شيمون أميت
ترجمة: محمود الصباغ
الحركة الصهيونية وعلم الآثار الكتابي
لا بأس، من أجل الدخول في ثلب الموضوع، من البدء باستعراض موجز لتطور علم الآثار الكتابي على خلفية العقيدة اليهودية المسيحية والهوية الصهيونية، ومن نافل القول التأكيد على حجم التحديات التي مثلتها الدراسات الكتابية للتقاليد اليهودية المسيحية والاعتقاد بأن موسى هو من كتب الأسفار الخمسة الأولى من أسفار العهد القديم، ولعل أهم هذه التحديات، يتمثل بجهود يوليوس فلهاوزن، في مؤلفه “المقدمة النقدية لتاريخ إسرءيل القديمة Prolegomena to the History of Ancient Israel” (2013 [1878])وهو الذي صاغ “الفرضية الوثائقية” التي ترى بوجود أربعة مصادر مختلفة، تعود لعصور مختلفة، تكون في مجموعها البنيان الأدبي للأسفار الموسوية. وجاء عمل الحاخام دافيد زفي هوفمان كأحد الدفوعات البارزة والمعارضة لأطروحة فلهاوزن، حين سعى هوفمان لحماية عقيدة الأصل الإلهي للأسفار الموسوية ومجمل المعمار الأدبي لنصوص الكتاب المقدس (Hoffmann, 1902). ولم تشكل الأبحاث الأكاديمية الحديثة، منذ ظهورها، منهجاً ناقداً لجذور الهوية اليهودية-المسيحية فحسب، بل عبرت أيضاً عن القيم الشخصية والاجتماعية والثقافية تجاه هذه الهوية. فقد ظهر تأثر عمل فلهاوزن، بخلفيته البروتستانتية (كان أستاذاً في اللاهوت، لكنه استقال في العام 1882 لشعوره بعدم قدرته على منع أفكاره من الانتقال لتلامذته كهنة المستقبل). ويعتبر فلهاوزن أصدق تعبير عن الرومانسية والمثالية الألمانيتين، في القرن التاسع عشر. فقد رأى في اليهودية، التي وضعتها المؤسسة الكهنوتية في فترة الهيكل الثاني، نظاماً عقائدياً يتألف من وصايا وطقوس، أو هي تعبير عن انحطاط لما هو أكثر طبيعية في دين الإسرءيليين واليهوذيين والمنظومة الملكية (الدولة). وحاول، في هذا الصدد، إظهار اليهودية، كما تتجلى في القانون الكهنوتي، كيف “تفصل نفسها، أولاً، عن الحياة اليومية، ثم كيف تمتص هذه الحياة لتصبح، بالمعنى الدقيق للكلمة، شغلها الشاغل” (Wellhausen, 2013 [1878]: 81). ولا يزال السجال يدور، حتى يومنا هذا، حول ما إذا كانت مقاربة فلهاوزن معادية للدين أو مؤيدة للمسيحية أو معادية لليهود أو حتى معادية للسامية، ومدى كون عمله تعبيراً عن النزعات الرومانسية والمثالية في ألمانيا(Kratz, 2009).
قام علماء الآثار المسيحيون، منذ نهاية القرن التاسع عشر، بأعمال الحفر والتنقيب حاملين كتابهم المقدس بيد والمعول باليد الأخرى، أي أفكارهم اللاهوتية وإيمانهم بيد، ويحملون باليد الأخرى ما يعثروا عليه من حقائق على الأرض ولقى أثرية، واضعين في افتراضهم صدقية النصوص المقدسة، فاستخدموا اللقى الأثرية تلك للتأكيد على حقائق الرواية الكتابية، عبر تأويل المكتشفات واللقى وفقاً للسرد الكتابي. [فعلى سبيل المثال] تعرض فلهاوزن لتهمة الانتماء للفكر الهيغلي على يد عالم الآثار البارز، ويليام فوكسويل أولبرايت (وهو ابن مبشرين إنجيليين)، الذي كان يرى في علم الآثار أداة علمية أثبتت دقة النصوص الكتابية التاريخية وموثوقيتها. كما كان على قناعة بأن نظرية مدرسة فلهاوزن انتهت لتكون مجرد نوع من “المفارقات التاريخية”(Albright, 1968: 1-2). ولم يتوقف الأمر عند أولبرايت، حيث يمكننا أن نرى مثل هذا الوضوح في التعبير عن أجندة علماء الآثار المسيحيين عند عالم الآثار والكاهن الدومينيكي الفرنسي رولان دي فو: “إن لم يكن الإيمان التاريخي بإسرءيل مبيناً بطريقة معينة في التاريخ، فهو لا شك إيمان غير قويم ولا يمكنه أن يتوافق مع إيماني ما لم يشر إلى وجود هذه الإسرءيل بطريقة ما” (Vaux, 1965: 16). أما لجهة المواقف اليهودية، عمل المؤرخ اليهودي هاينريش غراتس على صياغة القالب القومي لكتابة التاريخ اليهودي، من خلال تأليفه، في منتصف القرن التاسع عشر، “تاريخ اليهود من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر History of the Jews from the Oldest Times to the Present”. وهو أول محاولة لإنتاج سردية تاريخية كبيرة عن “الشعب اليهودي”، ليس بوصفهم جماعة دينية فحسب، بل بوصفهم، ولو جزئياً على الأقل، أمّة حديثة. وتضمنت هذه المقاربة الجديدة تأويلاً حديثاً للكتاب باعتباره مصدراً تاريخياً موثوقاً مع حذف بعض الجوانب ذات الطابع الغرائبي والإعجازي.. وزعم غريتز، عندما نشر فلهاوزن عمله، أن هذا الأخير “يحيل كراهيته للأنف اليهودي إلى إبراهيم وموسى وعزرا”. وتركز نقده لفلهاوزن على التأكيد بأن جزءً كبيراً من الأسفار الموسوية لم يُكتب إلا بعد العودة من السبي. بعبارة أخرى، قوّضت فرضية فلهاوزن مصداقية أهم وثيقة تصف أصل الأمة اليهودية وماضيها البطولي. وأصبح عمل غراتس نوعاً من كتاب توجيهي قومي لمنظمة أحباء صهيون Hovevei Zion التي كان أعضاؤها من رواد الحركة الصهيونية. وتأثر به موسى هيس، أحد مؤسسي الصهيونية، ومثقفين يهود آخرين، وكذلك قادة المستوطنين الصهاينة في فلسطين. وكان سيمون دوبناو أحد هؤلاء الذين تقفوا أثر غراتس. وتوافق عمله هذا مع المقاربة الصهيونية التي كانت تميل، من ناحية، إلى العلمانية ورفض العقيدة الأرثوذكسية، وتستخدم الدين، من ناحية أخرى، كثقافة قومية توحد اليهود في العالم. وتم، ضمن هذا الإطار، تفسير القصص الكتابية كتصوير للأحداث والعمليات التاريخية، على الرغم من أن العديد من هذه القصص عبارة عن سرد مجازي ورمزي (Sand, 2009: 78-109)(1).
ورأى دافيد بن غوريون، زعيم الحركة الصهيونية وأول رئيس وزراء لإسرائيل، في الكتاب المقدس وثيقة تأسيسية للأمة اليهودية في أرض إسرائيل، لقد كان الكتاب من الناحية العملية، بدرجة كثيرة أو قليلة، بالنسبة له وللمؤسسة الإسرائيلية العلمانية، عنصراً أساسياً من عناصر تشكيل الروح القومية، لقد ساهم، أي الكتاب، بالنسبة لبن غوريون، في خلق صلة مباشرة بين إسرءيل القديمة ودولة إسرائيل الجديدة، متجاوزاً الشتات والإرث الديني الأصولي الأرثوذكسي. وكما قال بن غوريون: “.. ما قمنا به على هذه الأرض “قفزة فوق التاريخ اليهودي”. ثمة هناك قفزة في الزمن، وقفزة في الفضاء. أما نحن، فقد قمنا، هنا، بالاثنتين معاً سواء بسواء”(2). وأوضح أن الحياة في الدولة اليهودية الجديدة ليست استمراراً لحياة كراكوف أو وارسو، بل هي بداية جديدة ترتبط مباشرةً بالماضي البعيد ليشوع وداود والحشمونيين (Ben-Gurion, 1957).
استمر البناء الإيديولوجي لفكرة الأمة اليهودية في التطور على يد المؤرخين الصهاينة، وعلماء الآثار، قبل وبعد إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948. وكان المؤرخ بن تسيون دينور (من الجامعة العبرية في القدس) أحد أهم هؤلاء المفكرين الذين ساهموا في هذه العملية. واستخلص دينور الكتاب المقدس من اللاهوت بالكامل، تقريباً، واستخدمه لخلق ما يشبه بيان تاريخي قومي مدعوماً بالقليل من الوثائق المكتشفة عن طريق الحفريات الأثرية في مواقع الشرق الأدنى. كان دينور عضواً في الكنيست الأولى، وأصبح، في العام 1951، وزيراً للتربية والتعليم. كما شارك، خلال خمسينيات القرن الماضي، رفقة مثقفين آخرين مثل عالم الآثار الكتابي البارز بنيامين مزار والباحث الكتابي يحزقيل كوفمان إلى جانب كبار السياسيين، في تنشيط ما اصطلح عليه اسم الحلقة الكتابية التي كانت تعقد في منزل بن غوريون. كان الكتاب [المقدس]، بالنسبة لبن غوريون ودينور والمؤسسة بأكملها ، جزءً عضوياً من الخطاب السياسي، وأداة مهمة في تشكيل مجتمع المهاجرين ضمن شعب موحد وربط جيل الشباب بالأرض. ولابد هنا من التذكير بخطاب بن غوريون الذي وجهه لعناصر الجيش الذين استولوا على شبه جزيرة سيناء خلال حرب العام 1956: “يمكننا أن نرتل، من جديد، أنشودة موسى وأبناء إسرءيل القديمة… لقد مددتم، بعملكم الجبار ومهمتكم وجهودكم المتضافرة عبر الأذرع المختلفة لوحدات الجيش الإسرائيلي، يد العون للملك سليمان..”. كما شجعت هذه المؤسسة على القيام بالحفريات الأثرية، وأوضح بن غوريون عن رغبته في تفضيل السردية الكتابية في حال كان هناك تناقض بينها وبين أي مصدر غير كتابي: لدي الحرية المطلقة، من وجهة نظر العلوم البحتة، في قبول الشهادة الكتابية عن حدث ما حتى لو تم الطعن فيها من مصدر خارجي غير كتابي، بشرط ألا تحتوي هذه الشهادة على تناقضات داخلية وألا تحتوي على عيوب واضحة (Sand, 2009: 105-115; see also: Silberman and Small (eds), 1997; Abu El-Haj, 2002).
لقد كان علم الآثار جزءً من السياسة وكانت السياسة جزءً منه. وانعكست الرواية الكتابية لغزو يشوع لكنعان والمملكة العظيمة لداود وسليمان في الروح القومية الحديثة. واعتمد علماء الآثار الصهاينة، الذين تبعوا نهج أولبرايت وعلماء الآثار المسيحيون، على تبني ممارسة “الكتاب بيد والمعول بيد” لتنفيذ أجنداتهم الخاصة. واستندت وجهة نظرهم تلك إلى تأريخ قومي وضعه المفكرون اليهود المذكورون أعلاه، بهدف تعزيز هذا الرأي. لقد كانوا، في الواقع، جزءً من النخبة الحاكمة. فلم يكن يغائيل يادين، تلميذ أولبرايت، مجرد عالم آثار وابن الباحث إليعيزر ليبا سوكنيك -مؤسس قسم الآثار في الجامعة العبرية في القدس، ولكنه كان، أيضاً، رئيساً لغرفة العمليات الحربية خلال حرب العام 1948، وثاني رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي وعمل وزيراً أيضاً. وساهم في تقديم تأويل للاكتشافات التي عثر عليها أثناء تنقيبه في حاصور ومجدو، خلال الستينيات، إلى جانب مكتشفات جزر، باعتبارها تؤكد النشاط العمراني العظيم للملك سليمان حسب الوصف الكتابي. وذكرت حاصور ومجدو وجزر في الكتاب كجزء من المدن التي أسسها سليمان:” 15وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ.” (سفر الملوك الأول 9 :15). وهكذا يبدو أن البوابات والقصور والمدن تنتمي إلى مملكة سليمان العظيمة في القرن العاشر ق.م. (Yadin, 1975).
وكان بنيامين مزار، الذي شكل مع يادين النموذج الصهيوني لعلم الآثار، رئيساً للجامعة العبرية، وصهراً ليتسحاق بن تسفي ثاني رئيس لإسرائيل، وتربطه علاقات وثيقة مع بن غوريون. ولم يشب التزامه بالسرد الكتابي أدنى ذرة من الشكوك، بصفته ممثلاً للنخبة الصهيونية. وحاول، في عمله، على سبيل المثال، موائمة علم الآثار مع التوصيفات القديمة لصورة الآباء في الكتابية، فتذكر النصوص الكتابية الفلستيين والآراميين في سياق قصص البطاركة على الرغم من ظهورهم بعد مئات السنين من الفترة التي يُزعم أن البطاركة عاشوا فيها. وكان اقتراح مزار يتمثل في أن هذه القصص تصف بشكل موثوق حقبة ما قبل فترة الملوك (Mazar, 1974).
كما شغل موشيه ديان، خلال مسيرته المهنية، وهو الذي كان أحد أكثر قادة إسرائيل الذين امتلكوا كاريزما شخصية، منصب رئيس الأركان الرابع للجيش الإسرائيلي ووزيراً للدفاع ووزيراً الخارجية. كما نشر، بصفته عالم آثار هاوٍ (كان دايان، في واقع الأمر، لص آثار)، كتاب “التعايش مع الكتاب Living with the Bible”، والذي تم فيه دمج بين إسرءيل القديمة والحديثة (Dayan, 1978).
وقام يوحنان أهاروني، أحد معاوني يادين، بتأسيس معهد الآثار في جامعة تل أبيب. وسلك أهاروني ويادين طرقاً مختلفة وأصبحا نديين متنافسين، حيث أيّد يادين الرأي القائل باستيلاء الإسرءيليين على كنعان عن طريق غزو عسكري كما يبين ذلك سفر يشوع، في حين وقف أهاروني (1957) بجانب الرأي القائل بالتوطن التدريجي للإسرءيليين، كما هو موضح في سفر القضاة. ومن هنا بدأ التنافس بين أقسام الجامعة العبرية في القدس وجامعة تل أبيب، كما سوف أصفه أدناه . وعكست هذه الخلافات بين وجهتي النظر، وفقاً لنيل سيلبرمان، رؤيتهما لإسرائيل الحديثة. فقد كان لقصة الغزو، بالنسبة للجنرال يادين، صدىً يتردد في حرب العام 1948 (حرب الاستقلال) وإقامة دولة إسرائيل. بينما ينتمي أهاروني، من ناحية أخرى، إلى حركة الكيبوتس (الجناح اليساري للصهيونية العمالية) ويفضل التأويل استناداً إلى روح الاستيطان الصهيوني الحديث (Silberman, 1993; Abu El-Haj, 2002: 99-105). ولكن، ورغم هذا التنافس، كان كل من يادين وأهاروني مصممين على حماية الرواية الكتابية، أي أساس الروح القومية. وبالتالي فهما يمثلان، بهذا المعنى، الجيل بأكمله.
الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وخطر النزعة الكتابية التنقيحية
يتميّز علم الآثار المسيحي وعلم الآثار الصهيوني بتبنيه النزعة المحافظة الأصولية maximalism، أي قبول السرد الكتابي كمصدر تاريخي موثوق وأساسي بما يتوجب تعديل جميع الأدلة الأثرية الأخرى بما يوافقه. تعرضت هذه المقاربة إلى العديد من التحديات منذ ظهور مقاربة جديدة في أوروبا يتبناها عدد من الباحثين الكتابيين والذين باتوا يعرفون باسم المدرسة التنقيحية minimalists الذين اتجه رد فعلهم ضد فرضيات ومقاربات الباحثين الكتابيين، مثل ألبرخت ألت (1966) ومارتن نوث (1960). وتمثلت الخلفية التي ظهرت فيها النزعة التنقيحية في لاهوت التحرير (أي رفض الكتاب [المقدس] كنص متميز لتبرير الاستعمار والإمبريالية) وكذلك في التيارات الفكرية والسياسية الراديكالية في الأوساط الأكاديمية التي ظهرت أواخر الستينيات. ومن أبرز ممثلي المدرسة الكتابية التنقيحية يمكن الإشارة إلى نيلز بيتر لمكة (1988؛ 2008: 316-317) وتوماس طومسون (1992 ؛ 1999) من جامعة كوبنهاغن، بالإضافة إلى فيليب ديفيز (1992) وكيث وايتلام (1996) من جامعة شيفيلد، وقد أبدى هؤلاء شكوكاً جدية بشأن السردية الكتابية وتعرضوا بالنقد إلى التزام الباحثين الكتابيين وعلماء الآثار بالإيمان اليهودي المسيحي والهوية الصهيونية.
تفصل المدرسة التنقيحية إسرءيل الأسطورية المذكورة في النصوص الكتابية عن إسرءيل التاريخية. كما يجادل أتباع هذا التيار بقولهم بعدم تشكل السردية الكتابية إلا بعد تدمير الهيكل الأول والسبي البابلي (القرن السادس ق.م)، أي خلال الفترة الفارسية (حوالي القرنين الخامس والرابع ق.م)، بل وحتى خلال الفترة الهلنستية (حوالي القرنين الثالث والثاني ق.م). وتسبب هجوم التنقيحيين ضد التحيز اليهودي المسيحي والصهيوني لعلم الآثار الكتابي والدراسات الكتابية في إثارة ضجة أكاديمية اتهموا على إثرها بمعاداة السامية، وتبني أجندة معادية لإسرائيل. وزعم [توماس] طومسون أنه تعرض للاضطهاد وأصبح عاطل عن العمل فعلياً بعد ما نشر أطروحته في العام 1976. ويصف، في مقالتين منفصلتين، مسار الأحداث التي تعرض لها حتى وقت التحاقه بجامعة كوبنهاغن في العام 1993 بمساعدة [نيلز بيتر] لمكة. فيذكر، على سبيل المثال، أنه حصل على درجة الأستاذية من المدرسة الكتابية في القدس École Biblique، في العام 1985، غير أن هذا القرار لم يرضِ العديد من الوسط الأكاديمي الكتابي، بل إن الباحثة الكتابية سارة جافيت من الجامعة العبرية اتهمته بمعاداة السامية، أثناء نشرها مراجعة كتاب طومسون في مقال لها في [الصحيفة الإسرائيلية] الجيروزاليم بوست ( 24 كانون الأول/ ديسمبر 1999). كما كتب عنه عالم الآثار الإسرائيلي المميز ماغن بروشي: “أخبرني أحد المعارف المشتركين أن طومسون أكد له إيمانه الشديد ببروتوكولات الحكماء صهيون”. وفي مؤتمر عقد في تشرين الأول/ أكتوبر 1999، عرّف عالم الآثار الأمريكي ويليام ديفر عمل طومسون بأنه معادٍ لإسرائيل، ومناهض للكتاب [المقدس]، وعدمي “نهلستي” (Thompson 2011; 2001). ووفقاً لديفر، يلامس عمل وايتلام “حدود معاداة السامية”، بسبب التعميمات التي تميز اتهاماته للباحثين الإسرائيليين واليهود والمسيحيين. حيث يشير وايتلام، على سبيل المثال: “إلى انخراط الدراسات الكتابية في عملية حرمان لها ما يناظرها في السياسات الحديثة المتمثلة في محاولة الصهيونية الاستحواذ على الأرض الفلسطينية وسلبها من سكانها وأصحابها”. ويزعم ديفر أن عبارات كهذه سوف تسمح لويتلام بالقول بوجود مؤامرة يهودية غير شرعية (Dever, 2003; Whitelam, 1996: 46). ولخص غاري ريندسبيرغ (من جامعة كورنيل) الاتهامات السياسية ضد التنقيحيين على النحو التالي: للإجابة على سؤالي الثاني، من هم هؤلاء الناس، هؤلاء التنقيحيون، العدميون؟ وما هي دوافعهم؟ ولنقدم أسماء الأفراد الأربعة الأكثر شهرة بينهم: توماس طومسون، وفيليب ديفيز، ونيلز لمكة، وكيث وايتلام. بعضهم يسيرون، كما أشرت أعلاه، خلف الأفكار الماركسية والسياسات اليسارية. وبعضهم من المسيحيين الإنجيليين السابقين الذين يرون الآن في مذهبهم السابق جميع شرور الكون، وبعضهم من تيار الثقافة المضادة counterculture، الذين ينتمون لبقايا حركة الستينيات والسبعينيات هذه، الذين تمتاز جوانبهم الحياتية بالنقد الشخصي للسلطة (Rendsburg, 1999).
ولكن هذه الكوكبة من الباحثين التنقيحيين ليسوا معاديين للسامية، كما يدعي بعض معارضيهم. غير أن هذا لا يمنع من القول بتشابك نقدهم ورفضهم للأصولية الكتابية المحافظة وعلم الآثار الصهيوني مع نقدهم للروح الصهيونية وآرائهم المؤيدة للفلسطينيين. ولا يمكن، في هذا الصدد، لأي من المعارضين أن يدعي أنه غير متحيز. إذ لا يمكن فصل الافتراضات البحثية والنظرية عن الآراء الاجتماعية والسياسية والهوية الثقافية. ومن الواضح أن وجهة نظر طومسون وعمله مؤيدان للفلسطينيين، [يقول طومسون]: “في نهاية فترة عملي في المدرسة الكتابية في القدس [École Biblique]، تم تعييني مديراً لأحد مشاريعها الذي ترعاه اليونسكو، وهو مشروع يتعلق بتسمية الطوبوغرافيا الفلسطينية Toponomie Palestinienne، ويدور حول تكامل واندماج أسماء الأماكن القديمة في الطوبوغرافيا الفلسطينية الحديثة، ويوجه، من بين أمور أخرى في العمل الذي كان في الأساس عمل جغرافي وتاريخي، انتقاداً الإسرائيليين لسعيهم نحو إزالة ومحو الأسماء المحلية ونزع الطابع العربي عنها ضمن الطوبوغرافيا الفلسطينية وإلحاق الضرر بالتراث الثقافي للمنطقة. وقد توقفت اليونيسكو عن دعم المشروع بعد سحب التمويل السعودي، وتعرضها لاتهامات “معاداة السامية” (Thompson, 2011).
وأظهر ديفز، وبصورة واضحة أجندة مؤيدة للفلسطينيين، في رده على ديفر وآخرين، بقوله: تكمن خطورة البحوث الكتابية في كونها “صهيونية” وتشارك في القضاء على الهوية الفلسطينية، وكأن أكثر من ألف عام من وجود المسلمين على هذه الأرض لا يعني شيئاً. فالتركيز على فترة قصيرة من تاريخ طويل يساهم في إنشاء نوع من استعمار الماضي بأثر رجعي. وسوف يؤدي هذا إلى اعتبار الفلسطينيين المعاصرين مجرد متسللين أو “أجانب مقيمين” في أراضي الغير. ولا أعني بهذا القول كاتهام ضد أحد، بل هو، باعتقادي، ليس سوى نتيجة حتمية لهوسنا بالكتاب. ويصبح من الخطأ الصريح عندما نتجاهل هذا أو ننكره (Davies, 2002). ويعتبر عمل وايتلام مؤيداً، بوضوح، للفلسطينيين، كما يظهر من العنوان الفرعي لكتابه “اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني” The Invention of Ancient Israel: The Silencing of Palestinian History (1996).
ويجادل ويتلام، على خطى إدوارد سعيد، باعتبار الخطاب الكتابي “جزء من شبكة معقدة من العمل الأكاديمي الذي عرّفه سعيد على أنه “خطاب استشراقي” أكاديمي عمل على تجاهل تاريخ فلسطين القديمة وإسكاته لأن موضوع اهتمامه ينصب على إسرءيل القديمة التي تم تصورها وتقديمها باعتبارها المعين والجذر الرئيسي للحضارة الغربية”. ويعرّف وايتلام عمله كمحاولة لإظهار أن “التاريخ الفلسطيني القديم هو موضوع منفصل في حد ذاته ويجب تحريره من قبضة الدراسات الكتابية”، أي من قبضة دراسة الكتاب المقدس العبري ومن وجهات النظر اليهودية والمسيحية. ويشكو من ازدواجية المعايير حين يتم تقديم الخطاب السائد على أنه خطاب موضوعي وغير متحيز، في حين يعتبر الخطاب التنقيحي خطاب سياسي وإيديولوجي. علاوة على ذلك، يتهم وايتلام وآخرون علماء الآثار الكتابيين، مثل إسرائيل فينكلشتاين، بأنهم منحازون نحو “البحث عن الكيان القومي [إسرءيل] “في الفترة الانتقالية المتأخرة للعصر البرونزي والحديدي”، وبالتالي تهميش وفصل المناطق الكنعانية التي لا يرونها هامة وذات صلة بفهم التوطن الإسرائيلي (Whitelam, 1996: 1-18).
وعلى هذا، تشكل دراسات علم الآثار الكتابي جزءً من حرب السرديات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث تلعب الهويات الصهيونية الإسرائيلية والعربية الفلسطينية دوراً رئيسياً في بناء التوقعات والافتراضات والتحيزات النظرية وتأويل البيانات. وينحاز، بطبيعة الحال، الجانب الفلسطيني للنزعة التنقيحية، وينعكس هذا القول في كتاب المؤرخ العربي الفلسطيني واستاذ الدين والسياسية، والمولود في إسرائيل (التي يشكل العرب حوالي 20% من سكانها)، نور مصالحة “الكتاب والصهيونية: التقاليد المخترعة وعلم الآثار وما بعد الكولونيالية في فلسطين وإسرائيل” The Bible and Zionism: Invented Traditions, Archaeology and Post-Colonialism in Palestine-Israel (2007)، فيظهر محتوى الكتاب كصور معاكسة تماماً لوجهة النظر الصهيونية. بمعنى آخر، يبدو كتاب مصالحة كبيان فلسطيني متأثر بإنتاج مفكرين مثل إدوارد سعيد وإيلان بابيه، وهذا الأخير، يساري وناشط ما بعد الصهيونية وأحد المؤرخين الجدد في إسرائيل الذين يتحدّون الرواية الصهيونية. ويمثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الإطار الذي طور فيه مصالحة مقاربته للكتاب [المقدس]. فإذا كانت النكبة الفلسطينية بمنزلة “محرقة صغيرة” وإذا كان “نفي مئات الآلاف من السكان الأصليين الذي ترافق مع إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 -تقرر باسم الكتاب المقدس- فهذا بحد ذاته أحد أعظم جرائم الحرب في القرن العشرين” (Masalha, 2007: 1)، فمن المغري جداًن والحال هذا، الوصول إلى الاستنتاج التنقيحي التالي: “يمكن القول بانهيار تاريخية نصوص العهد القديم، بناءً على الأدلة الأثرية والعلمية الحديثة الحالية” (Masalha, 2007: 10). فثمة ترابط واضح، إذن، فيما يتعلق بالاشتباك بين الدراسات الآثارية الصهيونية ونظيرتها الفلسطينية، وكذلك الصراع بين السرديتين القوميتين. وفي هذا الصدد يعتبر الآثاري الفلسطيني، من جامعة القدس، هاني نور الدين هو وزملائه -كما قال لصحيفة “نيويورك تايمز”: علم الآثار الكتابي كمحض جهد إسرائيلي” لموائمة الأدلة التاريخية مع السياقات الكتابية، فالصلة مفقودة، بدرجة كبيرة، بين الأدلة التاريخية والمرويات الكتابية المدونة في فترة لاحقة، وثمة هناك نوع من الخيال عن القرن العاشر ق.م، لذلك نراهم يحاولون ربط أي شيء يجدونه بالسردية الكتابية، وهم بذاك يشبهون من يمتلك زراً ثم يقوم بصنع بدلة تناسبه” (Erlanger, 2005). ويشرح نور الدين لمجلة “ناشيونال جيوغرافيك” ما يقصده بالمنظور الفلسطيني بقوله: “عندما أرى النساء الفلسطينيات يصنعن الفخار التقليدي الذي يعود لأوائل العصر البرونزي، وعندما أشم رائحة خبز الطابون المخبوز بذات تقاليد الألفية الرابعة أو الخامسة ق.م.. عندما أرى كل هذا، فكأني أرى الحمض النووي الثقافي ينتقل عبر هذه السنين. ففي فلسطين لا توجد وثيقة مكتوبة ولا تاريخية- ومع ذلك [فما أراه وأشمه] هو التاريخ” (Draper, 2010).
ويترافق الإنكار الفلسطيني للروايات التوراتية والصهيونية مع تأكيدات تضع الفلسطينيين الحاليين بموقع أسلاف الكنعانيين أو غيرهم من السكان القدامى للأرض. وكشف جلال قزوح، رئيس قسم الآثار في جامعة القدس، في تصريح له في العام 1988، عن أطلال منازل تعود للمدينة الكنعانية القديمة تل صوفر غربي نابلس، وتظهر الأدلة، حسب زعم قزوح، على الاستمرارية بين التاريخين الكنعاني والفلسطيني. لم يتفق جميع علماء الآثار الفلسطينيين مع نظرية قزوح. وعلق حامد سالم، أستاذ علم الآثار في جامعة بيرزيت: “ليس بشيء من علم الآثار الجاد تتبع استمرارية شعب إلى زمن يعود إلى 5000 عام”. وأوضح حمدان طه، المدير العام لدائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني في رام الله، الدوافع الاجتماعية والسياسية وراء التفسير الأثري لقزوح: “إذا كان بعض الفلسطينيين يحاولون تعريف أنفسهم بالكنعانيين القدماء، فأعتقد أن هذا جزء من علم الآثار الانعكاسي اللاواعي، وبمثابة استجابة ورد فعل على الممارسة الإسرائيلية لعلم الآثار” (Eltahawy and Klein, 1998; Wallace, 2013). وكان الآثاري خالد ناشف، من جامعة بير زيت، قد أسس في العام 2000، مجلة الآثار الفلسطينية، التي تتحدى علم الآثار الكتابي باسم السردية الفلسطينية الصامتة والمحرومة.
علم الآثار الكتابي في طور جديد
ساهم تفكك المجتمع “المشتبك”، أو “المعبأ” كما يطلق عليه في إسرائيل، وتراجع النزعة الجماعية الصهيونية-الاشتراكية في أواخر السبعينات، في ظهور روايات وخطابات مختلفة. فعلى سبيل المثال، تحدى المؤرخون الجدد، وبعضهم ممن يوصفون بأنهم ينتمون لأفكار ما بعد صهيونية، الرواية الصهيونية فيما يتعلق بجذور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحرب 1948، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وبدأ عمل هؤلاء، مثل بني موريس (Morris, 1987) خارج الأكاديمية الإسرائيلية، وأدى إلى خلق ضجة من حولهم. وكما يصف موريس حاله: “عوملت كعدو للدولة وبقيت هذه الصورة عالقة لدى الجميع. لقد نُبذت، فلم أكن أدعَ إلى حضور المؤتمرات، وبطبيعة الحال، لم يقدم لي أي منصب جامعي “(Morris in Ben-Simhon, 2012). وهيمن التيار الجديد لعلم الآثار الكتابي خلال تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وقامت مدرسة جديدة في جامعة تل أبيب، يقودها إسرائيل فنكلشتين، وزئيف هرتسوغ، ونداف نعمان، التي رفضت المنطق الدائري التعميمي لعلم الآثار التقليدي، وعرضت مقاربة أكثر نضجاً ونقداً. وفي العام 1999 ابتدأ سجال شرس إثر نشر هرتسوغ مقالة في هآرتس (صحيفة النخبة الفكرية في إسرائيل) (Herzog, 1999) . وتنتمي السجالات، حول المقاربة الجديدة في علم الآثار الكتابي، في جزء منها لمناقشة عمل المؤرخين الجدد، نظراً لما تنال أعمالهم من هيبة الروح والأساطير القومية، وتعريض الهوية الصهيونية والهوية اليهودية للخطر. وكان هرتسوغ قد لخص، في مقالته تلك، نتائج أعمال مدرسة تل أبيب وهاجم المقاربة التي شكلها الجيل السابق من علماء الآثار. وبحسب هرتسوغ، لا تثبت الأدلة الأثرية والكتابية قصص البطاركة والخروج، وغزو كنعان، ووجود المملكة المتحدة في عصر داود وسليمان، فضلاً عن أن التوحيد لم يظهر إلا في فترة الملكية الأخيرة فقط. كان التأريخ الكتابي أحد أركان بناء الهوية القومية للمجتمع اليهودي-الإسرائيلي، وبالتالي اعترف هرتسوغ أنه بوصفه ابن الشعب اليهودي وتلميذ للمدرسة الكتابية، يشعر بخيبة أمل و أسى على “شعبه”. وفي هذا السياق، كان لاعترافه هذا علاقة غير مباشرة بعمل المؤرخين الجدد، وهو يقدر بأن المجتمع الإسرائيلي مستعد للاعتراف بالظلم الذي وقع على الفلسطينيين، لكنه مازال لا يمتلك القوة الكافية لقبول الحقائق الأثرية التي تحطم أسطورة الكتاب. واستعرض هرتسوغ، وفقاً لنظرية توماس كون، الأحداث على أنها نقلة نوعية: فقد انهار النموذج القديم لعلم الآثار الكتابي بسبب تراكم الحالات الشاذة، وفي ظل هذه الأزمة، نهض النموذج الجديد لمدرسة تل أبيب. وتجدر الإشارة، عند هذه النقطة، إلى أنه مع نهاية القرن العشرين لم يحدث التغيير في مقاربة علم الآثار للكتاب فحسب، بل حتى في ممارسته أيضاً، فأضحى علم الآثار الكتابي، كما لاحظ فنكلشتين، “علماً كبيراً” بتأثير من العلوم الطبيعية (Finkelstein, 2006-2007: Lecture 1)، وحتى في العام 1970، عندما بدأ [فينكلشتين]دراسته، كان لا يزال علم الآثار غير مرتبط بالعلوم الطبيعية. ومنذ ذلك الحين تطورت الروابط والاتصالات بشكل كبير. فإذا كان يتم، في بداية القرن العشرين توقيع تقارير أعمال الحفر والتنقيب -على سبيل المثال- من قبل عالم آثار واحد، مثل روبرت ماكاليستر، فبات يتطلب الأمر، اليوم، التوقيع على مثل هذه التقارير (لبعثات فينكلشتين) عشرات الخبراء من مختلف المجالات، مثل الفيزياء والجيولوجيا وعلم المعادن و علم النبات و الحيوان الأحفوريين.
يطعن فينكلشتين، ومن خلفه مدرسة تل أبيب، بالتحقيب التقليدي لعلم الآثار الكتابي، ويستبدله بنظرية التحقيب المنخفض، فقام بخفض زمن مجاميع لقى القرن الحادي عشر ق.م إلى أوائل القرن العاشر ق.م، ومجاميع لقى القرن العاشر ق.م إلى أوائل القرن التاسع ق.م. ووفقاً لهذا الرأي، حصل الانتقال من أواخر العصر الحديدي الأول إلى أوائل العصر الحديدي الثاني IIA مع نهاية القرن العاشر ق.م، أي بعد عصر داود وسليمان، ما يعني بأن المملكة المتحدة العظيمة لم توجد في عصر داود، ولم تكن يهوذا سوى مملكة قبلية صغيرة غير محصنة، وأورشليم مجرد “قرية صغيرة”. ولم يكن هناك سوى 500 من الذكور البالغين تقريباً في يهوذا من القرن العاشر ق.م، والتي لم يكن يتجاوز عدد سكانها، بشكل عام، بضعة آلاف على أكثر تقدير (Finkelstein, 1996; Finkelstein, 2005; Finkelstein, 2006-2007; Finkelstein and Silberman, 2001: 142). في الوقت الذي لاتزال فيه مجموعة منافسة من علماء الآثار المحافظين ينتمي أبرزهم للجامعة العبرية في القدس، تنظر إلى الكتاب كمصدر تاريخي صادق عن أحداث الفترة الملكية، وتدافع عن نظرية التحقيب العالي. وتعتبر مدرسة القدس هذه، بالمقارنة مع مدرسة تل أبيب، أقرب بكثير إلى الجيل السابق من علماء الآثار الصهاينة. وتم نشر مجموعة من المقالات التي تعرض وجهات النظر المختلفة في هذه المناقشة في العام 2001 (Levine and Mazar (eds), 2001).
سوف يتم التركيز في هذا القسم، وفي الأقسام التالية، على الجوانب الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالسجال الدائر بين أنصار التحقيب المنخفض والتحقيب العالي. ويحاول عميحاي مزار، عالم الآثار البارز من الجامعة العبرية (والأستاذ الفخري فيها) وابن أخيه بنيامين مزار، الذي يعرف نفسه بأنه “محافظ معتدل”، التقليل من تأثير الجوانب الاجتماعية والسياسية على عمل زملائه من كلا المدرستين: “كل هؤلاء هم أساساً من العلمانيين الذين ينحدرون من أطر تعليمية مماثلة ويحملون آراء سياسية مماثلة ليست متطرفة. لن تجد أناس من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار، فهؤلاء يقعون في مكان ما في الوسط. لا أعتقد أن الاعتبارات السياسية ستكون حاسمة”. من ناحية أخرى، يزعم أهارون مئير من جامعة بار إيلان أن “إحدى المشاكل تكمن في الدوافع المتعلقة بالسياسة”، فهو يقول عن الباحثة الآثارية إيلات مزار، من مدرسة القدس المحافظة وابنة بنيامين مزار، “ستقول إن عملها ليس له دوافع سياسية، ولکن يمكنك أن تلحظ رؤيتها للعالم، ومن أین تجني أموالها [جزء منه من جمعیة “إلعاد” القومية المتطرفة]”.
تراجع مئير عن تصريحاته هذه، فيما بعد، وقال إن إيلات مزار لا تمتلك، على أية حال، أية أجندة سياسية (Shtull-Trauring, 2011). وفي الواقع، ينتمي معظم الآثاريين الإسرائيليين إلى التيار الصهيوني، غير أن هذا لا يعني أن عملهم لا يتأثر بالجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية. فالآثاريون الصهاينة المعاصرون أقل تشككاً بالكتاب [المقدس] بالمقارنة مع نظرائهم التنقيحيين الأوروبيين غير اليهود المؤيدين للفلسطينيين، ومن الفلسطينيين أنفسهم، ومن الإسرائيليين الذين ينتمون لتيار ما بعد الصهيونية. وعلاوة على ذلك، هناك ثمة اختلافات حتى بين مدرستي تل أبيب والقدس بخصوص بعض المسائل الاجتماعية والسياسية، كما يعترف مئير بمرارة -وعلى مضض-. فمن جهة هناك زئيف هيرتسوغ الذي تم اعتباره من ضمن المؤرخين الجدد، والأكثر تشككاً في الكتاب من الجيل السابق من الآثارين الصهاينة. وفي الجهة المقابلة تقف إيلات مزار، حيث يعكس عملها وجهة نظر قومية، وهي تحمل إرث الجيل السابق. ويمكن رؤية ترابط الآراء الاجتماعية والسياسية والافتراضات النظرية وتفسير الأدلة من خلال مقارنة وجهات النظر الصهيونية وما بعد الصهيونية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما يكتبه أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب شلومو ساند العلماني واليساري والمفكر ما بعد صهيوني، فقد أصبح كتابه المثير للجدل “اختراع الشعب اليهودي” The Invention of the Jewish People (2009) من أكثر الكتب مبيعاً في إسرائيل، وبعد نجاح كتابه الأول، نشر ساند تكملتين له: “اختراع أرض إسرائيل” (Sand, 2012) The Invention of the Land of Israel و”كيف لم أعد يهودياً”. (Sand, 2013) How and When I Stopped Being Jewish. وتعرض ساند لانتقادات شديدة من قبل ممثلي النخبة الصهيونية، من أمثال: أنيتا شابيرا وإسرائيل بارتال ويوآف جيلبر(Shapira, 2009; Karpel, 2012; Haaretz, 2012; Gelber, 2012). وكان يدور، في جزء من هذا النقاش، السؤال حول طبيعة حدود المجالات العلمية والتوتر بين التخصصات المختلفة .فيدّعي خصوم ساند أن ليس لديه سلطة للحكم على مثل هذه القضايا، لأنه متخصص في التاريخ الثقافي لفرنسا والعلاقة بين الفيلم والتاريخ. ومن المهم أن نلاحظ أنه لا يمكن التمييز بوضوح في هذه المناقشة بين الجوانب التالية:
(أ) الرؤية الصهيونية العالم أو الرؤية ما بعد الصهيونية لمختلف المنافسين.
(ب) مقاربتهم للتاريخ، ولظهور وتطور النزعة القومية بالنسبة للكتاب ولعلم الآثار الكتابي ومسألة ما إذا كان اليهود اليوم ينحدرون مباشرة من يهود الهيكل الثاني أو ما إذا كان الفلسطينيون، جزئياً، أحفادهم.
وشكلت جميع هذه الجوانب والقضايا جزءً حيوياً من السجال ذاته، ويهدف ساند، على سبيل المثال، إلى الكشف عن الكيفية التي قام بها “أتباع القومية اليهودية” بنقل الكتاب من الرف اللاهوتي إلى الجرف التاريخي و “بدأوا بقراءته كما لو كان شهادة صادقة عن الصيرورات والأحداث”(Sand, 2009: 127). فهل من المستغرب، إذن، أن يدعم ساند التنقيحيين الكتابيين، ويكون أكثر تشككاً في الروايات الكتابية من المفكرين الصهاينة، بما في ذلك أتباع مدرسة تل أبيب؟.
يعتقد ساند أن أعمال “رواد مدرسة تل أبيب” أمثال نعمان وفنكلشتين وهرتسوغ “تقدم استنتاجات ملفتة للانتباه”. ويصف جدالهم الذي يفسر عدم إمكانية تأليف الكتاب قبل نهاية القرن الثامن ق.م، بأنه جدال “مقنع إلى حد ما”، بيد أنه يرفض الموضوع الرئيسي، في أعمالهم، الذي يوضح تشكيل قصص الكتاب وتحريرها، وبدرجة كبيرة من خلال مصالح وآراء مملكة يهوذا في عصر الملك يوشيا (القرن 7 ق.م). ويرى بأن تفسيراتهم هذه تحكمها مفارقة تاريخية. فعلى الرغم من أن كتاب فنكلشتين وسيلبرمان: “التوراة مكشوفة على حقيقتها”The Bible Unearthed (2001) هو كتاب “غني ومحفز”، لكنه، كما يشير ساند، “يصور مجتمع قومي حديث إلى حد ما، يسعى ملكه، ملك يهوذا عن طريق اختراع التوراة، لتوحيد شعبه مع لاجئين مملكة إسرءيل المهزومة”. ويرى ساند أن فنكلشتين وسيلبرمان وزملائهما، يعكسان المجتمع الحديث والثقافة التقنية على مجتمع الفلاحين الأميين الذين عاشوا في القرن السابع ق.م، على الرغم من عدم احتواء مملكة يهوذا على نظام تعليمي، ولغة موحدة نموذجية ووسائل اتصال متقدمة. قد تكون التوراة، بالنسبة للأميين، “معبوداً (فيتشيا)، غير أنه لا يمكنها أن تكون راية إيديولوجية.. ناهيك عن أنه لم يعتمد الملك قديماً في حكمه على حسن نية الشعب أو الآراء السياسية للجماهير، بل على ضمان إجماع إيديولوجي فضفاض بين الطبقة الإدارية وشريحة ضيقة من الأرستقراطية العقارية” (Sand, 2009: 123-124). ويخلص ساند إلى أن شرح أصل التوحيد الأول في سياق البروباغاندة الواسعة التي تقوم بها مملكة هامشية صغيرة، تسعى إلى ضم الأرض إلى الشمال، لا تعدو أن تكون حجة تأريخية غير مقنعة .ومع ذلك، قد يكون هذا مؤشراً على مزاج مضاد للإلحاق في إسرائيل القرن الحادي والعشرين.
ومن النظريات الغريبة القول بأن الاحتياجات البيروقراطية والمركزية لحكومة أورشليم الصغيرة ولدت العبادة التوحيدية “يهوه وحده”، وذلك قبيل سقوطها، فضلاً عن تدوين عمل لاهوتي بأثر رجعي في شكل الأجزاء التاريخية من الكتاب [المقدس]. ومن المؤكد أن معاصري يوشيا، الذين قرأوا الروايات التي تصف قصور سليمان الضخمة، كانوا يتوقعون أن يشهدوا بقايا عظمة الماضي في شوارع مدينتهم، ولكن بما أن تلك القصور القديمة الشاسعة لم تكن موجودة قط، كما بين علم الآثار، فكيف يمكن وصفها قبل تدميرها الخيالي؟(Sand, 2009: 124). وهكذا، فمن المرجح، وفقاً لساند، أن السجلات الإدارية فقط ونقوش النصر المشبعة بالغرور التي كتبها مدونو البلاط، مثل شافان كاتب يوشيا، هي ما تم حفظها في أرشيف مملكة يهوذا ومملكة إسرءيل. ويقر ساند بأننا “لا نعرف، ولن نعرف قط ما تحتويه تلك السجلات”.
يفضّل ساند، ضمن مجال واسع من التفسير النظري، الوقوف إلى جانب التنقيحيين الكتابيين ، أو مدرسة “كوبنهاغن\ شيفيلد”، الذين تبدو نظريتهم أكثر إقناعاً على الرغم من أن المرء يجب ألا يقبل جميع الافتراضات والاستنتاجات من تفسيراتهم النظرية. ويجادل ساند بأن استخدام السجلات والنقوش في تأليف الكتاب حصل فقط بعد سقوط مملكة يهوذا، تحت تأثير الأمثال والأساطير والخرافات من الشرق الأدنى، فضلاً عن السبي والنفي من أرض يهوذا والعودة خلال القرن السادس ق.م. خلق التوحيد والكتاب نتيجة لقاء بين النخب الفكرية اليهوذية والدين الفارسي المجرد. وحرر غياب النظام الملكي الكتبة والكهنة، وسمح لهم ليس فقط بالإشادة، بل بانتقاد حتى داود مؤسس السلالة. (Sand, 2009: 124-128)
دفاع فنكلشتين وكبش فداء من شارع شينكين
اقتبس فنكلشتين, في محاضرة له في جامعة تل أبيب، ما كان يجول في خاطر الآثاري المسيحي “رولان دو فو” عن إيمانه بالعقيدة اليهودية-المسيحية. ويتساءل فنكلشتين، بأسلوب خطابي، ما إذا كان ملتزماً برأي “دوفو”. ليجيب بالنفي، على الفور، لا من حيث الهوية والإيمان ولا من حيث البحث (Finkelstein, 2006-2007: Lecture 1). ويبدي، بطريقة مماثلة، تعاطفاً مع الجيل السابق من علماء الآثار الصهاينة، غير أنه يحدد في الوقت عينه خطاً فاصلاً بينهم وبين الجيل الجديد: كانت هناك حاجة عميقة هنا لخلق وتقديم ثقافة وجذور، على الترتيب، لأناس من قوميات مختلفة كانوا قد أتوا من أماكن مختلفة كثيرة، وكان علم الآثار بمثابة الأداة القوية التي تفي بهذا الغرض. استقطب الجميع في هذا الجهد وفقاً لقناعة داخلية عميقة، وليس هناك ثمة أي خطأ في ذلك. رأى يادين بأن التاريخ يكرر نفسه: غزو الأرض آنذاك والآن، ومملكة داود وسليمان المجيدة آنذاك والآن، وهذه المرة تأخذ شكل ديمقراطية في الشرق الأوسط. في الحقيقة، يمارس الآثاريون لعبتهم المفضلة بين الماضي والحاضر، ولا يمكن انتقادهم جراء ذلك (Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011). وعندما سأله أحد الصحفيين عن حجم القلق الذي قد ينتابه من استغلال البعض، الذي ينكر الحجة الصهيونية، نظريته، كانت إجابته بتقديم رواية أكثر نضجاً ونقداً للصهيونية من أسلافه: إن النقاش حول حقنا في الأرض أمر يثير لدي الكثير من الأسى والسخرية، كما لو أن هناك لجنة دولية في جنيف تعاين تاريخ الشعوب، فيأتي شعبان يقفان أممها ليقول أحدهما: “لقد كنا هنا منذ القرن العاشر ق.م”، فيرد الشعب الآخر: “لا، إنهم يكذبون، إنهم هنا منذ القرن التاسع ق.م فقط”. فما العمل في هذه الحالة؟ كيف ستتصرف اللجنة؟ هل تطرد هذا الشعب؟ وتطلب من أفراده توضيب أغراضهم والرحيل؟، في جميع الأحوال، يعود تراثنا الثقافي إلى تلك الفترات، لذلك فالقصة كلها مجرد هراء، لقد كانت أورشليم موجودة وكان لها معبدها الذي يرمز إلى شوق اليهوذيين الذين عاشوا هنا، وبعد ذلك أصبح يرمز، في فترة عزرا ونحميا، إلى شوق اليهود. ألا يكفي هذا؟ أليس هذا كافيا؟. كم هو، أصلاً، عدد الشعوب التي تعود بتاريخها إلى القرن التاسع أو العاشر ق.م؟.. ولنقل أنه لم يكن ثمة خروج من مصر، ولا وجود لمملكة متحدة عظيمة، وأننا، في الواقع، لسنا سوى كنعانيين. هذا يعني أن لا خوف علينا ولا على حقوقنا، أليس كذلك؟(Finkelstein in Lori, 2005).
يؤكد فنكلشتين في كتبه ومحاضراته ومقابلاته، على الدوام، إيمانه الشديد بـ “الانفصال الكامل” بين الإيمان والتقاليد والبحوث الأثرية، بيد أنه لا يستبعد لاهوت الكتاب معتبراً إياه “لاهوتاً مثيراً” بطريقة لا توصف. ومن المهم، بالنسبة له، أن يتعرف جمهوره الإسرائيلي على مدى فخره بالتقاليد اليهودية وأنه لا يحاول تقويضها. لم يبن سكان يهوذا، الذين عاشوا في أواخر عهد الملكية، جداراً أو أنتجوا فخاراً يستحق وضعه في متحف، ولكنهم أنتجوا، عبر موجة استثنائية من الإبداع كما حصل في أثينا وفلورنسا، الوثيقة التأسيسية لليهودية والمسيحية. وبما أن الهوية تشكل تهديداً للموضوعية والبحوث تشكل تهديداً للهوية، فإن حلّ فينكلشتين يكمن في الإصرار على الفصل [بين الإيمان والتقاليد والبحوث الأثرية]، الأمر الذي من شأنه أن “يحرر التصعيد والتوتر” (Finkelstein, 2006-2007: Lecture 13).
يقدم فينكلشتين، وأقرانه المحافظين، أعمالهم على أنها أعمال “موضوعية” و”غير متحيزة”، ولكن النقاش بينه وبينهم، يظهر، بجلاء، طغيان الآراء الاجتماعية والسياسية والقيم الثقافية على هذا النقاش، وهذا يفسر عدم اختفاء البعد الاجتماعي السياسي لعلم الآثار الكتابي رغم كل ما يزعمه فنكلشتين، إذا يبدو استحالة فصل هوية الباحث عن مجال دراسته. وما انفك فنكلشتين ومنافسيه يواصلون إلقاء اللوم على بعضهم البعض بسبب تأثرهم بالآراء الاجتماعية والسياسية. فمن ناحية، يتهمه ويتلام، كما رأينا من قبل، بتضخيم موضوعة التوطن الإسرءيلي، في البحث عن الكيان القومي، أي “إسرءيل”، في حين يهمّش المناطق الكنعانية. ويهمش، في المقابل، الصهاينة المحافظون، عمل فنكلشتين ومدرسة تل أبيب ويتهمونه بالتآمر مع التنقيحيين. ويوضح فينكلشتين، على نحو متكرر، بعدم قيام أعماله بأي تهديد للصهيونية أو اليهودية، وهو يقدم نفسه للجمهور الإسرائيلي بطريقة خطابية باعتباره واحداً من أولئك الذين يتقاسمون ذات القيم والانشغالات. ويشرح فنكلشتين وسيلبرمان في المقدمة العبرية لكتاب “التوراة المكشوفة” (Finkelstein and Silberman, 2001) ، ضرورة فصل مطابقة القارئ اليهودي مع النص الكتابي عن الدراسة العلمية للنص: فالإيمان والتقاليد والبحوث موجودة بأبعاد متوازية. ووفقاً للمؤلفين، فقد نضج المجتمع الإسرائيلي، والقول بأن شرعية إسرائيل تعتمد على دقة التصورات الكتابية ليس سوى فكرة طفولية. فلا يهم ما إذا كان سليمان حكم مملكة كبيرة أو قرية صغيرة وعدد قليل من الأراضي في القرن العاشر ق.م، فليس هناك أدنى شك في أن مملكتي يهودا وإسرءيل وجدتا بالفعل في القرن التاسع ق.م. وعلاوة على ذلك، قد يتحول الاستخدام السياسي للتاريخ القديم إلى سيف ذو حدين، فالتأكيد على انحدار الإسرائيليين من نسل الكنعانيين قد يبدو بدعة، ولكن يعتقد فينكلشتين وسيلبرمان أن ذلك يسحب البساط من تحت بعض التأكيدات التي ترى بإمكانية العثور على جذور مجموعة أخرى في العالم الكنعاني. وتستهدف مثل هذه الخطوة البلاغية لفنكلشتين وسيلبرمان سجالات التنقيحيين في بعدها السياسي، مثل السردية الفلسطينية، وحجة “الإسكات” التي ينادي بها ويتلام. ويضيفان بأنه ينبغي على إسرائيل، بوصفها مجتمع ديمقراطي وليبرالي منفتح اجتماعياً، التعاطي مع ماضيها ودعم حرية البحث، التي تعد أهم بكثير من قصور القرن العاشر ق.م الرائعة. وقد ألفا كتابهما، كما يقولان، مع الشعور بالاحترام العميق لـ “الحقيقة” الكتابية، التي تتعامل مع واقع واحتياجات وصعوبات شعب يهوذا في نهاية الفترة الملكية وخلال الفترة الفارسية.
وأحد الموضوعات الرئيسية في نظرية فينكلشتين ترى بتشكل السرد الكتابي، بدرجة كبيرة، وفقاً إلى مجموعة من الدفوعات، أي الدفاع عن سلوك الملك داود أو الدفاع “التثنوي الثاني” الذي كان عليه تفسير دمار الهيكل الأول، ومملكة يهوذا والسبي البابلي(Finkelstein, 2006-2007; Finkelstein and Silberman, 2001). ويجد فنكلشتين، في بعض الأحيان، رابطاً بين (الآن ولاحقاً)، فيقول: “قال شعب يهوذا أن ملوك إسرءيل كانوا أوغاداً، ولكن بالنسبة للشعب هناك، ليس لدينا أي مشكلة معهم، هم جميعاً على حق” هم قالوا عن إسرءيل ما يقوله شخص أرثوذكسي متطرف أصولي عنك أو عني: “فلا تزال إسرءيل هي إسرءيل، رغم خطأها” (Finkelstein in Lori, 2005).. ومن المثر للسخرية أنه عندما يتحدث فنكلشتين عن دفاع الكتاب، يقوم بإنشاء دفاعه الخاص. لقد أتت عائلة والدته إلى فلسطين في العام 1860، وعائلة والده قبل تسعة عقود. ويوضح، في مقابلة مع صحيفة “هآرتس”، أنه لا ينتمي إلى أولئك المترفين العلمانيين العدميين الذين يعيشون في تل أبيب أو إلى اليسار ما بعد الصهيوني، مستخدماً، في توصيفه، ذات الاتهامات التي يسوقها الحاخامات الأرثوذكسيين والسياسيين من الأحزاب الدينية والسياسيين اليمينيين أو الصهاينة المتطرفين القدامى، ضد شارع شينكين الذي اصبح رمزاً لعلمانية تل أبيب، وضد ثقافته وناسه: ما الذي لم يقولوه عنا؟ إننا نهلستيين، ونبشر بالثقافة الغربية، ونقوض حق إسرائيل في الوجود. حتى أن أحدهم استخدم وصف “منكري الكتاب”.. أنا لست شينكاني نهلستي مشرك [أي لا يهودي].. فماذا يتوجب علي فعله؟ أغادر البلاد؟ وأين مفترض أذهب؟ إلى غرودنو*؟ لا أريد الذهاب إلى هناك.. ربما تتمتع بهدوء أكثر ومتعة لو كنت في بوسطن أو باريس، ولكن إن كنت تعيش هنا، فينبغي لك أن تكون، على الأقل، جزءً من التجربة التاريخية الجارية وتفهم قوتها. أما إذا كان هدفك من العيش هنا هو التمتع بحفلات ليلة الخميس الشاطئية، فمن الأفضل لك أن لا تكون هنا أصلاً، لأن هذا المكان خطير. وأي شخص يعتقد أن تل أبيب هي نوع من غوا [شاطىء في الهند] إنما هو شخص غابت عنه هذه الفكرة تماماً(3) (Finkelstein in Lori, 2005)
سبق لبن غوريون، الذي كان صهيونيا بيوريتانياً أن دعى في رسالة له تعود للعام 1955 تل أبيب وحيفا بـ “سدوم وعمورة المعاصرتين” (Sima, 2012). ويمكن لأي شخص ملم في الخطاب الإسرائيلي أن يلحظ أن الشيء الوحيد الذي نسي فنكلشتين قوله عن تضحيته ( كبش فدائه) من شارع شينكين هو أنهم يأكلون السوشي هناك. وعندما يستخدم اليهود المتطرفون، في العادة، مصطلح “غير اليهود” في هذا السياق، تكون الخطوة التالية اتهام خصمهم بالتحول إلى المسيحية. ويبدو فنكلشتين كأبعد ما يكون عن الأرثوذكسية، ولكنه كشخص قومي ملتزم بالتقاليد اليهودية، ويزعم أن عمله لا يقوض اليهودية أو الصهيونية، عليه أن يقدم رواية لآخرين حقيقيين ومتخيلين، ولعل أحد هؤلاء هو آدم زرطال، الأستاذ الفخري في جامعة حيفا الذي يمثل الجيل القديم من الآثارين الصهاينة. لقد كان زرطال هو من اعتبر فنكلشتين، وهرتسوغ ومدرستهما في عداد منكري الكتاب، وهو مصطلح له سمات تشبه دلالات “إنكار المحرقة” (Zertal, 1999; Zertal 2000). ويمكن العثور على رد غير مباشر من الشينكينايم في الكوميديا الشهيرة “هذه هي سدوم”، وهو عمل روائي من إخراج مولي سيغيف وآدم ساندرسون (2010). تم إعداده من قبل فريق “إريتس نهيدريت” ארץ נהדרת [البلد الرائع]، أحد أشهر البرامج التلفزيونية وأكثرها نجاحاً في إسرائيل في العقد الماضي. يعتبر عرض إريتس نهيدريت عرضاً ساخراً في قالب يماثل عرض “ساترداي نايت لايف Saturday Night Live ” وذو هوية اجتماعية سياسية واضحة، وينتمي مؤلفو العرض، كرجال أشكناز من تل أبيب، لجناح اليسار الوسط الليبرالي، العلماني، وكثيراً ما يتعارض عملهم مع مواقف السياسيين الدينيين واليمينيين. يعرف سيغيف، المؤلف ورئيس تحرير البرنامج، نفسه بأنه ناخب نموذجي لحزب العمل، على الرغم من أنه في انتخابات العام 2013 صوّت لصالح حزب ميريتس اليساري، الذي يقدم موقفاً أقوى حول حل الدولتين وتفكيك المستوطنات، فضلاً عن الفصل بين الدين والدولة، والتشريع الديني، والمؤسسة الأرثوذكسية. ويعبر سيغيف في مقابلات مع وسائل الإعلام (Halutz, 2013) عن الخوف من تدمير الرؤية الديمقراطية الليبرالية في إسرائيل على يد رؤية مقابلة من طبيعة قومية ثيوقراطية. يحمل عمل سيغيف وزملائه دلالات رمزية للصراع بين تل أبيب والتيار الإسرائيلي العلماني، من جهة، وبين التيار الصهيوني القومي واليهودية الدينية من جهة أخرى. فالرب، كما يظهر في العرض، هو البائع الماكر الذي يخدع أبراهام في نهاية المطاف، الزبون الانتهازي الساخر، لتوقيع عقد معه، يمثل أبراهام الأرثوذكسية اليهودية. الملك بيرا، الديكتاتور الشرير من سدوم، يجسّد عمدة تل أبيب ونظام الحكم بأكمله في إسرائيل. يرسل الرب إلى سدوم الملاكين رافائيل وميكائيل يرتديان زي ضباط شرطة ويقودان دراجات نارية. ومن المهم أن نلاحظ، في هذا السياق، أن الإسرائيليين والفلسطينيين كثيراً ما يصفون صلتهم ببعضهم البعض كأبناء عمومة، أي أحفاد الآباء البطاركة الكتابيين إسحق وإسماعيل. وعندما تلتقي، في سياق العرض، هاجر وابنها إسماعيل في الملائكة في الطريق إلى سدوم، تقدم شكوى ضد أبراهام الذي طردها وابنها إلى الصحراء. لقد تركت مع والصبي بلا شيء: “كيف سيكون مستقبل الطفل؟.. وفي ظل حالة اليأس هذه، سيقوم بعمل متطرف، وسوف يأخذ جمله، ويدخل إلى خيمة ويفجرها بمن فيها، يا رحمة الله! “يسأل اسماعيل المتفاجئ “ماذا ؟!”، تهمس هاجر “امض.. فقط تابع”. في المشهد الأخير من العرض، لا يتم تدمير سدوم، ويصبح لوط ملك المدينة-الدولة / عمدتها، وتنتقل اللقطة من مشهد بانورامي لسدوم القديمة إلى مشهد بانورامي لتل أبيب الحديثة، ويوضح التعليق: “ظلت سدوم مدينة مزدهرة. وانتقل سكانها لاحقاً إلى موقع أفضل”. ينضم بيرا لعائلة أبراهام بعد أن يهرب بالمال من سدوم متنكراً في شكل لوط، ويوضح التعليق أن “أبراهام وبيرا أسسا سلالة رائعة وعاشا جيراناً طيبين مع شعوب المنطقة”، بينما نرى في الخلفية أبراهام وبيرا يجلسان في الصحراء، في الوقت الذي تقوم فيه هاجر بتنظيف المكان تحت أقدامهما. استقلال سدوم الجديد مستثنى من الصراع العربي الإسرائيلي.
ثمة رد آخر غير مباشر من الشينكينايم يتصل بموضوع القسم التالي: الحفريات بالقرب من جبل الهيكل واتهامات فنكلشتين لهذه الأعمال التي تقوم بها مدرسة أورشليم، يعرف أعضاء فرقة غنائية إسرائيلية أنفسهم بأنهم شينكينايم(4) (تعرف الفرقة باسم Cain & Abel 90210) ولها أغنية بعنوان “نيفيلا هوفشيت (حفيروت) ” נפילה חופשית (הפירות): وتعني السقوط الحر (الحفريات) ،[بالإنكليزية This is a free fall [Nefila Hofshit]! Shit! Shit! Shit!…] وكلمة حر هنا قابلة للتلاعب حيث أن نطقها بطريقة خاطئة باللغة العبرية يحولها إلى كلمة “خرا”….تقول الأغنية
الحفريات في تل جمجمتي
الحفريات في تل جمجمتي
آلات جاهزة لتشتغل وتدمر
ليس وقتاً سيئاً لتشعر به
يوم القيامة…
واجه الكابوس
قاتل من أجل جبل الهيكل أو مت
لا تقلق بشأن زوجتك
لأن الموت واجب وأيضاً امتياز …
تحدث الذكريات الأثرية في وقتها
أين ستقودني الصور بترتيب زمني ؟
هذا هو السقوط الحر [نيفيلا هوفشيت]!
خر خر خر …
(Cain & Abel 90210, “Free Fall (Excavations)”, Album: “Cain & Able Bogus Journey”, 2010)
الحفريات في مدينة داود
تعد إيلات مزار، عالمة آثار من الجامعة العبرية في القدس ومركز شاليم، من أتباع النهج الصهيوني المتطرف الذي صاغه جدها بنيامين مزار والذي تقول عنه: “أحد الأشياء العديدة التي تعلمتها من جدي كان كيفية الارتباط بالنص الكتابي: قم بتدويره مراراً وتكراراً، لأنه يحتوي في داخله على وصف للواقع التاريخي الحقيقي” Mazar, 2006b: 20) ). تسترشد مزار بقراءة أصولية للكتاب، وساهمت هويتها اليهودية الصهيونية بتشكيل افتراضاتها النظرية وتوقعاتها والأهمية التي تعطيها لإيجاد المملكة العظمى لاثنين من الأبطال الأسطوريين القوميين والعالميين -داود وسليمان. وكانت قد قالت في الجلسة “القومية والأمن القومي في إسرائيل”، في مؤتمر هرتسليا السادس، أن عملها يكشف “أهمية الكتاب كمصدر تاريخي رائع يجسد ثروة من المرويات التاريخية الأصيلة”. وبالنسبة لها، ينحفر الكتاب وبقايا الأبنية في القدس “في جذور وجودنا ونرضع قوتنا القومية من كليهما”. وهي تعرّف عملها الأثري بأنه “حبل سري شخصي بيني وبين التاريخ القديم لشعب إسرءيل في أرض إسرائيل. يمكنك أن تسميها، إذا كنت ترغب، القوة القومية من الناحية الشخصية” (Mazar, 2006a). ترتبط الحفريات في المدينة القديمة في القدس، وموقع مدينة داود جنوب جبل الهيكل، ارتباطاً مباشراً بالسياسة القومية والدولية، وهي تقع في بؤرة وسائل الإعلام. فحتى مجرد اكتشاف بسيط يمكن أن يقدح زناد آلة البروباغاندة القومية. فعلى سبيل المثال، نشرت مزار في سبتمبر / أيلول 2013 أن حملتها في أوفيل [وادي حلوة؟]، وهو موقع يقع بين جبل الهيكل ومدينة داود، تكللت بالعثور على كنز ذهبي يعود للفترة البيزنطية المتأخرة (حوالي القرن السابع الميلادي). يتضمن الكنز ميدالية ذهبية مع صور للشمعدان [ מנורה] الرمز القومي لدولة إسرائيل، والبوق “شوفار שופר”، ولفائف التوراة، وأصبح مثل هذا الإعلان، على الفور، موضوعاً رئيسياً في الأخبار (Reinstein, 2013; Hasson, 2013b). وتلت التقارير الإخبارية عن الاكتشاف ردود الفعل المعتادة حول “الحق اليهودي” في الأرض و”الخيال” الفلسطيني. واستدعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، اليميني، الباحثة إيلات مزار وهنأها. كما نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذا الاكتشاف، كما هو الحال عادة في حالات الاكتشافات الأثرية التي تتعلق بالتاريخ اليهودي في إسرائيل. ووفقاً للتقارير الإخبارية، قال نتنياهو لمزار: هذا حدث هائل واكتشاف رائع على الصعيد القومي، ويشهد على الوجود اليهودي القديم وحرمة المكان، وهذا واضح تماماً مثل الشمس.. هذه شهادة تاريخية من أعلى درجة لربط الشعب اليهودي بأورشليم، بأرضهم وتراثهم. إنه أمر مؤثر وعاطفي جداً. هذا الاكتشاف هو جوهر تراثنا -شمعدان، وبوق، ولفائف التوراة. إن جوهر الشعب اليهودي لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً وإيجازاً من هذا (Netanyahu; Israel Ministry of Foreign Affairs, 2013).. وفي كانون الأول / ديسمبر 2013، أبلغ نتنياهو أعضاء من حزب الليكود حول اجتماعه مع وزير الخارجية الصيني قبل بضع ساعات: أخذته إلى مكتبي، وأظهرت له الختم هناك، من فترة الهيكل الثاني [ينبغي أن يكون فترة الهيكل الأول]، من وقت الملك حزقيا. منذ 2700 سنة مضت، قبل ما يقرب من 3000 سنة.. أظهرت له الختم الرسمي للملك حزقيا، وهو الختم الذي عثر عليه بجوار الجدار الغربي.. قلت له: “انظر، هناك اسم عليه هنا. إنه مكتوب بالعبرية، وهو اسم تعرفه -نتنياهو!” وقلت له: “هذا منذ ما يقرب من 3000 سنة، ولكن هل تعلم أن اسمي الأول يعود إلى نحو4000 سنة؟”. Netanyahu in Verter, 2013). ولكن ما لم يخبر نتانياهو الزائر الصيني بأن والده، وهو مؤرخ صهيوني يميني واسمه بن صهيون نتنياهو والذي ولد في وارسو باسم “بن زيون ميليكوسكي”، هو من اختار لقب نتنياهو.
في الواقع، تعد عبرنة الألقاب والأسماء عنصراً أساسياً في بناء الهوية القومية منذ بدايات الصهيونية. وقد أجرى نفتالي بينيت، وزير الاقتصاد وزعيم حزب البيت اليهودي الذي يمثل الجناح اليميني الديني والمستوطنين، مقابلة مع شبكة سي إن إن ( 17 تشرين الثاني\نوفمبر 2013)، وعندما سئل عن المستوطنات في الأراضي المحتلة، لوّح بعملة قديمة، وأخبر كريستيان أمانبور: “هذه العملة، التي تقول” الحرية لصهيون” باللغة العبرية، كان يستخدمها اليهود منذ 2000 سنة في دولة إسرائيل، التي تدعوها أنت أرضاً محتلة. لا يمكن للمرء أن يحتل منزله”(5). ولم يلبث بينيت نفسه بعد شهر من المقابلة من مهاجمة استخدام علم الآثار عندما وجده لا يتطابق مع أجندته السياسية الدينية بسبب تهديده لهويته: “في الأشهر الأخيرة، هناك حملة منظمة ومتسقة ومقررة لمحو الهوية اليهودية لدولة إسرائيل. وتتولى العديد من المنظمات، إلى جانب صحيفة هاآرتس قيادة هذه الحملة مرة [من خلال] مقالات [تزعم] عدم وجود أساس واقعي تاريخي/ أثري للعلاقة بين الشعب اليهودي وأرضه. ومرة [من خلال] الاعتداء على الطلاب الذين يزورون مواقع التراث اليهودي في إسرائيل. والآن [من خلال] حملة مركزة ضد الختان(6) (Naftali Bennett, Facebook, 26 December, 2013).
لا يختلف الوضع كثيراً على الجانب الفلسطيني، ففي مؤتمر عقد في كانون الثاني / يناير 2014، قال كبير المفوضين الفلسطينيين لجمهوره أمام نظيرته الإسرائيلية، الوزيرة تسيبي ليفني إنه سليل الكنعانيين الذين عاشوا في الأرض منذ آلاف السنين قبل أن يدمر يشوع وبني إسرءيل أريحا (Beck, 2014; Yaakov, 2014). وادعت وسائل الإعلام والمدونون المؤيدون لإسرائيل أن عريقات هو في الواقع شخص بدوي، من قبيلة الحويطات من شبه الجزيرة العربية(7). وقد ميزت السخرية بعض ردود الجناح اليساري لهذا النوع من الحجج. ويصف سيد قشوع في أحد أعمدته الساخرة، (الذي تعكس كتاباته التوتر بين هويته العربية الفلسطينية وجنسيته وهويته الإسرائيلية)، كيف ساعد ابنته في مشروع مدرسي عن الجذور. فبعد أن سألته ابنته عن معنى اسمها، قال سيد لزوجته: “علينا أن نذهب أعمق بكثير مع الجذور – 3000 سنة أعمق. فأنت تعرفيهم- يعودون إلى قصة المدفن الذي اشتراه الأب أبراهام في الخليل، أو أينما كان”. وقرر أن يخبر ابنته أن اسمها يعني “آلة موسيقية كانت محبوبة بشكل خاص من قبل الكنعانيين”، فسأله هل تُكتب بحرف الكاف أم القاف، فيصيح بها بـ “القاف”.. واحترمي حالك أحسن لك.. اللعنة! فنحن نتحدث عن أجدادك هنا”(Kashua, 2012). وكان زميل يهودي لقشوع، هو بيني زيفر، المؤلف والمحرر الأدبي لصحيفة “هآرتس”، قد رد بطريقة مماثلة على استغلال مزار ونتنياهو لاكتشاف الميدالية الذهبية. حيث يشكو زيفر من أن علم الآثار “المعبأ” أصبح هزلياً وكاريكاتيرياً بصورة مضحكة.. وتحول من علم نقي إلى علم يلوثه غبار الإيديولوجيا القومية الدينية”. كما يرى فيه “شكل من أشكال التعويض العلاجي للدول التي تعاني من مشكلة انخفاض تقدير الذات في الحاضر”، والتي يمكن مقارنتها بهوس الرومانيين في أيام تشاوشيسكو لإثبات أنهم من نسل الداسيين، أو هاجس الأتراك لإثبات أنهم أحفاد الحثيين. وأخيراً، يرى زيفر أن بوسع القادة الآخرين استخدام حجة نتنياهو ذاتها عندما نعثر على كنز عثماني أو بيزنطي أو عربي في القدس (Ziffer ، 2013).
وبالعودة إلى حفريات مزار, فهي تعتقد أن قصر الملك داود موجود في موقع مدينة داود استناداً إلى حفريات سابقة، وإلى ما ورد في سفر صموئيل الثاني ,الإصحاح الخامس: “7 وَأَخَذَ دَاوُدُ حِصْنَ صِهْيَوْنَ، هِيَ مَدِينَةُ دَاوُدَ.. 9 وَأَقَامَ دَاوُدُ فِي الْحِصْنِ وَسَمَّاهُ «مَدِينَةَ دَاوُدَ». وَبَنَى دَاوُدُ مُسْتَدِيرًا مِنَ الْقَلْعَةِ فَدَاخِلًا”. وتزعم مزار، أن قصر داود بني خارج أسوار أورشليم المحصنة بسبب عدم وجود مساحة داخل المدينة. وعندما هوجمت أورشليم كان داود قد نزل إلى الحصن اليبوسي القريب، أي قلعة صهيون، كما هو موضح في الكتاب. رفضت الجمعية الأثرية وجهات نظرها ولم تتمكن مزار من جمع الأموال اللازمة للحفريات في الموقع. وفي نهاية المطاف، أصبحت مزار عضواً بارزاً في مركز شاليم، وساعدها رئيس المركز دانيال بوليسار في جمع الأموال المطلوبة من رئيس مجلس إدارة المركز روجر هيرتوغ. وبدأت التنقيب بالتعاون مع “إلعاد” في العام 2005 برعاية أكاديمية من الجامعة العبرية في القدس (Mazar, 2007; Mazar, 2006b). وتمتلك إلعاد ومركز شاليم أجندة سياسية -دينية، وهما المنظمتان اللتان موّلتا ودعمتا عمل مزار. و”إلعاد” جمعیة دینیة متطرفة تشجع الاستيطان اليهودي في المنطقة (Rapoport, 2006).. ويعترف دورون سبيلمان، وهو مسؤول في “إلعاد”: “عندما نجمع المال من أجل الحفر، فما يلهمنا هو الكشف عن الكتاب المقدس، وهذا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسيادة في إسرائيل” (Draper, 2010). أما مركز شاليم فهو معهد بحثي يميني محافظ يتمتع بأجندة دينية متينة. وقال هيرتوغ، رئيس مجلس إدارة المركز، والذي قام بتمويل الحفريات شخصياً، لصحيفة نيويورك تايمز، أن الهدف هو إظهار “كيف يعكس الكتاب المقدس التاريخ اليهودي” (Erlanger, 2005). أو، كما أوضح تلك الأجندة بوليسار، رئيس المركز، إلى ناشيونال جيوغرافيك: ادعائنا بأن نكون أحد أكبر الأمم في العالم، أن نكون لاعباً حقيقياً في مجال الحضارة من الأفكار، أن يكون كتابنا [أم الكتب]، أي الكتاب المقدس. ماذا لو حذفنا داود ومملكته من الكتاب؟ ماذا يتبقى لنا؟ بالتأكيد لن يبقى إلا كتاب مختلف. ولا يعود السرد عملاً تاريخياً، بل عمل روائي. ومن ثم ستصبح بقية الكتاب المقدس مجرد بروباغاندة تسعى جاهدة لخلق شيء لم يكن. وإذا لم تتمكن من العثور على الأدلة على ذلك، فربما لم يكن هناك حدث ولهذا السبب فإن الرهانات مرتفعة جداً” (Draper, 2010). وكان مؤسسي ومدراء مركز شاليم، بوليسار ويورام حزوني ويوشع فينشتين، كطلاب شبان قد تأثروا بالحاخام مئير كاهانا وتحولوا إلى أصوليين. كان كاهانا زعيم الجناح اليميني المتطرف، ومنع حزبه “حركة كاخ” في العام 1988، من الترشح للكنيست بسبب عنصريته (في العام 1994 أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن كاخ منظمة إرهابية).
وعلى الرغم من نفوذه عليهم، يرفض مديري المركز أجندة كاهانا العنفية، وهم أقرب إلى رئيس الوزراء نتنياهو وحزب الليكود. وعمل حزوني لصالح نتنياهو. والجهات المانحة للمركز هي أيضاً الجهات المانحة لنتنياهو. وعمل موشيه يعلون، رئيس أركان الجيش السابق ووزير الدفاع الحالي، في مركز شاليم. وتم الاعتراف بالمركز كمؤسسة أكاديمية بمساعدة وزير التعليم السابق جدعون ساعر(Lanski and Berman, 2007; Nesher, 2013). وكشفت البعثة التنقيبية في مدينة داود عن هيكل حجري كبير حددته مزار على أنه قصر الملك داود. وعثر تحت البناء الكبير على هيكل حجري يتجه صعوداً على المنحدر الذي كشفته الحفريات السابقة (البناء الحجري المدرج هو أكبر بناء حجري يعود للعصر الحديدي في البلاد). وتعتقد مزار أن البناء الحجري يشكل دعامة للقصر. ووضعت حجارة القصر في مكب ترابي (كان الموقع عبارة عن منطقة مفتوحة، قبل بناء القصر).. ترجع مزار تاريخ معظم الفخار الموجود في المكب إلى العصر الحديدي الأول، أو إلى القرنين الثاني عشر والحادي عشر ق.م، وهي الفترة التي تسبق استيلاء داود على القدس من اليبوسيين. تم بناء الهيكل الحجري الكبير، وفقاً لمزار، في وقت لاحق. وتم اكتشاف مرحلة ثانية من البناء في غرفتين في القسم الشمالي من المبنى الحجري الكبير، وقد تكون هناك مرحلة ثالثة من البناء على الحافة الشمالية الشرقية من المبنى. ويعود الفخار المرتبط بهذه المراحل إلى العصر الحديدي الثاني IIA، أي القرنين العاشر والتاسع ق.م. وبالتالي يمكن تأريخ المرحلة الأولى من البناء إلى “بداية العصر الحديدي الثاني IIA، وربما إلى منتصف القرن العاشر ق.م، عندما يذكر الكتاب أن الملك داود حكم مملكة إسرائيل الموحدة”، كما تم العثور على فخار من العصر الحديدي الثانيIIB (القرون الثامن والسابع والسادس ق.م) في الزاوية الشمالية الشرقية من المبنى، مما يشير إلى أن المبنى ظل قيد الاستخدام حتى نهاية فترة الهيكل الأول. كما عثر المؤرخون، إضافة إلى ذلك، على ختم يهوخل ابن شلميا، ابن شوفي، وهو رجل ذكر في سفر إرميا(37: 3) كموظف في بلاط الملك صدقيا (597-586 ق.م) (Mazar, 2007; Mazar, 2006b). “3 وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا يَهُوخَلَ بْنَ شَلَمْيَا، وَصَفَنْيَا بْنَ مَعْسِيَّا الْكَاهِنَ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ قَائِلًا: «صَلِّ لأَجْلِنَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا»”.
تتعرض استنتاجات مزار إلى الهجوم المستمر لكونها استنتاجات من طبيعة سياسية. ويصف مراسل ناشيونال جيوغرافيك روبرت درابر، الذي أجرى مقابلة مع مزار وفنكلشتين وزملاؤه الآخرون من المدارس المتنافسة، حادثاً حين لمحت مزار مرشداً سياحياً، وهو طالب سابق لها، يقود سياحاً في الموقع ويشرح لهم كيف لم تعثر مزار على قصر الملك داود، وأن الحفريات في مدينة داود هي جزء من أجندة يمينية لتعزيز المستوطنات وتهجير الفلسطينيين. فواجهته مزار، وقد اعتراها الغضب والاضطراب. ولاحظ درابر بعد هذا الحادث أنه “لا يوجد مكان آخر في العالم يكون فيه علم الآثار أشبه برياضة الاتصال أكثر من هذا المكان” (Draper, 2010).. وعندما أعلنت مزار أنها وجدت قصر الملك داود في موقع مدينة داود، علًق فنكلشتين على ذلك بوصفه “انفجار مسياني”.. “يحدث أن يجدوا ، كل بضع سنوات، شيئاً في القدس يبدو لهم أنه يؤكد وصف الكتاب لحجم المملكة في عصر داود. ثم بعد فترة من الوقت، يتضح أنه لا يوجد أي مضمون حقيقي للنتائج، فتنحسر الإثارة، بانتظار اندلاعها التالي” (Finkelstein in Shapira, 2005). يصور فنكلشتين التحيز النظري لمدرسة القدس بشكل عام، ومزار بشكل خاص نحو الموقف المتطرف على أنه “تفجر مسياني”، مع غمزة للذهان الديني المعروف باسم متلازمة القدس. ويتصل هذا الاتهام مباشرة، في حالة مزار، بالخطاب السياسي الإسرائيلي وبأجندة المنظمات اليمينية الدينية التي دعمت عملها أي مركز شاليم و “إلعاد”.
ويبدو، على كل حال، من الناحية العملية، أن النقد السياسي الذي يكيله فنكلشتين للبحث في موقع مدينة داود، معتدل نسبياً (Finkelstein, 2011). ويأتي نقده من موقع التيار السياسي الوسط في إسرائيل اليوم. فأولاً، يزعم بأن اتهامات الفلسطينيين بشأن مدينة داود تقبل في بعض الأحيان من قبل وسائل الإعلام الدولية دون تدقيق، فموقع مدينة داود ليس جزءً من قرية سلوان الفلسطينية ولا يتم حفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى. وعلاوة على ذلك، يتم العمل الميداني في مدينة داود وفقاً للقانون ولمعايير التقنيات الآثارية الحديثة تحت إشراف سلطة الآثار الإسرائيلية. ويشكو فنكلشتين من أن المباني الشرقية في قرية سلوان أنشأت بالأساس على مقابر يهوذية صخرية فريدة تعود للقرنين الثامن والسابع ق.م. ويضيف أن القبور تغمرها مياه الصرف الصحي وتملؤها نفايات سلوان، على الرغم من أنه يختار عدم الإشارة إلى حالة القرى والأحياء الفلسطينية في شرق أورشليم/ القدس. ويتناول، كعنوان لوعوده الافتتاحية، قضايا “تتجاوز السياسة”. ويؤكد، مثل مزار والعديد الآخرين، أن أكبر دمار لحق بالتراث الأثري في جبل الهيكل/ الحرم الشريف يعود إلى مشروع هيئة الأوقاف الإسلامية التي فامت بأعمال إنشائية تحت الأرض. لكنه يبدو غير مقتنع بإدارة موقع مدينة داود ومركز الزوار للموقع من قبل “منظمة غير حكومية ذات توجهات سياسية يمينية”. ويحث منظمات الدولة، مثل سلطة الآثار الإسرائيلية وسلطة الحدائق الوطنية الإسرائيلية، على إيجاد طريقة للإشراف على إدارة الموقع (Finkelstein, 2011).
وكما سأبين أدناه، من الأهمية بمكان لفنكلشتين، شخصياً ومعرفياً، أن يكون في معسكر الوسط، بل وأن تعكس وجهات نظره الموقف السياسي لهذا التيار في إسرائيل. وهكذا تقع إيلات مزار وجمعية “إلعاد” على يمينه، وشلومو ساند وجمعية “عمق شبيه” على يساره. وخلافاً لما ذكره فنكلشتين، فإن تقارير جمعية الجناح اليساري “عمق شبيه” تحدد الهدف من الحفريات في القدس الشرقية/ القدس “كوسيلة للسيطرة على قرية سلوان والقدس القديمة”. كما تدعي الجمعية أن بعض الأنشطة الأثرية في المنطقة تخضع لإشراف “إلعاد” ولا تفي بالمعايير العلمية، لاسيما مشروع غربلة الحطام المستخرج من جبل الهيكل أثناء أعمال بناء الأوقاف الإسلامية (Emek Shaveh Association, 2013; 2012).
يهدف عمل إيلات مزار بأكمله إلى حماية السردية الكتابية من التنقيحيين الكتابيين، وكذلك من النظرية الأكثر اعتدالاً التي تتبنى التحقيب المنخفض (وهذا بالطبع لا يعني أن عملها غير مهني، تماماً مثل عمل أولبرايت أو عمل علماء الآثار الآخرين من الأجيال السابقة). وقد كانت ردة فعل زملائها من تل أبيب، الذين طوروا نظرية التحقيب المنخفض متوقعة، فكتب فنكلشتين إلى هرتسوغ وآخرين: “الأهمية الظاهرة لهذا الاكتشاف وهيجان وسائل الإعلام التي رافقت التنقيب تتطلب مناقشة فورية” (Finkelstein et al., 2007). رفضت مدرسة تل أبيب تأويل مزار للقى التي عثر عليها في مدينة داود كما رفضت استنتاجاتها. ويستند تأويلهم البديل على ثلاثة تأكيدات:
(1) الجدران التي اكتشفها مزار لا تنتمي إلى المبنى ذاته.
(2) قد تظهر دراسة مفصّلة أكثر للجدران اشتراكها مع العناصر التي كشفت في عشرينيات القرن الماضي، ويمكن أن تؤرخ للفترة الهلنستية.
(3) هناك، على الأقل، مرحلتين لبناء الهيكل الحجري الذي يدعم المنحدر: الجزء السفلي منه ويهود إلى فترة سابقة، ربما ترجع إلى العصر الحديدي الثاني IIA في القرن التاسع ق.م، في حين أن الجزء العلوي منه المتصل بأعلى نقطة من منحدر الجدار الأول الحشموني يمكن أن يؤرخ إلى الفترة الهلنستية.
مجمل تفسيرات اللقى التي عثر عليها فنكلشتين وزملائه في مدينة داود تهدف إلى حماية نظرية التحقيب المنخفض، التي ترجع أحدث اللقى الفخارية التي عثر عليها في المكب إلى القرن العاشر\ التاسع ق.م. وعلاوة على ذلك، لا يمكن استخدام فخار العصر الحديدي الثاني IIA الذي عثر عليه في الهيكل الحجري الكبير لتأريخ الجدران المحيطة، لعدم العثور على أرضية في المكان. حتى مزار نفسها تشك فيما إذا كان الفخار وجد في الموقع. وأشار فنكلشتين وآخرون (2007) إلى عدم وجود علاقة فعلية بين الهيكل الحجري الكبير والهيكل الحجمي المسطح، وتساءلوا عن إمكانية وجود مثل هذا الارتباط، حيث يبدو أن الجزء الأعلى من الهيكل الصخري هو ترميم يعود للفترة الهلنستية. وحاول فنكلشتين وآخرون ،عموماً، إظهار أن بعض أو جميع أجزاء الهيكل الحجري الكبير بنيت بعد العصر الحديدي الثانيIIA، وحددوا أن الجدران بنيت قبل العصر الهيرودي الروماني، استناداً للقى الفخارية التي عثر عليها مؤخراً في المكب ( العصرين الحديدي المتأخر الأول/ والحديدي المبكر IIA). ومع ذلك، فهم يؤكدون على عدم إمكانية تحديد فترة جدران الهيكل بدقة بسبب فقدان الأرضيات، والبناء خلال فترات الرومانية والبيزنطية، والنشاط في الموقع خلال الحفريات الأثرية السابقة.
مملكة إسرءيل الشمالية مقابل مملكة يهوذا
من الأمور المثيرة للسخرية أن الجدل بين مدرسة تل أبيب (المدينة التي تمثل مدينة إسرائيلية علمانية) ومدرسة القدس (والتي تمثل مدينة يهودية محافظة) يستعاد في شكل جديد من التنافس والصراع بين المملكتين القديمتين: مملكة إسرءيل الشمالية ومملكة يهوذا، وتبدي، بشكل عام، كلية العلوم الإنسانية في الجامعة العبرية في القدس تحفظا أكثر بكثير مما تبديه كلية العلوم الإنسانية في جامعة تل أبيب. فالاتجاهات الفكرية للتاريخ الجديد، وما بعد الحداثة وما بعد الصهيونية هي أكثر شيوعاً في تل أبيب منها في القدس. وليس من قبيل الصدفة تطور التيار الجديد في علم الآثار الكتابي في قسم الآثار الكتابية في جامعة تل أبيب، في حين يهمين تيار أكثر تحفظاً على قسم الآثار الكتابي في الجامعة العبرية.
هذا على مستوى العالم المعاصر الحالي، أم بالنسبة للعالم القديم، فقد كانت اليد العليا في كتابة “التاريخ” لمملكة يهوذا التي تعرضت للدمار بعد مملكة إسرءيل. واليوم ثمة هناك كفاح متجدد حول إعادة كتابة التاريخ. يتم استعادة النضال الكتابي على أرضية جديدة من الأبحاث تستند إلى تقنية الكربون 14. ويتحدث فنكلشتين باسم مملكة إسرءيل المنسية: “هنا تكمن المعضلة: كيف يمكن للمرء أن يقلل من مكانة “الرجل الطيب “والسماح بسيادة “الرجل الشرير”؟ (Finkelstein, 2005: 39; Finkelstein, 2013). ويحاول يوسف غارفينكل من جهة أخرى حماية “إنجازات مملكة يهوذا” (Garfinkel, 2012-2013). وانصب النقاش، على مدى السنوات القليلة الماضية، على خربة قيافا، وهو موقع يطل على وادي إيله، على بعد 30 كلم جنوب غرب القدس.
كشفت حفريات الموقع عن مدينة صغيرة محصنة تعود للعصر الحديدي المبكر. وكانت البعثة التي عملت في قيافا بين عامي 2007 و 2013 بإدارة يوسف غارفينكل من الجامعة العبرية في القدس وساعر غانور من هيئة الآثار الإسرائيلية. ويعتقد غارفينكل أن موقع قيافا كان واحداً من ثلاثة مراكز لمملكة داود وسليمان، بالإضافة إلى أورشليم وحبرون. فهل كانت المملكة المتحدة موجودة؟
يرى غارفينكل أن المسألة ستقرر من خلال مواقع في شمال إسرائيل. يرفض غارفينكل تحقيب فنكلشتين المنخفض في يهوذا من خلال التعرف على قيافا كمدينة يهوذية ويتساءل عن تحليل فنكلشتين الذي خفض تاريخ الاكتشافات في المواقع الشمالية من زمن داود وسليمان إلى نهاية القرن العاشر ق.م -بداية القرن التاسع ق.م، أي صعود مملكة إسرءيل الشمالية والأسرة العُمْرية. (Garfinkel and Ganor, 2008a; Garfinkel, 2011; Garfinkel, 2012-2013) وقدم اقتراحات أخرى بشأن هوية قيافا. وكان نعمان قد اقترح اعتبار قيافا موقع فلستي (2008)، ثم اقترح في فترة لاحقة اعتباره موقع كنعاني (2012) .كما اقترح فنكلشتين وفنتلكين (2012)، وكذلك ليفين (2012) اعتبار قيافا موقعاً إسرءيلياً. وعلى الرغم من الاختلافات بين الباحثين الكتابيين في كوبنهاغن وشفيلد وعلماء الآثار في تل أبيب، يضع غارفينكل جميع منافسيه في سلة واحدة ويحددهم كمطورين للاستراتيجيات التنقيحية. فهم اقترحوا في البداية النموذج “الأسطوري” وشككوا في وجود داود. ومع ذلك انهار هذا النموذج، حسب غارفينكل، بعد اكتشاف تل دان في الأعوام 1993-1994، حيث أن النقش يذكر “بيت داود” فقط بعد زمن لا يتعدى 100-120 سنة من عصره. يرفض غارفينكل التفسيرات الأخرى للنص التي يعرفها بأنها “صدمة انهيار النموذج”، فضلا عن الادعاء بأن وجود سلالة داودية لا يثبت وجود داود. فبعد انهيار النموذج الأول، “وضعت استراتيجية جديدة من قبل التنقيحيين “، ونموذج “التحقيب المنخفض” الذي كان، كما يقول غارفينكل، غير مؤكداً لتأريخ موقع خربة قيافا. وبدلاً من التخلي عنه، اعتمد التنقيحيون استراتيجية أخرى: النموذج “الإثنوغرافي”. ووفقاً لهذه الاستراتيجية، لم يكن سكان قيافا يهوذيين، بل فلستيين أو كنعانيين أو إسرءيليين من مملكة شاول (Garfinkel, 2011; Garfinkel, 2012-2013).
وهكذا تتضح الجوانب السياسية والثقافية والدينية في علم الآثار الكتابي. وكان غارفينكل قد وضح هذه الأمور في إحدى محاضراته بقوله: ماذا يهم إذا ما كانت قيافا فلستية أم لا؟ الحق؟ طيب، لتكن إذن فلستية. فهذا لن يؤثر علينا. لنفترض أنه كان [في] قيافا سكان كنعانيين؛ فهذا لن يؤثر علينا أيضاً. صح؟ ثم ماذا يعني كل هذا؟ حتى لو كان أن دمرت مملكة إسرءيل الشمالية؛ فلن يؤثر علينا أيضاً لاستمرارية يهوذا برفقة الكتاب والتوحيد، وستبقى مستمرة مع كل هذه الأمور، في الواقع حتى يومنا هذا. ولذلك، هنا تكمن القضية التي تتعرض دائماً للهجوم، والتي هي في الواقع القضية الأكثر أهمية والأكثر مساهمة لأرض إسرائيل في تاريخ العالم وثقافته. فلماذا ينبغي، إذن، لأي شخص أن يهتم بالكنعانيين [أو] الفلستيين؟ كل هذه الأمور قد مرت بالفعل. حقاً هذا أمر ممتع ومثير للعجب. لاحظ، بعد ذلك، أنه ليس من قبيل الحوادث أن النزاعات تركز على مملكة يهوذا لأنها في الواقع أهم شيء حدث في هذا المكان على مر التاريخ البشري (Garfinkel, 2012-2013: Lecture 11).
ويبدو، من الناحية النظرية البلاغية، إن كل جانب من جوانب هذه المناقشة يعرض عمله الخاص بوصفه عملاً علمياً سليماً، في حين يدعي أن الجانب الآخر منحازاً بعوامل ومصالح غير علمية، ومدفوعاً باعتبارات إيديولوجية غير سليمة. فأعضاء مدرسة تل أبيب يصورون أعضاء مدرسة القدس على أنهم متطرفون-أصوليون، في حين أن أعضاء مدرسة القدس يصورون أعضاء مدرسة تل أبيب كتنقيحيين هدامين. يحدد إسرائيل فنكلشتين، عالم الآثار من مدرسة تل أبيب، عمل مجموعته “وجهة نظر من الوسط”-“نظرة متوازنة” في هذه القضايا. من المهم جداً أن يكون فنكلشتين، على الصعيد الشخصي والمعرفي، أن يكون فنكلشتين جزءً من التيار الرئيسي: “الجميع يريد أن يكون في الوسط. كيف تعرف أنك حقاً في الوسط؟ سوف تكتشف موقعك الوسطي هذا عندما تركل من كلا الجانبين.. عليك، عندها، أن تكون راضياً. فهو مكان جيد، أي عندما تركل من كلا الجانبين”(Finkelstein, 2006-2007: Lectures 1& 13).
الافتراض الضمني لفنكلشتين هو عدم تحيز الوسط حيث يبقى دائماً كما هو. ومن الناحية السياسية، يميل التيار العام والخطاب المهيمن إلى أن يكونا شفافين. ومن أجل كشف انحيازهما السياسي يجب مواجهتهما ببدائل محلية وأجنبية. يضع فنكلشتين نفسه بين النزعة التنقيحية التي تتجاوز ذروتها وبين التطرف الصهيوني الذي يرفض أتباعه الاعتراف بأن البيانات الأثرية لا تتزامن مع الوصف الكتابي لفترة الهيكل الأول. ومنافسيه الرئيسيين هما يوسف غارفينكل وإيلات مزار من مدرسة القدس، وكان فنكلشتين قد كتب بخصوص تفسير غارفينكل لمكتشفات خربة قيافا: “هذا الموقف غير النقدي للنص الذي يراد له أن يعبر عن القرن الحادي والعشرين، ليس سوى بقايا نهج سبينوزا لمقاربة الكتاب المقدس العبري” (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 48). كما اعتبر أن استنتاجات إيلات مزار من عملها في مدينة داود “نستند إلى قراءات حرفية مبسطة للنص الكتابي، ولا تدعمها الحقائق الأثرية” (Finkelstein, 2011) . ولاتزال مزار، كما أوضحت أعلاه، تواصل تقليد الجيل السابق من الآثاريين الصهاينة، ويتهمها فنكلشتين وزملاؤه بتجاهل الأدلة الكاملة كافة، والدراسات الآثارية والكتابية: “إن النص الكتابي، وليس علم الآثار، هو المهيمن على هذه العملية الميدانية”. فتحليلها للقرن العاشر ق.م، على سبيل المثال، يستند حتى على سفر أخبار الأيام الذي يعود تأليفه لحوالي القرن الرابع ق.م. وبالمثل، يشكون من تجاهل مزار لنحو “ثلاثين عاماً من البحث في سفر التكوين والروايات البطريركية”، بينما تفسر “سفر التكوين على أنه يعكس وقائع العصر البرونزي الأوسط”. وفيما يتعلق بعمل مزار في أوفيل، المنطقة الواقعة بين جبل الهيكل ومدينة داود، يشكو فنكلشتين ورفاقه من إصرارها، دون وجود بيانات مؤكدة، على أنه الجدار السليماني الذي وصفته النصوص الكتابية، على الرغم من اعترافها بأن الجدار المكتشفة في هذه المنطقة كان قيد الاستخدام خلال القرنين الثامن والسابع ق.م (Finkelstein et al., 2007: 160-162). كما تلعب السلطة والنفوذ والسياسات الأكاديمية والميزانيات دوراً في الصراع بين مدرستي تل أبيب والقدس.
وتتجسد هذه الجوانب في حادث يعود للعام 2011 حين قدمت مجموعتان من علماء الآثار، واحدة بإدارة يوفال غورين وعوديد ليبشيتس من جامعة تل أبيب والأخرى بإدارة غارفينكل وزميله الأمريكي مايكل هاسل، طلبات إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، للقيام بحفريات في تل سوكوه، بالقرب من خربة قيافا في وادي إيله. وقام غورين وليبشيتس، مثلهما مثل غارفينكل، بحفريات في وادي إيله، لكنهما لم يقبلا مقولته حول يهوذية قيافا. ووفقاً لهما تنتمي قيافا إلى كيان كنعاني صغير. وتم منح كلا الفريقين تصريحاً لإجراء المسوح الآثارية. ولكن في رسالة ليبشيتس التي أرسلها إلى سلطة الآثار اتهم فيها غارفينكل بالحفر في الموقع دون تصريح. ونفى غارفينكل هذه الاتهامات وادعى أن ليبشيتس غير قادر على التمييز بين السرقات الأثرية والحفريات البدئية، رفض جدعون أفني من هيئة الآثار شكوى ليبشيتس، ورداً على ذلك، اشتكى ليبشيتس من أن العلاقات بين الجامعة العبرية في القدس وهيئة الآثار غير منتظمة وغير واضحة: ويعمل أفني مدرساً مع غارفينكل في الجامعة العبرية وغانور الذي يعمل مع غارفينكل في قيافا هو رئيس الوحدة في هيئة الآثار للوقاية من السرقات الآثار (غانور هو أيضاً طالب سابق لغارفينكل). ورداً على ذلك ادعى غارفينكل أنه منذ أن هدم نظريات التنقيحيين لمدرسة تل أبيب من خلال إيجاد مدينة محصنة في قيافا يحاول أتباع تلك المدرسة مضايقته و”بدلاً من إجراء نقاش علمي تراهم يستخدمون الحيل القذرة”. وكان غارفينكل قد وصف فنكلشتين بأنه دكتاتور وادعى أنه وراء هذا الاضطهاد: “تحاول مدرسة تل أبيب إعاقتنا. لا أعتقد أن لديهم الحرية العلمية هناك. فنكلشتين هو من يوجههم. من أين ليوفال غورين ميزانية التنقيب إن لم تكن من ميزانيات فنكلشتين”؟. كما نرى اتهامات مماثلة أطلقها غابرييل باركاي، وهو عضو آخر في مجموعة من علماء الآثار المحافظين، حين قال أن ” الجماعية المفاهيمية” فرضها فينكلشتين، على القسم في تل أبيب، الأمر الذي أدى إلى مغادرة باركاي لجامعة تل أبيب في العام 1997. وكان جواب فنكلشتين على ذلك بأنه لا علاقة له بالمناقشة بين غارفينكل ومجموعة غورين وليبشيتس، وأن ميزانياته البحثية تستخدم فقط لعمله الخاص (Hasson, 2011; Shtull-Trauring, 2011). ومع ذلك، وظّف غارفينكل منحة البحث التي حصل عليها فينكلشتين والتي تبلغ قيمتها أربعة ملايين دولار، في المعركة الخطابية حين قال: “حتى أنه لا يستخدم العلم، وهنا تكمن السخرية، إنها أشبه بمنح صدام حسين جائزة نوبل للسلام “(Garfinkel cited in Draper, 2010). واثل غارفينكل، في نهاية المطاف، العمل في قيافا ومنحت مجموعة غورين التصريح لإجراء الحفريات في تل سوكوه [شويكة].
الصبي الهولندي الذي وضع إصبعه حيث نُقب السد
ثمة، هناك حروب عالمية على قيافا، هذا ما يقوله غارفينكل لطلابه. في حين يقارن نفسه بذلك الصبي الصغير الذي وضع إصبعه في مكان تسرب مياه السد لمنع الفيضانات (Garfinkel, 2012-2013: Lecture 1). ويحدد غارفينكل جماعة التنقيحيين الكتابيين كمنتج ثانوي لما بعد الحداثة والنزعة التفكيكية. ووفقاً له، بدأت المشاكل عندما صاغ مفكرون مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا فكرة أنه لا توجد حقائق مطلقة، بل هناك ثمة نظريات مختلفة يمكن أن توجد في ذات الوقت وبالتالي، لا يوجد علم طبيعي في العلوم الإنسانية اليوم، كما أن الهدف، اليوم، تغير من عملية بحث إلى تفكيك المفاهيم القديمة. فالجميع يريد خلق نموذج جديد. ويلوم غارفينكل توماس كون على ذلك. ويلاحظ، فوق كل هذا، أنه وبسبب انفجار المعرفة والضغوط الأكاديمية، يحتاج كل شخص يحتاج إلى الابتكار ونشر ما بين اثنين إلى أربع مقالات كل عام. من ناحية أخرى، يقول لطلاب كلية الرياضيات والعلوم الطبيعية، الأمر ليس كذلك على الإطلاق في العلوم الطبيعية: 1+1 = 2 دائماً. على الرغم من أنه سمع من فيلسوف رياضي أنه ليس كذلك دائماً، وهذا ما شجعه على المضي قدماً؟. أسطورة العلوم الطبيعية تتصدع قليلاً . (Garfinkel, 2012-2013: Lecture 1) وبما أن غارفينكل يعرّف فنكلشتين على أنه تنقيحي، فهو يستخدم ضده الاتهامات ذاتها: المشكلة مع فنكلشتين هي عدم اتفاقه قط مع ما يقوله أي شخص آخر غيره. فهو ما يجب أن يكون الأصلي على الدوام، وهو ما ينبغي أن يكون له، على الدوام، نموذجاً مختلفاً [ويتابع غارفينكل القول ضاحكاً] لو قلت أن معطفك رمادي، سوف يقول لك بل هو بني غامق، وبذات الطريقة لو قلت هذه مدينة فلستية، فسوف يقول لا.. بل يهوذية (Garfinkel in Shtull-Trauring, 2011).
بيد أن إسرائيل فنكلشتين ليس تنقيحياً صرفاً، كما أنه، بالتأكيد ليس مفكراً تفكيكياً\ ما بعد حداثياً، ولكن عندما يصوره غارفينكل كعدمي راديكالي، فإنه يضع نفسه في مركز متوازن غير متحيز. ورداً على الاقتباس المذكور أعلاه، يدعي فنكلشتين أن غارفينكل يعبر عن “موقف ارتيابي مرضي”، وكما هو الحال دائماً يحاول تصوير غارفينكل باعتباره متطرف أصولي: “لا يوجد ثمة فرق بين غارفينكل ويادين وأولبرايت. كل ما في الأمر أن الأمور [مع غارفينكل] ازدادت سوءً “(Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011). وفي محاولة منه للتمايز يتسرع غارفينكل في إلقاء اللوم على الجميع، ليظهر نفسه أصيلاً وفريداً، عبر تفكيك النماذج القديمة والمهيمنة وابتكار نماذج جديدة. ولكن هذا هو بالضبط ما يفعله غارفينكل نفسه(8). ويحاول من خلال عمله في قيافا تفكيك ما يسميه نماذج النزعة التنقيحية، ولا سيما النموذج الحالي لتصنيف التحقيب الزمني الذي وضعه فنكلشتين وزملاؤه. فإن لم يقم بذلك من أجل الموقف المتطرف القديم الذي لم يعد صالحاً(9)، فإنه يفعل ذلك من أجل تعزيز نموذج جديد يقدم موقفاً متطرفاً بنسخة معدّلة ناعمة.
استخدم غارفينكل وغانور، في استعراضهما لخربة قيافا صورة فوتوغرافية لمقبرة قديمة أتبعاها بعنوان :”بات التحقيب المنخفض ميتاً الآن، وتم دفنه” (Garfinkel and Ganor, 2008b) وأكد غارفينكل، ما يشبه ذلك، في مقال بعنوان “ولادة وموت التنقيحية الكتابية” أن “فنكلشتين ليس فقط الأب المؤسس لعلم التحقيب المنخفض، بل أيضا وكيله ومتعهده” (Garfinkel, 2011: 50). ويربط فينكلشتين وفنتليكن في مقالهما عن قيافا “اللغة المروعة” لغارفينكل بدوافع أخروية. يمكن للمرء أن يقول أن هذه المقالة هي محاولة لحل البيانات الشاذة عن قيافا في إطار العلوم الطبيعية. وفي الواقع، هما يسعيان للتوضيح بأن شذوذ واحد لا يمكنه أن يهدم النموذج القائم: لا يمكننا إغلاق هذه المادة دون التعليق على الطريقة المثيرة التي تم فيها تقديم لقى خربة قيافا لكل من المجتمع العلمي والجمهور. فالفكرة التي ترى بأنه يمكن لاكتشاف واحد مذهل أن يعكس مسار البحث الحديث وإنقاذ القراءة الحرفية للنص الكتابي، فيما يتعلق بتاريخ إسرائيل القديمة من البحوث العلمية النقدية، ليست سوى فكرة قديمة يمكن العثور على جذورها في هجوم وليم فوكسويل أولبرايت على مدرسة فلهاوزن في أوائل القرن العشرين، وهو الهجوم الذي حرف البحوث الأثرية، والكتابية والتاريخية [عن مسارها] لعقود عدة. وقد ظهر هذا الاتجاه بأشكال مختلفة -وإن بشكل متقطع في السنوات الأخيرة، باستخدام علم الآثار كسلاح لقمع تقدم البحوث النقدية. وليست خربة قيافة سوى أحدثها لجهة التوق نحو إلحاق كارثة في البحوث النقدية الحديثة عن طريق كشف أثري إعجازي (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 58).
شكّل صيف العام 2013 الموسم النهائي لحفريات غارفينكل وغانور في قيافا. وأعلنا في مؤتمر صحفي، أنهما وجدا قصر الملك داود. وبشكل أدق، وجدا صفين أو ثلاثة من الحجارة تمتد على طول 30 متراً. ووفقاً لتقديراتهما، بلغ حجم مساحة القصر نحو 1000 م2 . ويؤكد غارفينكل أنه “ليس هناك شك في أن حاكم المدينة جلس هنا، وعندما جاء الملك داود لزيارة التلال نام هنا”. تم تدمير القصر بسبب بناء معمار بيزنطي كبير في نفس الموقع بعد 1400 سنة من بنائه. وشكك منافسو غارفينكل في تأريخ القصر وصلته بالملك داود وتحديد مدينة قيافا كمدينة يهوذية. وأشار فنكلشتين، بشكل غير مباشر، إلى مزار، التي زعمت ,قبل عدة سنوات، أنها وجدت قصر الملك داود في القدس: “هذا يذكرني بخرافة الفتاة الصغيرة والذئب. فيوم أمس وجدوا قصر الملك داود في القدس، واليوم هو في قيافا، وغداً سوف تجد أنه.. من يدري أين. هذه البيانات تسترعي انتباه الجمهور”. كما رد جاكوب ل .رايت من جامعة إيموري بطريقة مشابهة: ” إن الطريقة الأكثر تحديداً لخلق ضجة، هي الادعاء بأنك وجدت شيئاً يتعلق بعصر الملك داود”. ويضيف بأنه كان هناك ملوك وأمراء حرب محليين آخرين في القرن العاشر ق.م في المرتفعات (التي أصبحت فيما بعد جزءً من ممالك إسرءيل ويهوذا) وبالنسبة له، فإن مثل هذا الإسناد التلقائي للقى بردها للملك داود ليس سوى نوع من “فقر الخيال التاريخي” (Garfinkel, 2013a; Hasson, 2013a; Fridman, 2013). ومع ذلك، لا يمكن اختزال المسألة بأسئلة حول الفائدة المباشرة من العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام والشهرة والوضع الأكاديمي وتمويل البحوث. فرغم أنه لا يمكن اعتبار غارفينكل متطرفاً كلاسيكياً، إلا أنه لا يزال منحازاً للقراءة الأصولية للكتاب. وعلى الرغم بمعرفتنا القليلة عن الملك داود، سواء تاريخياً وأثرياً، فإن غارفينكل يخلص، من خلال سلسلة من القفزات النظرية، إلى استنتاج أن قيافا ليس فقط مدينة يهوذية من القرن العاشر ق.م، بل هي مدينة شعاريم. وستكون الخطوة التالية لغارفينكل، إذن، الزعم بانتماء الملك داود للمدينة، طالما هناك قصر في المدينة، وبالتالي من الواضح [لغارفينكل] أن “الملك داود نام هنا عندما جاء لزيارة هذه التلال”.
ساهمت مدرسة القدس وتقاليدها البحثية في بناء وتصميم المعمار النظري الذي فسر من خلاله غارفينكل البيانات واللقى من قبل مدرسة القدس وتقاليدها البحثية، ويتمحور تعليمه الأكاديمي ومهنته حول معهد الآثار التابع للجامعة العبرية. وكان مشروعه البحثي الأولي قد تركز على حقبة ما قبل التاريخ، ولكن عندما تقاعد عميحاي مزار وغيره من علماء الآثار الكتابيين، دعي غارفينكل إلى العمل في هذا التخصص، وتم تعيينه في العام 2004 رئيساً لقسم الآثار الكتابية. وكما أسلفنا سابقا يعترف غارفينكل بأن مملكة يهوذا مهمة جداً ومثيرة للجدل، لأنها تؤثر علينا اليوم. وفي الواقع ، إذا ما كانت تعابير مثل “(مملكة) والكتاب والتوحيد…مستمرة فعلاً حتى يومنا هذا ” ومازالت تؤثر علينا، فالهوية الصهيونية اليهودية و القومية تؤثر في حالة غارفينكل على طموحاته في العثور على بعض الأشياء وتفسير الاكتشافات بطريقة معينة. ويبدو غارفينكل ملتزماً بكل تأكيد بما يسميه في محاضراته “الإنجازات المادية والفكرية لمملكة يهوذا” وحمايتها. وهو يتحدث بحماس ضد التنقيحيين الذين يحاولون “محو” هذه الإنجازات، وبطبيعة الحال فنكلشتين واحدا منهم. ويسخر غارفينكل من نموذج التحقيب المنخفض من خلال الزعم بأن داود و سليمان، وفقاً لفنكلشتين، كانا مجرد شيوخا من البدو حكما قرية صغيرة. وهو يسرد بعض الأمثلة على محاولات التنقيحيين “تجريد مملكة يهوذا من إنجازاتها المادية والفكرية”:
(أ) لم تكن المملكة المتحدة ليهوذا وإسرءيل خلال عصر داود وسليمان موجودة
(ب) إعمار وإنشاء مملكة يهوذا حدث فقط في نهاية القرن الثامن ق.م، أو، وفقا لنموذج فنكلشتين الجديد، في نهاية القرن التاسع ق.م
(ج) خطة المدينة الفريدة للمدن اليهوذية تم نسخها من قيافا وهي مدينة فلستية أو كنعانية أو إسرءيلية
(د) أصبحت أورشليم مدينة مركزية فقط بسبب العدد الكبير من السكان الذين فروا من مملكة إسرءيل إلى يهوذا بعد دمار مملكة إسرءيل
(ه) وضع النص العبري خلال القرن الثامن ق.م فقط .
(و) تطور مفهوم التوحيد خلال العصور الفارسية أو الهلنستية فقط .
ويبدو أن غارفينكل مستعداً للاعتراف بأن كل ادعاء من هذه الادعاءات يمكن أن يكون معقولاً كل على حدة، ولكن اجتماعها معاً، بالإضافة إلى العديد من المزاعم الأخرى، إنما يخلق “اتجاه غريب” (Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12). ويظهر غارفينكل في هذا الصدد بأنه حقا كما شبه نفسه بالصبي الهولندي الذي تقول عنه الحكاية بإنقاذه البلد من الغرق بوضع إصبعه في مكان التسرب في السد.
الحرب على خربة قيافة والتفاعل المتبادل بين النظريات والبيانات
عندما تثار الخلافات في العلم، يصبح الأدب، كما لاحظ برونو لاتور، أمراً تقنياً (Latour, 1987: 30-44). ويمكن رؤية ذلك النقاش الدائر بين [مدرستي] تل أبيب والقدس حول قيافا (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 39-41)، مثلما نراه في تصريحات فنكلشتين وفنتلكين حول “العيوب المنهجية” و “العملية المتسرعة” لبعثة قيافا، أو في تأريخ الكربون المشع وجوانب أخرى.
التفاعل المتبادل بين النظريات والبيانات:
(1) تأريخ الكاربون المشع
ابتدء العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 1000 ق.م. وانتهى حوالي 925/900 ق.م، وفقاً للنظرية المحافظة للتحقيب العالي، أي خلال عصر داود وسليمان/المملكة المتحدة. وكان فنكلشتين، الذي ينكر وجود المملكة المتحدة ويعزز نظرية التحقيب المنخفض، اقترح في العام 1996 أن بداية العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 900 ق.م (Finkelstein, 1996). وهو يحاول، في السنوات الأخيرة، أن يظهر أن العصر الحديدي الثاني IIA ابتدأ حوالي 930/920 ق.م. وانتهى خلال النصف الثاني من القرن التاسع ق.م. (Finkelstein and Piasetzky, 2011; Toffolo et al., 2014)، وقام شارون وآخرون. (2007) بدراسة شاملة تدعم نظرية التحقيب المنخفض والتأكيد على أن العصر الحديدي الثاني IIA بدأ حوالي 900 ق.م. وكان عميحاي مزار، الممثل البارز لمدرسة القدس والذي أصبح محافظاً معتدلاً، اقترح نسخة معدلة للتحقيب العالي استناداً لآرائه المحدثة، يبدأ فيها العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 980 وينتهى حوالي 840/830 ق.م. أخذ مزار استثناء استخدام فنكلشتين لنماذج بايز للكربون المشع، وهو يرى أنه حتى “برونك رامزي”، الذي طور النماذج، “شكك إذا ما كانت نماذج بايز حساسة بما فيه الكفاية عند استخدامها للتحقق في العديد من العينات من مواقع مختلفة، وعندما تكون هناك ثغرات موضع شبهة في تسلسل التواريخ المتاحة” (Mazar, 2011). ويحاول فنكلشتين، خلال السنوات الأخيرة، أن يثبت أن الفجوة بين التحقيبين الزمنيين تضييق والفرق اليوم بين الآراء لا يتعدى خمسين عاماً أو حتى أقل: 985-935 ق.م، أو حتى ~ 970-940 ق.م (Finkelstein and Piasetzky, 2011; Toffolo et al., 2014). لم يتم ذكر غارفينكل في هذه المقالات. وكما سوف نرى، يتعامل فينكلشتاين مع تفسير غارفينكل لبيانات الكربون 14 في قيافا في مقالات أخرى. ويزعم غارفينكل نفسه أن بيانات الكربون 14 الجديدة تبشر بـ “موت” التحقيب المنخفض. ويؤرخ غارفينكل ومعه غانور سوية العصر الحديدي في قيافا إلى حوالي 1026-975 ق.م. ويشيران إلى أن هذه التواريخ تناسب الوقت المفترض لمملكة داود (حوالي 1000-965 قبل الميلاد) وتعد تواريخ مبكرة جداً بخصوص الوقت المفترض لمملكة سليمان (حوالي 965-930 قبل الميلاد) ويرى غارفينكل وغانور، أن الموقع وجد لعدة عقود فقط، ودمر في تاريخ لا يتجاوز 969 ق.م (احتمال77.8٪). ومن غير المحتمل أن يكون الموقع استمر في الوجود حتى العام 940 ق.م (احتمال 6.2٪) وهكذا، فإن نظرية التحقيب العالي صحيحة، فيما يتعلق بيهوذا: فالانتقال من أواخر العصر الحديدي الأول إلى أوائل العصر الحديدي الثاني IIA في يهوذا حدث حوالي 1000 ق.م (Garfinkel and Ganor, 2009: 4, 8; Garfinkel, 2011: 51; Garfinkel et al., 2012: 364). ويمكن وضع الفروقات بين نظريتي التحقيب المخفض والعالي لبداية العصر الحديدي الثاني IIA حسب الآراء المختلفة كما يلي:
1-إسرائيل فنكلشتين “تحقيب منخفض”: حوالي 900 ق.م (آخر التحديثات تحدد البداية بحوالي 920-940 ق.م)
2-إيلان شارون “تحقيب منخفض” : حوالي 900 ق.م
3-عميحاي مزار “تحقيب عالي” :حالي 1000 ق.م (تم تعديل هذا التأريخ إلى حوالي 980 ق.م)
4-يوسف غارفينكل “تحقيب عالي”: حالي 1000 ق.م على الأقل في يهوذا (بالنظر إلى بدايات المملكة الموحدة، وظهور مملكة إسرءيل الشمالية).
لا تعتبر تقنية تأريخ الكربون المشع في قيافا موضع تساؤل منفصل، بل هي جزء من النقاش الكبير بين نظريات التحقيب المنخفض والعالي. وأحد أهداف البحث، أساساً، هو العثور على تطابق بين التحقيب الزمني المطلق والنسبي، أي، بين تأريخ الكربون 14 ومنتجات الثقافة المادية، مثل الفخار. ويعود تأريخ سوية العصر الحديدي في قيافا حسب غارفينكل وغانور إلى حوالي 1026-975 ق.م. (احتمال 58٪)، باستخدام عينات الكربون 14. وتحققت النتيجة النهائية عن طريق حساب متوسط نتائج الكربون 14 في أربع حفر زيتون عثر عليها في مواقع مختلفة في الموقع. ومما هو غير مفاجئ أن التأريخ كان يفسر كتأكيد على التحقيب العالي الذي يدحض، مع بقية الأدلة، من قيافا تسلسل فنكلشتين المنخفض للتحقيب المنخفض: “.. وقع الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى العصر الحديدي الثاني في نهاية القرن الحادي عشر ق.م، وبالتالي يوفر هذا أدلة واضحة إزاء تأريخ التحقيب المنخفض”. ويحدد كل من غارفينكل وغانور اثنتين من المشكلات المنهجية الرئيسية، فيما يتعلق بالنتائج الإشعاعية التي تدعم التحقيب المنخفض، فمن الناحية الجغرافية، أخذت عينات العصر الحديدي الثاني IIA أساساً من مواقع في المملكة الشمالية “إسرءيل” وليس من مواقع في مملكة يهوذا. وثانياً، أخذت العينات من سويات العصر الحديدي الثاني المتأخرIIA وليس من بداية الفترة (Garfinkel and Ganor, 2009: 4, 8, 15, 35-38) .وعلاوة على ذلك، اتهم غارفينكل في مقالته “ولادة وموت النزعة التنقيحية الكتابية” فنكلشتين وزميله الفيزيائي إيلي بياسيتزكي بأنهما ترددا في نشر عدة نتائج للكربون 14 الذي يرجع تاريخها إلى مملكة إسرءيل الشمالية، لأن النتائج (حوالي 1000 ق.م ) كانت تتفق مع التحقيب التقليدي العالي. واستناداً إلى هذه النتائج، لم يتردد غارفينكل في إعلان أن فنكلشتين ليس فقط الأب المؤسس لعلم التحقيب الزمني المنخفض، بل ومتعهده أيضاً (Garfinkel, 2011: 50)
إلى جانب المعايرة والصحة والدقة الفعالة لطريقة التأريخ ونوع المادة التي يتم من خلالها أخذ العينة واختيار إجراءات الحساب والنماذج الإحصائية (على سبيل المثال، متوسط النتائج ونماذج بايزي)، هناك عوامل واعتبارات أخرى لها تأثير على تأريخ الكربون. والنتيجة المنشودة التي تدعم التحقيب العالي، وفقاً لغارفينكل وغانور، هي النصف الأول من القرن العاشر ق.م. قدم غارفينكل وغانور لتأريخ مجموعتين من أربع حفر زيتون محترقة (واحدة من سبع حفر زيتون استخدمت في كلتا المجموعتين من العينات). فشلت المجموعة الأولى من العينات، التي جمعت من جدار حظائر المدينة، في تحقيق النتائج المرجوة. كما أن عينة واحدة لم تسفر على وجود الكربون 14 على الإطلاق، لكنها استخدمت مرة أخرى في المجموعة الثانية. تم تأريخ عينيتين من حفرة زيتون أخرى إلى العصر البرونزي الوسيط، وهي نتيجة تتطابق مع اللقى الفخارية التي عثر عليه في الموقع. وكانت العينة التالية أرخت بالعصر الحديدي الأول (1130-1046 ق.م، 59.6٪ احتمال)، وهي نتيجة “مرتفعة قليلا، حتى بالنسبة للتحقيب العالي”. وكانت العينة الأخيرة من الفترة الهلنستية. ووفقاً لتفسير غارفينكل وغانور، هناك ثمة ثقوب كبيرة بين الحجارة الضخمة للحظائر والمشكلة هي هجرة المواد العضوية بسبب النشاط الحيواني والنباتي. وقد تكون ما نسبته حوالي 10٪ -30٪ من العينات، عموماً، ملوثة نتيجة لحركة المواد العضوية بين الطبقات. وبعد ذلك، يقدم غارفينكل وغانور المجموعة الثانية من العينات للتأريخ. كما ذكر سالفاً، وتم حساب النتيجة النهائية عن طريق متوسط نتائج العينات الأربعة، وهي عملية مكنتهما من تقليل النطاق الزمني لعصر داود أو أبكر من ذلك بقليل (Garfinkel and Ganor, 2009: 35-38; Garfinkel, 2012-2013: Lecture 8).
من المعروف أن الحسابات تؤثر على صحة النظريات، ولكنها تتأثر بها أيضاً. وفي حالتنا هنا، يؤثر التأريخ الكربوني على نظريات التحقيبين المنخفض والعالي، ولكنه يتأثر بهما أيضاً. وقد كانت استجابة غارفينكل وغانور سريعة: ففي العام 2010 نشر فنكلشتين وبياسيتزكي مقالاً هاجما فيه مقاربة غارفينكل وغانور (Finkelstein and Piasetzky, 2010). وذهبا إلى القول بأن حساب المتوسط هو إجراء مقبول فقط عندما تكون جميع العينات من نفس العمر تماماً. وتتحقق مثل هذه الشروط، على سبيل المثال، عندما يتم تحديد الدمار نتيجة للحريق أو عندما تؤخذ العينات تحت آثار انهيار سميك من نفس طبقة التدمير. وإلا فإن العينات يمكن أن تمثل مراحل مختلفة في حياة المستوطنة التي لم تعرف بعد. وفي المثال الذي بين أيدينا، أخذت العينات من مواقع مختلفة ولا تمثل حدثاً واحداً في تاريخ قيافا. واستناداً إلى الجوانب التالية، قدر فينكلشتين وبياسيتزكي أن العينات تمثل مدة النشاط في الموقع، التي بدأت حوالي 1050 ق.م وانتهت في وقت ما خلال القرن العاشر، في تاريخ لا يتعدى العام 915 ق.م:
(1) البيانات التي نشرها منافسيهم
(2) تحليل يظهر أن مجاميع الفخار في قيافا تنتمي إلى مرحلة السيراميك لأواخر العصر الحديدي الأول.
(3) بيانات إضافية على مجاميع الفخار ونتائج الكربون المشع من العصر الحديدي الأول المبكر والوسيط.
ومن غير المفاجئ أن يتوصلا إلى نتيجة مفادها أن “تحديدات الكربون المشع لخربة قيافا تتطابق مع عدد كبير من القياسات من مواقع العصر الحديدي الأول المتأخر في شمال وجنوب إسرائيل وتدعم التحقيب المنخفض”. وأخيراً، يتهم فينكلشتين وبياسيتزكي غارفينكل وغانور بـ “الخطأ والتضليل” من خلال الادعاء بأن:
(أ) النتائج السابقة كانت تستند إلى عينات مأخوذة من الشمال فقط
(ب) تأريخ الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى العصر الحديدي الثاني كان يستند إلى عينات من سويات العصر الحديدي الثاني المتأخرIIA وليس على عينات من بداية الفترة.
هناك 107 قياسات من ثمان سويات من العصر الحديدي الأول المتأخر و32 قياس من خمس سويات أخرى من العصر الحديدي الثاني المبكر الحديد IIA ويعتقد فينكلشتين وبياسيتزكي أن القياسات تمثل على نحو كاف كل من شمال البلد وجنوبه.
القصة، بالطبع، لا تنتهي هنا. فأولاً، أجاب غارفينكل بأن عملية حساب المتوسط كانت مشروعة، لأن المدينة كانت موجودة لفترة قصيرة قبل تدميرها بالكامل. ثانياً، وجد فريق غارفينكل في العام 2012 كسر فخارية تحتوي على عشرين قطعة زيتون. وبما أن جميع حفر الزيتون وجدت في ذات المكان، وفي ذات السياق، فهي تستوفي معايير المتوسط، على الرغم من أن العينات يمكن أن توفر التاريخ المقدر لتدمير المدينة وليس تاريخ إنشائها (Garfinkel, 2012-2013a: Lecture 8)
من المهم، على أي حال، التأكيد مرة أخرى على أن مسألة التأريخ عن طريق الكربون المشع لا يمكن فصلها عن الجوانب الأخرى من النقاش بين التحقيبين المنخفض والعالي، وعن مسألة ما إذا كانت المدينة القديمة في قيافا يهوذية على الإطلاق. وبعبارة أخرى، سوف يؤثر السؤال عما إذا كان الباحث يتوقع أن يجد مدينة يهوذية محصنة تعود لعصر الملك داود، على الطريقة التي يتم فيها اختيار وتفسير البيانات، والطريقة التي يتحدد بموجبها ما إذا كانت هذه البيانات والنتائج ذات صلة وما إذا كان احتساب المتوسط والحسابات الأخرى مشروعة في ظل ظروف معينة.
لا يعتمد تأريخ الكربون المشع في قيافا على قياسات الكربون المشع فقط من مواقع أخرى، بل على بقية الأدلة، منها، المجاميع الفخارية، كما أنه يعتمد كذلك على النظرية التي يلتزم فيها الباحث. وعندما يعترف فنكلشتين أن “هناك مسافة معينة في علم الآثار بين الاكتشافات والتفسير” (Finkelstein in Fridman, 2013; Finkelstein, 2006-2007: Lectures 1)، فإنه يصور، في الواقع، مأزق العلوم برمتها، كما يعلمنا تاريخ وفلسفة العلم. وتتميز المؤسسة العلمية بقفزات نظرية لا يمكن تجنبها. وفي هذه الحالة، ينظر إلى جميع الأدلة وتفسر لقى قيافا وفقاً للأطر النظرية لمختلف الفرقاء، كما يلخص فينكلشتين وبياسيتزكي موقفهما واعتباراتهما: لقد ضاقت حدة نقاش الاختلافات بين الأطراف إلى عدة عقود فيما يتعلق ببداية العصر الحديدي الثاني IIA (المرحلة الانتقالية بين العصرين الحديدي الأول والثاني)، وهي فجوة تتجاوز حل نتائج الكربون المشع، حتى عندما يتم نشر عدد كبير من التحديدات. وبإدخال الاعتبارات التاريخية، فضلاً عن الملاحظات المتعلقة بسرعة وتيرة تغيير التقاليد الفخارية، كان من الممكن أن يستغرق الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى الثاني عقداً أو عقدين، وينبغي أن يوضع بعد فترة قصيرة من منتصف القرن العاشر ق.م (Finkelstein and Piasetzky, 2011: 52). دعونا نستمر في دراسة الطريقة التي تفسر بها الاكتشافات في قيافا وفقاً للأطر النظرية المختلفة للتحقيبين المنخفض والعالي:
(2) التخطيط العمراني.
يؤكد غارفينكل وغانور أن التخطيط العمراني لقيافا يمثل خاصية يهوذية فريدة من نوعها: حظيرة مسورة للمدينة وحزام من المنازل تستخدم فيها الحظائر كغرف خلفية. يدعي غارفينكل وغانور أن لدى المدينة بوابتين يعرّفان المدينة باسم شعاريم، والتي تقع، وفقاً للكتاب المقدس، في قائمة مدن يهوذا (يوشع 15:36) في وادي إيله حيث وقعا أحداث قصة داود وجالوت (صمويل الأول 17 : 52 فَقَامَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا وَهَتَفُوا وَلَحِقُوا الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى مَجِيئِكَ إِلَى الْوَادِي، وَحَتَّى أَبْوَابِ عَقْرُونَ. فَسَقَطَتْ قَتْلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي طَرِيقِ شَعَرَايِمَ إِلَى جَتَّ وَإِلَى عَقْرُونَ.).وبحسب غارفينكل وغانور، فإن قيافا ھي الموقع الوحيد في يهوذا وإسرءيل الذي يوجد فيه بوابتين ومدخلها الرئيسي يواجه القدس. في حين أن المدن الكبيرة مثل لخيش ومجدّو، لا يوجد بها سوى بوابة واحدة. كانت قيافا حصن يهوذا على حدودها مع فيليستيا (Garfinkel and Ganor, 2008a; Garfinkel et al., 2012). أنكر فنكلشتين وجود بوابتين في قيافا كما سنوضح أدناه، وعلى أية حال، يرفض هو وآخرون مطابقة قيافا مع شعاريم. فوفقاً لتفسيره، لا يمثل تصوير شعاريم في الكتاب المقدس واقع يهوذا في القرن العاشر ق.م، بل واقع يهوذا في العصر الحديدي الثاني، وخاصة يوشع 15 الذي يصور التنظيم الإداري ليهوذا في أواخر القرن السابع ق.م، وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تقع شعاريم، وفقاً للوصف الكتابي في قيافا. هنا، أيضا، لا يفوت فنكلشتين الفرصة لاتهام غارفينكل في القراءة الحرفية، غير النقدية للكتاب (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 46-48; Dagan, 2009) .ويجادل فنكلشتين بوجود مواقع مشابهة لقيافا تتمتع بحظائر مسورة من العصر الحديدي الأول حتى العصر الحديدي الثاني المبكر IIA، وليس فقط في يهوذا، مثل هذه المواقع تتواجد في المرتفعات في المناطق الجغرافية التالية: المناطق الداخلية من بلاد الشام، أمون، موآب، مرتفعات النقب ومرتفعات شمال القدس. ويريد فنكلشتين أن يعزو الموقع إلى بدايات ما يدعوه كيان جبعون\جبعا الإسرءيلي الشمالي للأسباب التالية:
(أ) أن المدينة قريبة من القدس، ولكن لم يكتشف نشاط بناء هام في هذا العصر في القدس وغيرها من المواقع اليهوذية، فضلاً عن النشاط الاستيطاني القليل في المرتفعات اليهوذية واستنزافها الديمغرافي. وهكذا ليس من الواضح [لنا] كيف بنى داود وشعبه قيافا وحكمها. ومن ناحية أخرى، كان كيان جبعون\جبعة مأهولاً بكثافة ولا يعاني من مشكلة في القوى العاملة
(ب) وجد نظام عمراني كثيف لجدران حظائر معاصرة في هضبة جبعون -بيتئيل
(ج) يتحدث الكتاب عن وجود شاؤول، ملك إسرءيل، في وادي إيله حيث وقعت المعركة بين الإسرءيليين والفلستيين
(د) إذا كانت قيافا مدينة إسرءيلية، فإنه يمكن تفسير تدميرها خلال حملة شيشنق الأول بسهولة (Finkelstein, 2013: 56-59; Finkelstein and Fantalkin, 2012).
في الختام، إن ما يعتبره غارفينكل وغانور دليلاً قوياً على وجود مدن محصنة في مملكة داود، وحجمها، وصحة التحقيب العالي، يفسره فنكلشتين كدليل على حجم مملكة إسرءيل، نظراً لأنه يتوافق مع نظرية التحقيب المنخفض.
(3) عظام خنزير العظام ومجاميع الفخار.
يفسر غارفينكل وغانور غياب عظام الخنازير في قيافا كدليل على أن المدينة كانت يهوذية وليست فلستية. كما أن مجاميع الفخار التي عثر عليها تختلف عن الفخار الفلستي الذي عثر عليه في غات. ويظهر التحليل البيتوغرافي للصخور أن الفخار من إنتاج محلي، أي من وادي إيله. وتم العثور على حوالي 600 قطعة من مقابض الجرار التخزينية مع طبعات الأصابع في قيافا. كما عثر على مقابض بطبعات أصابع في القدس. كان هناك تقليد إداري في يهوذا في تصنيع الجرار يتمثل بوجود مقابض جرار مختومة لأغراض الضريبة (Garfinkel et al., 2012; Garfinkel, 2013b). ويعترف فنكلشتين أنه حتى السنوات الأخيرة، تم تفسير عدم وجود الخنازير في مواقع مختلفة كإشارة إلى أن السكان كانوا إسرءيليين/يهوذيين، ولكن في السنوات الأخيرة تم اكتشاف ندرة عظام الخنازير في المواقع غير الإسرءيلية أيضاً والتي تعود للعصر الحديدي الأول في المناطق الداخلية والمنخفضات، وحتى في المواقع الريفية في قلب فيليستيا. كما تعد مجاميع الفخار نموذجية للمنطقة، وبالتالي لا يمكن تحديد الهوية الخاصة لسكان قيافة وفقاً لهذه الاكتشافات. وعلاوة على ذلك، يؤكد فنكلشتين عدم إمكانية تعيين سكان قيافا حتى على أساس البيانات المعروفة من هذا الموقع ومن مواقع أخرى (Finkelstein, 2013: 55)
(4) النقوش.
وجدت البعثة في قيافا عدة كسر تحتوي نقوشاً، حظيت بدراسة العديد من الخبراء، وأثار أحد النقوش نقاشاً حاداً، فهو مكتوب بلغة ما قبل كنعانية التي تطورت منها الأبجدية الفينيقية. تطورت النقوش العبرية القديمة، فضلاً عن غيرها من النقوش المحلية، من الأبجدية الفينيقية. وقد اختفت العديد من الحروف في النقش، لكن الباحثين حاولوا فك رموزه باستخدام تقنيات التصوير(10). وتشير عدة مقالات إلى أن النقش قد يكون من أقدم النقوش العبرية، ويمثل المرحلة التي سبقت تحول النص ما قبل الكنعاني إلى نص فينيقي معياري. وكان حجاي مسغاف وغارفينكل وغانور هم من اقترحوا هذه الفكرة عن النقش. ويزعم مسغاف، على سبيل المثال، أن عبارة “لا تفعل” باللغة العبرية تظهر في النقش (in Garfinkel and Ganor, 2009: 243-257; Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12). وحاول غرشون غليل، أحد مؤيدي هذا الرأي، إعادة بناء النص، واقترح أن النقش مشابه للنصوص الكتابية. ووفقاً لغليل، حملت بدايات القرن العاشر ق.م مؤشرات قوية على تأليف نصوص أدبية معقدة في العبرية. ويطابق غليل موقع قيافا مع نتاعيم التي كانت، وفقاً للكتاب، مركزاً إدارياً محصناً بناه الملك داود على الحدود بين مملكته وفيلستيا (Galil, 2009). ولكن لا تتوفر، وفقاً لمقالات أخرى، دلائل على أن الكتابة مدونة باللغة العبرية القديمة (Rollston, 2011; Millard, 2011). وتستمد المواقف في هذا السجال من النقاش الأكبر بين نماذج التحقيب المنخفض والتحقيب العالي. وعندما يسعى غارفينكل وغانور ومسغاف إلى تحديد لغة سكان قيافا العبرية القديمة، فإنهم يقومون بذلك كجزء من نمط شامل من التحقيب العالي لغارفينكل، والتأكيد على أن الكتابة العبرية تمت خلال القرن الثامن ق.م. فقط هو جزء من الاتجاه التنقيحي لمحو “الإنجازات المادية والفكرية لمملكة يهوذا” (Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12).
تؤثر هوية الباحث على تحليل وتفسير النص، ويميل الباحثون الصهاينة والدينيون، مثل مسغاف، إلى أن يكونوا أكثر تحفظاً برفضهم لموقف التنقيحيين، على الرغم من أن وجهة نظر الأصوليين اليوم تبتعد عن العقائد الأرثوذكسية. يجب على الباحث الديني التعامل مع النزاعات الخطيرة، كما يصف ميسغاف نفسه في محاضرة له عن التناقضات بين علم الآثار والكتاب، ألقاها في المؤسسة الأكاديمية الدينية – كلية هرتسوغ (Misgav, 2010) أشار خلالها إلى مراسلاته مع غليل حول مسالة النقش [المذكر أعلاه]. لا يبدي مسغاف أي موافقة على التأكيدات المتطرفة القوية من غليل حول هذه القضية. وفي هذا السياق كتب إلى غليل أنه إذا كان “أي مسغاف” قد اقترح -وهو يضع القبعة اليهودية على رأسه- تأويل غليل ذاته فسوف يتهم بأنه أصولي متطرف.
يدعم فينكلشتين وفنتلكين وجهة النظر القائلة بأن النقش لم يكتب باللغة العبرية. ويؤكدان أن جميع النقوش ما قبل -الكنعانية المتأخرة تقريباً عثر عليها في شيفلة والسهول الساحلية الجنوبية، لا سيما قرب مدينة غات الفلستية. كما تم العثور على نقوش هيراطيقية مصرية تعود لحقبة العصر البرونزي المتأخر الثالث في المنطقة عينها، وبشكل خاص حول لخيش. كانت المنطقة مركز الإدارة المصرية في كنعان، في العصر البرونزي المتأخر. وبالتالي فالنقوش ما قبل الكنعانية المتأخرة قد تعكس تأثير التقاليد الإدارية والثقافية القديمة. وعندما يتبنى فينكلشتين وفنتلكين الموقف القائل بأن نقش قيافا لم يكتب باللغة العبرية، فإنهما يقومان بذلك كجزء من النمط الشامل للتحقيب المنخفض. وهكذا يتهمون غليل، على سبيل المثال، باتخاذ موقف الأصوليين (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 50-51; Finkelstein, 2013: 55).
لا ينكر فينكلشتين وزملاؤه تأريخ النص القصير للنقش لبدايات مملكة يهوذا. كما أنهما لا ينكران أن الكتاب يحفظ الذكريات القديمة. ومع ذلك، يعتقدان أن العنصر الأساسي لنظرية التحقيب المنخفض يكمن في عدم وجود نصوص أدبية معقدة في يهوذا قبل نهاية القرن الثامن ق.م: ووفقاً لهما ساهم كل من نمو المملكة، والبيروقراطية، والكتابة، والازدهار الاقتصادي، والعلاقات الدولية -كل ذلك معاً، من الناحية الإيديولوجية واللاهوتية والتاريخية، في تأليف الكتاب المقدس، وتحريره بصورة رئيسية منذ القرن السابع ق.م كجزء من الإصلاح التثنوي للملك يوشيا (Finkelstein and Silberman, 2001; Finkelstein, 2006-2007)
(5) العبادة.
لم يجد غارفينكل وغانور تماثيل أو دلالات عبادة في قيافا مما يؤكد على أن قيافا موقع يهوذياً .وعثرا على صندوقين، أو “نماذج أضرحة”، أحدهما مصنوع من حجر والآخر من طين. وصناديق مماثلة من حفريات أخرى تحتوي على رموز أو أيقونات آلهة، ولكن في هذه الحالة كانت الصناديق مكسورة، ولم يعثر على رموز أيقونية أو آلهة. ويمكن تفسير الطيور على الجزء العلوي من الصندوق الطيني والأسود على الجزء السفلي كعلامة على آلهة الخصوبة. ويحتوي الصندوق الحجري على درج مزين بثلاثة إطارات مرصّعة كما يحتوي على ثلاث شقوق عمودية على عوارض سطحه، ووفقاً لهما، يتشابه النموذج المعماري للصندوق الحجري مع الهندسة المعمارية في هيكل وقصر سليمان كما تصفه النصوص الكتابية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نسب الباب في النموذج مشابهة لنسب الأبواب في الهيكل الثاني كما هو موضح في المشنا ويرى غارفينكل ذلك على أنه استمرارية العبادة في يهوذا. وأخيراً، كانت طقوس العبادة لسكان قيافا تتم في غرف العبادة داخل المنازل الخاصة. هذه الممارسة غير الاعتيادية لا تظهر في الثقافات الكنعانية أو الفلستية، ولكنها تتفق مع الوصف الكتابي لفترة ما قبل إنشاء هيكل سليمان (Garfinkel et al., 2012; Garfinkel, 2012-2013: Lectures 10 & 11; Garfinkel, 2013b).
لا يبدو فنكلشتين معجباً بعدم العثور على تماثيل في الموقع: “هل يقول غارفينكل أن غلاة الموحدين عاشوا في خربة قيافا في القرن العاشر ق.م؟ هل هذا ما حدث؟ لقد قمت شخصياً في التنقيب في موقع معين ولم أجد مواضيع طقسية، ولكن لم يحدث أن خطر على بالي القول بأن سكانه موحدون غلاة”(Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011). ومرة أخرى، يرتبط هذا السجال بالسجال الأكبر. حيث يستثني غارفينكل فكرة أن التوحيد ظهر فقط بعد فترة الهيكل الأول، وهو الادعاء الذي يتحدد كمثال على محو الإنجازات الفكرية لمملكة يهوذا. ومع ذلك، فهو يقبل فكرة القبول التدريجي للتوحيد، كما تصف ذلك النصوص الكتابية. ومن جهة أخرى يؤكد فنكلشتين على هيمنة نوع من التوفيق بين المعتقدات في يهوذا خلال فترة الهيكل الأول. ووفقاً للعهد القديم، كانت الوثنية شائعة في يهوذا حتى في عصر الملك سليمان. وتبين الأدلة الأثرية أن الإصلاح التثنوي، الذي يسمح بعبادة إله واحد فقط ومركزية العبادة في معبد سليمان، حدث في أيام يوسيا (القرن السابع ق.م)، على الرغم من أن الشعب كان لا يزال يستخدم التماثيل في المنازل (حتى في المنازل القريبة من الهيكل). ووفقاً للكتاب ظهر التوافق بين المعتقدات مرة ثانية بعد عصر يوسيا الذي قتل على يد نخو الثاني (Finkelstein, 2006-2007: Lectures 11 & 12).
لنلاحظ هنا أن التوحيد، أو الاعتقاد بوجود إله واحد، لا يعادل بالضرورة لاهوتاً تثنويا يعود لفترة الهيكل الأول. كما رتّل موسى وبني إسرائيل: “من بين الآلهة مثلك يا رب” (خروج 15: 11). على أية حال، يتعارض المنظور القومي المحافظ الذي يرى غارفينكل من خلاله أن هذا الموضوع حتى مع وصف الكتاب لفترة الهيكل الأول. يعتمد غارفينكل على الكتاب المقدس والأنبياء الذين أدانوا أولئك الذين يعبدون الآلهة الأخرى كخطاة، لكنه يتجاهل حقيقة أن الكتاب يصور هيمنة الوثنية/التوافق الديني خلال فترة الهيكل الأول. ويجادل بأن الأدلة الأثرية تعاملت حتى الآن مع الفترة الأخيرة لمملكة يهوذا، ولكن قيافا الآن تقدم أدلة جديدة عن بدايات المملكة (Garfinkel, 2012-2013: Lectures 10 & 11). والمشكلة هي أنه تم في العام 2012 اكتشاف معبد وثني قديم يعود تاريخه إلى القرن التاسع ق.م في تل موتسا [خربة بيت مزة، موقع قرب قرية قالونيا على بعد 5 كيلومترات من جبل الهيكل [الحرم الشريف]. وتشمل النتائج تماثيل للرجال والحيوانات. كان من السهل على فنكلشتين أن يفسر ذلك: أولاً كانت هناك مواقع أخرى مماثلة في يهوذا حتى نهاية القرن الثامن ق.م، ثانياً، ونظراً لأن هناك العديد من مواقع الطقوس في إسرائيل ويهوذا كان الكتاب نفسه طالب مراراً أن على يهوذا وإسرائيل التخلص من جميع مواقع العبادة المعاصرة لمعبد سليمان في القدس. ولكن بالنسبة إلى غارفينكل كان الأمر أكثر صعوبةً: “أفترض احتياج سكان النقب موقع لأداء طقوسهم، ولكن موتسا على بعد خمسة كيلومترات من القدس. فلماذا كانوا بحاجة إلى معبد آخر؟ “يعترف غارفينكل بأن معبد تل موتسا لا يمكن تجاهله، لكنه يعد بأن الخطاب حول هذا الموضوع سوف يتغير بعد نشر مقالات جديدة مع الأدلة الكافية من خربة قيافا (Hasson, 2012; Garfinkel, 2012-2013: Lecture 11)
نظرية الملاحظة
يشرح غارفينكل وغانور ومايكل هاسل لقرائهم أن البيانات مثل أحجار الفسيفساء: يمكن تجميع الحجارة/البيانات بأشكال مختلفة لخلق صور/نماذج مختلفة، لكن الحجارة/البيانات تبقى كما هي (Garfinkel et al., 2012: 45). ومع ذلك، وكما أوضح توماس كون (1970) وآخرون، فإن البيانات/الملاحظات/الأدلة ليست مستقلة عن التصور والنموذج، بل على العكس هي تعتمد على النموذج. ومن الواضح أن نظرية الملاحظة ظاهرة في السجال بين فنكلشتين وغارفينكل، الذي ينظر ويفسر البيانات واللقى من خلال العدسات النظرية المختلفة. وفي حين يحدد غارفينكل وغانور أن هناك ثمة بوابة ذات غرف أربع في حظائر السور الجنوبي لمدينة (قيافا)، لا يرى ذلك فنكلشتين وفنتلكين، حيث تم تبني وجود بوابة بناء على وجود
(أ) صخرتين ضخمتين، تزن كل واحدة نحو عشرة أطنان، على جانبي البوابة -في المقدمة.
(ب) اتجاه الحظائر على جانبي البوابة: مداخل الحظائر يغير التوجه في هذه البقعة.
ويقول غارفينكل وغانور، أن البوابة تعود للقرن العاشر ق.م، وقد أغلقت في الحقبة الهلنستية، وتعرضت للتلف بسبب النشاط العمراني .(Garfinkel and Ganor, 2009: 108-111; Garfinkel et al., 2009: 218; Finkelstein and Fantalkin, 2012: 45-47).
وفي العام 2011 قال فنكلشتين: “ليس هناك بوابتان [في قافا]، بل ثمة بوابة واحدة فقط، وهي البوابة الغربية. 90% مما تراه في البوابة الجنوبية تم ترميمه. أعتزم نشر صورة من نهاية أعمال الحفر وصورة أخرى التقطت بعد الترميم، وسوف يرى كل شخص عاقل أنه لم يكن هناك بوابة” (Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011). وقارن فنكلشتين وفنتلكين في مقالهما المشترك صورتين: واحدة التقطت للبوابة الجنوبية قبل الترميم وأخرى لها بعد الترميم. وهما يزعمان أن الترميم اعتمد بشكل فضفاض على الاكتشافات:
أولاً، في الجناح الشرقي للبوابة، تم ترميم الرصيف المركزي من جدار قد أغلق مدخل البوابة، وفي الجناح الغربي لا يوجد رصيف داخلي (شمالي) وتم ترميم الرصيف المركزي من البقايا الصغيرة.
ثانياً، وفقاً لتفسيرهما للقى، يتطلب وجود بوابة ذات أربعة غرف في هذا الموقع افتراض أنها بنيت على المنشآت الصخرية ويجب أن يؤرخ البناء إلى العصر البرونزي الأوسط، أو إلى مرحلة مبكرة من توطن العصر أواخر الحديدي الأول.
ثالثاً، في الحجرة الجنوبية الشرقية، بالقرب من ممر البوابة المرممة، هناك ثمة علامات قطع للصخور وعلامات تشبه الكأس.
ويشير فنكلشتين وفنتلكين إلى أنه من خلال المقارنة بين الصور يمكن أن نرى أن القطاع الشمالي الغربي من البوابة المرممة مبنية فوق المنشآت وعلامات الكأس، ومعظمها لا تظهر في البوابة المرممة. ويبدو أيضاً أن الرصيف المركزي للجناح الشرقي قد شيد على مبنى (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 45-47). .
تتشابك الملاحظة والتفسير على الدوام. أما مسألة ما إذا كان هناك بوابتان في قيافا أم لا، فهي مسألة لا توجد من تلقاء نفسه. ويأتي كل جانب من جوانب هذا السجال بمجموعة مختلفة من الافتراضات والتوقعات والالتزامات النظرية. إن تحديد البوابات في قيافا مهم للصورة الكبيرة التي يحاول أن يسمها غارفينكل. وإذا أمكن تعريف المدينة التي تم التنقيب عنها في قيافا بأنها مدينة يهوذية كما مدينة شعاريم “بوابتين”، فإن وجود مدن محصنة في القرن العاشر ق.م في يهوذا هو أمر مؤكد. وبعبارة أخرى، مطابقة شعاريم هو تأكيد على أطروحة غارفينكل عن العصور القديمة، وتأكيد على حجم وأهمية مملكة يهوذا، الذي هو الدافع وراء الإرادة لحماية “إنجازات مملكة يهوذا”. ومن ناحية أخرى يريد فينكلشتين حماية نموذجه الذي وضعه، أي التحقيب المنخفض، من عمل غارفينكل الذي ينحاز نحو التحقيب العالي المحافظ. وبالتالي فإن تحديد المدينة التي تم التنقيب عنها في قيافا بوصفها شعاريم الكتابية قد لا يؤكد جزء كبير من أطروحة فنكلشتين.
الخلاصة: فصل البحث عن الهوية
دعونا نتفحص مرة أخرى حجة فنكلشتين حول الفصل بين البحث والتقاليد والمعتقد: “أنا مؤمن بدرجة كبيرة في الفصل التام بين التقاليد والبحوث، وأنا شخص يحتفظ في بقعة دافئة من قلبه للكتاب [المقدس] وقصصه الرائعة. ولا تستمع فتاتي اللتان تبلغان الحادية عشر والسابعة من عمرهما ،خلال عيد الفصح أي كلمة عن عدم وجود خروج من مصر، وعندما يصلان إلى سن الخامسة والعشرين سنقول لهم قصة مختلفة. الاعتقاد والتقاليد والبحوث هي ثلاثة خطوط متوازية يمكنها أن تتواجد في وقت واحد. ولا أرى في ذلك تناقضاً جسيماً” (Finkelstein in Lori, 2005). وفي الحقيقة يبالغ فنكلشتين قليلاً. فإذا كان هناك ثمة فصل كامل بين البحث والتقاليد والمعتقد، فلماذا لا يخبر ابنتيه أنه لم يكن هناك خروج من مصر؟ لأنه، في هذه الحالة سوف تشكل البحوث تهديداً للهوية. إن نظرية فنكلشتين بمثابة تهديد مباشر للهويات الصهيونية المحافظة واليهودية. والواقع أن التهديد متبادل: فالأبحاث تشكل خطراً على الهوية، والهوية تشكل خطراً على الموضوعية. ولذلك فإن حل فنكلشتين هو الإصرار على الفصل الذي “يحرر التوتر” (Finkelstein, 2006-2007: Lecture 13). وكما حاولت أن أظهر، فإن إصرار فنكلشتين على الفصل هو الأداة البلاغية المستخدمة في دفاعه لتهدئة المخاوف من الجمهور الإسرائيلي اليهودي، فضلاً عن الأداة البلاغية المستخدمة ضد منافسيه في السجالات الحامية حول التحقيب المنخفض والتحقيب العالي. ما يريد فينكلشتين قوله هنا هو قدرته على التوفيق بين أبحاثه ونظرياته مع وجهات نظره الاجتماعية والسياسية والثقافية كصهيونية يهودية / علمانية تقليدية. فهو يقول، على سبيل المثال، “لدي آراء قوية جداً بشأن الهوية والخلفية التاريخية. أنا لست مذعوراً (Finkelstein in Feldman, 2006) . وبعبارة أخرى، فإن فينكلشتين لا يعتريه الذعر لأن وجهات نظره ونظرياته التي يسترشد بها إبستيمولوجياً واجتماعياً من خلال “الرؤية من الوسط” (Finkelstein, 2006-2007: Lectures 1& 13; Finkelstein, 2011) تتناغم مع بعضها البعض. وهذا لا يعني أن نظرياته لا تعرض هوية الآخرين للخطر، على سبيل المثال. وجهات نظر الصهاينة المحافظين، والتيارات المحافظة المهيمنة بين اليهود الأرثوذكس، وبطبيعة الحال، اليهود المتزمتين. لماذا يكون من المهم جدا أن يختم فينكلشتين بالقول “الفجوة المتزايدة التي لا تطاق بين ما يجري في علم الآثار اليوم وما يعرفه الجمهور” (Finkelstein in Feldman, 2006)؟. لأن الهويات لا تصوغ فقط علم الآثار، وإنما لأن علم الآثار يمثل أيضا قوة تشكيلية تصوغ الهويات. كتب فينكلشتين كتباً لعامة الناس، ومحاضراته ومقابلاته هي جزء من النضال لهوية إسرائيل. و يجب أن تستمر، في رؤيته، تنمية الهوية الصهيونية اليهودية في مسار ديمقراطي ليبرالي: “إن قوة إسرائيل تتحدد، أولاً وقبل كل شيء، من كونها مجتمعاً منفتحاً وديمقراطياً وليبرالياً، يمكنه التعامل مع ماضيه الأخير البعيد. وفي هذا الصدد، فإن البحوث الحرة والحيوية والنابضة بالحياة هي اليوم أكثر أهمية بكثير من القصور الرائعة التي تعود للقرن العاشر ق.م “(2002 to Finkelstein and Silberman, 2001 من المقدمة العبرية). وبطريقة مماثلة، تنعكس أعمال فنكلشتين وسلطته العلمية في البرامج التلفزيونية التي يستخدمها ناشطون ملحدون في النضال من أجل هوية إسرائيل، ومنها على سبيل المثال:
(أ)أشرطة فيديو يوتيوب ScienceReasonIsrael ، وخاصة الفيديو التالي المؤرخ ب 3 أيلول 2013 و الذي يتحدث عن الخروج من مصر http://www.youtube.com/watch?v=NTxBNVVxXd0
(ب) انظر أيضاً المنشور التالي في موقع http://www.daatemet.org.il/articles/article.cfm?article_id=10 لمنظمة Daatemet ، وهي منظمة ملحدة تهدف إلى تقويض التفسير الأرثوذكسي للكتاب المقدس، والتي “أصبحت أداة سياسية في يد الأصوليين المهتمين بالذات الذين يدعون أنهم يمتلكون ملكية حصرية لهذا الإرث, و يمكن الاطلاع عليها على موقعها http://www.daatemet.org/aboutus.cfm
في الختام، لا يمل فنكلشتين من تكرار القول بضرورة الانفصال، فقط لأنه في الواقع لا وجود له. لا يمكن لأحد أن يفصل هويته عن أسئلة حول هويته. ولكي نكون حاسمين حقاً يجب أن نعترف بأن هويته ونظرياته مترابطة بدلاً من أن نعلن أنها موضوعية وغير متحيزة. وينبغي الاستعاضة عن مبدأ الموضوعية بمبدأ “التداخل المشترك”.
……
العنوان الأصلي: Israel vs. Judah: The Socio-Political Aspects of Biblical Archaeology in Contemporary Israel
المؤلف: Shimon Amit
الناشر : http://www.HPS-Science.com / 2014
ترجمة :محمود الصباغ
…….
ملاحظات
*[غرودنو مدينة تقع الآن ضمن أراضي جمهورية بيلاروسيا وتقع قرب الحدود الليتوانية و البولندية، انتقلت حياتها عدة مرات بين بيلاروسيا وليتوانيا، سكانها خليط من اليبلاروس و البولونيين و الليتوانيين]
1- ترمز قصة أبراهام، على سبيل المثال، إلى انفصال العبرانيين عن البدو الساميين البدو، والقصص عن إسحاق ويعقوب ترمز إلى فصل “شعب إسرائيل” عن الشعوب العبرية الأخرى. هذا وقد حاول دوبناو، والمؤرخين الصهاينة بعده، التوفيق بين الكتاب المقدس والأدلة الأثرية والبحوث الحديثة، على سبيل المثال. القصص التوراتية للخروج من مصر وفتح كنعان فيما يتعلق بالأدلة من خارج الكتاب فيما يتعلق بحكم مصر على كنعان في الوقت المفترض لوقوع الأحداث.
2- الترجمات من العبرية للمؤلف، على الرغم من أن في العديد من الاستشهادات أدناه استخدمت كلياً أو جزئياً الترجمات الإنجليزية التي تظهر في المواقع الإخبارية.
3-يقول فينكلشتاين في العبرية “شينكاني وثني عدمي”، على الرغم من أنه في النسخة الإنجليزية من المقابلة تم ترجمتها إلى “عدمي مترف”، وهي عبارة مخففة وأكثر وضوحاً للقارئ غير الإسرائيلي.
4- مقابلة مع فرقة Cain and & 90210 .. http://pod.icast.co.il/bfcc402e-cdc4-4fc1-b964-94d2bcbacc67.icast.mp3
وانظر أيضا Penn, 2011.
5- انظر نهاية المقابلة مع بينيت هنا http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/523/195.html
6- انظر، https://www.facebook.com/NaftaliBennett/posts/671099339578404
7-أنظر مثلا
http://elderofziyon.blogspot.co.il/2014/02/erekats-latest-lie-my-family-was-in.html#.VSz9V_mUftt-
http://elderofziyon.blogspot.co.il/2014/02/saeb-erekat-admits-he-is-jordanian.html#.UxY2LWDNvyc
http://www.assawsana.com/portal/pages.php?newsid=167478.
8-غارفينكيل يستمتع بما يراه هزيمة التفكيكيين على طريقتهم الخاصة. انظر، على سبيل المثال، مراسلاته الدؤوبة مع فيليب ديفيز:
http://www.biblicalarchaeology.org/scholars-study/the-great-minimalist-debate/ Yoav Karny (2010)
وأشار كارني الذي أجرى مقابة مع غارفينكل إلى أنه يستمتع كثيراً بالضجة التي تثار حوله وهو حريص على القتال.
9-يقارن غارفينكل النص الكتابي بكتاب “حقيبة الكذب”، وهي مجموعة شهيرة من القصص الطويلة التي تصف أيام البالماح (مقاتلي قوات النخبة في الييشوف) إذ لا ينبغي للمرء أن يأخذ تلك القصص بحرفيتها، لكنها تحتوي على بذور الحقيقة حول المواقع الجغرافية والعلاقات بين اليهود والعرب والبريطانيين. ويزعم غارفينكل بطريقة مماثلة أنه يمكن استخدام الكتاب المقدس كدليل في البحث عن الحقائق والقرائن عن الحقائق (Karny, 2010)).
(10) بخصوص قيافا: انظر: http://qeiyafa.huji.ac.il/ostracon.asp
………………
المصادر
Abu El-Haj, Nadia (2002) Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society (Chicago, Ill.: University of Chicago Press).
Aharoni, Yohanan (1957) The Settlement of the Israelite Tribes in the Upper Galilee [in Hebrew] (Jerusalem: Magnes Press, Hebrew University).
Albright, William Foxwell (1968) Yahweh and the Gods of Canaan: A Historical Analysis of Two Contrasting Faiths (London: University of London, Athlone Press).
Alt, Albrecht (1966) Essays on Old Testament History and Religion. Translated by R.A. Wilson (Oxford: B. Blackwell).
Beck, Eldad (2014) ‘Kerry: Israel’s security – an Illusion, Boycott is in the Doorway’, Ynet.co.il (1 February). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4483419,00.html.
Ben-Simhon, Coby (2012) ‘Benny Morris on Why He’s Written his Last Word on the Israel-Arab Conflict’, Haaretz.com (20 September). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/benny-morris-on-why-he-s-written-his-last-word-on-the-israel-arab-conflict-1.465869.
Dagan, Yehudah (2009) ‘Khirbet Qeiyafa in the Judean Shephelah: Some Considerations’, Tel Aviv 36: 68–81.
Davies, Philip (1992) In Search of ‘Ancient Israel’ (Sheffield: JSOT).
Davies, Philip (2002) ‘Minimalism, “Ancient Israel,” and Anti-Semitism’, Bibleinterp.com. Available at http://www.bibleinterp.com/articles/Minimalism.shtml.
Dayan, Moshe (1978) Living with the Bible (London: Weidenfeld and Nicolson).
Dever, William (2003) ‘Contra Davies’, Bibleinterp.com. Available at http://www.bibleinterp.com/articles/Contra_Davies.shtml.
Draper, Robert (2010) ‘Kings of Controversy: Was the Kingdom of David and Solomon a Glorious Empire—or Just a Little Cow Town? It Depends on which Archaeologist You Ask’, National Geographic (December). Available at http://ngm.nationalgeographic.com/2010/12/david-and-solomon/draper-text
Emek Shaveh Association (2013) ‘From Silwan to the Temple Mount: Archaeological Excavations as a Means of Control in the Village of Silwan and in Jerusalem’s Old City – Developments in 2012’, Alt-arch.org. Available at http://alt-arch.org/en/wp-content/uploads/2013/04/Frm-Sil-to-Tmpl-Mnt-English-Web-.pdf.
Emek Shaveh Association (2012) ‘Archaeology on a Slippery Slope: Elad’s Sifting Project in Emek Tzurim National Park’, Alt-arch.org. Available at http://alt-arch.org/en/archaeology-on-a-slippery-slope/.
Erlanger, Steven (2005) ‘King David’s Palace Is Found, Archaeologist Says’, The New York Times (5 August). Available at http://www.nytimes.com/2005/08/05/international/middleeast/05jerusalem.html?pagewanted=print.
Feldman, Maya (2006) ‘Breaking with Tradition’, Ynet.co.il (16 October). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-3314122,00.html.
Finkelstein, Israel (1996) ‘The Archaeology of the United Monarchy: An Alternative View’, Levant 28 (1): 177-187.
Finkelstein, Israel (2005) “A Low Chronology Update: Archaeology, History and Bible”, in Thomas Levy & Thomas Higham (eds), The Bible and Radiocarbon Dating: Archaeology, Text and Science (London: Equinox): 31-42.
Finkelstein, Israel (2006-2007) Ancient Israel: Archaeology, the Bible and What Happened (A course at Tel Aviv University). Available at http://www.youtube.com/watch?v=BQGul9OYI7s&list=PLL6llhM6ViT1x4kNxJpFy3DMjPgmw1bRu.
Finkelstein, Israel (2011) ‘In the Eye of Jerusalem’s Archaeological Storm: The City of David, Beyond the Politics and Propaganda’, The Jewish Daily Forward (26 April; issue of May 06, 2011). Available at http://forward.com/articles/137273/in-the-eye-of-jerusalem-s-archaeological-storm/.
Finkelstein, Israel (2013) The Forgotten Kingdom: The Archaeology and History of Northern Israel (Atlanta: Society of Biblical Literature).
Finkelstein, Israel & Alexander Fantalkin (2012) ‘Khirbet Qeiyafa: An Unsensational Archaeological and Historical Interpretation’, Tel Aviv 39: 38-63.
Finkelstein, Israel & Eli Piasetzky (2010) ‘Khirbet Qeiyafa: Absolute Chronology’, Tel Aviv 37: 84–88.
Finkelstein, Israel & Eli Piasetzky (2011) ‘The Iron Age Chronology Debate: Is the Gap Narrowing?’, Near Eastern Archaeology 74 (1): 50–54.
Finkelstein, Israel & Neil Silberman (2001) The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts (New York: Free Press).
Finkelstein, Israel, Lily Singer-Avitz, Ze’ev Herzog & David Ussishkin (2007) ‘Has King David’s Palace in Jerusalem Been Found?’, Tel Aviv 34 (2): 142-164.
Friedman, Julia (2013) ‘Crying King David: Are the Ruins Found in Israel Really his Palace?’, Haaretz.com (26 August). Available at http://www.haaretz.com/archaeology/.premium-1.543216.
Galil, Gershon (2009) ‘The Hebrew Inscription from Khirbet Qeiyafa/Neta’im: Script, Language, Literature and History’. Ugarit Forschungen 41: 193-242.
Garfinkel, Yosef (2011) ‘The Birth and Death of Biblical Minimalism’, Biblical Archaeology Review 37: 46–53, 78.
Garfinkel, Yosef (2012-2013) The Beginning of the Kingdom of Judah (A course at the Hebrew University of Jerusalem). Available at http://www.youtube.com/watch?v=V4F51-_98Gc&list=PLcysIED5sYMl_oEKBtB8_jfn2afyftm73.
Garfinkel, Yosef (2013a) Khirbet Qeiyafa Project 2007-2013: Final Summary of Field Results by Excavation Area and Season. Available at http://qeiyafa.huji.ac.il/Reports/Seven_Seasons_of_Excavations.pdf.
Garfinkel, Yosef (2013b) Why Khirbet Qeiyafa is a Judean city. Available at http://qeiyafa.huji.ac.il/Reports/Is_Khirbet_Qeiyafa_a_Judean_site.pdf.
Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2008a) ‘Khirbet Qeiyafa: Sha’arayimn’, Journal of Hebrew Scriptures 8: Article 22.
Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2008b) Khirbet Qeiyafa: An Early Iron IIA Fortified City in Judah; presentation at the 2008 ASOR meeting. Available at http://www.judaea.ru/upload/files/ASOR_2parts.pdf.
Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2009) Khirbet Qeiyafa: Excavation Report 7002 – 7002 (Jerusalem: Israel Exploration Society).
Garfinkel, Yosef, Saar Ganor, Michael Hasel & Guy Stiebel (2009) ‘Notes and News: Khirbet Qeiyafa, 2009’, Israel Exploration Journal 59: 214–220.
Garfinkel, Yosef, Saar Ganor & Michael Hasel (2012) Footsteps of King David in the Valley of Elah (Tel Aviv: Yedioth Ahronoth Books and Chemed Books).
Gelber, Yoav (2012) ‘How and When the Land of Israel was Invented? They Say, There is a Land’, Haaretz.co.il. (27 September). Available at http://www.haaretz.co.il/literature/study/1.1829868.
Haaretz (2012) ‘Comments Following the Interview with Shlomo Sand’, Haaretz.co.il (8 June). Available at http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1724795.
Halutz, Doron (2013) ‘The Election Season of Muli Segev and Eretz Nehederet’, Haaretz.co.il (2 February). Available at http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1918617.
Hasson, Nir (2011) ‘The University of Tel Aviv and The Hebrew University in Excavations War’, Haaretz.co.il (11 March). Available at http://www.haaretz.co.il/news/science/1.1166225.
Hasson, Nir (2012) ‘Were There Two Holy Temples? Israeli Archaeologists Uncover Ancient Temple Just Outside Jerusalem’, Haaretz.co.il (26 December).English version available at http://www.haaretz.com/news/national/israeli-archaeologists-uncover-ancient-temple-just-outside-jerusalem.premium-1.
Hasson, Nir (2013a) ‘Archaeologists are Divided: Has King David’s Palace been Found?’, Haaretz.co.il (18 July). English version available at http://www.haaretz.com/news/features/.premium-1.536594.
Hasson, Nir (2013b) ‘Ancient Golden Treasure Trove Found at Foot of Jerusalem’s Temple Mount’, Haaretz.co.il (9 September). English version available at http://www.haaretz.com/archaeology/.premium-1.545965.
Herzog, Ze’ev (1999) ‘The Bible. There are no Finds in the Field’, Haaretz (29 October). Available at http://www.hayadan.org.il/bible-no-evidence-291099/.
Hoffmann, David Zvi (1902) Die Wichtigsten Instanzen gegen die Graf-Wellhausensche Hypothese (Berlin: Itzkowski).
Israel Ministry of Foreign Affairs (2013) ‘PM Netanyahu on the Gold Treasure Uncovered in Jerusalem’, mfa.gov.il (9 September). Available at http://mfa.gov.il/MFA/PressRoom/2013/Pages/PM-Netanyahu-on-the-gold-treasure-uncovered-in-Jerusalem-9-Sept-2013.aspx.
Eltahawy, Mona and Amy Klein (1998) ‘Palestinian Dig Unearths Canaanite Homes’, Reuters /Jerusalem Post (4 August). Available at http://www.highbeam.com/doc/1P1-16487322.html.
Karny, Yoav (2010) ‘Yossi Garfinkel, Detective of History’, Yoavkarny.com. (9 January). Available at http://yoavkarny.com/2010/01/09/%D7%99%D7%95%D7%A1%D7%99-%D7%92%D7%A8%D7%A4%D7%99%D7%A0%D7%A7%D7%9C-%D7%91%D7%9C%D7%A9-%D7%94%D7%99%D7%A1%D7%98%D7%95%D7%A8%D7%99/
Karpel, Dalia (2012) ‘Author of ‘The Invention of the Jewish People’ Vents Again’, Haaretz.co.il (26 May). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/author-of-the-invention-of-the-jewish-people-vents-again.premium-1.432371.
Kashua, Sayed (2012) ‘Sayed Kashua’s Daughter’s School Project isn’t Homework, it’s War’, Haaretz.com (25 October). Available at http://www.haaretz.com/weekend/weekend/sayed-kashua-s-daughter-s-school-project-isn-t-homework-it-s-war.premium-1.472257.
Kratz, Reinhard (2009) ‘Eyes and Spectacles: Wellhausen’s Method of Higher Criticism’, The Journal of Theological Studies 60 (2): 381-402.
Kuhn, Thomas (1970) The Structure of Scientific Revolutions (Chicago: University of Chicago Press).
Lanski, Na’ama and Daphna Berman (2007) ‘Storm in a Neo-Con teapot’, Haaretz.co.il (29 November). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/week-s-end/storm-in-a-neo-con-teapot-1.234226.
Latour, Bruno (1987) Science in Action: How to Follow Scientists and Engineers through Society (Cambridge, Mass.: Harvard University Press).
Lemche, Niels (1988) Ancient Israel: A New History of Israelite Society (Sheffield: Jsot Press).
Lemche, Niels (2008) The Old Testament between Theology and History (Louisville, Ky.: Westminster John Knox Press).
Levin, Yigal (2012) ‘The Identification of Khirbet Qeiyafa: A New Suggestion’, Bulletin of the American Schools of Oriental Research 367: 73-86.
Levine, Lee & Amihai Mazar (eds) (2001) The Controversy over the Historicity of the Bible (Jerusalem: Yad ben Zvi – Dinur Center).
Lori, Aviva (2005) ‘The Greatest Spin in History’, Haaretz.co.il (26 February). English version [‘Grounds for Disbelief’] available at http://www.haaretz.com/grounds-for-disbelief-1.10757.
Masalha, Nur (2007) The Bible and Zionism: Invented Traditions, Archaeology and Post-Colonialism in Palestine-Israel (London: Zed Books).
Mazar, Amihai (2011) ‘The Iron Age Chronology Debate: Is the Gap Narrowing? Another Viewpoint’, Near Eastern Archaeology 74 (2): 105-111.
Mazar, Benjamin (1974) Canaan and Israel: Historical Essays (Jerusalem: Bialik).
Mazar, Eilat (2006a) ‘Patriotism and National Security in Israel’, The Sixth Herzliya Conference (24 January). Available at http://www.herzliyaconference.org/?ArticleID=2097&CategoryID=258.
Mazar, Eilat (2006b) ‘Did I Find King David’s Palace?’, Biblical Archaeology Review 32 (1): 16-27.
Mazar, Eilat (2007) Preliminary Report on the City of David Excavations 2005 at the Visitors Center Area. Translated by Ben Gordon. (Jerusalem: Shalem Press).
Millard, Alan (2011) ‘The Ostracon from the Days of David Found at Khirbet Qeiyafa’, Tyndale Bulletin 61: 1-13.
Misgav, Haggai (2010) Contradictions between Archeology and the Bible (A lecture delivered at Herzog College). Available at http://www.youtube.com/watch?v=7hB3_bvdhxI.
Morris, Benny (1987) The Birth of the Palestinian Refugee Problem (Cambridge: Cambridge University Press).
Na’aman, Nadav (2008) ‘In Search of the Ancient Name of Khirbet Qeiyafa’, Journal of Hebrew Scriptures 8: Article 21.
Na’aman, Nadav (2012) ‘Khirbet Qeiyafa and the Philistine-Canaanite Struggle in South Canaan in the Early Iron Age’, Cathedra 143: 65–92.
Nesher, Talila (2013) ‘With the Support of Sa’ar, Shalem Center was Recognized as Academic Institution’, Haaretz.co.il (3 January). Available at http://www.haaretz.co.il/news/education/1.1899517.
Noth, Martin (1960) The History of Israel (New York: Harper and Row).
Penn, Lea (2011) ‘Cain & Abel 90210 Present: Laughter and Rage’, Haaretz.co.il (28 March). Available at http://www.haaretz.co.il/gallery/music/discovery/1.1168932.
Rapoport, Meron (2006) ‘The republic of Elad’, Haaretz.com (23 April). Available at http://www.haaretz.com/print-edition/features/the-republic-of-elad-1.185892.
Reinstein, Ziv (2013) ‘Gold Treasure Including a Model of Menorah was Discovered Near Temple Mount’, Ynet.co.il (9 September). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4427447,00.html.
Rendsburg, Gary (1999) ‘Down with History, Up with Reading: The Current State of Biblical Studies’, McGill University Department of Jewish Studies Thirtieth Anniversary Conference (expanded version). Available at http://jewish30yrs.mcgill.ca/rendsburg/.
Rollston, Christopher (2011) ‘The Khirbet Qeiyafa Ostracon: Methodological Musings and Caveats’, Tel Aviv 38: 67–82.
Sand, Shlomo (2009) The Invention of the Jewish People. Translated by Yael Lotan. (London: Verso).
Sand, Shlomo (2012) The Invention of the Land of Israel. Translated by Geremy Forman. (London: Verso).
Sand, Shlomo (2013) How and When I Stopped Being Jewish (Or Yehuda: Kinneret, Zmora-Bitan).
Segev, Muli & Adam Sanderson (2010) This is Sodom; feature film (Israel: United King Films).
Shapira, Anita (2009) ‘The Jewish-People Deniers’, The Journal of Israeli History 28 (1): 63-72.
Shapira, Ran (2005) ‘A Debate of Biblical Proportions’, Haaretz.co.il (8 September). English version available at http://www.haaretz.com/print-edition/features/a-debate-of-biblical-proportions-1.169365.
Sharon, Ilan, Ayelet Gilboa, AJ Timothy Jull & Elisabetta Boaretto (2007) ‘Report on the First Stage of the Iron Age Dating Project in Israel: Supporting a Low Chronology’, Radiocarbon 49:1–46.
Shtull-Trauring, Asaf (2011) ‘The Keys to the Kingdom’, Haaretz.co.il (21 April). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/the-keys-to-the-kingdom-1.360222.
Silberman, Neil (1993) A Prophet from amongst You: The Life of Yigael Yadin: Soldier, Scholar, and Mythmaker of Modern Israel (Reading, MA: Addison-Wesley).
Silberman, Neil & David Small (eds) (1997) The Archaeology of Israel: Constructing the Past, Interpreting the Present (Sheffield, England: Sheffield Academic Press).
Sima, Gil (2012) ‘Ben-Gurion Stated: Rechovot is Part of Tel Aviv’, Mynet.co.il (16 December). Available at http://www.mynet.co.il/articles/0,7340,L-4318985,00.html.
Thompson, Thomas (1992) Early History of the Israelite People: From the Written and Archaeological Sources (Leiden, the Netherlands: Brill).
Thompson, Thomas (1999) The Mythic Past: Biblical Archaeology and the Myth of Israel (New York: Basic books).
Thompson, Thomas (2001) ‘A view from Copenhagen: Israel and the History of Palestine’, Bibleinterp.com.
Available at http://www.bibleinterp.com/articles/copenhagen.shtml.
Thompson, Thomas (2011) ‘On the Problem of Critical Scholarship: A Memoire’, Bibleinterp.com. Available at http://www.bibleinterp.com/opeds/critscho358014.shtml.
Toffolo, Michael, Eran Arie, Mario Martin, Elisabetta Boaretto & Israel Finkelstein (2014) ‘Absolute Chronology of Megiddo, Israel, in the Late Bronze and Iron Ages: High-resolution Radiocarbon Dating.’ Radiocarbon 56 (1): 221-244.
Vaux, Roland (1965) ‘Method in the Study of Early Hebrew History’, in J. Hyatt (ed), The Bible and Modern Scholarship (Nashville, TN: Abingdon): 15-29.
Verter, Yossi (2013) ‘From the Palestinians to His Own Coalition, Netanyahu Faces a Year of Decisions’, Haaretz.co.il (27 December). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/1.565698.
Wallace, Jennifer (2013) ‘Archaeology and the Israel-Palestine Conflict’, ISN (January). Available at http://www.isn.ethz.ch/Digital-Library/Articles/Special-Feature/Detail/?id=143890&contextid774=143890&contextid775=143886&tabid=1452426438.
Wellhausen, Julius (2013 [1878]) Prolegomena to the History of Ancient Israel (New York: Cambridge University Press).
Whitelam, Keith (1996) The Invention of Ancient Israel: The Silencing of Palestinian History (New York: Routledge)
Yadin, Yigael (1975) Hazor: The Rediscovery of a Great Citadel of the Bible (London: Weidenfeld and Nicolson).
Yifa, Yaakov (2014) ‘Israel Said Set to Accept Kerry’s Framework Proposals’, The Times of Israel (2 February). Available at http://www.timesofisrael.com/israel-said-set-to-accept-kerrys-framework-proposals/?utm_source=dlvr.it&utm_medium=twitter.
Zertal, Adam (1999) ‘Go to Mount Ebal – says Herzog’s rival, Adam Zertal’, Haaretz (11 November). Available at http://www.hayadan.org.il/go-to-eival-mt-sais-zertal-111199
Zertal, Adam (2000) A Nation is Born: The Altar on Mount Ebal and the Emergence of Israel (Tel Aviv: Yedioth).
Ziffer, Benny (2013) ‘A Breathtaking Jewish Archaeological Discovery? Give Me a Break’, Haaretz.com (18 September). Available at http://www.haaretz.com/jewish-world/high-holy-days-2013/high-holy-day-news-and-features/.premium-1.547727. 87