الزوجة الصغيرة

قصة قصيرة: وليم مارش

ترجمة: محمود الصباغ

اختار جو هينكلي مقعده في الجانب الظليل من القطار، وما إن استوى في جلسته حتى أخفى بعناية حقيبة سفره والصندوق الأسود الثقيل الذي يحفظ بداخلة كتالوغات عمله. كان الجو حاراً، على غير العادة، في مثل هذا الوقت من الصيف، فما زلنا في أوائل حزيران والحرارة تنبعث في الخارج على هئية موجات متعاقبة تتلألأ وتتراقص فوق الحجارة الملتهبة المرصوفة بين قضبان السكة الحديدية وفوق النهر الموحل، حيث تتحرك المياه جانب المحطة التي ترتاح بين ضفتيه الحمراوين. تأمل جو، من حيث يجلس، تموجات الحرارة والحجارة الملتهبة والنهر الموحل، وقال مردداً لنفسه: “إن كان هذا حال الجو في حزيران، فما عساه يكون في آب؟.. جحيم لا يطاق، لا شك في ذلك”. التفت إلى ساعته التي كانت تشير إلى الثانية وثمان وعشرين دقيقة، لقد تأخر القطار خمس دقائق عن انطلاقه. وبطبيعة الحال لم يكن يتوقع ذلك، فلو كان يعلم بهذا التأخيرلاستطاع حزم عينات المواد التي يبيعها وأحضرها معه. ولكن بعد استلامه البرقية من السيدة تومكنز، حماته، قرر المغادرة على عجل، فلا متسع لديه من الوقت لحزم جميع حقائبه، وبالكاد تمكن من توضيب حقيبة ثيابه ومغادرة الفندق حتى لا يفوته القطار العائد به للديار. أرخى حزامه قليلاً ومسح رقبته بمنديله الناعم، وتمتمً ” لا يهم.. فحتى لو تركت تلك الحقيبة في الفندق.. يمكن لأحد الصبية العاملين هناك أن يرسلها لي لاحقاً، أو ربما سآخذها بنفسي حالما أعود ثانيةً”. ثم لاح له بروز أحد زوايا الصندوق الأسود الثقيل، فدفعه بعيداً بقدمه تحت المقعد.. إنها “هي” ما كان يشغل باله طوال الطريق. لم يعتد أن يقضي، في أحيان كثيرة، عطلة نهاية كل أسبوع في بيته بسبب طبيعة عمله، بل لم يستطع في عديد من المرات أن يعود لمنزله حتى في نهاية الأسبوع، وإذ لم يكن بمقدوره أن يخذل “بيسي”، فكثيراً ما كان يتدبر أمره بطريقة أو بأخرى، دون أن ينظر إلى العواقب. لقد كانت حياتهما الزوجية -التي لم تتجاوز عامها الأول بعد- من أسعد سنين حياته التي عاشها. ليس هو وحده فقط، بل بيسي كانت سعيدة أيضاً.. وفي خضم تداعي أفكاره، لاحت له بيسي فجأة، بوجهها الأبيض الشاحب وهي مستلقية على سريرهما، فتملكه الفزع وتسارعت ضربات قلبه، فهمس لنفسه مطمئناً “ستكون بخير، هؤلاء الأطباء لا يفقهون شيئاً، ستكون بخير، كل ما في الأمر أن السيدة تومكنز منفعلة قليلاً وتشعر ببعض الخوف، لكن كل شيء سيكون على ما يرام”. في تلك الأثناء فتح رجلٌ أشيب يجلس أمامه في العربة حقيبته ليخرج منها قبعته، وكان الرجل، كما لاحظ جو، يجد صعوبة في حمل قبعته وقفل حقيبته بآن معاً، فما كان من زوجته التي تجلس قربه إلّا أن تناولت منه الحقيبة وأقفلتها في الحال. ثم أخذت القبعة منه وشدتها إلى حجرها. قامت بكل هذا، وهي لاتزال تقرأ في المجلة التي بيدها، حتى أنها لما أقفلت الحقيبة لم ترفع عينيها عن المجلة. ثم ظهر من بعيد خادم زنجي يحمل بيده برقية وهو يسير في الممر، ولما وصل إلى المنتصف توقف وصاح “برقية للسيد جي. جي. هينكلي!” سمعه جو ينطق باسمه، لكنه تركه يكرّر الاسم ثلاث مرات قبل أن يقول له أن البرقية له. ناوله الخادم البرقية، وهو يقول، مفسّراً، بأن البرقية وصلت من الفندق في اللحظة التي كان فيها القطار على وشك الانطلاق. أخذ جو البرقية، وناول الخادم بقشيشاً وعاد إلى مقعده، رمقته المرأة القروية للحظة ثم حوّلت نظرها بعيداً، وبجانبها كان ثمة فتاتين، وقد رحلت عيونهما نحو جو بطريقة لا تخلو من الوقاحة والجرأة والضحك والهمس، أما الرجل الأشيب فتناول سيجاراً ومضى نحو غرفة المدخنين، بعد أن ثبت القبعة بقوة على رأسه.

شعر جو بضيق في صدره و بدت يداه كأنهما ترتجفان، وتملكته رغبة عميقة في وضع رأسه على حافة النافذة، لكنه خشي ظنّ الركاب أنه مريض، وعندها سيحاولون الحديث معه، وهو لا يرغب في تلك اللحظة أن يكلم أحد. فما كان منه إلّا أن وضع البرقية بجانبه على المقعد مغلقة كما هي، وجعل يحدق فيها مليّاً، ثم أعاد، ببطء شديد، قراءة البرقية الأولى، التي وصلته وهو في الفندق، وبدأ يحدث نفسه “حسنٌ، لابد أنها من السيدة تومكنز”.. “ألم تقل أنها سترسل برقيةً جديدةً مرةً أخرى إذا ما”.. ثم تابع “ربما هي من شخص آخر، ربما ليست من السيدة  تومكنز، بل لعلها من شركة بويكين وروزين بخصوص إلغاء الموعد.. نعم هي كذلك.. إنها من الشركة.. هم من أرسلوا البرقية.. لا.. ليست من السيدة تومكنز، لا يمكن أن تكون منها.. إطلاقاً”.  ورفع بصره للأعلى، بغتةً، فلاحظ التفات الفتاتين نحوه وركزتا نظرهما عليه، وكانتا تظهران لبعضهما من وراء أيديهما، بين الحين والآخر، إشارات مضحكة. نهض من مقعده ومشى نحو الأمام ينتابه شعور طافح يجمع بين السقم وقليل من الغثيان، ومازالت البرقية غير المفتوحة في يده. مرَّ خلال سيره بعدد من العربات حتى وصل أخيراً إلى نهاية القطار وخرج نحو الردهة الخلفية. وشعر، على نحو مفاجئ، برغبة شديدة في القفز من مكانه والركض نحو الغابة، ولكن رغبته تلك تناثرت في فضاء الردهة لوجود أحد عمّال القطار قربه، إذ سوف يبدة سلوكه، لو قفز، يبدو غريباً جداً، وكان العامل قد لمح وجه جو وبدا له كأنه مريض، فوضع ما بيده أرضاً وسأله: “هل أنت بخير يا سيدي”، جاوبه جو: “نعم، أنا بخير ولكن، كما ترى الجو حار قليلاً “. فتركه العامل ومضى، مما  منح جو شعوراً بالسعادة  لحاجته في أن يبقى وحيداً. إذ لم يكن يرغب بوجود أحد حوله. كانت قضبان السكة الحديدية تقرقع بإيقاع منتظم تحت وطأة ثقل العربات وسرعتها فينكشف أمامه منظر الريف الذاوي من شدة الحر.  ثمة، هناك فتاة زنجية صغيرة.. ترتدي ثوباً وردياً مرقعاً.. تركض نحو السكة الحديدية وتلوّح بيدها، وغير بعيد عنها، ظهر رجل عجوز أعرج، يحدّق في مرور العربات السريعة، وهو منهمك في حراثة حقله الصغير ويدفع أمامه بغله الأجرب. ومازالت القضبان تواصل صخبها وقرقعتها، وبدا القطار يحلق فوق الحجارة المرصوفة الملتهبة كما لو أنه صهارة معدنية تتحرك  على السكة. وعلى وقع هذا المنظر خطر بباله القول” ليس ثمة من داعٍ للعجلة”، وأحس ببعض الضيق فردد “مازال لدينا  الكثير من الوقت المتاح لنا في هذا العالم”. وعلى صفيح العربة الساخن المصقول لاح شكل وجهه المشوه أمامه فبدى أبيضاً ومرعباً، مما جعله يشعر بالقلق، فقال في سره “لا عجب أن سألني العامل إن كنت مريضاً”. ثم تابع: “هل أبدو على هذا الحال من السوء لدرجة أن يلاحظ الآخرون ذلك؟ كل ما كان يريده أن لا يلاحظ عليه أحد أي شيء أو حتى يتكلموا معه، فليس ثمة ما يمكن أن يضيفوا بحديثهم معه. واستمر في تقليب البرقية في يده وتابع “علي أن أفتحها الآن، علي فتحها وقراءتها”، ثم قال أخيراً بصوت عالٍ” لا.. هذا ليس صحيحاً.. لا أظن ذلك، لا أظن أنه علي فتحها و قراءتها “. وكرر كلماته الأخيرة هذه عدة مرات، ثم تابع: “إنها حول هذا الإلغاء.. إلغاء الموعد- وليست من السيدة تومكنز على الإطلاق.” ثم مزّق البرقية المقفلة إلى قطع صغيرة وألقى بها من القطار فرفرفت القطع، بفعل الريح، وبدت، قبل أن تستقر على حجارة مسار السكة الملتهبة، مثل سرب فراشات صفراء ترقص لتستقر على المسار”. وسرعان ما شعر بتحسن فدفع كتفيه للخلف وعبَّ ملء رئتيه من هواء الريف وزفر قائلاً ” كل شيء على ما يرام. ها أنا ماضٍ في طريقي لرؤية زوجتي الصغيرة.. كل شيء بخير وعلى ما يرام. “ضحك بسعادة وأحس كما لو أنه نجا لتوه من كارثة رهيبة، ولمّا بدأت قصاصات الورق تغيب عنه ولم يعد قادراً على رؤيتها، انفتل عائداً إلى مقعده يدندن ويداخله شعور بالراحة والابتهاج، فوصل في وقت وصول المفتش، فأومأ له بسرور، وناوله تذكرته وهو يقول مازحاً “انتبه أن يخدعك أحدهم ويعتبرها رحلة مجانية” فأجابه المفتش، أنووو؟ ولا يمكن يا حضرة الشاويش”. ضحك جو من أعماق قلبه ونظر نحوه المفتش باستغراب. ثم ضحك بدوره وقال: “أراك تتمتع بحس الفكاهة رغم هذه الحرارة”. فرد جو متسائلاً : “ولمَ لا”.. فأنا عائد لرؤية زوجتي الصغيرة” ثم همس كما لو أنه يفشي سراً عظيماً: “إنه صبي”، فوضع المفتش التذاكر على المقعد ومدَّ يده نحو جو، وهزّهاَ جو مصافحاً وهو يردد: “هذا رائع، إنه رائع حقاً”، ما جعله يشعر بقليل من الارتباك، فضحك من جديد. وحالما تحرك المفتش دفع جو دفعةً خفيفةً على صدره مداعباً وهو يقول “بلغ تحياتي للسيدة”. فرد جو بسعادة “سأفعل..  كن واثق من ذلك.. سوف أبلغها سلامك”.

تأسّف جو لعدم بقاء المفتش وقتاً أطول معه، فقد كان يشعر برغبةٍ ملحةٍ تدفعه للتحدث إلى شخص ما، رغبة تدفعه لأن يتحدث عن بيسي لشخص ما.  تلفت حوله لعله يرى أحد يعرفه في القطار. ابتسمت له الفتاتان، وهنا فهم جو الموقف، فهما ليستا سوى طفلتين تمضيان في رحلة، فلو كانت فتاة واحدة فقط لوحدها، فلن تفكر قط في الابتسام لشخصٍ غريب، لكن وجودهما معاً يجعل الأمور تجري بطريقة معاكسة، أدرك جو ذلك تماماً، فوجودهما معه في القطار يجعل الأمور تبدو كما لو أنها مغامرة مثيرة؛ شيء ما سيضحك هو وأصدقائه عليه عندما يحدثهم به. قرر جو المضي أكثر ويتحدث معهما فمشى نحوهما دون اكتراث، ورمى نفسه على المقعد وقال: “حسنٌ،  إلى أين تذهب الشابتين؟” فردت عليه إحداهما، تلك التي تمتلك عينين سوداوين “ألا تعتقد أن لديك قدراً كبيراً من الشجاعة والجرأة”. فقال جو بمرح ظاهر “بكل تأكيد أنا كذلك، وإلا فلن أكون أفضل بائع جوال”. فضحكتا معاً مما جعله يعتقد أن كل شيء يمضي على ما يرام، ولم يفته أن الفتاة الأخرى ذات العينين الزرقاوين كانت أجمل من صديقتها، لكن الأخرى كانت أكثر إدهاشاً.. “سننزل في فلوماتون” قالت ذات العينين الزرقاوين.. وأردفت صديقتها “كنا في مونتغمري، في المدرسة” وصارتا تتناوبان الحديث: -نحن في طريقنا إلى البيت لتمضية عطلة الصيف.. “-وما نريده من هذا العالم الوقح عديم الإحساس أن يعلم أننا سعيدتين وأننا عائدتين إلى بيوتنا. نظر جو نحوهما بجدية وقال “إياكما وارتكاب الأخطاء أيتها الشابتين. تعلما قدر المستطاع  وإلا ستشعران بالندم لاحقا” فانفجرتا في نوبة ضحك ووضعتا ذراعيهما حول بعضهما البعض واستمرتا في الضحك حتى سالت دموعهما، ضحك جو بدوره وهو يتساءل بينه وبين نفسه عما هو مضحك في كلامه حتى يغرقان في موجة صهيل بهذه الطريقة. توقفت الفتاتان عن الضحك بعد لحظات، غير أن ضحكة مفاجئة أطلقتها ذات العينين الزرقاوين جعلتهما تنفجران من جديد بموجة ضحك أكثر من ذي قبل، ثم قالت ذات العينين السوداوين ” أووه هذا في منتهى السخف”، فأيدتها صديقتها وهي تلهث “أرجوك لا تظن أننا وقحتين”، فتساءل جو “أين النكتة فيما قلت”، ثم انفجر ضاحكاً مثلهما. حاولت ذات العينين الزرقاوين أن توضح الأمر له: “تبدو كما لو أنك.. كما لو أنك.. ” فأنقذتها ذات العينين السوداوين بالقول “-كما لو أنك أبويّ وحنون”. ومضى الجميع في زوبعة أخرى من المرح، وكانت الفتاتان تضحكان وتتعانقان، حتى أن السيدة العجوز وضعت مجلتها جانباً وبدأت تضحك مثلهما بشدة، ولكن المرأة ذات الغدة المتضخمة قبضت أكثر على باقة الآس العطري وبدأت بالتحديق خارجا عبر النافذة.

انتظر جو حتى أنهكت الفتاتان نفسيهما من الضحك ومسحتا عيونهما وفتحتا علب التجميل للنظر إلى أنفسهن في المرآة وتجميل وجهيهما. قال جو: “حسنٌ، أعتقد أنني يجب أن أبدو حنوناً وأبوياً، إذ وصلتني برقية للتو تقول أني سأصبح أباً، لأول مرّة في حياتي. فبدى الاهتمام على وجه الفتاتين، وانهالت عليه أسئلتهما، ورغبتا في معرفة كل شيء، فشعر بسعادة غامرة، وقد لاحظ، عندما بدأ يتحدث، كيف أن السيدة العجوز كانت  تسترق السمع، وقد بدلت مقعدها لتصغي بشكل أفضل، فانتابه إحساس ودود تجاه الجميع، وتساءل “ألا تنضموا إلينا”، فقالت العجوز “سأفعل بكل تأكيد” فتحرك جو قليلاً ليفسح لها مكاناً  قريباً كي تجلس. وما إن اقتربت العجوز حتى خاطبته “لابد أنك سعيد جداً بذلك” فأجاب جو “أجل، لاشك إني سعيد جداً بهذا”، ثم أضاف: “ليس هناك الكثير مما يمكن أن أقوله باستثناء استلامي برقية من السيدة تومكنز -حماتي- تقول فيها أن بيسي ولدت طفلاً جميلاً وهي والطفل بخير: حتى أن الطبيب قال أنه لم يرَ في حياته من قبل امرأة ولدت طفلاً بالطريقة التي قامت بها بيسي، ولكن بالطبع زوجتي أرادتني أن أكون معها، لذلك قطعت جميع أعمالي وها أنا في طريقي إليها. ولعلمكم، بيسي وأنا متزوجان منذ عام فقط. ونحن نعيش بسعادة منذ ذلك الحين. ولكن المزعج في الأمر عدم تمكني من العودة للبيت في أحيانٍ كثيرة بسبب طبيعة عملي، ولكن لا يمكن للأمور أن تكون مثالية في هذا العالم، ألا تظنون ذلك؟ بيسي أرقى زوجة صغيرة قد يتمناها أي رجل. فهي لا تشكو على الإطلاق بسبب ابتعادي عنها بهذه الطريقة، ولكننا نأمل، ذات يوم، أن يتغير هذا الحال”. فقالت الفتاة ذات العينين الزرقاوين: “لا يوجد ما هو أجمل من الأطفال”. ثم سألت السيدة العجوز “أي اسم ستطلقه عليه”؟ فرد جو “في الواقع تريد بيسي أن تسميه “جو” على اسمي، لكني لا أرى هذا منطقياً، فلا اعتقد أن اسمي شائع بما فيه الكفاية، أليس كذلك؟ عموماً سأترك الموضوع برمته لها، فلتطلق عليه ما تشاء من الأسماء، فزوجتي الصغيرة الجميلة تستحق ذاك. وبدأيتحدث بسرعة، ويذكر تفاصيل لقاؤهما الأول. لقد كان ذلك في منزل جاك بارنز، أحد أصدقائه، وكان قد دعي لتناول العشاء وتمضية الوقت بلعب البوكر، لم تكن السيدة بارنز ولا بيسي يلعبان البوكر، كانت بيسي تقطن في الشارع عينه وكانت قد دعتها السيدة بارنز لتبقى معها في الوقت الذي يكون فيه الرجال منشغلون بالبوكر، أحبها على الفور، فانتبه أصدقاؤه له فبدأوا يهزؤون منه بأنه فقد تركيزه في اللعب. لم يسبق له أن أخبر أحداً بذلك من قبل، ولكن عندما بدأ رفاقه يتغامزون حوله، قرر أن لا ينظر نحوها، لأنه لا يرغب أن تظنه غير ناضج، لكنه لم يستطع منع نفسه وفي كل مرة تلتقي عيناهما كانت تبتسم له بطريقة ودية، وأخيراً لاحظ الجميع ذلك، وبدؤوا يمازحونه أكثر هو وبيسي أيضاً، لكنها لم تعرْ ذلك أدنى انتباه. لا يهم ما خسره في تلك الليلة في البوكر لأنه كان قد التقى بها. لا يمكن القول إن بيسي جميلة تماماً، لكنها كانت عذبةً ولطيفة، فهي من النوع الذي يرغب أي رجل الارتباط بها. تحدث عن غزلهما. واقتبس فقرات كاملة من الرسائل التي كانت قد كتبتها له ليؤكد على نقطة معينة أثارها. لم تحبه بيسي بشكل خاص، ليس منذ البداية على أي حال. وفي الواقع أحبته أولاً كصديق لكن ليس بجدية. كان هناك صديقين أو ثلاثة من المقربين لها أيضاً. كانت بيسي ملفتة للنظر بدرجة كبيرة، وكان بمقدورها أن تخرج كل ليلة مع رجل مختلف لو أرادت. وكونه يمضي معظم عمله متنقلاً فإن هذا له عيوب كثيرة، إذ لم يكن لديه الفرصة لرؤيتها في كثير من الأحيان، غير أن ذلك لعله أيضا كان ميزة -فقد جعله على أي حال يكتب لها يومياً. وأخيراً أصبحا مخطوبين. لم تسمح له بأن يقبلها حتى ذلك الحين. كان يعرف منذ البداية أنها ستكون زوجة صغيرة رائعة، لكنه كان لايزال حائراً  كيف لفتاة على تلك الدرجة من التفوق مثل بيسي تريد الزواج به.

تحدث وتحدث بسرعة وبطريقة محمومة. وقال كيف قرر في وقت سابق عدم الزواج على الإطلاق.. كان هذا قبل أن يلتقي بها، فكان أن غيرت كل شيء، مرت ساعتان دون أن يشعر، وبدأ مستمعوه يشعرون بالملل، ولكنه لم يدرك ذلك. وأخيراً، عاد الرجل العجوز ذو القبعة من غرفة التدخين ما أدخل السرور على قلب زوجته واغتنمتها فرصة للابتعاد، واعتذرت بأنها عليها أن تجلس قرب زوجها. ابتسم جو وأومأ برأسه، لكن هذا لم يأخذ منه وقتاً طويلاً ولم يوقفه لحظة واحدة عن متابعة قصته. فقد وصل إلى لحظة الوصف الطويل للسيدة تومكنز. لم تكن السيدة تومكنز مثل كل الحموات اللواتي نحتفظ لهن بصور هزلية على الإطلاق. بل على العكس تماماً. لم يكن ليتصور كيف يمكن له ولبيسي أن يمضيا حياتهما بدونها، ولأبين لكم أي نوع من النساء كانت، فقد كانت دائماً تقف إلى جانبه في أي نزاع بينه وبين بيسي -وهذا لا يعني أنه كان وبيسي يتشاجران على الدوام. أوه، لا، معاذ الله! ولكن في بعض الأحيان كان لديهما بعض النقاشات الودية مثل جميع الأزواج، وكانت السيدة تومكنز في صفّه دائما. وهذا غير عادي، أليس كذلك؟ تحدث جو وتحدث وتحدث، غير مدرك تمام للوقت.

وصل القطار أخيراً إلى فلوماتون وجاء الحمال لمساعدة الفتاتين في حمل حقائبهما. كانتا سعيدتين جداً لوصولهما ولتخلصهما من جو. فقد بدتا عصبيتين قليلاً, فثمة ما هو في غير مفهوم في جو، وقد اعتقدتا، أولاً، أنه مرحٌ وخفيف الظل، ولكن مع مرور بعض الوقت توصلتا إلى قناعة أنه إما مخمور أو مخبول، وخلال الساعة الماضية كانتا تشيران لبعضهما البعض بشكل ملحوظ. ساعدهما جو في الخروج من القطار إلى رصيف المحطة. وفي اللحظة التي بدأ فيها القطار في التحرك لوحت الفتاة ذات العينين السوداوين بيدها وقالت “بلغ محبتي لبيسي ولولي العهد”، وقالت الفتاة الزرقاء العينين: “لا تنس أن تقبل الطفل نيابة عني”، فقال “سأفعل بكل تأكيد”. وبعد أن تحرك القطار نظرت الفتاتان لبعضهما البعض للحظة، ثم بدأتا في الضحك. وقالت الفتاة ذات العينين السوداوين “على بيسي أن تربطه وتشد وثاقه جيداً”. فأردفت الأخرى: “هل سبق لك أن رأيت مثل هذا من قبل؟”.

عاد إلى العربة مرة أخرى وهو يردد في سره “إنهما مجرد طفلتين لطيفيتين”. نظر الى ساعته فكانت الخامسة وخمس وعشرين دقيقة، فأصيب بالذهول، كيف مر الوقت بمثل هذه السرعة. تقدم نحو مقعده وهو يقول “لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للوصول إلى المنزل”. ولكن هذا لم يساعده في أن يبقى هادئاً، فقرر أن يدخن سيجارة، فمضى إلى غرفة المدخنين ليجد هناك ثلاثة رجال. أحدهم مسناً ذو لديه  خصلة شعيرات رمادية وكان وجهه غائراً وتنفر العروق الدموية الزرقاء من يديه. كان يمضغ التبغ بشراهة ويبصق في حوض المضمضة. أما الثاني فكان ضخماً ومترهلاً، وعندما يضحك تغور عيناه وتختفيان تماماً وتهتز بطنه المتكرشة. كانت أظافر أصابعه منتفخة وشفته السفلى مدلّاة للأسفل يخالطها لعابه. أما الرجل الثالث كان أسوداً وبمظهر عصبي ويضع في إصبعه الصغير خاتماً  كبيراً جداً من الماس . وفي اللحظة التي دخل عليهم جو كانوا يضحكون ويطلقون النكات فيما بينهم. أراد التحدث معهم عن بيسي، لكنه لاحظ أنه لا يمكنه استحضار اسمها في مثل هذا الجو. ثم  تذكر فجأة: “كنت أضحك وأقول القصص الساخرة مع ذلك الزبون في مونتغمري وطوال الوقت كانت البرقية هناك”. امتقع وجهه ألماً وحاول طرد الفكرة من ذهنه، وسرعان ما ألقى سيجارته وعاد إلى مقعده، وجاء نادل مشرق الوجه يعلن عن النداء الأول لوجبة العشاء، فخطر له أن يتناول عشاءه في القطار، فهذا من شأنه أن يكسر حدّة رتابة الرحلة ويساعده على تمضية الوقت، لكنه تذكّر أن السيدة تومكنز لابد أن تكون قد حضّرت له العشاء في المنزل -عشاء أعد خصيصاً من جميع الأشياء التي يحبها. “سأنتظر حتى أصل إلى المنزل”، قال ذلك لنفسه ثم أردف “لن أخيب ظن السيدة تومكنز وزوجتي الصغيرة من أجل هذه الأشياء التي تحيطني والتي تثير متاعبي.” ومن جديد شعر برغبة غريبة وحاجة قاهرة في الحديث عن بيسي مع أي شخص. كان لديه شعور أنه طالما يتحدث عنها فسوف تبقى بخير. رأى السيدة العجوز وزوجها في مقعديهما يتناولان طعاماً  كانا قد جلباه معهما فقرر المضي نحوهما والبدء في الحديث”، فسألهما إن كان يمكنه التحدث إليهما، فقال الرجل صاحب القبعة: “بالتأكيد، يا سيدي، وأضاف من باب المجاملة: “أخبرتني زوجتي بأنك عائد لرؤية ابنك المولود الجديد”، فقال جو هذا صحيح.. نعم هذا صحيح، ثم طفق يتحدث بسرعة، وبالكاد كان يتوقف ليلتقط أنفاسه. نظرت السيدة العجوز إلى زوجها كأنها توبخه، وتقول له ” عجبك؟ تفضل، خلصنا من هذه الورطة “.

تحدث جو عن زواجه. وكيف كان حفلاً لطيفاً فبيسي لم تكن من تلك النوعية من الفتيات اللواتي يرغبن كثيراً بالاستعراض، وكان عدد الحضور قليلاً، اقتصر على بعض أفراد الأسرة وواحد أو اثنين من الأصدقاء المقربين. جورج أوركوت أحد أفضل أصدقائه، وكانت بيسي تخشى أن يعبث معها أحدهم بمزحة من قبيل ربط علب الصفيح في السيارة التي كانت ستقللهم إلى المحطة أو تلوين حقائبهم بالطباشير. لم يحصل شيء من هذا القبيل وانقضت الأمور بسلاسة. وكان آل بارنيز في حفل الزفاف، بطبيعة الحال: فقد التقى بيسي في منزلهم وبوصفهم جيران مقربين لا يمكن تجاهلهم، غير أنه لم يكن أحد من خارج الأسرة تقريباً. ثم تحدث عن شهر العسل الذي أمضياه في نيو أورليانز؛ وتطرق لجميع الأماكن التي ذهبا إليها هناك كما كانت بيسي ترغب وتتمنى دائماً. واستمر يتحدث ويتحدث، فتكلّم عن الأسابيع الأولى من زواجهما، و كيف كانا سعيدين، وتحدث عن مهارة بيسي في الطبخ، وكيف هي ربة منزل ممتازة ورائعة، وكم أحبت المنزل الذي اشتراه لها وعن فرحتها لمّا علمت أنها ستلد طفلاً، وكان الرجل العجوز يحدّق فيه وهو في حيرة من أمره، ويتساءل فيما إلو عليه استدعاء المفتش لاعتقاده أن جو تناول جرعة من الكوكائين، وقد طوت امرأته ذراعيها مثل الشهداء. و استمرت في النظر نحو زوجها ورغبة ملحة في القول له “مش حكيت لك”!

 فقد جو الإحساس بالزمن، كان يتحدث ويتحدث بلا انقطاع وبلا توقف. حتى أنه حالما وصل إلى ما كانت تخطط له بيسي لتعليم الطفل، لمسه الحمّال من ذراعه وأخبره أنهم على وشك الوصول لمحطته. فاستفاق ونظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى السابعة وخمس وثلاثين دقيقة، لم يصدق أن ساعتين قد مرتا بهذه السرعة فقال لهما “لقد كان من دواعي سروري التحدث معكم”. فبادره الرجل “أوه.. لا عليك” ثم ناول جو الحمال بقشيشاً وخرج من القطار بحماس. وعندما استدار لتناول حقيبته لاحظ أن المرأة المصابة بتضخم الغدة الدرقية كانت تحدق في وجهه. فمشى نحو النافذة التي شكلت إطارا لوجهها المثير للضحك وقال لها “وداعاً يا سيدتي أتمنى لك رحلة  سعيد”. فأجابت المرأة: “قال الأطباء لا أحتاج لعمل جراحي، لقد انتظرت طويلا”. فقال جو “حسن هذا جيد، بل أكثر من جيد”، ثم ضحك ببهجة ولوح بيده والتقط حقيبته وصندوقه الأسود الثقيل وتبع سيل المغادرين نحو بوابة المحطة. ظلت المرأة ذات الغدة تحدق به حتى توارت عن الأنظار، وعلى الجانب الآخر من السياج الحديدي رأى السيدة تومكنز التي كانت ترتدي ثياباً سوداء وتضع خماراً أسوداً، فمضى نحوها بخفة، ولما وصل وضعت السيدة تومكنز ذراعيها حوله وقبلته مرتين وقالت “يا لجو المسكين”. ثم نظرت إلى وجهه المبتسم والحماسي. لاحظ أن عينيها كانت متورمتين وحمراوين، ثم سألته “ألم تصلك برقيتي”؟، فتغضن جبينه وهو يحاول أن يتذكر ثم قال أخيراً: “أوه.. بلى.. بالتأكيد.. لقد استلمتها في الفندق. فتابعت السيدة تومكنز هل استملت برقيتي الثانية؟. في تلك اللحظة كانت تنظر نحو عينيه بثبات وهي ترى الهلع الذي اجتاحه، فقد كان يعلم أنه لم يعد بمقدوره الكذب على نفسه. لم يعد بمقدوره الحفاظ على بيسي حية من خلال الحديث عنها. امتقع وجهه فجأة وبدأ فكه يرتجف مثل طفل. مال بجسمه على السياج الحديدي كي لا يسقط، فأخذت السيدة تومكنز بيده وقالت: “لا يمكنك أن تستسلم. عليك أن تكون رجلاً. لا يمكنك أن تستسلم هكذا، يا جو!”، فنطق أخيراً “لم أقرأ البرقية.. لم أكن أريد أن أعرف أنها ماتت، أردت أن أبقيها حية لفترة أطول”. وجلس على شاحنة الأمتعة الفارغة وأخفى وجهه بين يديه. جلس هناك لفترة طويلة بينما وقفت السيدة تومكنز كأنها تحرسه، وخمارها الأسود ينسدل على كتفيه. ثم قالت بعطف وحنان “جو “، وفي تلك اللحظة اقترب رجل يرتدي  ثياب عمال متسخة وقال، عفواً يا سيدي، ولكن ينبغي لك التحرك من هنا لأننا سنستخدم الشاحنة التي تجلس عليها”، فالتقط جو حقيبته وصندوقه وتبع السيدة تومكنز خارج المحطة.

 

العنوان الأصلي : THE LITTLE WIFE: WILLIAM MARCH

الكاتب: وليم مارش

الناشر : From the Little Wife by William March. Harrison Smith and Robert Haas, 1935.

Copyright, 1935, by William March.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

ملف إميل حبيبي (II)

4-شارع فرعي في رام الله و” اخطية” تحيل قصة أكرم هنية الجديدة “شارع فرعي في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *