ملصق الفيلم

الطلقة 41 Сорок первый : الحب أم الثورة؟ أحلاهما مرّ

قراءة في فيلم

بدل من مقدمة:

“السينما هي الأكثر أهمية بالنسبة لنا بين جميع الفنون”.. هكذا تحدث لينين، ذات ثورة، اعترافاً منه بتأثير السينما الكبير على توجيه آراء و أفكار الناس، وهذا ما سيتقاطع لاحقاً مع مقولة مكسيم غوركي: “إن الأدب الروسي هو أدب السؤالين: من المسؤول؟ وما العمل؟”. وباعتبار السينما جزء من الأدب وفنٌ يستحق التقدير، فمن الواضح أنها كانت حلاً سحرياً للثوار آنذاك للإجابة على سؤالي غوركي، لما للسينما من إمكانيات هائلة كوسيلة تعليمية، وبروباغاندة لا تنضب في خدمة التوجه الجديد للدولة الناشئة. وهذا ما يفسر ظهور أبرز صناع الأفلام السينمائيين هناك، وليس في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل على مستوى العالم أمثال: كولشوف وبودوفكين و إيزنشتين*، وفيرتوف ودوفجينكو و غراسيموف وتاركوفسكي وميخالكوف .. إلخ. ويمكن تتبع أثر السينما السوفييتية عالمياً، في بدايات ومنتصف القرن الماضي، من خلال انتقال تقنياتها إلى هوليوود: مثل إعادة خلق المونتاج والتصوير باستخدام زوايا الكاميرا الذي لم يكن معروفاً في السينما الأمريكية أو تأثيرها على الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية على يد روسلليني ودي سيكا، وفيسكونتي، عدا عن تأثر العديد من المخرجين العظام أمثال: بيلي وايلدر، وتشارلي شابلن، وألفريد هيتشكوك، وجون فورد، ووليام وايلر. ولطالما ردد مخرج العرّاب فرنسيس كوبولا عن تأثير إيزنشتين على أعماله.

عن فيلم الطلقة 41**

يتذكر جيلي، والجيل الذي قبله- يوم كانت السينما هاجساً- تلك “الرحلات السينمائية” التي كانت تنظمها مدارس الأونروا بين الحين والآخر في سبعينيات القرن الماضي لمشاهدة بعض الأفلام “الهادفة” مثل ” فوق ذرى الأوراس” و” الأفيون و العصا” و “والد الجندي” و”جميلة بوحيرد” و”كفر قاسم”.. وغيرها، ولكن يبقى لفيلم” الطلقة 41″ صدىً ووقعٌ خاص، ربما لاختلاف موضوعه ومغزاه الذي لم ننتبه له- نحن الصغار آنذاك- ثم بعد ذلك أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم عدة مرات في سياق برنامج صالة الكندي بدمشق التابعة للمؤسسة العامة للسينما.

فلسفة الحب والثورة

“الثورة ضرورة، ليس فقط لأنها الطريقة الحيدة لإزاحة الطبقات المسيطرة، وإنما أيضاً، لأن الطبقة التي تقوم بها تستطيع من خلالها وحدها، أن تطرح عن كاهلها أثقال العصور السابقة، ومن ثم تصبح قادرة على خلق مجتمع جديد”- ماركس وإنغلز.

يقول الفرنسيون، عند المشكلة، ابحث عن الحل الثالث، بمعنى عند مواجهة الحب بالثورة أو الثورة بالحب، فالمرء غير مطالب بالمفاضلة بينهما مثلما فعلت، لسوء حظها، “ماريا فيلاتوفنا” ابنة التسعة عشرة ربيعاً والمتطوعة في صفوف الجيش الأحمر، أثناء الحرب الأهلية الروسية، بعد ثورة أكتوبر حيث تجري أحداث الفيلم.

عادة ما يتعامل” الثوار” مع الحب مثلما يتعاملون مع ” ثورتهم”  باعتبارها فعل وحدث عفوي “انفجاري” لاعقلاني جنوني ومتواطئ، لا خطة واضحة له، ولا هدف، يهوي بالمرء من عليائه, فـ”يقع” في الحب مثلما يقع في الثورة، “بالأحرى يتورط في الثورة بانخراطه بها”، فالحب يشبه الثورة في كونه اللحظة التي تتكسر فيها الأحلام (حتى في لحظة تحققها)، فسوء الحظ في الحب ( وهو المعادل الموضوعي للعدو و\ أو الفشل في الثورة) يعمل بمثابة قوى مضادة لفعل الحب. ولذلك يحذرنا غابريال غارسيا ماركيز “لا تحب بعمق حتى تتأكد بأن الطرف الآخر يحبك بنفس العمق، فعمق حبك اليوم هو عمق جرحك غداً! “

سوء الحظ كتعبير عن طيف واسع من لحظات الفشل (الذاتي وغير الذاتي)، يقلل من مساحة المناورة النفسية لتفسير مسار العلاقات الاجتماعية كما عبر عنها عالم النفس الأمريكي ستيفن كاربمان فيما يعرف بـ “مثلث كاربمان”، حين تلجأ الذات في سياق تفاعلها مع محيطها (بغية الحفاظ على التوازن) إلى تقمص ثلاثة أدوار نسقية :مستبد، ضحية، منقذ، وعلى المرء تطوير هذه الأدوار “الدرامية” وأنماطها السردية من أجل التوصل لحل أية أزمة تعترضه، وأي واحد منا يراقب علاقته مع شريكه لابد أن يلحظ هذه العناصر بسهولة وكيفية تبادل الأدوار، بينه وبين شريكه، عبر التنقل بين المستبد والضحية والمنقذ بطريقة لا واعية. ويبدو أن مثلث كاربمان أكثر شيوعاً في العلاقات العاطفية (وهي من الموضوعات الأثيرة للصناعة السينمائية، حيث تعتمد بعض الأفلام في حبكتها الرئيسية على “دور” البطل المنقذ لحبيبته من الأشرار أو من ماضيها أو من الرذيلة.. إلخ. أو حين يضحي الجندي بنفسه في سبيل أن “ينقذ” رفاقه ويساهم في انتصار بلده، فالجندي والعاشق والبطل، والزعيم، والحزب، والرئيس، والحبيبة، والمومس الطاهرة، والعبد الثائر الطيب القوي.. إلخ، تعتبر -جميعها- عناصر مركزية وثيمات أساسية في تشكيل العلاقة الترادفية لأضلاع مثلث كاربمان في السينما، فضلاً عن كونها- أي العلاقة- أساس الظاهرة النفسية المعنية بمعناها التوزيعي في مثلث كاربمان (الضحية والمنقذ والمستبد).

ماريا و فاديم و الحرب

ماريا ابنة صياد من قرية صغيرة تقع على نهر الفولغا قرب “استراخان”، تعمل منذ صغرها في تنظيف أسماك الرنجة. كان حلمها أن تصير شاعرة. ومع انفجار الثورة البلشفية تتطوع في الجيش الأحمر ويتم إلحاقها في فصيل المفوض “يفيسوكوف”، الذي رأى فيها قناصة ماهرة أكثر منها شاعرة. فتنتقل مع فصيلها من معركة إلى أخرى في أرجاء القوقاز. وذات يوم، يُجبر فصيل يفيسوكوف على الفرار باتجاه صحراء قره قوم في جمهورية تركمانستان، بعد أن ألحق بهم القوزاق هزيمة أدت إلى مقتل أكثر من مائة عنصر منهم، رغم مهارة ماريا في القنص، (قتلت بزعمها38  عنصراً منهم). لم يلحق القوزاق بهم لاعتقادهم أن الصحراء القاحلة كفيلة بالقضاء على من تبقى من الفصيل، الذي لم يكن، في واقع الأمر، قد أعد نفسه لمثل هذه الظروف، بالإضافة إلى إمكانياتهم المتواضعة وقلة عددهم، لاسيما بعد معركتهم مع القوزاق، يضاف لكل هذا جو الصحراء القريب من التجمد في ليالي شباط\فبراير الباردة. فيقرر يفيسوكوف أن يسير بالفصيل عبر الصحراء حتى يصلوا لبحر آرال ومن هناك يمكنهم الانطلاق نحو مقر الجيش الأحمر في” كازالينسك”.

وفي إحدى الليالي، يكتشفون قافلة من القرغيز، مع حوالي أربعين جملاً، يقلّون عدداً من “الجنود البيض” فيكمنون لهم ويستولون على القافلة، وتقتل ماريا اثنين منهم (ليصبح مجموع من قتلتهم 40 رجلاً)، ويلحظ يفيسوكوف وجود ضابط مع القافلة، فيطلب من ماريا أن تتولى أمره برصاصة، فتخطئه، وكانت تلك أول مرة تفشل فيها في القنص (كان لابد أن تفشل، وإلّا، لا يوجد ما نتحدث عنه هنا). تشعر بالإحباط فتلقي بندقيتها أرضاً وتنفجر في البكاء (يا للنساء)، ولكن من حسن حظها يستسلم الضابط للفصيل ويعرّف عن نفسه بصلافة وفظاظة بأنه “فاديم غوفوروخا-أوتروك”، ويتبين، أثناء تفتيشه، أنه يحمل رسالة من الأدميرال ألكسندر كولتشاك (قائد “الحركة البيضاء” المناهضة للثورة) إلى الجنرال “أنطون دينيكن” تقول أن لديه معلومات سرية وخطيرة ويجب نقلها شفهياً إلى الجنرال “دراتسيكنو” شخصياً. يرفض أوتروك، عند استجوابه، البوح بفحوى الرسالة، فيطلب رجال الفصيل من المفوض إعدامه في الحال إلا أنه يرفض ويأمر ماريا أن تقوم بحراسته حتى وصولهم إل كازالينسك، فتقوم بربطه، وينام الجميع من شدة التعب والإرهاق، فيستغل القرغيز الفرصة ليقوموا بسرقة جميع الجمال التي بحوزة الفصيل، وهذا ما سوف ينعكس سلباً على المجموع، إذ سوف يتكفل البرد والجوع بالقضاء على الرجال واحدٌ تلو الآخر قبل أن يصلوا لبحر آرال، حين يصرخ أحدهم من فوق تلة قريبة: إنه البحر.. البحر. إنه الآرال يا شباب، فيندفع الجميع نحو الصوت وكأنهم بحارة كولومبوس يشاهدون برّ العالم الجديد أول مرة، وهناك يلتقون بعجوز من القرغيز يقدم لهم الطعام.

وعندما يحلُّ الظلام يطلب فاديم من ماريا أن تقرأ له بعض مما تكتبه، بعد أن عرف أنها تريد أن تصبح شاعرة، فتنظر نحوه وتقول له لكنّك لن تفهم ما أكتب، فما أكتبه ليس شعراً يكتبه الأغنياء عن الحب والزهور، ما أكتبه يتحدث عن الفقراء وعن الثورة، فيقرُّ بذلك ويقول أنه لا يكتب عن مثل هذه الأمور، لكن يمكنه أن يكون مستمعاً جيداً، فتبدأ ماريا بقراءة إحدى قصائدها التي يظهر فيها الحماس والخطابة والمباشرة والسطحية، وحالما تنتهي، يقلب فاديم شفتيه ويقول أنه يشعر بشيء ما لا يستطيع أن يحدد ما هو، لكن بوسعه القول أن ما سمعه ليس جيداً “قد يكون أي شيء ولكن ليس الشعر”، بل في الحقيقة ما سمعه كان سيئاً وهو بحاجة “للتهذيب والتشذيب”، فتقول ماريا أنها تحلم بنشر شعرها، وتسأله كيف يمكنها أن “تهذب و تشذب” شعرها، فيقترح عليها أن تدرس ذلك، لأن الفن مثله مثل الهندسة يجب أن يدرس، فتقول له سوف تذهب، بعد انتهاء هذه الحرب، إلى المدرسة لتتعلم كيف تكتب، فيهز فاديم رأسه، وقد بدى عليه النعاس، فتقترب منه ماريا وتحرر يديه، لكن قبل ذلك تطلب منه أن يقسم باسم البروليتاريا بأنه لن يهرب أو يحاول الهرب. يبتسم لهاـ فما يفكر به الآن هو أن ينام، ولا شيء يعنيه من أمر هذه البروليتاريا سوى أن ينام، يوم، يومان، ربما أكثر، لا يهم، يريد أن ينام فقط.

بعد عدة أيام يجد المفوض يفيسوكوف قارب صيد مهجور يتسع لأربعة اشخاص. فيقرر إرسال الضابط الأسير مع اثنين من رجاله بحراسة ماريا عبر مصب نهر سير داريا، ومن هناك إلى كازالينسك، وقبل أن يبحروا يهمس المفوض لماريا: “إذا ما تعرضتم للخطر عليك بقتل الضابط دون تردد”. وحالما يصير الجميع داخل القارب، تحرر ماريا فاديم- فلا داعي للوثاق، فأين سيهرب-؟ تتأمل ماريا بحر آرال، سطحه الباهت السلس، مثل وجه امرأة رقيقة، وتنظر نحو الأزرق المدهش للمياه، يبدأ فاديم في الحديث معها فيقول أنه كان يملك يختاً في سان بطرسبرغ، وكثيراً ما  كان يبحر فيه، فتعلق ماريا كأنها لم تسمعه “مدهش لون البحر.. مدهش هذا الغامق الكحلي” لتنتبه فجأة أن لون عيني فاديم يشبه لون مياه الآرال، وفي الأثناء، تهب عاصفة فيغرق الجنديان المرافقان ليبقَ فاديم وماريا، وحدهما، وقد رمتهما العاصفة على جزيرة “بارساكلمز”، وما أن يصلا حتى تنهار ماريا و تبدأ في البكاء.

ماريا وفاديم  والحب الحب

تمضي ماريا وقتها برفقة فاديم في التجوال في الجزيرة، حتى يعثران على كوخ للصيادين، فيمكثان فيه على أمل أن يأتي أصحاب الكوخ. يصاب فاديم في الحمى فتسهر ماريا على العناية به حتى يشفى، وتراوده كوابيس بسبب الحرارة، وحين يفتح عينيه يجد ماريا تنظر نحوه بحنان، لا يعرف في البداية أين هو، ثم يستذكر ويقول: “أووه نعم.. نعم روبنسون كروزو .. جمعة [Пятница]”. فتقول له ماريا بأن اليوم هو الأربعاء وليس الجمعة، يبتسم لها ويخبرها أن “جمعة” هو اسم الخادم في رواية روبنسون كروزو. يرغب فاديم في التدخين فتناوله تبغه، لكنه يكتشف أنه لا يمتلك ورق سجائر، فتعطيه بعض من الأوراق التي كتبت عليها قصائدها، يرفض في البداية، لكنها تصر، فيقبل في آخر الأمر وهو يشعر بالامتنان نحوها. وتطلب منه أن يقص عليها حكاية روبنسون كروزو فيبدأ في القول: “.. كان هناك رجل غني في مدينة ليفربول..”، فتقاطعه متسائلة (بعفوية وبساطة): لماذا تدور القصص دائماً حول الأغنياء والأمراء؟ ينظر نحوها بدهشة، إذ لم يخطر بباله مثل هذا السؤال من قبل، ويبقى صامتاً إذ ليس لديه جواب، تتابع ماريا فتقول أنها عندما تذهب إلى المدرسة، سوف تكتب عن الناس العاديين الفقراء، لا يلتفت فاديم لقولها ( أو ربما لهرائها)، بل يتابع سرد الحكاية، بينما تستمع ماريا، بانتباه بالغ، فيمسح شعرها بيده وهي تنظر في عينيه الزرقاوين المليئتين بالحنان، ويبدو كأنهما نسيا الحرب، يقبلها فاديم على خدها، فيزداد وجهها حمرةً وتبتعد عنه بخجل.

يستمران في الجزيرة بانتظار من ينقذهما، وتصبح العلاقة بينهما أكثر حميمية، وعند كل مساء كانت تجلس ماريا قرب فاديم ليخبرها بقصة جديدة فتزداد تعلقاً به وحباً له.

وهكذا يصارحها فاديم بأنه، طالما هي بقربه، لا يريد، بعد اليوم، أن يلطخ يديه في أزمات هذا العالم، فليلوث الآخرون أيديهم بالقذارة، أما هو فلا، لن يقوم بهذا بعد الآن. ويردد: “لا أريد العدالة.. أريد السلام”. يقولها بصدق، و يا لها من صرخة، حين نرفض العدالة- وهي إحدى القيم التي قد نموت دفاعاً عنها- بسبب من خوفنا أن تتحول إلى تصور قانوني له مضمون حقوقي استنسابي، ونطلب بدلاً منها السلام رغم كل ما يعنيه من رومنسية أرضية قد لا تتحقق قط، نطلب السلام بوصفه مدخل لفهم إنساني أعمق لمعنى العلاقات بين الأفراد غير الخاضعة لموازين الربح والخسارة والفقد والاكتساب والهيمنة. لهذا يقول لماريا أنه حالما يخرجان من هذه الجزيرة سوف يتقاعد ويعيشان معاً، هو بين كتبه- غير مكترث لما حوله- وهي تتابع دروسها، وتتعلم كيف تكتب الشعر .

ذات يوم يلمحان قارباً من بعيد فيقفزان نحوه ويباشران في الصراخ والتلويح، و عندما يقترب القارب أكثر يكتشف فاديم أنه تابع “للبيض”، فيرقص بمرح ويندفع في البحر نحو القارب ملوحاً له، تتذكر ماريا كلمات المفوض يفيسوكوف: “إ ذا تعرضتم للخطر فعليك قتل الضابط على الفور”. هكذا تأمرها الثورة، فقد يكون القتل أحد منافذ الخروج من سطوة مثلث كاربمان، رغم أنه ليس حلاً يتفق عليه جميع الأطراف، فالقتل يتبناه القاتل- في لحظة ضعف وعدم القدرة على الإقناع- دون استشارة القتيل مما يعني انتفاء العلاقة التبادلية بينهما.

حين كانا معا على الجزيرة، قبل ظهور القارب، يخبرها فاديم في لحظة حميمية، كيف أنه جال في العديد من دول العالم، وأنفق الكثير من الأموال هنا وهناك، بيد أن كل هذا لم يكن سوى هراء، فمازال يشعر في فراغ كبير يملئ حياته، لكنه يظن الآن، طالما هي بقربه، أنه يعيش أجمل لحظات حياته- الآن وهنا- في أحضان هذه الطبيعة الساحرة، فتقول له ببساطتها وعفويتها “وأنا أيضاً أشعر بالسعادة هنا، لأنك أنت سعيد هنا”. فيرد عليها متمنياً لو يبقيا على هذه الجزيرة إلى الأبد، وهنا تنتفض ماريا ويغمرها الشعور بالذنب اتجاه الثورة فتقول أنه لا يمكنها أن تبقى هنا إلى الأبد، إذ عليها العودة للجيش، فمن المخجل أن تبقى هنا تسرح وتمرح وتمارس الحب، وتستمتع بجمال الطبيعة والبحر ورفاقها يموتون في ساحات المعارك، فيرد عليها فاديم أنه سئم من الحرب والموت، والنفاق الاجتماعي المتمثل في الشرف الأسري الذي دفعه لينخرط في الجيش، وهو الذي كان يعيش قبل الحرب مع ألمانيا في عوالمه الخاصة غارقا بين كتبه.

في لحظة ما، يدرك فاديم أنها لن تفهم ما يقصده قط، فيغمره الحزن الشديد.

حين انضم إلى الجيش كان يقاتل لأسباب بعيدة عن رغباته، وحين أتت الثورة، أي الثورة البلشفية، استبشر بها خيراً في البداية، وتأمل أن يحظى وتحظى “أمّنا روسيا” بمستقبل أفضل، لكنه أصيب بخيبة أمل من الثورة والثوار، ليس أقلّه أنه طوال مدة خدمته في الجيش القيصري لم يتعرض لأي جندي أو عسكري أقل رتبة منه، ولكن منذ أول لحظات اعتقاله على يد “الثوار البلاشفة الحمر”، قاموا بنزع رتبه العسكرية، وبصقوا في وجهه، وكادوا أن يقتلوه لولا لطف المفوض يفيسيكوف.

 كان يشعر أن انتمائه للبيض يعني القتال للدفاع عن بلاده وعن شرفه، في حين أن الانتماء “للحمر”  كان يعني شيء غامض، وحشي، رغم نبل أهدافه.

لكنه اكتشف الآن، وهو بين أحضان ماريا، أن عليه أن ينتمي لنفسه، فهذا العالم من حوله -روسيا وما هو خارج روسيا- ليس في الحقيقة سوى عالم يعمّه الفساد.. يموت فيه الأنقياء ليحكمه الجبناء، عالم يحتضر، يفتقد للقيم الإنسانية والتضامن بين البشر. ورغم أننا نستطيع بحكم طبيعة تفكيرنا أن نقترب من “الحقيقة المطلقة” – وهي التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية، ما قال لينين، لكن حدودها حدودٌ موضوعية علمية بعيدة عن رغباتنا وأحلامنا وحتى طموحاتنا، غير أن هذا لا يمنعنا من تصور أن تلك الحدود هي أيضاً حدودٌ نسبية ” تتسع تارةً وتضيق تارةً أخرى”.

ماريا و فاديم, حين يضيع الحب

إنها الثورة إذن (ومن خلفها الحزب “القائد”)، الثورة التي سوف تشكّل معيش ومستقبل المواطن “السوفييتي” الجديد. إنها الثورة حين تجرف كل ما هو أمامها، في سعيها لكتابة تاريخ جديد فوق أي تاريخ آخر. تاريخ منهمك -موضوعياً- بقضايا الصراع الطبقي وتقسيم العمل و النضال في سبيل البروليتاريا، وهي قضايا منصفة وعادلة لاشك، لكنها -من وجهة نظر أخرى- قائمة على الحقائق المادية والاقتصادية ليس إلّا، وعلى المواطن السوفييتي الجديد أن يبتعد عن “السمات البرجوازية” التي تشكل المعيش اليومي مثل مؤسسة الزواج والدولة والإيمان والبنى الأخرى اللصيقة بالهم الشخصي الذاتي من فن وشعر وموسيقا  و غيرها، إلا بما يخدم الثورة وأهدافها، فهذه البنى “البرجوازية” و”الرجعية”  ليست سوى ظلال باهتة لا ينبغي لها أن تعيق مسيرة الثورة والحزب.

ولكن هل هذا ما وصلت له ماريا حقاً؟ هل قرأت ماركس و إنغلز ولينين؟ هل قرأت ما ورد في “الإيديولوجيا الألمانية”: (ليست الشيوعية بالنسبة إلينا حالة ينبغي خلقها، أو مثالاً ينبغي أن ينتظم الواقع تبعاً له. ما نعنيه بالشيوعية هو تلك الحركة الفعلية التي تهدف إلى هدم حال الأشياء الراهنة. وتتأتى شروط هذه الحركة من مقدّماتها المتوافرة راهناً)، رغم ابتعاد ماركس وإنغلز، عن التصنيف الميكانيكي لمقولات مثل “الديمقراطية البرجوازية”و “الديمقراطية البروليتارية”، لأنهما كانا يريان في الديمقراطية مآلاً بروليتاريّاً واحداً من طبيعة ثورية انسيابية “شيوعية”، وأنّ البروليتاريا يمكنها (بل عليها) أن تفرض “هيمنتها” في سياق تحالفات موضوعية (مؤقته؟) تشمل القوى الفاعلة الأخرى (ويقصدان بهذه القوى الأخرى مجاميع البرجوازيّة الصغيرة والفلّاحين، والبرجوازيّة الليبرالية في البلدان التي كانت لا تزال رازحةً تحت هيمنة “النظام القديم”.)  لأن “تاريخ أي مجتمع، حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية؛ حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة: ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، أو بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين. والمجتمع البرجوازي العصري، الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحلَّ فقط محلَّ الطبقات القديمة طبقات جديدة، وحالات اضطهاد جديدة، وأشكالا جديدة للنضال” [ مداخلة ماركس و إنغلز على البيان الشيوعي].

هل قرأت ماريا كل هذا؟

هل كان لديها متسع من الوقت، وإن قرأت فهل فهمت كل شيء؟ هل حاول الرفاق في الحزب “تثقيفها” أم كان جلّ اهتمامهم ينصب على قدرات ماريا في التصويب وقتل “أعداء الثورة”؟.

في المقابل، هل كان الحب حلاً؟

لنرَ ما يقوله أحد المجانين السابقين لعصر “الإيديولوجيا الألمانية” ولعصر ثورة البلاشفة : “ألف قبلة كل منها أشد عاطفة من غيرها.. التقلب بين ذراعي عاشق فماً في فم منتشين بكيان واحد. شكوانا الوحيدة لو نهمل مرة، نحب عشاقنا أن يكونوا أقوى من هرقل، لا تتخيلي يا تيريز أننا كالرجال الآخرين فمنشأنا مختلف، إننا حقاً نساء، فلا توجد لذة تعرفينها ونجهلها، وهكذا ترين أن حبنا المفتون يجعل تقويم أهوائنا مستحيلاً فهو يحيلنا مجانين لو كبحت ملذاتنا”***.

فإذا كان إدراكنا مرتبط بطريقة ما بقدرتنا على التعبير لما هو لصيق بعوالمنا الداخلية، فإن لهذا الإدراك وظيفة أخرى تحد من تعارضات أضلاع مثلث كاربمان بما يثري تصوراتنا الذهنية على عقد المساومات المطلبية.

ولكن كيف يستقيم كل هذا دون مجاز؟

بعيداً عن معاني العدالة والسلام والشرف العسكري والموت والقتل والثوة والحب. بماذا كانت تفكر ماريا في تلك اللحظة التي نسي فيها فاديم كل شيء، حتى ماريا نفسها، وهرع لا يلوي على شيء نحو القارب؟ أي أنانية هذه؟.. وأي ذكورية استعلائية؟

هل عليها أن تندفع -معه- نحو القارب لتعيش الحب الذي لم تذق طعمه مع الثورة، والذي ترغب فيه بشدة؟ هل الخروج من سطوة الحزب/ الثورة يمثل خروج من سطوة اضلاع مثلث كاربمان؟.

قد يكون الجواب نعم إذا ما تمثلنا عملية الخروج هذه بشكلها الديمقراطي كسبيل وحيد لتغيير نمط السرد أحادي الجانب والاتجاه “وهو هنا سردية الثورة البلشفية”، بمعنى التوقف عن تقنيات التصنيف تبعا لـ ” الهوية الثقافية” الدونية، أي تعيين الثورة مقابل الثورة المضادة، والضحية في مقابل الجلاد، والحر مقابل العبد، والضعيف مقابل المستبد.. إلخ، وكذلك نقد آليات التقديس “الحزبية أو الثورية” ضيقة الأفق، باعتبار أن مثل هذا التقديس ضرورة “ثورية” لامتلاك الحزب أو الثورة قيمة جوهرية مثالية متعالية تتعدى لحظتها التاريخية، وبالتالي لا يجوز التعرض لها بالنقد .

ولأن السينما كي تكون مدهشة عليها أن تفاجئنا، ولأنه كان مقدراً لفاديم أن يموت منذ أن التقت فيه ماريا أول مرة وأخطأته رصاصة بندقيتها، ولأنه ينبغي للفيلم أن ينتهي عند مفترق درامي، ها هي ماريا ،الآن، تصوب بندقيتها نحوه وتطلب منه أن يعود إليها، بينما كان يقفز صوب القارب متجاهلاً توسلاتها، فتصرخ: “ولكنك أسيري.. فعُدْ.. عُدْ يا حبيبي”. لكنه لا يسمعها، لم يعد يسمعها أصلاً، لم يعد يسمع أحد أو شيء، فتصوب بندقيتها نحوه و.. هوووووب، تطلق رصاصتها الـ41 ، لينفجر المكان بصوت الموت.. انفجار كأنه غطى هذا الكوكب الذي حطمته الحروب، انفجار العالم المحتضر هو الصوت الأخير الذي سمعه فاديم حين كانت ماريا تحضنه بعد أن ألقت بندقيتها بعيداً، وهي تقول باكية:”  أووه، ماذا فعلت أنا؟ أنظر إليّ يا حبيبي، افتح عيونك الزرقاء الغالية.. عيونك تلك العزيزة على قلبي”.

ولكن هيهات.. آه يا ماريوتكا الحزينة…” عمق حبك اليوم هو عمق جرحك غداً “.

….

*سيرجي إيزنشتين أحد أهم المخرجين السينمائيين في تاريخ السينما, وهو الذي أعطى لتقنية “المونتاج” أبعادً ثورية حين اعتبر أن عملية المونتاج أكثر من مجرد جمع لقطات لتقديم مشهد مستقل، بل نظر إلى المونتاج كوسيلة لنقل الأفكار الثورية عن طريق الجمع بين النقائض المختلفة لخلق معنى جديد من لقطتين مختلفتين بما يولد صدمة عند المشاهد وإيصال الفكرة. وهذا ما قام بتنفيذه عملياً في أحد أهم الأفلام في التاريخ، أي الفيلم الصامت الشهير “المدرعة بوتمكين” الذي أخرجه سنة 1925 عندما قام بعملية مونتاج مذهلة لمشهد انقضاض جنود القيصر على الناس الذين أتوا لتأييد إضراب جنود المدرعة بوتمكين، والمشهد برمته يعطي انطباعاً قوياً أن هؤلاء الجنود ليسوا سوى قتلة من خلال تركيز اللقطات على الطفل الذي تدهسه الأقدام في حين تحاول أمه إنقاذه، ومشهد عربة الطفل التي تنحدر سريعاً على الدرج. لم يكتف إيزنشتين بتنفيذ المونتاج في أفلامه، بل روّج له في كتاباته المتعددة حين أشار إلى الأنواع المختلفة لعملية المونتاج أهمها ما دعاه “المونتاج الفكري”. ولعله استمد مفهومه للمونتاج الفكري من خلال إعجابه بفقه اللغة الصينية واليابانية والقدرة على تقديم فكرة جديدة عن طريق الجمع بين صور توضيحية. فيرمز اليابانيون مثلاً للشجرة بالرمز  木  ولكن عند جمع هذا الرمز مع رمز الحائط  囗  يظهر معنى جديد. هو “المشكلة” أو “المصيبة”  困، ولاشك أن وجود شجرة في حائط المنزل يعدُّ مشكلة كبيرة.

**عرض الفيلم أول سنة 1956 وهو من إخراج غريغوري جوغراي المقتبس عن قصة تحمل ذات العنوان للكاتب بوريس لافرينوف، ظهرت سنة 1924 وتدور أحداثها في العام 1919 أثناء الحرب الأهلية الروسية، علماً أن القصة ذاتها أخرجت سنة 1927 كفيلم صامت على يد المخرج ياكوف بروتازانوف (1881 ـ 1945). ومن طريف القول أن سيناريو فيلم جوغراي تمت مراجعته ست مرات قبل أن يتم الموافقة عليه كما علّق أحد المسؤولين عن قراءة السيناريو آنذاك “حسنٌ، فلندع كل فتاة تقع في حب رجل من العدو ثم تقتله” ثم أجاز الفيلم.  وحسب كتالوك الفيلم على موقع ويكيبيديا فهو من إنتاج مؤسسة “موسفيلم” لسوفييتية  ومدته 88 دقيقة وناطق باللغة الروسية، من بطولة إيزولدا إيزفيتسكايا بدور ماريا و أوليغ ستيرجينوف بدور فاديم ونيكولاي كرويشكوف بدور المفوض يفيسوكوف. عرض الفيلم خارج الاتحاد السوفييتي خلال مهرجان كان في العام 1957 وحاز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة. يذكر أن الفيلم شاهده في عروضه الأولى نحو 25 مليون مواطن سوفييتي ( وهو يحتل المرتبة العاشرة من حيث عدد الحضور في تاريخ السينما السوفييتية)، كما لاقى قبولاً في فرنسا و بولندة  والدول العربية مثل سوريا ومصر

***الماركيز دوساد: جوستين أو نوائب الفضيلة ص 57

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

ملف إميل حبيبي (II)

4-شارع فرعي في رام الله و” اخطية” تحيل قصة أكرم هنية الجديدة “شارع فرعي في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *