“السفرجي” / قصة قصيرة

رولد داهل

ترجمة: محمود الصباغ

استهلال:

يعتبر رولد داهل، أو “دال” (1916-1990)  أحد أشهر كتّاب القصة في عالم  اللغة الإنكليزية، ومازالت أعماله تحظى بشعبية عريضة من جميع الأعمار، كما أن العديد منها تحول إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية. وتدور قصة “السفرجي” حول رجل نال حظه من الثروة حديثاً، ويحاول أن يتسلق السلم الاجتماعي بأسرع وأسهل الطرق، فيشتري منزلاً فخماً في لندن ويختار موظفين لخدمته داخل بيته بأجور عالية، ويستضيف العديد من الحفلات الفاخرة لإثارة إعجاب ضيوفه بما يتيح له، حسبما يرى، الانضمام إلى نخبة أثرياء المدينة. وعلى الرغم من أن القصة فصيرة للغاية إلا أنها مليئة بالمعاني وتحفل بتأويلات عديدة قد تتجاوز المعنى الحرفي لمضمون القصة، ويبدو من سياق القصة أن السيد كليفر صاحب القصر قد يكون ليس بريطانياً، ربما أمريكياً، نظراً للغته واسمه Cleavers ( والاسم بحد ذاته يحتمل معاني التصدع والشقاق).

عدم صبر السيد كليفر وتذمره وتبرمه يذكرنا بالكثير من القصص التي نسمعها عن شخصية الأغنياء ضيقي الأفق، وشخصية الديكتاتور (لا يبدو السيد كليفر بعيداً عن مواصفات ديكتاتور محمود درويش في قصيدته المشهور “خطب الديكتاتور الموزونة”) فهو يعتقد أنه يستطيع من خلال الثروة امتلاك السلطة ( ألم يضع الزعيم الليبي معمر القذافي  شعاراً مكّنه من البقاء في الحكم أربعين عاماً حين زعم أن “السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب”.. “اقرأها بيد القائد”). سوف يتفاجأ السيد كليفر من حيث لا يدري، صحة المثل القائل” أجا مين يعرفك يا بلوط” حين يخدعه خادمه تيبس (مرة أخرى يلعب رولد داهل على الأسماء حيث يكون اسم الخادم  Tibbsقريب في النطق من كلمة tips بمعنى التلميح والنصح)، فثمة أشياء عديدة لا تشترى كما يرى الشاعر أمل دنقل.

ولكن ينغي لنا أن لا ننخدع بشطارة تيبس، فهو لاشك شخص مخادع ومتعجرف وغير مخلص، بل وانتهازي حين يجد متعة في وضع سيده بمواقف مثيرة للسخرية والحرج، وإن كان السيد كليفر لا يتعامل باحترام مع خادمه حين يحاول إذلاله أمام ضيوفه. ومن الواضح أن السفرجي تيبس يكن مشاعر غير جيدة لمن هم على شاكلة السيد كليفر والذين يعتقدون بقدرتهم على محو ماضيهم بسبب وضعهم الاقتصادي  الجديد.

يقال، التجربة معيار للمعرفة، ولكن يقال أيضا ” اللبس بيعلم المشي والمال بيعلم الحكي”. وحين يحاول السيد كليفر اختبار صحة ذلك، أي توظيف المعرفة لصالحه، يكتشف أن الأمر، على صعيد الواقع، لا يتوقف عند هذه الحد، إذ لابد أن نصادف في حياتنا الكثير من المفاجآت غير السارة، مهما كنا درجة من الحرص أو الحذر أو حتى التجاهل، ولعل هذا من حسن حظنا، أي عدم منطقية مسارات الحياة في كثير من الأمور.

لا يقتصر تحيز سكان المدن اتجاه “محدثي النعمة” من أبناء الأرياف، على قضايا رئيسية إشكالية فحسب، بل يتناول تفاصيل دقيقة، قد لا نعيرها اهتمام في سياق انشغالاتنا اليومية الملحة. ولعل جوهر هذا التحيز يكمن في المعضلة التي أعيت ماركس ولم يجد لها حلاً: “نحن لا نرغب فيما نملك، بل فيما ينقصنا”… وها قد فعلها السفرجي تيبس.

وإذن، يكشف لنا داهل بعض هذا التحيز وبعض من معضلة ماركس تلك.

…….

انتقل السيد جورج كليفر للعيش، رفقة زوجته إلى منزل أنيق في لندن بعد أن كانوا قبل ذلك يقطنون في فيلا صغيرة في الضواحي. ولولا المليون الأول من الجنيهات التي تمكن من جمعه لما كان لهذا الانتقال أن يتم. وقد بات آل كليفر الآن، بطبيعة الحال، بحاجة إلى طاقم يخدم المنزل فعمدوا إلى البحث عن  طاهٍ وسفرجي يناسبان وضعهم الجديد. وحيث أن الأمور الجيدة تأتي، أحياناً “مثل زخ المطر” فقد حالف الحظ السيدة كليفر في العثور على طاهٍ فرنسي يدعى “مسيو استراجون” وسفرجي إنكليزي هو “مستر تيبس”، ولا داعي للكلام عن الثروة التي كلفت آل كليفر للحصول على مسيو استراجون ومستر تيبس. وهكذا شرعت عائلة كليفر، بمساعدة هذين “الخبيرين” استراجون وتيبس، في محاولة تسلّق السلم الاجتماعي اللندني، وكانت البداية بإقامة عدة حفلات عشاء باذخة في منزلهما الفخم. بيد أن الأمور كانت تقف عند هذا الحد، فيأتي الضيوف ويأكلون ويشربون ثم يغادروا، وفي صباح اليوم التالي, الأيام التي تليه، لا حس ولا خبر. لم تحقق حفلات العشاء تلك الغاية التي أرادها الزوجان كليفر، يأن يصبحا جزءً من مجتمع لندن المخملي، فقد افتقدت جلسات العشاء تلك إلى الحيوية، وإلى ذلك النمط من الكيمياء التي تميز هذا النوع من العرف اللندني كما افتقرت إلى تلك اللحظات من الشغف الذي يقدح شرارة الحوارات بين المدعوّين، على الرغم من تمايز الطعام الذي كانت يختاره الزوجان بمساعدة “الخبيرين” استراجون وبيتس، وللأمانة لم يكن ثمة عيب يذكر في أداء استراجون وبيتس ولا في أسلوب ودقة تعاملهما مع هكذا نوع من النشاط ولا في التزامهما بتطبيق تعاليم الزوجان كليفر حسب البروتوكول المتعارف عليه.

تفطن السيد كليفر لهذا الأمر، وقلب في ذهنه المسألة بحثاً عن أسباب فتور حفلاته، فقال مخاطباً خادمه تيبس:” ترى! ما العيب في حفلاتنا.. لماذا لا أرى ضيوفنا يسترخون، ويتركون أنفسهم على سجيتها.. هل لك أن تجيبني يا تيبس.. وأنت الخبير في هذا الشأن”.؟. أمال تيبس رأسه لجهة أحد كتفيه، ثم قال وهو ينظر نحو السقف: “مم.. سوف أسمح لنفسي يا سيدي بعرض اقتراح صغير عليك، وكلي ثقة أنك لن تشعر بالإهانة حيال ذلك”.. فبادره السيد كليفر مسرعاً يقول:” وك إهانة شو يا تيبس.. قل.. قل ما تريد ولا تبالي.. أرجوك أن تنطق جواهرك في الحال”. فتبسم تيبس وبدى كأنه يقول، أو هو حقاً قال: “النبيذ يا سيدي.. إنه النبيذ، فهو لب المشكلة والحل”. فقال السيد كليفر:” النبيذ؟ وما شأن النبيذ في الأمر”؟. فعاد تيبس ليقول:” طيب، لنفترض أن مسيو استراجون يحضر طعاماً رائعاً وبحرفية عالية -وهو يفعل ذلك بحق-، ولكن ألا ترى معي يا سيدي أن الطعام الجيد ينبغي له أن يترافق مع نبيذ جيد؟.. أليس كذلك؟ إلا أنك يا سيدي، وأرجو أن تسمح لي يعني، تقدم لضيوفك نبيذاً رديئاً بعض الشيء، نبيذ أحمر إسباني من النوع الرخيص.. أووه يا لرائحته ومذاقه يا سيدي؟، فصرخ به السيد كليفر “وليش حضرتك لم تنبهيني لهذا من قبل، لا أحد ملام غيرك يا تيبس.. لا تحاول، فأنا، كما ترى، لا أبخل بالمال والمصروف، ولستُ مقصّراً في هذا.. وطالما الأمر كذلك، إليك ما سوف تعمل إذن، سوف تقوم في المرات القادمة بتقديم أفخر أنواع النبيذ لضيوفي.. أفخر نبيذ في العالم يا تيبس.. هل سمعت؟ أفخر نبيذ. فإن كان هذا ما سوف يجعل حفلات هذا البيت تبدو حيوية أكثر فلنقدم لهم النبيذ الفاخر وليشربوا حتى تستحيل أعينهم مثل عيون فئران الخمارات يا عزيزي تيبس.. ولكن لحظة.. لحظة.. ما هو باعتقادك أفضل نبيذ في العالم”؟. فأجابه تيبس وقد بدأ يشعر بالملل والتوتر ” هناك عدة أنواع فاخرة من النبيذ، إليك مثلاً نبيذ بوردو الأحمر يا سيدي وهو الأفخم في صنفه، ثم هناك نبيذ شاتو، لافيت، لاتور هوت-بريون، وأيضاً مارغو وموتون وروتشيل وكذلك شوفال بلان.. جميعها جيدة وفاخرة، وأفضلها باعتقادي، تلك الأصناف المعتقة من سنوات 1906و 1914و 1929و 1945، بالإضافة إلى صنف شوفال بلان 1895و 1921، فهو لا يضاهيه بلا شك أي نبيذ، كما أن صنف هوت-بريون 1906 لا يقاوم في الحقيقة. فقال السيد كليفر بلا تردد ” اشتر ما ذكرت يا بيتس.. اشتر جميع ما ذكرت قبل قليل عمره لا حدا يرث.. جميعهم، فلم أستطع حفظ تلك الأسماء الغريبة، أريدك أن تملأ القبو بها، بل وتكدسها فوق بعضها البعض. فقال الخادم “سوف أحاول يا سيدي، رغم أنها من الأنواع النادرة وصعوبة الحصول عليها، فضلاً أنها شراء كميات منها يحتاج إلى ثروة معتبرة” فأجابه السيد كليفر: لا تهمني التكلفة ” على كندرتي كل المصاري”.. املأ القبو بها في الحال.. وهذا أمر.

غير أن الكلام، دائماً، أسهل من أي فعل، كما يقال، إذ لم يستطع نيبس العصور على نبيذ معتق من الأعوام 1921، 1914، 1906، 1895، لا في بريطانيا ولا في فرنسا نفسها. لكنه نجح في العثور على بعض منها من الأعوام 1929، 1945. غير أن التكلفة كانت باهظة فعلاً، بل فلكية. كان ثمن تلك الزجاجات القليلة مرتفعاً جداً، بل حتى أكثر مما توقعه السيد كليفر نفسه، مما جعله يفكر بالأمر بعض الشيء، غير أنه سرعان ما تحول اهتمامه بثمن النبيذ إلى حماسة من نوع آخر عندما أشار عليه خادمه تيبس برأي جعل وجهه يكاد ينفجر من الرغبة بالنبيذ.. ” هل تعلم يا سيدي أن معرفة النبيذ .. اسمه وصنفه ونوعه وسنة تعتيقه ومكان زراعة الكرمة .. إلخ تعتبر رصيداً اجتماعياً لا يناله إلا من كان من نخبة النخبة في المجتمع”؟؟ وهكذا اندفع السيد كليفر بحماس بالغ لاقتناء الكتب التي تتحدث عن النبيذ.. تاريخه وصناعته.. وتجارته.. وقد قرأها جميعاً من الجلدة للجلدة، كما تعلّم الكثير الكثير مما يحفظه تيبس نفسه عن هذا الموضوع، كما أخبر الخادم تيبس سيده -من ضمن أمور كثيرة- عن الطريقة النموذجية والصحيحة لتذوق النبيذ فكان لا ينفك يردد على مسامعه: “عليك، يا سيدي، أن تشمّه أولاً ولمدة قصيرة، تشمّه بعمق، بحيث تضع أنفك على فتحة الزجاجة.. هكذا ( وكان يريه كيف يضع أنفه) ثم تأخذ رشفة صغيرة، رشفة واحدة فقط، وتفتح شفتيك قليلاً كمن يمتص الهواء، فتصنع ما يشبه فقاعة هوائية في النبيذ، انظر نحوي يا سيدي وراقبني كيف أفعل ذلك، ثم تدحرج، بعد ذلك، رشفة النبيذ بقوة داخل فمك من الداخل وتبتلعها”..

وليس إلا وقت قصير حتى كان السيد كليفر يستطيع القول عن نفسه أن صار خبيراً في تذوق النبيذ، وهو الأمر الذي جعله يصبح مثيراً للملل وباعثاً للضجر، كلما كان الحديث يدور عن النبيذ. إذ سرعان ما كان يستلم ناصية الحديث ويبدأ في القول والتكرار وهو يرفع كأساً من النبيذ:” سيداتي آنساتي سادتي.. هذا نبيذ مارغو 1929، نبيذ تلك السنة العظيمة من القرن العشرين، إنه باقة رائعة ومذهلة، هل تشمون رائحة زهرة الربيع المرجية، أرجوكم أن تنتبهوا لإحساس ما بعد التذوق وكسف يعطي ذلك الأثر البديع للطعم “اللفاني” القابض والذي يكاد يشبه طعم السماق.. مارغو 1929، يا له من نبيذ رائع ويا له من طعم رائع، ألا تشعرون بهذا؟.. وفي الحال سوف يومئ الضيوف برؤوسهم باستكانة كعلامة على الموافقة ثم يغمغمون ببعض عبارات الإشادة، وبس.. لا أكثر ولا أقل.. فهذا جلّ ما يمكنهم قولهم.. طأطأة الرؤوس وبعض كلمات الدهشة.. وكفى.

لم يمض وقت طويل حتى اكتشف السيد كليفر أن ردود فعل ضيوفه باتت متشابهة وتتكرر مرة إثر مرة دون تغيير أو تنويع. وذات يوم، قال لخادمه تيبس: “ما بال هؤلاء الحمقى المغفلين؟ ألا يقدر أحدهم حقاً قيمة النبيذ الفاخر”؟. لم يجبه تيبس مباشرةً، بل أمال رأسه على أحد جانبيه وحدّق نحو الأعلى ثم نطق أخيراً: “سيفعلون يا سيدي.. أعتقد أنهم سوف يفعلون ذلك حين يكونوا قادرين على تذوق النبيذ.. غير إني أشك في ذلك” فقال السيد كليفر متسائلاً : ” ما هذا الهراء الذي تقوله؟ ماذا تقصد. ما الذي تعنيه بقولك أنه لن يتمكنوا من تذوق نبيذي”؟ فأجابه تيبس: “حسبما أعتقد يا سيدي، فقد رأيتك وأنت تطلب من مسيو استراجون أن يضع كميات وافرة من الخل مع صلصة السلطة”.

-وما الخطأ في ذلك؟ أنا أحب الخل، لاسيما مع صلصة السلطة.

-لا ضير في ذلك يا سيدي، ليس هذا ما قصدت، إنما الخل -كما تعلم- عدو النبيذ، فهو يقضي بلا رجعة على القدرة الآنية على التذوق, ولهذا ينبغي أن تكون صلصة السلطة معدّة من زيت الزيتون والقليل من عصير الليمون.. ولاشيء آخر.

-هذه هراء.. محض هراء يا تيبس

-متل ما بدك يا سيدي

-إذن دعني أقولها لك ثانية، إن ما تقوله ليس سوى هراء، الخل لم يؤثر على حاسة الذوق عندي.. لم يؤثر بالمرة.

يطأطأ تيبس رأسه ويهم بالمغادرة وهو يقول” كم أنت محظوظ إذن يا سيدي”. في تلك الليلة، وأثناء العشاء، بدأ السيد كليفر يسخر من خادمه أمام ضيوفه فقال :”إن خادمي، السيد تيبس، يحاول أن يقول بعدم قدرتي على تذوق النبيذ فيما لو أضفت بعضاً من الخل إلى صلصة السلطة.. أليس هذا ما تقوله يا تيبس؟ اليس هذا ما قلته عصر اليوم”؟. فأجابه تيبس دون أن يهتز له جفن: اجل ونعم وبلى يا سيدي.. هذا ما قلته لك بالضبط”. فالتفت السيد كليفر نحو ضيوفه وقال: “وقد أخبرته بأن ما قاله ليس سوى هراء، فرد تيبس “أجل يا سيدي.. هكذا أجبتني” ولكن السيد كليفر تابع يقول وهو يرفع كأس النبيذ، دون أن يلتفت نحو تيبس: “هذا النبيذ الذي بين يدي الآن يشبه في طعمه نبيذ شاتو لافيت 1945، ولا شيء سوى نبيذ شاتو لافيت 1945. لم يهتز تيبس وبقي ثابتاً وهادئاً ثم انتصب أمام بوفيه السيد كليفر وقد بدى بعض الشحوب على وجهه، وقال:” لو يعذرني سيدي، ولكن هذا ليس نبيذ لافيت 1945″، ترنج السيد كليفر على كرسيه وحدق في خادمه نيبس وقال: “ما هذا الهراء الذي تتفوه به يا تيبس، ماذا تقصد. ألا ترى الزجاجة الفارغة بقربك؟ أنظر إنها شاتو لافيت 1945، هل ستكذّب ما هو مكتوب عليها الآن؟  أليس ما كتب عليها يؤكد صحة ما أقول”؟

كثيراً ما كان تيبس يسكب هذا النبيذ الأحمر، الفاخر المعتق والمليء بالترسبات، قبل العشاء ويقدمه في كؤوس زجاجية مزخرفة، في حين توضع الزجاجات الفارعة على البوفيه كالعادة، حيث يمكن للجميع أن يلاحظ الآن زجاجتين فارغتين من صنف لافيت 1945 كي يراهما الجميع.

يعد فترة صمت قليلة  صدح صوت تيبس بهدوء بالغ ” ما شربته يا سيدي هو نبيذ أحمر إسباني رديء”، نظر السيد كليفر إلى النبيذ الموجود في كأسه، ثم التفت نحو خادمه، وقد بدأ الدم يضغط على وجنتيه ويتصاعد على مساحة وجهه ليتحول لون بشرته إلى القرمزي، وقال “أنت تكذب يا تيبس.. أنت تكذب.. لست سوى كاذب مأفون”.  فرد عليه الخادم: ” كلا يا سيدي، أنا لا أكذب، و إن أردت الصدق والحقيقة فأنا لم أقدم لك أي نوع من لحظة قدومي للعمل عندك وحتى هذه اللحظة سوى هذا النبيذ الإسباني الذي بين يديك الآن، ويبدو أنه يناسبك تماماً”. فصرخ السيد كليفر نحو ضيوفه قائلاً: ” إنه يهذي هذا الخادم.. لا أصدقه ..لقد جنّ هذا الرجل لا محالة”. فقال الخادم: ” لتعلم يا سيدي، ينبغي التعامل مع أنواع النبيذ الفاخر بوقار. والتفت نحو الضيوف، وتابع: “لعله من السوء بما يكفي للمرء أن يبدد تذوقه بثلاث أو أربع كؤوس كوكتيل قبل العشاء كما تفعلون أيها السادة عادة، لكنكم  عندما تسكبون الخل بسخاء رخيص فإنكم كمن يشرب ماء جلي الأطباق”.

عندها بدأت الوجوه حول المائدة تحدق به، ليس أقل من عشرة وجوه، لقد أفقدهم حديث تيبس توازنهم فبدوا عاجزين عن الكلام. وتقدم الخادم فمد يده ولمس إحدى الزجاجات بأصابعه بمودّة بالغة، وقال: “هذه  الأخيرة من تعتيق 1945، أما تلك المعتقة من 1929 فقد نفذت بالفعل، إنها خمور فاخرة لاشك، لقد استمتعت كثيراً باحتسائها برفقة مسيو استراجون، ثم انحنى ومشى ببطء شديد  خارج الغرفة،  مر من أمام الجميع ثم اتجه نحو الباب الخارجي للمنزل، ثم إلى الشارع حيث كان مسيو استراجون يضع حقائبه في صندوق سيارتهما الصغيرة.

….

ملاحظات :

المصدر:  TALES OF THE UNEXPECTED. مجموعة قصصية لرولد داخل  صدرت ضمن المجلد الثاني من  القصص القصيرة في طبعتها الأولى 1991 بعنوان The Collected Short Stories of Roald Dahl

Volume II

Complete and Unabridged

First published in Great Britain in 1991

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية

نيف غوردون موريل رام ترجمة محمود الصياغ استهلال تحاول هذه المقالة المترجمة التعرف على السلوكيات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *