قراءة في الفيلم والرواية
يقال ليس صعباً صنع فيلم “رائع” من رواية متوسطة القيمة، ولكن ليس سهلاً صنع فيلم “عظيم” من رواية “عظيمة”، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى؛ إلا أن الأمر ليس هكذا على الدوام، فحين شاهد همنغواي الفيلم المقتبس من روايته “لمن تقرع الأجراس” قال هذه ليست قصتي، وكذلك فعل شتاينبك حين قال “هذه ليست قدحي” بعد متابعته فيلم مقتبس عن قصته “قدح من ذهب”، كما أن نجيب محفوظ لم يكن راضٍ كثيراً عن الفيلم المقتبس من روايته “زقاق المدق” .
لكن [دائما هناك لكن] السينما لا تهتم لمثل هذه القصص، إذ سرعان ما يلتقط المخرجون أعمالاً أدبية رائعة ويحولوها إلى أفلام، و هم أمام خيارين، إما أن يغتالوا القصة بتقديم فيلم خارق أو تقديم فيلم يفشل في مجاراة الرواية وصياغتها البصرية دون أن يؤثر ذلك على الفرجة. ولكن إذا وضعنا باعتبارنا اختلاف الفيلم عن الرواية من حيث الوصف والوظيفة والمتغيرات السردية والبصرية ومتوالية الكلمة مقابل الصورة، فيمكن عندها أن نحتفظ بتقويمنا لكل من الرواية والفيلم دون أن يؤثر أحدهما على الآخر ودون أن نكون مضطرين للتمسك بخيار الموازنة أو المقارنة أو حتى الرفض أو القبول لأحدهما أو كليهما. وفي كلا الحالتين سنخرج بـ “ثيمة” معينة يتمحور حولها الفيلم بطريقة يجد فيها المخرج المعادل السينمائي الضروري والمطلوب.
اختار نجيب محفوظ، في رواية اللص والكلاب، أن يصور الحالة النفسية لسعيد مهران من خلال رصده لمدينة القاهرة بعد نحو أقل من عقد من ثورة الضباط الأحرار. أما الفيلم فاختار التركيز على الجانب البوليسي “مطاردة سعيد مهران” دون الخوض عميقاً في المضامين الأدبية والفلسفية الوجودية التي تتضمنها الرواية، وهذا اختلاف هام في بنية كل منهما، رغم التداخل التعبيري في الرموز أو في الحكاية، وهذا يدل على اتكاء الفيلم كثيراً على النص الروائي مستعيناً بالتقنيات البصرية والسينمائية ليقترب منه قدر المستطاع، لاسيما في الوصف والسرد، فضلاً عن المونولوج الداخلي الذي تحول -بمهارة- داخل الفيلم إلى حوارات بصرية وبهذا فقد احتفى الفيلم بالصورة المتحركة للتعبير عن الأحداث لخلق إيهام واقعي عند المتلقي.
وعلى الرغم من مرور نحو نصف قرن على عرضه، لايزال يعد أحد أهم الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية والذي حقق العناصر الفنية الأساسية التي يتشكل منها الفيلم السينمائي بما في ذلك الفرجة والإقناع. وثمة عوالم مختلفة ساهمت في بقاء العمل حياً في أذهان الناس، فهناك العامل الموضوعي المتمثل في الواقع المادي الاجتماعي لمصر في بداية الستينيات “ظهور قصة السفاح محمود أمين سليمان التي تعد المادة الرئيسية للرواية والفيلم”، ثم هناك الواقع الروائي الذي قام محفوظ ببناء معماره الفني في صورة نص يحمل فضاءات وشخصيات متخيلة لها صلات واقعية موضوعية بطريقة ما.
قد يبدو وجيهاً التوقف عن عقد المقارنات بين الرواية والفيلم المقتبس منها، نظراً لأن الكفة ستميل دائماً لصالح النص، فالمتلقي لديه صورة مسبقة عن تطور وتسلسل الأحداث الروائية طالما أن النص هو الأصل، بمعنى أن النص الأصلي يقع في قلب ومركز جملة المقارنة، و بمدى اقتراب الفيلم من النص، ونظراً لأن المتلقي ليس متخصصاً في الشأن السينمائي ولا يعنيه كثيراً أو قليلاً تعريف التقنيات السينمائية من مونتاج وسيناريو وحوار وإضاءة وموسيقا واختيار أماكن التصوير والمشاهد الداخلية والخارجية وغيرها، فسوف تكون الرواية مرجعتيه كقارئ (ربما يقرأ الرواية وحيداً، في حين أن الذهاب إلى السينما يستوجب طقوساً غير متوفرة في استراتيجيات القراءة، وكل هذا له تأثير في تقويم المشاهد).
ورغم طابع الفيلم البوليسي، إلا أنه بقي مخلصاً لنص محفوظ مما يوحي-عرضاً- بقبول كمال الشيخ لأفكار محفوظ واحترامه للنص فلم يخلُّ بسرديته ولا بأفكاره الرئيسية إلا بما تقتضيه الإجراءات السينمائية، حيث لا يمتلك الفيلم تلك المساحة الزمنية لاستعراض مشاهد الرواية كافة، وربما كانت المشكلة التي واجهت المخرج تتمثل في كيفية التخلص من عقبة السرد الروائي -الذي يكافئ في السينما المشاهد الصامتة- فكان الحل بخلق حوار يكسر حدة وطول هذه المشاهد، بحيث يستطيع الفيلم أن يشكل قوامه الخاص بما يقتضي لجذب انتباه المتلقي من خلال تعدد المشاهد (مقارنة بالرواية) من أجل تبسيط الأفكار الدرامية للنص وصياغتها سينمائيا “أي بصرياً” مع الحفاظ على الأحداث والشخصيات والسيطرة عليهم دون أي هدر في الوقت المتاح لمدة العرض، ومثال ذلك، النهايات. ففي الرواية يقرر سعيد مهران تسليم نفسه للشرطة التي تحاصره باعتبار هذا هو السبيل الوحيد لنجاته مع شعوره بأن هذا سيؤدي به للحكم عليه بالإعدام.. “وأخيراً لم يجد بداً من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة… بلا مبالاة…”. هكذا تنتهي الرواية باستسلام غير “مفهوم” ومستلب، وكأن محفوظ يريد القول أن الموت أرحم من العيش مع الكلاب، أو أن الكاتب عقد صفقة ما مع السلطة ليأتي بمثل هذه النهاية. في حين يجعل كمال الشيخ سعيد مهران يصمد حتى النهاية في مواجهة الشرطة، فيحاول الهرب بعد محاصرته ويطلق عليهم الرصاص إلى أن ينتهي ميتاً. وربما اختار المخرج هذه النهاية لضرورات تقنية العمل البوليسي “الأكشن”.
تفتح الرواية أفقاً لخيال القارئ على أمل يجعله يطوي الكتاب ليتخيل سعيد مهران في المحكمة، ربما يلقي محاضرة أخلاقية على القضاة عن “الكلاب” قبل أن يحكموا عليه بالإعدام، ولكن يصطدم خيال القارئ بعبث محفوظ حين يدرك أن هذا الأمل الممنوح سينتهي بحبل المشنقة. غير أن الأمل هنا يزرعه نجيب محفوظ بمخالفته للنهاية التي روجت لها الصحف لقصة السفاح محمود سليمان التي زعمت بعضها أنه انتحر ولم تقتله الشرطة، (كيف يمكن لشخص أن ينتحر بأن يطلق على نفسه سبعة عشر رصاصة كما تذكر تقارير جريدة الأهرام؟). بينما أقفل كمال الشيخ مشهد النهاية بطريقة فيها الكثير من الإثارة و التعاطف، و إذاً سيخرج المُشاهد وهو يردد بينه وبين نفسه: كيف لم يستطع سعيد مهران أن يهرب منهم؟ لماذا ينبغي له أن يموت؟ ما هو مصير نور ورؤوف ونبوية وعليش؟ ما هذه العبثية؟ كيف يموت هو و تنتصر الكلاب؟
اختار كمال الشيخ على الأرجح الحل الأكثر واقعية والذي يعطي الفيلم “أكشن” أكثر، فضلاً عن عمقٍ فلسفيٍّ يرى أن الشر والفساد أعظم وأقوى من أن يتحداهما شخص بمفرده لأن مصيره سيكون الموت مثلما حصل مع سعيد مهران.
وفي كلتا النهايتين صار سعيد مهران بطلاً ليس لأنه لص جريء يسرق الأغنياء فقط، بل لمظلوميته، والأهم من كل هذا لأنه ضحية، ضحية مركبة، ليس بسبب خيانة زوجته ومعلمه، بل بسبب تنكر المجتمع له ونبذه وتصنيفه لص وسفاح، واعتقد أن هذا ما أثار فضول محفوظ وكمال الشيخ، اللذان حاولا أن يدينا “الكلاب”: رؤوف علوان ونبوية وعليش والشرطة، ولعل رؤوف علوان أكثرهم تمثلاً لمعنى الكلاب الذي يقصده محفوظ، فرؤوف علوان شاب قروي الأصل تعرف على سعيد مهران منذ أن كان طالباً جامعياً، لقد كان مناضلاً “اشتراكيا “مؤمناً بالتغيير، يمتاز بذكاء وواقعية وكاريزما طاغية وله القدرة على السيطرة على الآخرين، وهو متحدث بارع وبراغماتي عنيد وانتهازي خبير يؤمن بقوانينه وليس بقوانين غيره واستطاع أن يتحول إلى صحفي ناجح وقلم مأجور مستغلاً الظروف السياسية الجديدة فتنكر لأصوله الكادحة ولطبقته وبدأ يتطلع بشغف للحياة الارستقراطية بمضامينها وأشكالها كافة. ساهم رؤوف علوان في تأليب الرأي العام ضد سعيد مهران عن طريق تصويره في مقالاته كمجرم ولص خطير وقاتل. ورؤوف علوان أحد أهم شخصيات الرواية والفيلم وهي الشخصية المقابلة للبطل الرئيسي، وإن كانت شخصية رؤوف علوان شخصية واقعية لدرجة مزعجة إلا أننا لا نملك أية معلومات عن مطابقتها مع الواقع، ولكن لابد أن محفوظ استمدها على الأغلب ممن كان يقابلهم أو يتعامل معهم في الوسط الصحفي أو ربما هي مزيج لأكثر من شخصية أضيفت لها مخيلة الراوي ورؤيته وموقفه من هذا النوع من البشر، ومن المهم الانتباه إلى أن رؤوف علوان هو من أقنع سعيد عملياً بأن ما يقوم به من سرقات هو عمل نظيف ومشروع من خلال حقنه بأفكار “ثورية” تتحدث عن المظالم الاجتماعية ومناصرة الفقير ضد الغني (ومن الواضح أن موت والدته جعله يتقبل مثل هذه الإيحاءات).
يمثل رؤوف علوان طبقة كاملة نستطيع التعرف عليها في كل مجتمع تحدث فيه ثورة، فرؤوف علوان يمثل الطبقة التي تخون مبادئ الثورة، ولهذا كان لابد أن يخرج سعيد مهران من السجن ليعيش حريته ولو إلى حين كي ينتقم من الخونة.. “مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاطي، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطوياً على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة.. وهو واحدٌ، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدراً، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدياً. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائعة. نبوية وعليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب” .
تشكل الكلمات السابقة افتتاحية النص الروائي ومحرق الحدث أو الأحداث الأساسية التي سبقت تلك اللحظة والتي تليها والتي سوف تؤسس لمصير سعيد مهران وسعيه للانتقام من الذين غدروا به، وعلى رأسهم رؤوف علوان وعليش ونبوية، الذين يشكلون محيطاً من “الكلاب” تنهش لحمه للتخلص منه فعلاً بقتله ومجازاً بتصنيفه على أنه عدو المجتمع وقيمه السائدة، مجتمع “الثورة” الذي تمثله بيروقراطية عسكرية حاكمة وجيش لا يعد ولا يحصى من المخبرين والانتهازيين والمتكسبين على حساب الثورة، مجتمع يسمح للأوغاد أن ينجو بفعلتهم، بل ويتم مكافئتهم بالمناصب والمحسوبية ومراكمة الثروة.
وهكذا أتى “الواقع” السينمائي الدرامي ليكون محصلة نهائية لكلا الواقعين الموضوعي والروائي، وكلما عبّر هذا الواقع السينمائي عنهما كلما نجح فنياً وكان أكثر تأثيراً على المتلقي؛ فالأفكار والأشخاص التي استوحاها محفوظ من قصة محمود سليمان ستقود المخرج لبناء تصور عن الفيلم ومآلاته، مع الأخذ بالاعتبار حين مناقشتنا للفيلم والرواية عدم الربط العضوي بين محمود سليمان وسعيد مهران، رغم أوجه التشابه العديدة بينهما. فقد توسع محفوظ في شخصية سعيد مهران عبر ملئ جوانبها المختلفة بالقوالب الفلسفية والاجتماعية المتعددة، وحتى تصنيفه كلص لا يوحي بمضامين سلبية نظراً لاقتران هذا التوصيف بكلمة أخرى أشد وقعا بمضامينها، أي الكلاب التي ستحمل كل الشحنة السلبية التي أراد لنا محفوظ أن نتخيلها عن أولئك الذي خانوا وغدروا بسعيد مهران بما في ذلك المجتمع (كشخصية اعتبارية)، وهي تشير بطريقة ما إلى بطش الدولة ومؤسساتها، لاسيما أن الرواية ظهرت بعد عام من صدور قوانين التغيير الاجتماعي والاقتصادي لثورة الضباط الأحرار. وقد خدمت الظروف الموضوعية وكذلك المهارة الأدبية لمحفوظ أن يخلق معادلاً روائياً للواقع، أي قصة السفاح محمود سليمان لتسليط الضوء على فشل “القوانين الثورية” في حل أزمة الإنسان المصري، فضلاً عن تفاقم المآسي والنفاق الاجتماعي والتسلق السياسي والانتهازية والقمع وانعدام الحرية.
عملياً لا يعد النكوص الثوري وانتكاس قيمه حكراً على حركة الضباط الأحرار، بل يبدو كأنه صفة ملازمة لكل الثورات؛ وكأن قدر الثورات أن لا تنجب سوى الوحوش على حد قول سان جوست، فسعيد مهران ليس ثورياً بالفطرة، ولم يولد كذلك، وإنما انتقلت له أفكار الثورة عن طريق رؤوف علوان، الذي كان فيما مضى يحمل أفكاراً تقدمية، فصار قدوته ومثله الأعلى، وتكرست مكانته عنده حين اعتقلته السلطات بسبب أفكاره .
غير أن الثورة وفكرها ورومنسيتها شيء، و الواقع والمعيش اليومي شيء آخر، فسعيد لم يجد من يقف معه في محنته حين مرضت أمه ولم يكن معه ثمن علاجها، بل تم طردهما لتموت بعد ذلك في مشفى حكومي، فكان أن احترف السرقة، في البداية من أجل أمه المريضة، ثم بعد ذلك انتقاما ممن يراهم السبب في موتها :” الأغنياء” والانتهازيين الذين تسلقوا الثورة مستنداً إلى تسويغ رؤوف علوان لسلوكه حين شرعن له السرقة واعتبرها ثورة على المجتمع والسلطة.
لكن حساب الحقل لا يتطابق دائماً مع حساب البيدر، فنعلم أن سعيد مهران تزوج من فتاة فقيرة تدعى نبوية، كانت تعمل خادمة عند سيدة تركية، وتملك جسداً مثيراً و جمالاً “فلاحياً” لاهباً لاسيما حين تلف جسدها بالعباءة التي تبرز مفاتنها فتزيدها شهوة وإغراء. أنجبت نبوية ابنته الوحيدة سناء. وسوف تصبح نبوية من ضمن الكلاب وتستحق القتل حين تشي به للشرطة بالتعاون مع عليش سدرة أحد صبيانه فيتم اعتقاله وزجه في السجن. ليخرج بعد انقضاء حكمه مدفوعاً برغبة الانتقام من الخونة. وعليش هذا هو نموذج واضح لتحول الإنسان من خادم مطيع إلى عدو بالمطلق، من شخص لا قيمة له، “غير مرئي”، ليس صديقا لأحد، إلى عدو وجودي، يستولي على كل شيء تقريباً، على زوجة وثروة وبيت وابنة سعيد، لذلك استحق أن يكون أحد الكلاب أيضاً وأول من يفكر سعيد بقتلهم (لم تعط الرواية حيزاً ومساحةً كبيرة لعليش بعكس الفيلم).
يتشكل الإطار الدرامي للفيلم ضمن سويّات السلطة وتراتبيتها ومن يقبض على ناصيتها ومن يؤثر فيها، ففي القمة هناك الشرطة والمخبرين والصحافة والسجن، وأهمهم وأخطرهم رؤوف علوان. يلي ذلك المؤسسة الدينية التي تقع في الوسط ويمثلها الشيخ الجنيدي، ثم أخيرا هناك الفئة المهمشة والمحرومة، وهي تمثل بقية الشخصيات: سعيد مهران، نبوية، عليش، نور.. وغيرهم، وتشترك هذه المستويات في خلق حالة التصعيد بحيث يكون كل مستوى مسؤول عن توتر معين يجلب معه إرباكات عديدة وتمثل مصفوفة التصعيد هذه البنية المركزية التي اشتغل عليها الفيلم ليعطي الشكل البوليسي المطلوب منه، وإذا كان المستوى الأول لا يحتوي غالباً سوى الكلاب فالمستوى الأخير يشمل كلاباً ولصوصاً وما بينهما، ويقع المستوى الأوسط في حالة ترقب وانتظار، وهذه السويات هي أيضاً التي شكلت الأطر الدرامية التي بنى عليها نجيب محفوظ روايته، فكان سعيد مهران “معادل محمود سليمان” ممثلاً للمستوى الثالث حين يجمع بين ما هو واقعي (حكاية السفاح) وبين ما هو إبداعي متخيل (حكاية سعيد مهران) وما يربط بين الحكايتين هو نسق الصراع الرئيسي الذي خلقه محفوظ بأسلوب فلسفي يختلف عمّا سبقه من أعمال، إن على صعيد الشخصيات الرئيسية أم على صعيد الحيز المكاني للأحداث، لدرجة أن العديد من النقاد نظروا لها باعتبارها انقلاب في المسار الروائي القصصي عند محفوظ، فالقصة ذات حجم صغير نسبياً قياساً بأعماله الأخرى، فضلاً عن العمق الفلسفي والأفكار التي تطرح فيها (ربما لأول مرة في أعمال محفوظ). ولاريب أن الرواية أثارت جدلاً واسعاً حين صدورها، لدرجة أن البعض اعتبرها مجرد رواية بوليسية، ومحطة تجريبية لن تطول طويلاً، وإنما كتبت بتأثير ما كان يتم تداوله في الصحف آنذاك عن محمود سليمان، ولعل تلك التقارير الصحفية جذبت انتباه نجيب محفوظ للنظر إلى محمود سليمان من زاوية أخرى بعيدة عن الخطاب الرسمي لصحف “الثورة”، فظهر محمود سليمان ليس سفاحاً، بل لصاً محترفاً تحول بالصدفة إلى بطل يسعى لانتقامه الشخصي من “الكلاب”.
اختار المخرج عنوان الرواية أيضاً لفيلمه. عنوان بسيط لكنه مشبع بالترميز بقدر ما تسمح قواعد اللغة العربية، فثمة “لص” معرّف و ثمة “كلاب” معرّفة وبينهما حرف عطف، يؤكد علاقة اللص مع الكلاب وارتباط مصائرهما. جملة اسمية “اللص” فيها مبتدأ خبره غير ظاهر، محذوف (يتم تقديره على أنه النص بمجمله)، وجملة العطف تتكون من “واو” ومعطوف عليه، وثمة اختلاف “كمي” في جملة العطف، فاللص مفرد أما الكلاب مجموع، وهذا أحد أهم مداخل الفيلم والرواية، إذ لطالما ابتدأ “الثوار” نضالهم لصالح قضايا عامة لينتهي بهم المطاف في حلول فردية، و يدخل في تعريف اللص أيضاً من يطلق النار على الكلاب، أما الكلاب فهم الذين سينتصرون في نهاية المطاف، وانتصار الكلاب مدخل آخر هام يأخذ صفة الواقعية باعتبار أن الأحداث الرئيسية للرواية والفيلم تستند إلى قصة حقيقية. وبهذا، ورغم بساطة العنوان، إلا أنه يختزن شحنة دلالية حادة سوف نلتقط منها إشارات تتضمن اختزال المعنى ومحاولة الوصول لما هو مخفي فيه، ولا يخلو البحث الاستفهامي في العنوان من قدح شرارة السؤال عن من هو اللص في الحقيقة، ومن هم الكلاب في الواقع، فتقدم كلمة “اللص” (بألف ولام التعريف) انطباعاً قصدياً بدلالات “خارجية” مفروضة من أعلى، فاللص هو خارج عن القانون في نظر الدولة ومعتدٍ على ممتلكات الغير، وهكذا يساهم القانون كأداة في فرض التعريف الخارجي للص ودلالته، أما “الكلاب”( بألف ولام التعريف أيضاً) فهي دلالة مليئة بالطاقة الرمزية والمجاز، فالكلاب ذات مستوين من الدلالة: مستوى شعبي يرى فيها “النجاسة” وبالتالي الغدر والخسة، وفي الحقيقة الكلاب هنا هم من غدروا باللص فالكلاب هم الأوغاد، بمعنى، هم اللصوص الحقيقيون، وليس سعيد مهران، بل هم من خانوا الأمانة والقيم الأصيلة بكل خسة ودناءة، ولهذا لا يجد سعيد نفسه مخطئاً حين يقرر الانتقام منهم ليريح المجتمع من “نجاستهم” ورجسهم. لكن هذه الكلاب (الحقيقية والرمزية) هي من سينتصر في النهاية، وتفيد الدلالة الشعبية لمعنى الكلاب في زيادة النبرة التهكمية لهذا المجاز المعجمي، فضلاً عن أن الشخصية الحقيقية المستمدة منها الرواية، أي محمود سليمان عانت فعلاً من مطاردة كلاب الشرطة كما تشير التقارير الصحفية، في حين أن الفيلم، والرواية، يقولان أن سعيد مهران هو من يطارد الكلاب في البداية قبل أن تتمكن هذه الأخيرة من القضاء عليه لتبقى حرة طليقة .
انتصرت الكلاب “البشرية” على سعيد مهران، مثلما انتصرت الكلاب الحقيقية و “البشرية” على محمود سليمان، وستبقى هذه الكلاب حرة طليقة وسوف تتخذ أسماء ومجازات مختلفة: بلطجية، شبيحة، سحيجة، ضفادع.. إلخ، وسيبقى اللص متوارياً، متخفياً، ويواصل الركض والمطاردة، ولهذا لا يحفل العنوان بالدلالة الأخرى للكلاب التي تستحضرها السلطة من “أعلى”، أي المعنى المجازي للوفاء، ولو بحثنا في دقائق الفيلم لن نصل إلى هذه الدلالة. وليس مفاجئا أن يفتتح محفوظ عمله بالتشديد على جملة المعاني المسكونة بهواجس الانتقام من “الكلاب” والحذر منها والحرية التي علينا القتال في سبيلها، قتال كل الكلاب والخونة الذين يعترضون طريق حرية سعيد لكي “يتنفس نسمة الحرية” رغم كل ما يحيط به من غبار “خانق وحر لا يطاق”. وهكذا، منذ البداية نتعرف على سعيد مهران، الشخصية الإشكالية التي تعيش مأزقاً مصيرياً، ويستمر البعد الإشكالي حتى النهاية حين تحاصره الشرطة ويأتيه صوت ( كأنه لأحد الضباط) يطلب منه الاستسلام ويعده أنه سيتم معاملته بإنسانية، ويخيّره بين الموت أو الامتثال للعدالة، فيصرخ سعيد صرخته المدوية التي تهزنا جميعاً من أعماق أعماقنا “إنسانية رؤوف ونبويه و عليش والكلاب؟.. العدالة يا كلاب !؟”
بعد هذه الصرخة، سنهمس بسؤال كبير يشترك فيه الفيلم و الرواية “لماذا انتصرت الكلاب”؟
لماذا تطبق المحاكم القانون وليس العدالة؟ لماذا سيعاقب سعيد مهران باسم القانون رغم صدقه في سعيه لتطبيق العدالة؟
هذه هي معضلة سعيد مهران وتلك هي إشكاليته.
يتحدث الفيلم والرواية عن حدين: “اللص” من جهة، و”الكلاب” من جهة أخرى، يقفان إزاء بعضهما في تناقض مميت لا يسمح لهما بالتواجد بآن معاً: أحدهما سيبقى ليقضي الآخر عبر صراع متواصل وطويل غير منتهٍ، فموت اللص لا يعني انتهاء اللصوص، والقضاء على الكلاب لا يمكن أن يكون معناه توقف الثورة المضادة عن “إنتاج و”إعادة إنتاج” الكلاب.
فاللص\ الإنسان، كائن وجودي يعيش مع حكايته، ويموت حين يخرج منها، تغلفه الحياة وتغذي نسغ مقاومته للكلاب، حكايته تحفظه من التبدد، وتداولها يمنحه “قواما” وكينونة.
وهكذا تقول الحكاية أن شخصاً يدعى “محمود أمين سليمان” اتفق الجمع على نعته بـ”السفاح” [يقال أنه هاجر من لبنان (ولد في طرابلس الشام) إلى الإسكندرية وهناك تحول إلى لص ومن ثم إلى قاتل ومطارد من قبل الشرطة المصرية]. عاش محمود سليمان حياة مثيرة فبدأ بسرقة جيرانه وهو لم يزل طفلاً دون السابعة من عمره، ولم يكف عن السرقة رغم عقاب أمه له، وانضم، لما كبر إلى عصابة للسرقة، وبعد فترة ألقي القبض عليه وتم ترحيله إلى مصر فاستقر في الإسكندرية، وهناك بدأ يسرق الأثرياء والمشاهير، وامتد نشاطه للقاهرة فأصاب ثروة من وراء سرقاته، فافتتح داراً للطباعة والنشر وتزوج من نوال عبد الرؤوف، لكنه عاد للسرقة من جديد، وذات يوم من العام 1958 قبض عليه أثناء محاولته سرقة معطف السيدة أم كلثوم، ويقدم الشاعر أحمد فؤاد نجم شهادة تساعد في إلقاء الضوء على حياة ومصير “السفاح” محمود سليمان في الجزء الأول من مذكراته التي نشرها بعنوان “الفاجومي”. فيقول نجم أنه التقى في السفاح بالمصادفة في “حبسخانة” عابدين وهناك قص عليه حكايته من البداية للنهاية “من طقطق لسلام عليكو” على حد تعبير نجم الذي يضيف أن محموداً كان موقوفاً بعدة تهم في أكثر من قضية، ويتابع بأنه صعيدياً فقيراً اضطر للنزوح إلى الإسكندرية، وهناك تعرف على معلم “هجّام” علّمه أصول السرقة، بعد ذلك سافر إلى بيروت، عاش فيها سبع سنين ليعود بعدها، ومعه مبلغ من المال استطاع أن يشتري به شقة في الإسكندرية، ثم تزوج من نوال عبدالعظيم، ويصفه نجم بأنه لص محترف يمارس عمله “على تقيل” فكان يسرق الأثرياء، مثلما حاول سرقة “بالطو” أم كلثوم من سيارتها أمام مسرح حديقة الأزبكية (قدرت الصحف ثمن البالطو هذا بنحو ثلاثين ألف جنيه) فقبض عليه ورُحّل إلى قسم عابدين حيث التقاه نجم.
ليس ثمة ما هو مغرٍ لحد الآن في قصة السفاح هذا، غير أن ما قامت به الصحافة آنذاك، جعلت الأمور تنقلب رأساً على عقب، وتصادف أنه أثناء محاكمة محمود سليمان، انتابته شكوك حول علاقة زوجته نوال ومحاميه بدر الدين أيوب (وهو صديق حميم لمحمود سليمان، ولم يكن على ما يبدو متحمساً لخروج صديقه من السجن)، و لم يمض وقت حتى تأكدت شكوكه، فقد اعترفت له زوجته بعد أن ضربها بشدة بأنها كانت تخونه بانتظام مع صديقه المحامي، وافصحت عن “علاقة شقيقته غادة بصديقه: محمود أمين”. وبعد سجنه قرر الهرب من السجن لينتقم منهما. وتشاء الصدف (أو ربما ليست الصدف) أن ينقل محمود إلى مشفى القصر العيني, ومن هناك تمكن من الهرب من حراسه، لتبدأ حكاية جديدة معه، ينقل أحمد فؤاد نجم بعض من تفاصيلها فيصف إعجاب السجناء بالسفاح، وحماسهم لمغامراته، رغم ما تذكره الصحف عن جرائمه وضحاياه، حتى أن السجانين أيضا لم يخفوا تعاطفهم مع السفاح، ويقول نجم أن السجن أصيب بالحزن عندما قتل محمود سليمان إثر اشتباكه مع الشرطة في حلوان. وتفيد تقارير الصحف عن اعترافات مذهلة لزوجته نوال ساهمت ربما بدرجة كبيرة بتحويله إلى قاتل فضلاً عن أنه لص بالأساس. وكانت الصحف قد نشرت القصص المختلفة عن محمود سليمان منذ أوائل العام 1960 حتى مقتله على يد الشرطة، فكان يظهر خبر يشير إلى تواجد السفاح في منطقة بولاق أو الدقي، ثم يتبعه خبر آخر يقول أنه شوهد يدخن الحشيش في مقهى بمنطقة السيدة نفيسة، أو أنه يقيم في حجرة متواضعة بشارع محمد علي (وليس بدون مغزى يجعل نجيب محفوظ رؤوف علوان أحد الشخصيات الرئيسية في الفيلم يعمل صحافياً).
لا أحد بالضبط يعرف كيف مات محمود سليمان، قيل أنه قتل على يد الشرطة، و قيل أنه انتحر، وقيل أنه تمت مطاردته في صحراء حلوان حيث وجد مقتولاً (رفضت زوجته لاحقاً استلام جثته). ويشير أرشيف جريدة الأهرام إلى مناقشة مطولة جرت بين محمود سليمان وعناصر الشرطة استمرت نحو 75 دقيقة، (ويبدو أن محفوظ استفاد إلى أقصى حد من هذا الحوار في بناء حبكة روايته، ولكن برؤية مختلفة، فتقارير الشرطة تفيد أن السفاح وصل إلى درجة هائلة من اليأس والإحباط، بعد أن تأكد أنه ميت لا محالة، بعكس الحوار الذي صاغه محفوظ في الرواية، وصرخة سعيد مهران المرعبة ….. يا كلاب).
هذه الصرخة أصدق تعبير عن ألم سعيد مهران المزدوج بسبب الخيانة والغدر وألم أشد وجعاً في عدم مشاركته في صنع الحدث، رغم محاولته أن يظهر بمظهر “المسيح” أو من طينة تشبه طينة المسيح، وهو يظن أنه بالقتل “رغم كون القتل فعل إجرامي”، وباللصوصية “رغم أنها جريمة يعاقب عليها القانون”.. “اقتل رؤوف يعني أن اقتل العبث” يستطيع أن يحقق العدالة، وقد حاول بالفعل قتل رؤوف علوان، ولكنه فشل كالعادة، رغم، أنه فيما بعد، حاز على تعاطف الناس معه، وفشله يشبه بطريقة ما فشل المسيح حين انتهى مصلوباً قبل أن يكمل مشروعه مما أكسبه تعاطف المؤمنين فيما بعد، ولم يلتفتوا لخطورة الموقف أو حتى “لأخطائه”، كذلك سعيد مهران، إذ استطاع رؤوف، وبانتهازية واضحة، أن ينسج حول سعيد هالة أسطورية من الشر للتخلص منه.
يقال، حين عرض المخرج كمال الشيخ على الممثل شكري سرحان الدور الرئيسي لتجسيد شخصية سعيد مهران، سارع شكري سرحان لاقتناء الرواية، و لما هم بقراءتها، اصطدم بأول سطورها ووجد عبارة “خرج وفي جوفه نار”، فأغلق الكتاب على الفور، وقرر قبول الدور، و هكذا جاهد شكري سرحان طوال الفيلم وهو يحاول أن يقارب تلك النار التي خرجت من جوف سعيد مهران، و لولا القدرات التمثيلية التي يتمتع بها لما استطاع أن يجعلنا نستشف تلك النار التي عبر عنها محفوظ في تلك الجملة، التي، على بساطتها، ظلّت تلسعنا طوال مدة الفيلم، ونحن نترقب مصير سعيد مهران: المواطن المصري البسيط، المثقف بطريقة ما حين يؤمن بسذاجة بقيم المساواة والعدل والكرامة والإنصاف، يناصر المظلومين، ويدافع عن تطبيق الاشتراكية، الذي تحمل مسؤولية أسرته وهو صغير، لم يمهله الكلاب طويلاً للتمتع بحب نبوية، التي خانته، لاحقاً، وغدرت به مع أحد عليش وحرمته من ابنته .
سعيد مهران، “اللص الظريف” الذي يسرق الأغنياء، ويقيم علاقة مع مومس “نور” حوّله السجن والخيانة والغدر إلى بطل تراجيدي يعاني من فراغ روحي، وقلق وجودي وغربة وضياع، يسعى لمحاربة الفساد لوحده دون سلاح فعال، ودون ظهر يحميه، يتحدى الخيانة، ويحاول القضاء عليها منفرداً، وللأسف فحتى سيفه “الدونكيشوتي” لا يصيب الكلاب، بل يدمي الأبرياء فتتحول حياته إلى جحيم، وأيامه إلى كابوس ثقيل ويختل توازنه بسبب هاجس الحقد والانتقام الذي يمتصه حتى النهاية، ولن يمنع تعاطفنا معه قدره عنه.
طيب. لو اعتبرنا فعلاً أن “اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين” وأن أفعال سعيد مهران تتماشى مع “القوانين الموضوعية” لحركة التاريخ في جدليتها. ألا يعني قضاء سعيد على الكلاب هو بمثابة قضاء على الجنس البشري أيضاً؟ أليس في انتصار سعيد انتصار لمبدأ السكونية الذي يتعارض مع أبسط قوانين الجدل ويتناقض مع مبدأ الحركة “الضروري لأي “تحرك” ثوري”؟ هل يمكن لنا أن نتخيل عالم لا يوجد فيه إلا أمثال سعيد مهران؟ ثم من قال أن سعيد مهران هو الصح؟ وأن حلوله هي الصح، وأن أفكاره هي الصح؟ وماذا يختلف سعيد مهران عن هملت الذي صرخ “هل يتوجب علي أن أصلح كل هذا العبث”؟
ومثلما يفشل هملت في إصلاح الكون، سيفشل سعيد مهران في القضاء على الكلاب، ليس لعدم قدرتهما على ذلك، بل لأن الثمن باهظ لو تحقق سعيهما، وسيكون الضحايا أبرياء لا ذنب لهم ولا شأن لهم في أهداف هملت أو سعيد مهران.
لا يرى شكسبير ومحفوظ سوى بطليهما أبرياء، ومن حقهما الانتقام. غير أن التمرد وسرقة الأغنياء و”الحفاظ على “اتساق” الطبيعة” قد يصنع من المرء ثائراً، لكنه لا يصنع منه مسيحاً؛ تلك هي النتيجة التي لم يجرؤ سعيد مهران (نجيب محفوظ؟) على البوح بها. ولو قلنا أن كمال الشيخ أراد أن يقدم لنا تفسيراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لسلوك سعيد مهران. فما الذي دفع سعيد مهران أصلاً إلى درب الجريمة والخروج على القانون؟ هل هي العوامل الاجتماعية؟ هل هو الفقر؟ هل وٌجدَ رؤوف في طريق سعيد مهران صدفة؟ هل لقاءهما صدفة، لكنه كان ضرورة تطلبها الحالة التي وصلت لها مصر؟
لعل العلاقة بين سعيد مهران والمواجهة اللاحقة بينهما هي أهم ما في الفيلم (وربما في الرواية أيضاً). وكان للطريقة التي اختارها كمال الشيخ ليبدأ فيها فيلمه دور هام في الكشف عن هذه المواجهة، فالفيلم ينطلق من زمن قبل الزمن الروائي، من لحظة ما قبل لحظة خروج سعيد مهران من السجن حيث تبدأ الرواية، أي من خلف الأحداث، واختزل المخرج بعضاً من السردية الروائية لأجل توضيح صورة سعيد للمشاهد ولإظهار نوايا سعيد في الانتقام ممن خانوه و غدروا به، وفقد الفيلم بهذا الكثير من الزخم المفترض أن يؤمنه الضخ السردي للأحداث، فحاول تطويع المعمار الدرامي إلى صورة بوليسية تعتمد على “الأكشن” وتثبيتها في ذهن المشاهد، متنازلاً إلى حد ما عن “جفاف” الجدال الفكري الذي تزخر فيه الرواية.
لا تعدُّ ردة فعل رؤوف علوان على سلوك سعيد عبثية، فهو يرى فيه وبأمثاله مقلوباً وجودياً له، فقد ولى الزمن الذي كان فيه رؤوف يؤمن بالتمرد كمحرك للعمل الثوري، وكردة فعل على آلة القمع لجهاز السلطة وهذا ما يمثل الصورة “النيجاتيف” لسعيد مهران الذي كان يرى في الثورة الحل لتحقيق العدالة وفي الاشتراكية طريقاً ممكناً للقضاء على الظلم الاجتماعي، فضلاً عن رغبته العميقة والشخصية في الانتقام من نبوية وعليش سدرة اللذان غدرا به، وكانا السبب في سجنه، ومن رؤوف الذي يرى فيه نموذجاً لخيانة المبادئ والتنكر للأفكار التي أدخلها في رأسه في مرحلة سابقة.
ولكن لماذا انحرفت المعاني عند سعيد عن مقاصدها “الثورية” وتحولت إلى مجرد رغبة ذاتية وحل شخصي؟
لعل الجواب يكمن في أن الصورة الثورية العكسية لسعيد مهران يمكن رؤيتها ليس فقط في انتمائه السلبي بل أيضاً لتضافر عدة شروط موضوعية أفرزت فوضى شوهت المعاني النقية للثورة، وألقت بالثوار السابقين في هاوية البيروقراطية والتخشب، وهذه ليست سمات ذاتية كامنة، بقدر ما هي انعكاسات مكثفة لواقع غلب عليه التشوه وتحكمت فيه آلة قمع السلطة.. وهذا ما لم يفهمه سعيد مهران: الزمن، الزمن الخطي الذي يسير نحو الأمام، وليس بالضرورة بمعنى إيجابي، وهكذا حين يخرج من السجن سوف يجد أن العالم قد تغير والقناعات قد تبدلت، ويفاجأ أيضا بتنكر ابنته الصغيرة له، لأنها لا تعرفه. فيلجأ إلى صديقه ومعلمه القديم رؤوف علوان ليكتشف أنه تغير هو بدوره أيضاً واستبدل شعاراته الثورية بشعارات أخرى، فيشعر بالحقد أكثر فيلجأ إلى من لم يتغيروا: نور “المومس” والشيخ الجنيدي المتصوف صديق والده، لكن الشيخ لا يملك حلولاً شافية لنشله من هواجسه، فيقرر الانتقام من الخونة، وأن يسترد سنوات عمره الضائع (أي الفترة التي كان فيها بعيداً عن المشاركة في صنع الحدث)، لقد سرق عليش ونبوية ورؤوف علوان سنوات عمره وعليهم أن يتحملوا مسؤولية وضعه الحالي، وعليهم أن يدفعوا الثمن، ولما لم يجد الجواب عند الجنيدي، لم يجد أمامه سوى نور، فيمضي إليها ويطرق بابها لتفتح له الباب و تقول “أحطك في عينيّ وأكحل عليك”. ولكي نفهم حقيقة نور، وسبب وجودها في الفيلم والرواية، ربما ينبغي الإشارة إلى ما قاله نجيب محفوظ حين سُئل عن سبب استئثار شخصية المرأة المومس بمكانة كبرى في كتاباته فكان جوابه أن “المومس تنفع الناقد الاجتماعيّ جدًّا، لأنّك تواجه بها شخصيّات بارزة ظاهرها الطهارة وباطنها الدعارة، بينما هذه ظاهرها الدعارة وباطنها يمكن أن يكون البؤس، ولذا فهي مثال صالح للنقد القاسي”. وبالتالي لا نرى في صورة نور وعظاً أخلاقياً سقيماً عن فتاة ضعيفة أجبرتها الظروف أن تكون مومساً، بالعكس تبدو نور شخصية قوية ومتزنة وهي التي كانت تزور سعيد في سجنه، وهي التي أخبرته عن خيانة نبوية وعليش له، وهي التي أحبته وأعجبت برجولته وشجاعته، وهي تعلم أنه يحب غيرها، ومع ذلك لم تكن تمانع من إشباع رغباته، وإرواء عطشه للجسد ولم تمانع من فتح بابها له.
يجعل كمال الشيخ نور شاهدة على موت سعيد مهران حين تقف وحيدة تائهة، حائرة، مهزومة وهم يحملون جثته، ها هي خسرت للتو حبيبها وستخسر بيتها (بعد أن أخبرتها مالكة الشقة بأن مستأجر جديد سيحل محلها). يا لشدة وحدتها، يا لشدة ما خسرت دون تعزية، كأن لم يخسر أحد مثلها، جسدها وحبيبها و بيتها، فمن وماذا بقي منها ولها؟
لا نحتاج إلى كثير جهد لنعرف الجواب، فرغم قوة شخصيتها فهي تعيش في الظل (كونها مومس ونشاطها ليلي يعد رمزاً لهذا الظل) ولأنها “فتاة ليل” فهي غير فعالة وغير فاعلة، ولذلك لم تستطع، رغم محاولاتها التأثير على سعيد، بعكس رؤوف علوان، الشخصية الأكثر فعالية ربما في الفيلم، وقد يكون لهذا معنى آخر، فعدم فعاليتها يكمن في أنها لا تنتمي للكلاب ولا للصوص (رغم مشاركتها في السرقة مع سعيد ذات مرة) وهي بذلك مثلها مثل الشيخ الجنيدي.
أحبت نور سعيداً دون أن يبادلها الحب، فرحت بخروجه من السجن وآوته في بيتها واهتمت به، وواضح أن التعايش بينهما من النوع التكافلي إذا أمنت نور لسعيد المكان والحنان والعطف والجنس والملاذ، وهو بدوره قدم لها الحيوية، وملء عليها وحدتها، لذلك كان علينا أن نتوقع عدم استمرار هذه العلاقة، وانتهائها عند انتهاء مسبباتها، تختفي نور فيضيع سعيد، وهكذا يعود كل واحد منهما إلى مكانه في المجتمع، سعيد لص يطارد الكلاب فتقتله، ونور مومس “بنت ليل” يشتمها مجتمع الذكور نهاراً لينسل إلى حضنها وفراشها ليلاً.
وهكذا يسقط سعيد مهران اللص المحبوب من الجميع بطلاً ثورياً مهزوماً ينوس بين أمل عاشه آخر أيامه “نور” و بين خيبة أمل سيموت وهي ماثلة أمامه “تنكر ابنته له”.
ولكن -لحسن حظنا- أن سقوطه لا ينهي الأسئلة الكبرى، بل يعمقها أكثر وسوف تبقى دماء سعيد مهران تحرضنا على السؤال الكبير، ترى لماذا تنتصر الكلاب حيث لا ينبغي لها أن تنتصر؟ لم لا تطبق المحكمة العدل، بل تكتفي بتطبيق القانون فقط.
……
اللص والكلاب رواية لنجيب محفوظ ظهرت في العام 1961، وحسب تعريفها، فهي من أشهر رواياته بعد “الثلاثية” وتمثل بداية مرحلة جديدة في أدب نجيب محفوظ، وهي المرحلة الفلسفية أو الذهنية. تناقش الرواية أفكار العبث والموت ومعنى الوجود، وبحث البطل عن العدل الضائع. ترجمت إلى الإنكليزية 1984، والفرنسية 1985 والهولندية 1989 والإيطالية 1990 و الإسبانية 1991 و الألمانية 1993 واليابانية 2009 بالإضافة إلى وجود ترجمتين فارسية وتركية. وتحولت إلى فيلم سنة 1962 من إخراج كمال الشيخ و من بطولة شكري سرحان وشادية وكمال الشناوي