات في الهوية داخل الطبقة اليهودية المثقفة التي ظهرت بين جماعات يهود أوروبا كنتيجة لفترة التحول المجتمعي من ما قبل الحداثة إلى الحداثة. وسوف نظهر هنا أهمية هذه المركبات الهوياتية في توليد قسمين مختلفين من المثقفين اليهود الأوروبيين في تقديم تفسير توضيحي لنشأة القومية اليهودية في شكلها الصهيوني. مثّل القسم الأول “الاندماجيين” الذين سعوا إلى التخلص من آثار الإثنية اليهودية، ليتخلوا عن هوية دينية بحتة يُفترض أنها متوافقة مع الطوائف المسيحية. أما القسم الثاني فكانوا “الإثنيون”، الذين بحثوا عن توليفة تجمع بين الجذور التراثية وعوامل الجذب ومطالب الحداثة من أجل إثبات وتشكيل هوية إثنية يهودية قائمة على الذات. قاوم هذا القسم “الإثني” التوجه الاستيعابي القوي للطبقة المثقفة اليهودية التي تحولت لتحديث وتحاوز المجتمعات اليهودية في العصر الحديث، وبدأت هذه الطبقة العمل على بناء وصياغة قومية ثقافية يهودية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر(7). في ذات الوقت الذي عانى فيه العديد من المثقفين أصحاب النزعة الاندماجية من ردة الفعل المعادية للسامية المستعصية على الاندماج اليهودي مما تسبب في معضلات ترافقت مع الهوية المصاحبة للتجربة ذات الطبيعة “ما بعد الكولونيالية”، وهذا ما أدى بهم في نهاية المطاف إلى الشعور بنوع من خيبة أمل، ليس أقلهم مؤسس المنظمة الصهيونية في العام 1807، ثيودور هرتزل، كنموذج أولياً لهم إن جاز القول. وهو ما حدى بأولئك “الاندماجيين” إلى التخلي عن التطلع نحو الاندماج والاستيعاب، فخضعوا إلى عملية تحول جذري في الهوية أدى بهم ليس فقط إلى التقارب مع الإثنيين، بل تولي أدواراً قيادية في دفع تأكيد الذات الإثنية اليهودية نحو القومية الكاملة في شكلها الصهيوني. من الجدير بالذكر أن متلازمة الهوية الذاتية عينها تسببت في قيام مؤسسي حركات قومية أخرى في العالم الذي يسيطر عليه الاستعمار -ومن الأمثلة على ذلك غاندي ونهرو في الهند أو نكروما في إفريقيا- بالارتداد عن المسار المخيب في الاندماج في  البنية الثقافية والاجتماعية لأسيادهم الاستعماريين حتى أصبحوا قادة مؤسسين للحركات القومية لمجموعاتهم الإثنية. فكانت الصهيونية، بالتالي، استجابة خاصة محددة تتنافس ضمن مجموعة من الاستجابات البديلة لتأثير الحداثة على الظروف الفعلية لوجود اليهود، وهي ظروف مماثلة لتلك التي عاشها المثقفون من الأفارقة والآسيويين المستعمَرين. كانت الشرارة التي أطلقت الحركة القومية الصهيونية هي هذا التحول الجذري للهوية لعدد متزايد من الإنتلجيتسيا اليهود (على غرار ليو بينسكر في روسيا وثيودور هرتزل في النمسا) الذين اندمجوا بالفعل في المجتمع الأوروبي ولكنهم غيروا بشكل جذري الشعور بالهوية الذاتية والتوجه الإيديولوجي. وقد بدأ هذا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وتضمن انتشار الصهيونية أيضاً، مثلما حدث مع القوميات الأخرى، الكشف والبناء الثقافيين المبتكرين اللذان صدرا على هيئة إرث مخترع من النوع الذي كشف عنه إريك هوبسباوم في حركات قومية مختلفة(8)، لكنه استند بشدة إلى جذور اليهود القديمة المتعلقة بالعرق والرموز الأخلاقية المعمّرة، في عمليات التفاعل والتهجين من ذات النوع التي سلطت عليها الضوء نظرية ما بعد الكولونيالية. ولعل من مؤشرات هذا التفاعل حقيقة أن استيعاب الخطاب المهين للطبقة الاجتماعية المهيمنة ترك بصماته أيضاً على بعض الإنتلجيتسيا اليهود الذين تحولوا إلى الصهيونية، مثلما حصل تماماً داخل إنتلجنتسيا الأفارقة والآسيويين في سياقاتهم الكولونيالية ولاحقاً في السياقات ما بعد الكولونيالية. وتنعكس هذه الظاهرة في شخصية ثيودور هرتزل نفسه(9). لقد أصبح هذا التحول في الهوية، في الواقع، مصدراً لبعض الجدل الصهيوني الداخلي عندما ولّدت مقولة “نفي المنفى [גלות]” داخل الصفوف الصهيونية تعابير عن لوم الذات اليهودية تصل إلى حدود كراهية الذات(10). ومن أجل ختم هذا القسم، وبالعودة إلى المواقف الأخلاقية لنظرية ما بعد الكولونيالية والوظيفة المصاحبة للتقدير والشجب، يمكننا طرح السؤال الإيجازي التالي: إذا كانت نظرية ما بعد الكولونيالية قابلة للتطبيق لفهم نشأة الصهيونية، ألا ينبغي القول بداهةً أن تطبيق الامتياز الأخلاقي لنظرية ما بعد الكولونيالية على جميع الضحايا التابعين للسيطرة الشبيهة بالكولونيالية، ينطبق أيضاً على حالة الصهيونية؟

الصراع العربي اليهودي

سوف أنقل تركيزي الآن إلى الجزء الثاني من السؤال الذي طرحته في عرضي التقديمي: ما القيمة التي يمتلكها منظور نظرية ما بعد الكولونيالية للمساعدة في فهم نشأة وطبيعة الصراع العربي اليهودي؟ يبدو أن أحد المتطلبات الأساسية لمعالجة هذا السؤال يستلزم فحص وصم إدوارد سعيد المسبق للصهيونية كحالة من حالات الاستعمار الأوروبي وتسميتها “استعمار استيطاني صهيوني”(11). حيث يقول بصورة قاطعة: “كل ما فعله الصهاينة في فلسطين، فعلوه، بالطبع، كمستعمرين  استيطانيين”، ويسمح سعيد لنفسه، مظهراً نزعة جوهرية دوغمائية متناقضة مع الذات بشكل مذهل لشخص مثله يدين “المستشرقين” أساساً لجريمتهم الفكرية ذات النزعة الجوهرية، بإصدار تصريحات مثل: “لم تتحدث الصهيونية عن نفسها أبداً  وبشكل لا لبس فيه كحركة تحرير يهودية، بل نظرت إلى نفسها كحركة يهودية للاستيطان الاستعماري في الشرق”، ولإعطاء مثال آخر يقول: “الصهيونية والإمبريالية الأوروبية متلازمتان، في رؤيتهما للسكان الأصليين، من الناحية المعرفية، وبالتالي متلازمتان تاريخياً وسياسياً”. ومثل هذه التصريحات هي جزء عضوي لا ينفصل من نزعة سعيد المتحزبة البادية للعيان أينما التفتنا إلى مقولاته ذات الصلة. وبتجاهله أي توازن في طرفي تمثيل “الآخر” في الصراع، فهو يصدر تعميمات شديدة عن “التمثيل العنصري الصهيوني المفترض لغير اليهود في فلسطين” ولكنه يتجاهل التمثيل المتحيز عميق التأصيل ضد اليهود في التقاليد العربية الإسلامية. وبالتالي، ليس ثمة ما يقوله عن انحطاط وضعية اليهود كأقلية دينية، بسبب حالة الذمي التقليدية، ورغم ظهورها كأقلية تعيش حالة من التسامح في الفضاء الإسلامي، لكنها تبقى تابعة، وكثيراً ما تتعرض للإذلال في إطار الحيز الإسلامي؛ ناهيك عن سخط الاستياء الذاتي تجاه أي تعبير عن ثقة وقوة اليهود، ومتلازمة العار والشرف المرضية التي تمنع أي تفكير بالسيادة اليهودية في أي جزء من المجال الجغرافي السياسي المزعوم للإسلام. علاوة على ذلك، وكما أظهرت الدراسات الأكاديمية ذات الثقة، فإن التمثيلات العربية لليهود قد أظهرت أفكاراً معادية للسامية  بشكل لا لبس فيه، والتي تم تبنيها بشغف من أوروبا المسيحية(12).Top of Form

وينبغي علينا، عند أي تفحص تجريبي محايد للنوايا الصهيونية والتطبيق العملي في السياق المقارن لنظرية الكولونيالية، البدء بملاحظة أن منطقة الشرق الأوسط التي نشأ فيها الاستيطان الصهيوني لأول مرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر كانت نفسها تحت السيطرة الاستعمارية للإمبراطورية العثمانية، واستمر الاستيطان الصهيونية بعد تفكيك الإمبراطورية في العام 1918، في ظل رعاية سياسية ملتبسة من قبل بريطانيا العظمى في شكل صك “انتداب” من عصبة الأمم، وهو في حد ذاته شكل من أشكال الحكم الاستعماري. وإذن، كان هناك وضع استعماري مع كل مظهر من مظاهر الممارسة الاستعمارية المصاحبة لذلك الجزء من الشرق الأوسط قبل الاستيطان الصهيوني وبالتزامن معه. وهذا لا ينكر أن الصهيونية ضاعفت من تعقيدات الوضع من خلال ممارساتها الاستعمارية الخاصة. كما أنه لا ينفي الصحة  الأكاديمية لبناء مقاربة تسعى إلى تفحص الاستيطان الصهيوني في هذه المنطقة من الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم في فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، في السياق المقارن لظاهرة الاستعمار العامة. ووفقاً لعالم الاجتماع غيرشون شافير، المؤيد الرئيسي لهذا النهج، تطورت الممارسة الاستيطانية للحركة الصهيونية في مراحلها الأولى (من حوالي 1882 إلى 1905) إلى نوع من “مستعمرات مزارع إثنية”، حيث حصل المستوطنون اليهود على الأرض عن طريق الشراء وتوظيف العمالة المحلية. ويرى شافير بأن الصهيونية، تبنت بعد ذلك، “نموذج الاستيطان المحض” للمستعمرة الذي سعى إلى استبعاد العمالة المحلية الأصلية(13). كما يمكن التأكيد والبرهان على بروز مواقف وصور عن العرب “الآخر” بالمقارنة مع مواقف وصور تماثل الخطاب المفاهيمي لبعض مؤسسي الحركة الصهيونية والقادة الأوائل في أوروبا، وكذلك بعض المستوطنين الصهاينةـ وذلك بالمقارنة مع الصور والمواقف التي يصفها إدوارد سعيد بـ “الاستشراق”. وهذا يعني وجود بعض الأفراد الصهاينة ممن يمتلكون إحساساً بالتفوق الثقافي والتكنولوجي والأخلاقي المركزي الأوروبي وإحساساً مصاحباً بالمهمة المتحضرة التي من المفترض أن ترفع من شأن المشرق وتجعل منظره المهمل مزهراً. ويمكن، بالطبع، تفسير هذا بسهولة، من حيث البيئة الثقافية والفكرية الأوروبية التي كانت تمثل الخلفية المشتركة للجيل الأول من الصهاينة في نهاية القرن العشرين. لكن هذا بعيد كل البعد عن رسم الصورة كاملة. لأنه من الصحيح أيضاً أن المستوطنين الصهاينة الآخرين أظهروا ميلاً تعويضياً لإضفاء الطابع الرومانسي والمثالي على المشرق.

في واقع الأمر، كان ثمة، في مراحل الصهيونية المبكرة، توتر مستمر بين المواقف السلبية والإيجابية تجاه “الشرق”. وفي دراسة شاملة لمواقف المستوطنين الصهاينة الأوائل، وجد مؤرخ جامعة تل أبيب يوسف غورني ضرورة إمبريقية تقضي باقتراح تصنيف للمواقف، يتضمن فئة رئيسية وصفها بـ “النظرة التكاملية”. وشمل ذلك شخصيات صهيونية مختلفة، بعضهم من خلفيات أشكنازية، على سبيل المثال المربي يتسحاق إبشتين والكاتب يهوشع رادلر فيلدمان، ومن المزراحيم السفارديين (اليهود الشرقيين)، مثل الدكتور نسيم معلول والياهو سابير(14). وفي المقابل، كانت هناك فئة أخرى وصفها غورني بـ “النظرة الانفصالية”. ومن رموزها المؤرخ والكاتب يوسف كلاوزنر والزعيم الكاريزمي فلاديمير جابوتنسكي، الذي ربما كان من أكثر المدافعين تفصيلاً للارتباط بالغرب. ووجد غورني ما اعتبره دليلاً على تكافؤ النظرة التكاملية بأن جابوتنسكي وجد ضرورة استخدام مواهبه الجدلية الهائلة للقتال الحماسي ضد ما وصفه بـ “أسلوب الأرابيسك Arabesque fashion ” المضلل. ورفض تماماً إضفاء الطابع المثالي على الشرق الفاضل المفترض، بعكس تصويره للحضارة الأوروبية الملوثة. وشدد على أننا “نحن ذاهبون إلى [أرض إسرائيل] من أجل دفع الحدود الأخلاقية لأوروبا حتى نهر الفرات”(15). كان التوتر بين هاتين النظرتين متجذراً في أقطاب النظرة الكونية Weltanschauung المتعارضة ويمكن تتبعه على طول مسار تطور الحركة الصهيونية وإسرائيل حتى يومنا هذا. فيمكننا مواجهة، على هذا المسار، العديد من التحولات السياسية للتسوية الليبرالية من أجل سلام النظرة الكونية، على سبيل المثال تحالف السلام [بريث شالوم ברית שלום Brith Shalom] من 1925 إلى أوائل الثلاثينيات، تليها نحو الشرق[ קדמה מזרח Kedma Mizraha] وحركة إيهود[ איחוד Ihud] في الأربعينيات.

وسوف تخفق المقارنة بظاهرة الاستعمار بتوفير فهم تاريخي مناسب للصهيونية أو للصراع اليهودي العربي، ليس فقط بسبب الاختلاف الفعلي للمواقف تجاه الشرق بين الأقطاب الإيجابية والسلبية. والأهم من ذلك، من خلال الاعتراف الكامل بالطبيعة الوجودية الأساسية للصهيونية كإيديولوجيا وحركة إثنو قومية بما يمكنه تحقيق فهماً تاريخياً حقيقياً للصهيونية. حتى لو أظهر تشابه في بعض جوانب الممارسة الاستعمارية للصهيونية مع النماذج النظرية للاستعمار، فإن طبيعة الصهيونية القومية في الأساس تجعلها مختلفة بشكل فريد عن كل هذه النماذج منى حيث الجوانب التفسيرية ذات الأهمية القصوى. وفي مقدمتها الحقيقة الواضحة التي مفادها أن الاستيطان الصهيوني في فلسطين، على عكس كل حالة استعمار معروفة تقريباً، لم ينبثق من دولة أو متروبول خارج فلسطين ولم يتصرف لصالحها. في مثل هذه الظروف، من الممكن أن يكون هناك استعمار بدون ظاهرة استعمارية، مثل الهجرة المنظمة لليهود من أوروبا الشرقية إلى الأرجنتين fin-de-siècle immigration وإنشاء مستعمرات زراعية هناك بدعم من المحسن البارون دي هيرش Baron De Hirsch ، التي كانت حالة استعمار بدون الظاهرة الاستعمارية(16). لم يكن التطبيق العملي الاستعماري للصهيونية غاية في حد ذاته؛ بل تطور كأداة أصبحت ضرورية وملحة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية للزمان والمكان اللذين تجلت فيهما التطلعات القومية اليهودية، بالتزامن مع دبلوماسية سياسية نشطة ونهضة ثقافية متشعبة، كاستراتيجية قومية أساسية. ومن هنا، فإن الحقيقة الاقتصادية المعبرة عن حقيقة الحركة الصهيونية التي استثمرت بشكل مميز في فلسطين بدلاً من جني الأرباح أو الموارد منها بأي شكل من الأشكال. علاوة على ذلك، ومرة أخرى، لأن الدوافع القومية البحتة كانت جوهر كل ممارسات صهيونية، فإن الجماعات العمالية الصهيونية، التي ولدت جزءً كبيراً من التقدم العملي للحركة في فلسطين، طورت بوعي الحراك الاجتماعي الهابط للمهاجرين اليهود إلى فلسطين من أجل خلق فلاح يهودي وطبقة عاملة يهودية. وجعل الهدف القومي للصهيونية هذا الأمر ضرورة إيديولوجية. ومن ثم، تجنيب استغلال العمالة العربية المحلية، وكان الاتجاه الرئيسي لتوجيه التنمية الاجتماعية والاقتصادية نحو التنمية اليهودية المجزأة في المجالين الاقتصادي والسياسي. كان الهدف من “تطبيع” الجانب الاجتماعي والاقتصادي للشعب اليهودي تشكيل شريحة يهودية من سكان فلسطين (المعروفة بالعبرية باسم ييشوف) في دولة قومية يهودية وهو ما استلزم قدراً كبيراً من الاكتفاء الذاتي والتطور المتفصل. التنمية بقدر الإمكان. وهذا لا يعني عدم وجود دليل على المصلحة الذاتية الاقتصادية للمستوطنين اليهود وسياسات الإقصاء فيما يتعلق بـ العمالة العربية، كما يمكن الكشف عنها من خلال تحليل اقتصاد السوق التقليدي. ولكنه يعني أيضاً، في التحليل النهائي، ضرورة وضع هذه الأمور في سياقها التاريخي ضمن إطار الهدف القومي المهيمن للصهيونية المتمثل في تحقيق دولة يهودية ذات سيادة، من أجل تقديم ما تصوره الصهاينة إيديولوجياً على أنه الحل الوحيد القابل للتطبيق “للمشكلة اليهودية” الوجودية. بشقيها المادي والثقافي.

وهكذا، فإن نموذج الاستعمار الذي يتبعه شافير وغيره، يقوم على مغالطة الإنكار في أسوأ الأحوال، أو عدم وضوح في أحسن الأحوال، لأسبقية الدافع القومي والنية عند الصهيونية. مثل هذه النتائج عن التحليل البنيوي المغرض الخالي من السببية والمنفصل عن السياق التاريخي، ومن امتياز نظري مسبق يميل إلى إعطاء الأولوية للنتائج على النوايا(17). ولا يمكننا قبول مثل هذه المغالطات، من وجهة نظر التأريخ التجريبي. وسوف تعطي نتائج تسير على رأسها أو منطق توضيحي مقلوب من النوع الذي يصدر، على سبيل التوضيح، في بيان شافير النموذجي بأن “النضال من أجل” احتلال العمل “في الواقع حوّل العمال اليهود إلى قوميين متشددين”(18)، ولكن الحقيقة الصحيحة الواضحة هنا أن هؤلاء العمال اليهود الصهاينة جاءوا إلى فلسطين بالفعل كقوميين، كونهم نتاج الصهيونية كحركة قومية نشأت في السياق الأوروبي. كان مبدأ العمل الذاتي والتطلع إلى خلق طبقة من العمال اليهود نتيجة لدوافعهم القومية المتشددة، وليس سبباً. وينطبق السياق القومي ذاته على فهم المكانة التي لعبها الخطاب “الاستشراقي” الرمزي في تاريخ الصهيونية. كما أشرت بالفعل، على الرغم من وجود دليل على مثل هذا الخطاب، إلا أنه كان هناك منذ البداية خطاب رمزي موازٍ يثمن “الشرق” ويصوغ الصهيونية بشكل رومانسي على أنها عودة يهودية إلى جذورها الشرقية المجيدة. وعليه، فإن السياق التاريخي المناسب لتقدير حقيقة أن خطاب بعض الصهاينة يتناقض مع الافتراض النمطي “الاستشراقي” الأوروبي، هو الجوهر القومي للمشروع الصهيوني. اعتبر مريدي المشروع تقدير الشرق وإضفاء الطابع الرومانسي على الجذور الشرقية المفترضة للشعب اليهودي  أمران مفيدان للسعي نحو تحقيق غايات قومية في الأساس، بقدر ما كان التقليل من أهمية الشرق يخدم نفس الأغراض القومية لمدرسة الفكر الصهيونية المنافسة، التي جسدها جابوتنسكي.

فيما يتعلق بالتعاليم السائدة المعادية لإسرائيل لدى العديد من العقائديين اليساريين الراديكاليين في “العالم الثالث”، فإن وصف شيء ما بأنه “مستعمِر” أو “مستشرِق” يعتمد دائماً على الأحكام الأخلاقية التي تثمن آلياً أي “تابع” اجتماعي ظاهرياً وتنتقد أي جماعة يبدو أنها تتمتع بامتياز اجتماعي. إذن، وبخلاف إرضاء من يسعون الإساءة إلى إسرائيل -إن لم يكن نزع الشرعية عنها- ما الذي يساهم به منظور النظرية ما بعد الكولونيالية في فهم طبيعة الصراع الذي نشأ بين اليهود والعرب؟ إنه يساعدنا بالطبع على فهم التصور العربي الذاتي للصهيونية وكيفية تفسيرها من منظور الاستعمار والاستشراق. لكن، بخلاف ذلك، ليس لها قيمة تفسيرية لفهم الصراع العربي اليهودي. ولمزيد من الإلمام أكثر بالموضوع، ينبغي السؤال عما إذا كان هناك أساس برهاني معقول للافتراض أن خلو الصهيونية التام وممارستها الاستعمارية من أي، وكل، “خطيئة” من خطايا الخطاب الاستشراقي التي يميل منظري ما بعد الكولونيالية إلى تعيينها سوف يحدث فرقاً. ومن المؤكد أن الإجابة ستكون “لا”. ونقول من جديد، لأن جوهر الصراع من طابع قومي، ولا ينتمي إلى صراعات من طبيعة اجتماعية أو حقوق إنسانية ومدنية فردية. وطالما الأمر كذلك، فقد قدّم كل طرف في النزاع [الصهاينة من جهة والعرب من جهة أخرى] بأي حال حقوقاً إنسانية ومدنية للطرف الآخر، وبأعلى مستوى من الجدل. لقد كان الصراع دائماً منحصراً بين حركتين قوميتين، تسعى كل منهما، على حدة، لتحقيق الذات الوطنية في شكل تقرير المصير الوطني السيادي في نفس المنطقة -أرض إسرائيل لليهود، وفلسطين Filastin للعرب. وبالتالي، هناك لعبة مأساوية محصلتها صفر في قلب هذا الصراع المستعصي.  ليس من أسبابه الجهل ولا الخطابات المتحيزة، على الرغم من أنها كانت بالتأكيد من العوامل المتسببة في تفاقمه. ويمكن للاستقصاء التجريبي في الصراع تعيين تمثيلات استشراقية وغربية مشوهة من قبل يهود لـ”الآخر” العربي، وبواسطة العرب لـ “الآخر” اليهودي”، ويمكننا استنتاج  طبيعة الدور الذي لعبته فرضية التنافر المعرفي وحالات الإنكار بشأن صحة أو حقيقة أو واقعية حالة الطرف الآخر. لكن الأدلة التي قمت بفحصها في البحث عند الجانب الصهيوني (وسأفترض احتمالية انطباق الأمر عينه على الجانب العربي) تظهر بأغلبية ساحقة عدم تغافل القيادة الصهيونية قط عن الواقع من خلال التمثيلات الاستشراقية لـ “الآخر”. لقد أدرك القادة الصهاينة، وإن على مضض، أن لدى “الآخر” العربي ادعاءات ومطالب صحيحة، لكنهم آمنوا، وجادلوا وفقاً لذلك، بأسبقية الادعاءات اليهودية المستحقة باعتبار الحاجة الوجودية الماسّة والأكبر هي لليهود وليس للعرب، وبني جدالهم بشأن الادعاءات العربية، أن هؤلاء يمتلكون احتياجات قومية عربية مزدوجة، بالإضافة إلى احتياجات وطنية فلسطينية محلية، وسوف يشكل غياب أو إضعاف حق تقرير المصير الوطني في فلسطين Filastin جرحاً غائراً، باعتراف الجميع، بينما حال اليهود ليس كذلك، فغياب أو إنكار حقهم القومي في تقرير مصيرهم في [أرض إسرائيل]  سوف يكون ضربة قاتلة وليس مجرد جرح، إذا لا مكان آخر لليهود يذهبون إليه.

في التحليل الأخير، استندت القضية الصهيونية حول الحق في تقرير المصير القومي في [أرض إسرائيل] إلى الحاجة الوجودية الأكبر والمبدأ الأخلاقي النفعي المتمثل في القيام بأقصى قدر من الخير والحد الأدنى من الضرر في ظروف الصدام بين اثنتين من المطالب الوطنية العادلة. وهكذا، حتى جابوتنسكي، الذي يمثل الجناح اليميني للحركة الصهيونية، صرح للجنة بيل في عام 1937: “… من المفهوم تماماً أن عرب فلسطين يفضلون أيضاً أن تكون فلسطين هي الدولة العربية رقم 4 أو رقم 5 أو رقم 6 – وهذا ما أفهمه تماماً؛ لكن عندما يواجه الادعاء العربي مطلبنا اليهودي بالنجاة، يكون الأمر أشبه بادعاءات الشهية مقابل ادعاءات الجوع. [التشديد من عندي]. لم يحالف أي محكمة على الإطلاق في النظر في قضية كانت فيها العدالة برمتها إلى جانب أحد الطرفين ولم يكن للطرف الآخر أي قضية يدافع عنها.. لا، لم يحصل هذا من قبل على الإطلاق. ويتعين على أي محكمة تعنى في الشأن الإنساني، بما في ذلك هذه المحكمة التي نتحدث عنها، عند النظر في قضيتين، أن تعترف بأن كلا الجانبين يملك قضيته الخاصة التي يحق له الدفاع عنها، وعلى هذه المحكمة أن تضع في اعتبارها، من أجل تحقيق العدالة، ما ينبغي أن يشكل التبرير الأساسي لجميع البشر، سواء كانت مطالب فردية أو جماعية -إنه التوازن الرهيب المؤثر للحاجات(19).

وفي سياق مماثل، قال حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، وهو مثال لتيار الوسط في الطيف السياسي للحركة، للجنة الأنجلو أمريكية في العام 1946: “أدرك تماماً أن ما أطلبه سيواجه معارضة كبيرة من جانب العرب.. لكن لا توجد مشورة مثالية في هذا العالم، ولا عدل مطلق. ما تحاولون القيام به، وما نحاول جميعاً القيام به بطريقتنا الصغيرة، هو مجرد عدالة إنسانية قاسية. أعتقد أن القرار الذي أود أن تتخذه هذه اللجنة، إذا كنت أجرؤ على قول ذلك، سيكون التحرك على خط أقل قدراً من الظلم والضرر”(20). وعلى المنوال ذاته، وهذه المرة من يسار الطيف السياسي، يمكننا اقتباس كلمات الزعيم الأبرز للحركة العمالية الصهيونية، دافيد بن غوريون، إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين UNSCOP في العام 1947: أقلية عربية في دولة يهودية تعني أن لن يتمتع عدد من العرب بامتياز الدولة العربية، لكنها لن تقلل بأي حال من استقلال ومكانة العرق العربي الحر. إن الأقلية العربية في فلسطين، كونها محاطة بالدول العربية، ستبقى آمنة لجهة الارتباط القومي بعرقها. لكن وجود أقلية يهودية في دولة عربية، حتى يوجود أفضل الضمانات الخطية، سوف يعني الانقراض النهائي للأمل اليهودي، ليس في فلسطين فحسب، ولكن لعموم الشعب اليهودي بحصوله على المساواة القومية والاستقلال، مع كل العواقب الكارثية المألوفة في التاريخ اليهودي. يجب على ضمير الإنسانية الموازنة بين هذا: أين ميزان العدل، أين تكمن الحاجة الأكبر، أين يكمن الخطر الأكبر، أين أهون الشرين، وأين ما هو أقل ظلماً(21)؟

بالطبع، قيل على الجانب العربي، بنفس القدر من الاقتناع، أنه بحكم الأغلبية الساحقة من العرب، يجب أن تصبح فلسطين دولة عربية أخرى لتلبية حاجة سكانها العرب المحليين لتقرير مصيرهم الوطني. كما قيل، على سبيل المثال، في شهادة أمام لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية في العام 1946: “يعارض الشعب العربي برمته بشكل قاطع محاولة فرض الهجرة اليهودية إلى فلسطين والاستيطان فيها، وفي النهاية إقامة دولة يهودية فيها. وتقوم معارضة الشعب على الحق. فعرب فلسطين هم من نسل السكان الأصليين للبلاد، الذين سكنوها منذ بداية التاريخ: لا يمكنهم الموافقة بصوابية إخضاع السكان الأصليين ضد إرادتهم لصالح لمهاجرين الأجانب الذين تستند مطالبهم إلى علاقة تاريخية توقفت فعلياً منذ عدة قرون”(22). لم ير العرب أي تبرير أخلاقي أو مادي لأي مساومة أو تسوية مهما كانت، سواء في شكل تكافؤ أو مساواة ثنائية القومية أو القبول بالتقسيم. وفي أحسن الأحوال، سيُمنح اليهود الذين كانوا مقيمين هناك قبل ما اعتبره العرب غزواً صهيونياً حقوقاً دينية ومدنية.  رفضت الهيئة العربية العليا، التي ادعت أنها تمثل عرب فلسطين، الاعتراف بأي مطالبة قومية يهودية(23) كنوع من الافتراض الراسخ بأن اليهود اليوم لا يشكلون “شعباً ولا أمة؛ بل أن اليهودية مجرد عقيدة دينية”.

وهكذا، شكلت الاحتياجات والمطالبات والتطلعات القومية جوهر الصراع غير القابل للاختزال في تصور العرب واليهود على حد سواء. ولم تكن الاحتياجات والمطالبات الدينية ولا المدنية أكثر من مجرد قضايا هامشية. والأكثر هامشية كانت قضايا الاستعمار أو الخطاب “الاستشراقي”. بيد أن هذا لا يعني انتفاء الحاجة لحلول وسط ممكنة لفض الصراع القومي في الأساس، على الأقل من الناحية النظرية سواء في السابق أم اليوم. ففي داخل المعسكر الصهيوني، ظهر اقتراح نظام ثنائي القومية وتمت مناقشته عديد المرات، كما تم مناقشة قرار التقسيم بل حتى قبله الصهاينة أيضاً عند إقراره في تصويت الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947(24). ولا يزال يشكل موقفاً مركزياً على جدول أعمال الحلول التوفيقية الممكنة حتى يومنا هذا بالذات.

كتلخيص لما سبق: أيا كانت القيمة المرتبطة بنظرية ما بعد الكولونيالية في فهم تاريخ الصهيونية فلا بد لها أنها تتعلق بتفسير نشأتها كحركة قومية انبثقت عن حالة التحرر وما بعد التحرر لليهود؛ وهو وضع مشابه للوضع الاستعماري وما بعده للعديد من الشعوب في أماكن أخرى من العالم. وبخلاف ذلك، يمكن لنظرية ما بعد الكولونيالية المساهمة بشكل هامشي فقط في فهم الصراع العربي اليهودي في الشرق الأوسط، وحتى في تقديم فهم أقل للآفاق المتاحة لاحتمالات الحل.

إن المشكلة الجذرية أكثر جوهرية وأكثر خطورة من أي مظهر من مظاهر ما يسمى بـ “الاستعمار” و “الاستشراق”. ولنا أن نتخيل لو أن “الاستعمار” أو “الاستشراق” لا وجود لهما، فمن المؤكد أن الحركة الإثنية القومية المعروفة بالصهيونية كانت ستنشأ من أسباب جوهرية ومستقلة وعميقة. فهل يمكن، بذات المنوال، أن يكون هناك أي شك في أن إدوارد سعيد كان سيرفض مطالبة اليهود بتقرير مصيرهم القومي في فلسطين، حتى لو لم يجد أي دليل على الإطلاق على الممارسة الاستعمارية أو الخطاب داخل الصهيونية؟

على الرغم من وجود ما يسمى بالخطاب “الاستشراقي” في صفوف الصهيونية، فإن قادتها لم يتجاهلوا الأذى الذي لحق بالعرب الفلسطينيين ككيان وطني فعلي أو محتمل. ومع ذلك، فقد كان لديهم دافع جوهري ويائس للبحث عن خلاصهم القومي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك أساليب الاستعمار.

إن تصنيف الصهيونية كحالة استعمارية، وبالتالي وصمها بهذه الصفة، قد يخدم الغايات الخطابية المتحزبة لصالح القضية الفلسطينية، لكنه تصنيف خاطئ، كأداة تحليلية لوضع فهم محايد للصراع العربي اليهودي.

في التحليل النهائي، تعتبر نظريات القومية، التي تحظى بأدبيات واسعة وعميقة، أدوات أكثر قيمة في فهم تاريخ الصهيونية وطبيعة الصراع العربي اليهودي بكثير مما يمكن أن يذهب إليه وصف نظرية ما بعد الكولونيالية. ومع ذلك، فإن فحص قابلية تطبيق مثل هذه النظريات القومية يقع خارج نطاق هذا المقال.

……………..

العنوان الأصلي: POST-COLONIAL THEORY AND THE HISTORY OF ZIONISM

الكاتب: Gideon Shimoni

المصدر: https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/13537120701445331

الهوامش

[1] Bernard Lewis, “The Question of Orientalism,” The New York Review of Books, vol.29, no. 11, June 24, 1982.

2 See Ivan Davidson Kalmar and Derek J. Penslar, Orientalism and the Jews, Brandeis University Press, Hanover & London, 2005.

3 See Susannah Heschel, “Jewish Studies as Counter history,” in David Biale, Michael Galchinsky and Susannah Heschel, Insider/Outsider: American Jews and Multiculturalism, University of California Press, Berkeley, Los Angeles, 1998, pp.101-115. Also, Derek J. Penslar, “Zionism, Colonialism and Postcolonialism,” Journal of Israeli History, vol. 20, Nos. 2/3, Summer/Autumn 2001.

4 See e.g., Homi Bhabha, Location of Culture, Routledge, London, 1995.

5 On this variety of post-emancipation mutations see e.g., Michael A. Meyer, Jewish Identity in the Modern World, University of Washington Press, Seattle, 1990.

6 See the tracing of the Orientalist representation of Jews from the turban in the age of Ottoman power to the kaffiyeh in the age of imperialism and racial antisemitism in Ivan D. Kalmar, “Jesus Did Not Wear a Turban: Orientalism, the Jews, and Christian Art,” in Kalmar and Penslar, Orientalism and the Jews, pp. 3-31.  

7 See Gideon Shimoni, The Zionist Ideology, Brandeis University Press & University Press of New England, Hanover & London, 1995, especially Chapter one.

8 See Eric Hobsbawm and Terence Ranger, eds., The Invention of Tradition, Cambridge University Press, Cambridge, 1983.

9 See Jacques Kornberg, Theodor Herzl: From Assimilation to Zionism, Indiana University press, Bloomington, 1993, pp.59-86.

10 In the 1930s, for example, a debate raged within the Yishuv (Jewish sector of the population) over the question of Hurban hanefesh (debasement of the soul), meaning the expressions of self-hatred within Zionist thought. A leading critic of this manifestation was the Biblical scholar and important Zionist thinker, Prof. Yehezkel Kaufman. See his essay “Hurban hanefesh” in Yehezkel Kaufman, Be’hivlei hazeman (The Sufferings of Exile), Dvir, 1936, pp. 257-274. Also, Shimoni, The Zionist Ideology, pp. 331.

11 Edward W. Said, “Zionism from the Standpoint of its Victims,” in Anne McClintock, Aamir Mufti and Ella Shochat, eds., Dangerous Liaisons: Gender, Nation, and Postcolonial Perspectives, University of Minnesota Press, Minneapolis & London, 1997, pp.15-38. The quotations are from pp. 18, 17, 24, 31,19, in that order. See also Edward W. Said, The Question of Palestine, Vintage Books, New York, 1992.

12 See Bernard Lewis, Semites, and Anti-Semites: An Inquiry into Conflict and Prejudice, Norton and Company, N.Y., London, 1986; idem., The Jews of Islam, Princeton University Press, Princeton, 1984. Yehoshua Porat, “Ideologia anti-tzionit ve anti-yehudit ba-chevra ha-le’umit ha-aravit be-Eretz Israel,” (Anti-Zionists and Anti-Jewish Ideology in Arab National Society in Eretz Israel,) in Shmuel Almog, ed., Sinat Yisrael le-doroteha, (Antisemitism through the Ages), Zalman Shazar Centre, Jerusalem, 1980.  See also ibid., other articles by Yehoshafat Harkavy, (pp.247-259) Chagai Ben-Shamai, (pp. 183-192) and Yaakov Barnea (pp. 211-216).

13 See Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict 1882-1914, Cambridge University Press, N.Y., 1989. Also, Gershon Shafir, “Zionism and Colonialism: A Comparative Approach,” in Michael Barnett ed., Israel in Comparative Perspective,” State University of New York Press, New York, 1996, pp. 227-244.

14 See Yosef Gorny, Zionism, and the Arabs 1882-1948: A Study of Ideology, Clarendon Press, Oxford, 1987.

15 Zeev Jabotinsky, “Ofnat ha-arabeskot,” (The Arabesque Fashion,) in Al sifrut ve-omanut (On Literature and Art), Jerusalem, 1958, p.222.

16 See Ran Aronson, “Settlement in Eretz Israel: A Colonialist Enterprise?” Israel Studies, vol.1, no. 2: 214-229.

17 See Avi Bareli, “Forgetting Europe: Perspectives on the Debate about Zionism and Colonialism,” Journal of Israeli History: Politics, Society, Culture, vol. 20, nos. 2/3, Summer/Autumn 2001: 100-119. Bareli argues cogently that taxonomy does not constitute explanation and that it is methodologically faulty to dispense with or deny “the essential causal context” of the phenomenon of Zionist colonization.

18 Shafir, “Zionism and Colonialism: A Comparative Approach,” p.234

19  Vladimir Jabotinsky, Evidence Submitted to the Palestine Royal Commission, (pamphlet), London 1937, pp. 10-29.

20 “Testimony to the Anglo-American Committee” August 3rd, 1946, in The Letters and Papers of Chaim Wezmann, vol.2, ed. Barnet Litvinoff, Jerusalem, 1984, pp. 594-5

21 “Evidence of David Ben-Gurion,” The Jewish Plan for Palestine: Memoranda and Statements Presented by the Jewish Agency for Palestine to the United Nations Special Committee on Palestine, Jerusalem, 1947, pp. 324, 325.

22 “The Arab Office: The Arab Case for Palestine (March 1946); Evidence Submitted to the Anglo-American Committee of Inquiry” extracted text in Walter Laquer and Barry Rubin eds. The Israeli-Arab Reader, Penguin Books, 6th edition2001, p.57.

23 The Palestine Arab case: A Statement by the Higher Arab Committee (The Body Representing the Palestine Arabs) April 1947, point 20 of the concluding section, pp.65-70.

24 On bi-national proposals see Susan Lee Hattis, The Bi-National Idea in Palestine During Mandatory Times, Shikmona, Haifa, 1970. On partition proposals see Itzhak Glanoor, The Partition of Palestine: Decision Crossroads in the Zionist Movement, State University of New York Press, Albany,1995.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

استيطان الفضاء المكاني الفلسطيني: البنية الاستعمارية في نظم التخطيط الإسرائيلية

أورين يفتحئيل ترجمة محمود الصباغ استهلال يقال؛ عندما بدأ الوفد الفلسطيني مفاوضات أوسلو، مع الإسرائيليين، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *