رولد دال
ترجمة محمود الصباغ
استهلال
“رولد دال” روائي وكاتب قصة قصيرة وسيناريست بريطاني، يعتبر من أشهر كتاب النصف الثاني من القرن العشرين.
نشرت هذه القصة أول مرة في العام 1980 ضمن مجموعته More Tales of the Unexpected. وأول ما يخطر في البال بعد الانتهاء من قراءة قصة “دال” القصيرة هذه بطل قصص موريس بلان المتسلسلة “أرسين لوبين: اللص الظريف Arsène Lupin: gentleman-cambrioleur ” ( ظهرت على هيئة 9 قصص في العام 1905 أول مرة قبل أن تجمع في كتاب واحد سنة 1907)، لعل التشابه في تحاذق بطلي القصتين هو أول ما يلفت النظر، وفضلاً عن “ظرفهما، أو نبلهما” يتشابه أرسين لوبين مع صاحب المظلة في عدم سعيهما إلى الثراء أو الطمع في المال الكثير أو الانتقام، رغم اختلافهما فأرسين لوبين سارق محترف.. محض لص، بينما بطل “دال” مجرد محتال ذكي ومدمن على الشراب، أقصى طموحه كأس ويسكي يروي بها ظمأه. نعم يبدو العجوز كأنه سرق من الأم جنيه لكنه قدم لها، في المقابل، مظلة حريرية تعادل عشرين جنيه أليس هذا احتيال ظريف؟
تبدو قصة “دال” كنموذج مدرسي للقصة القصيرة سواء من حيث كثافة الفكرة وسهولة الحبكة والاقتصاد في السرد والحوار وعدد الشخصيات والزمان والمكان، فهناك ثلاث شخصيات رئيسية (ثمة شخصيتان ثانويتان “النادل، والرجل الطويل في نهاية القصة، لكنهما شخصيتان لا صوت لهما) وتدور الأحداث في وقت واحد وزمن قصير نسبياً مساء أحد الأيام بعد الساعة السادسة، وسوف نتوقع من سير الأحداث عدم تجاوز زمن القصة عدة دقائق، كما تدور القصة على رصيف أحد شوارع لندن وفي حانة قريبة منه، وثمة توازن ما بين الحوار والسرد فلا يطغى أحدهما على حساب الآخر، مما يتيح للقارىء فرصة التجاوب المرن، دون تشتت، مع الحوار والأحداث، مما يضع كل هذا يقع في مكان من واقعنا وليس مجرد عوالم روائية.
يضع دال الرواية على لسان الفتاة الصغيرة كراوية، وبالتالي سوف نرى الأحداث والتعليقات وردود الفعل من وجهة نظرها، ليجنبها تبعات سلوك أمها، وعلى هذا يبدو من غير المنطقي لفتاة بعمرها أن تمتلك تلك الآراء والتوصيفات، وحتى الصراع الخفي مع أمها حين تشعر بنوع من الرضا الممتزجة بالشماتة لإخفاق أمها في اكتشاف حقيقة هذا المحتال. لا نعلم اسم الفتاة ولا الأم ولا الرجل المدمن .. حتى أن وصف الشخصيات نفسها مقتصد كثيراً بينما يتركز السرد على ردود أفعال الشخصيات وإن كانت الفتاة تظهر كشخصية حماسية ونشيطة وتمتلك حس الدعابة والفكاهة بعكس أمها الصارمة المتحفظة التي تخلق حواجز بينها وبين الآخرين لاعتبارات قد لا تكون صحيحة أو حقيقية. وهكذا تمتلك الفتاة بهذه الوظيفة والصفة، راحة في سرد الأحداث من منظورها، والتناقض في التعامل مع محرض خارجي “وهو هنا الرجل صاحب المطلة” سوف يولد استجابات متناقضة وغموض في فهم معنى “السلطة” بينها وبين أمها والصراع الخفي بينهما (مضاهاة الفتاة لأمها بطولها رغم فرق السن الكبير بينهما) ثم في الاختلاف بينهما في تقدير قيمة وحقيقة الأمور والأشخاص، فنكتشف فشل الأم، بينما تظهر الفتاة أكثر تواضعاً، بل وصائبة أحياناً وتتمتع بثقة واقعية، فالخلل عند الأم يظهر حتى قبل مقابلتهما للرجل صاحب المظلة الأم، إذ من المستغرب أن تسمح أم لابنتها بتناول الآيس كريم الباردة وهي قد خرجت للتو من عيادة الأسنان. كما أن براعة الأم أو زعمها بذلك لا يصمد كثيراً فهي لا تستطيع استخدام قدراتها المزعومة في امتلاك سيارة مثلاً، كما كان من المفترض بها، بحكم عمرها وتجربتها، أن تكون أكثر دراية في الحكم على الأمور وليس الاهتمام بالمظهر الخارجي فقط الذي يخفي الكثير من الملامح الحقيقية لصاحبه، كان الرجل أكثر ذكاء منها، لقد استطاع خداعها بمنتهى البساطة، غير أن الأمر قد يتعدى ذلك، فغرور الأم وتشوفها وتعاليها وعدم اهتمامها الحقيقي بهذا الرجل العجوز المدمن على الكحول جعلها تعمى عن حقيقته. لذلك تشعر بطعنة في كبريائها تدفعها للمغامرة بمطاردة المحتال. ويبدو “رولد دال” هنا يقبض على الحبكة بدقة ومهارة عاليتين فلا يهرب منه الحدث ولا الشخصيات ولا حتى تسلسل الأفكار المطروحة ونضجها.
هل هناك شيء آخر؟
نعم.. ليس ثمة رابط بين سرساب الأم من البيض المسلوق والرجل النبيل سوى بعض الطرافة يضفيها “دال” على القصة والنقد اللاذع أيضاً للحكم على ظواهر الأمور، إذا لا يعقل أن نجد فأر داخل بيضة مهما كان خيالنا ثرياً كما أنه من غير المعقول أن يكون حذاء الرجل معيار لدرجة نبله، الأمر الذي تعيد الفتاة تكرار سؤاله أثناء مطاردة المحتال، في محاولة للتأكد إن كانت أمها لا زالت ترى فيه “شخصاً نبيلاً؟” كما جزمت في بداية القصة. وهكذا سنصل إلى النهاية المنطقية حين تقرّ بفشلها في الحكم على الأشخاص وتضيف بعض من “حكمتها” حين تقترح علينا أن هذا المحتال لن يكون كذلك دون بيئة تساعده، لذلك لا بد أن يصلي من أجل استمرار هطول المطر، يعني.. مهما بلغ من الذكاء، فلولا المطر لن يستطيع الاستمرار في خداع الآخرين.
….
انتهى
سأروي لكم قصة طريفة حصلت معي ومع أمي مساء أمس، ولكن قبلاً أنا فتاة في الثانية عشر، ووالدتي تبلغ الرابعة والثلاثين، لكنني أقاربها في الطول إلى حدٍ ما. وكما قلت، فالحكاية الطريفة حدثت يوم أمس، في فترة بعد الظهر تحديداً، عندما رافقت أمي إلى لندن لزيارة طبيب الأسنان فقد أصاب أحد أسناني الخلفية نخر نتج عنه فتحة عميقة، فقام الطبيب بملئها دون أذىً يذكر. وما إن انتهينا وغادرنا العيادة حتى اقترحت أمي الذهاب إلى مقهى قريب، وهناك تناولت آيس كريم الموز اللذيذة، وطلبت أمي لنفسها فنجانًا من القهوة، ولم ننتبه إلا وقد صارت الساعة السادسة مساءً، فهممنا بمغادرة المقهى لتفاجئنا لندن كعادتها بأمطارها الغزيرة التي انهمرت مسرعة وقوية دون توقف. فاقترحت والدتي الاستغاثة بسيارة أجرة. في الحقيقة لم نكن مهيئين لمثل هذا الجو فقد كنا نرتدي معاطف عادية وقبعات لا تناسب هذا الجو الماطر. نظرتُ نحو السماء وقلتُ لأمي بتبرم “هيا لمَ لا نرجع إلى المقهى وننتظر هناك لحين توقف المطر”؟. وفي الحقيقة كنت أرغب بتناول قطعة أخرى من الآيس كريم اللذيذة. أفاقتني أمي من أحلامي حين أتى صوتها ينهرني:” حتى لو ذهبنا.. لن يتوقف المطر الآن، لذلك ينبغي العودة إلى المنزل”. وهكذا وقفنا على الرصيف ننتظر سيارة تحت المطر، وكانت تمر بنا العديد من السيارات لكنها مليئة بالركاب، تنهدت والدتي وقالت بإعياء “ماذا لو كنا نملك سيارة وسائق”!
وبينما نحن ننتظر، اقترب منا رجل ذو وجه وردي تظهر فيه الكثير من التجاعيد وحواجب بيضاء كثة وشارب أبيض. بدى لي كهلاً وصغير الحجم، أظنه تجاوز السبعين أو ربما أكثر، وكان يتقي المطر بمظلة يحملها في يده. اقترب أكثر ورفع قبعته بأدب جم وقال لوالدتي: “عذراً.. أرجو أن تعذريني..” فردت عليه والدتي ببرودة شديدة ولكنة غير ودية : ها؟ نعم! ماذا تريد؟
-هل أستطيع طلب خدمة بسيطة منك.. مجرد طلب صغير.. صغير جداً.
كنتُ أرقب ما يجري بصمت. فأنظر تارةً إلى أمي وتارةً أخرى إلى العجوز صاحب المظلة، ولاحظتُ كيف امتلأت عيونها بالشكوك من الرجل، بدا لها شخصاً مشبوهاً. أعرف أمي جيداً.. أعرفها وأعرف ارتيابها في أمرين اثنين لا ثالث لهما.. الرجال الغرباء والبيض المسلوق. وليس سراً لو أقول لكم ماذا تفعل عندما تحضّر البيض المسلوق. لقد كانت تكشط قمة البيضة المسلوقة بحذر ثم تقوم بتحريك ملعقة بداخلها كما لو أنها تتوقع وجود فأر أو ما يشبه ذلك. أما بالنسبة للرجال الغرباء فحدث ولا حرج، فقد كانت قاعدتها الذهبية: “كلما بدا الرجل أكثر ظرفاً، عليكِ أن تكوني أكثر حذراً وريبة”. ونحن هنا على الرصيف لا بيض مسلوق في أيدينا، بل يقف أمامنا رجل عجوز صغير الحجم وفي غاية اللطف، مهذب جداً ويتحدث بلباقة، ويرتدي ثياباً مرتبة.. يبدو نبيلاً بأتم معنى الكلمة، وقد عرفت ذلك من حذائه البني الجميل، فقد كانت إحدى عبارات أمي المفضلة تقول “يمكنكِ معرفة الرجل النبيل من حذائه”.. وإذن كل ما في الرجل يعزز لديها هذا الشك.
فتح الرجل فمه بالحديث- والارتباك بادٍ على وجهه- “في الحقيقة يا سيدتي، أنا في مأزق وأحتاج مساعدة، بالتأكيد ليس الأمر خطيراً إلى ذاك الحد، لاشيء كثير حقاً، لكنني فعلاً بحاجة إلى مساعدة، وكما ترين يا سيدتي، ليس نادراً إصابة المسنين -أمثالي- بآفة النسيان على هذه الشاكلة المرعبة”. بقيت أمي صامتة وذقنها مرتفعة بتلك الطريقة غير الودية المعهودة لديها، وشمخ أنفها للأعلى أكثر فأكثر، في الوقت الذي كانت عيناها تسترقان النظر بفتور واضح إلى الرجل العجوز عبر أنفها العالي. أعرف تماماً معنى ذلك عندما تشمخ بأنفها بطريقة غير أليفة ومرعبة وجامدة، لم يصمد أحد أمام تلك النظرة، لقد رأيت بأم عيني كيف بدأت مديرة مدرستي بالتلعثم مثل شخص أبله حالما حدقت أمي نحوها بتلك النظرة.. ماذا يقولون عنها؟ تنظر شزراً؟.. لعلها كذلك. ولكن الرجل العجوز صغير الحجم الواقف على الرصيف ومظلته فوق رأسه لم يتأثر بنظراتها وبقي صامداً، بل حتى أنه ابتسم وقال “أرجوك صدقيني يا سيدتي، لستُ معتاداً على التعرض للسيدات أمثالك في الشارع لأطرح عليهن مشاكلي”.. فقاطعته أمي بعصبية ” نعم آمل ألا يحدث هذا”. وعند هذا الحد بدأتُ أشعر بالحرج الشديد من حدة والدتي، وقد انتابتني رغبة في القول لها “بالله عليك يا أمي توقفي عن كل هذا.. انظري إليه.. رجل كبير في السن ولطيف وجنتلمان، وفوق هذا يعاني من مأزق، فلا تكوني قاسية معه هكذا”.. طبعا لم أقل حرفاً واحداً مما ذكرت.. كان هذا مجرد أمنية ليس أكثر، فمن يجرؤ على القول وهي بهذا المزاج الحاد.
نقل الرجل العجوز مظلته من يد إلى أخرى وقال” لم يسبق لي أن نسيتها قبل هذا يا سيدتي..” فردت والدتي بحزم واستفهام “ما الذي لم تنساه؟” فقال: محفظتي.. كان عليّ ألا أدعها في السترة الأخرى.. يبدو هذا حمق مني.. أليس كذلك؟”. فقالت أمي” هل تطلب مني الآن أن أعطيك مالاً”؟
-أووه.. لا.. يا رحمن يا رحيم، بالطبع لا.. حاشا أن أفعل ذلك
-فماذا تريد إذن.. هيا قل بسرعة فقد غرقنا من المطر نحن نبتل حتى العظم
-أعلم… أعلم، وهذا أصلاً سبب حديثي، سأقترح عليك يا سيدتي تقديم هذه المظلة التي معي لحمايتك من المطر.. ويمكنك الاحتفاظ بها أيضاً.. إذا.. إذا فقط..
-فقط ماذا؟
-مقابل جنيه أدفعه أجرة سيارة لأعود إلى بيتي
كانت أمي لا تزال تنظر نحوه بدهشة وريبة، ثم قالت فجأة “فكيف إذن وصلت إلى هنا قبلاً، إن لم يكن لديك المال أصلاً؟
-أتيت ماشياً يا سيدتي، فأنا أمشي كل يوم على سبيل التنزه، أسير لفترة ليست قصيرة على كل حال، وحين أشعر بالتعب أعود للبيت بسيارة أجرة. هذه عادتي كل يوم تقريباً.
-فلماذا لا تمارس رياضتك الآن وتتابع نزهتك الجميلة؟
-ليتني أستطيع، أتمنى حقاً لو أقدر، ولكن هل تعتقدين أن قدماي المتعبتان تستطيعان إيصالي؟ لقد تجاوزت بهما حد المستطاع الآن ولا أظن يمكنني الاستمرار.
ظلت والدتي صامته وقد لاحظت كيف كانت تعض على شفتها السفلى، وهذه إشارة أعرفها جيداً حين تبدأ باللين قليلاً، أستطيع رؤية ذلك على ملامحها، كما أن فكرة الحصول على مظلة في مثل هذا الجو أمر مغرٍ إلى حد كبير.
-انظري إنها مظلة جميلة، قال الرجل كأنه يدفعها للتفكير بها، فردت عليه بدون تفكير “نعم.. لاحظت ذلك”.. فتابع يعرض سلعته ” مظلة جميلة من الحرير كما ترين”، فردت أمي بتلقائية نعم نعم أستطيع أن أخمن.. كما أراها”
-فاقبليها إذن.. لقد اشتريتها بأكثر من عشرين جنيهاً، أقسم، ولكن هذا غير مهم الآن، طالما يمكنني العودة إلى البيت بالسيارة لأريح هذه الأقدام المهترئة المتعبة.
ويا لهول ما رأيت، فقد كانت والدتي تبحث عن قفل محفظتها، وقد لمحتني وأنا أراقبها، كنت أحدق بها بتلك النظرة الحادة، تلك النظرات الباردة التي تأتي عبر الأنف، التي ورثتها عنها، لذلك هي تعلم معناها تماماً، فكأني أقول “اسمعيني الآن يا أمي، لا تستغلي هذا الرجل العجوز، لا تفعلي ذلك، انظري كم هو متعب، لا تفسدي الأمر يا أمي.. لا يصح هذا.
أوقفتْ البحث ونظرتْ نحوي ثم قالت للرجل” ليس من الصواب تقديم مظلتك هذه التي تستوي عشرين جنيهاً.. بل سأعطيك أجرة السيارة دون مقابل
فصرخ الرجل لا.. لا هذا غير وارد البتة.. لن يحصل ولو في الأحلام.. ولو تقسمي بأغلظ الأيمان لمليون سنة، فلن أقبل مالاً منك بهذه الطريقة، خذي المظلة يا سيدتي.. خذيها أرجوك واحمِ نفسك وصغيرتك من المطر. عندها رمقتني بنظرة نصر من جانب عينيها وقد انفرجت أساريرها، وكأنها تقول” أرأيتِ يا عزيزتي! أرأيتِ كمن كنتِ مخطئةّ. ها هو يريد مني الاحتفاظ بها مقابل جنيه واحد، وأثناء ذلك كانت أصابعها تعبث داخل محفظتها ثم تخرج جنيهاً واحداً فتدفعه للرجل ليأخذه ويسلمها المظلة.
دسّ الرجل العجوز صغير الحجم الجنيه في جيبه، ورفع قبعته تحية وقام بانحناءة سريعة من خصره وقال “شكراً يا سيدتي.. شكراً لك على لطفك” ثم اختفى كأن الأرض ابتلعته.
نادتني أمي، وقالت هيا تعالي يا صغيرتي الجميلة، اقتربي كي لا تبتلي، أرأيت كم نحن محظوظتين! لم يسبق لي أن حصلت على مظلة حريرية، فهذا النوع باهظ الثمن. فبادرتها إلى السؤال” لماذا كنتِ قاسية معه
-أردت التأكد من أنه ليس محتالاً.. وقد تأكدتْ.. إنه رجل نبيل، كم أشعر بالسعادة يا عزيزتي لمساعدته
-نعم يا أمي.. نعم أرى ذلك
-ألم تلاحظي كم هو رجل نبيل وخلوق حقاً، ويبدو ثرياً أيضاً، وإلا من أين سيحصل على مظلة حريرية، لن أفاجئ لو كان يحمل لقباً مثل السير هاري غولدزوورثي.. أو شيء من هذا القبيل
-نعم يا أمي.. نعم أرى ذلك
-وهذا سيكون درساً جيداً لك، عليك ألا تتسرعي، لا تستعجلي أمورك، خذي وقتك الكامل عندما تحاولين تقويم أي شخص أمامك، ولو فعلتِ ذلك فلن تخطئي.
-انظري يا أمي.. ها هو هناك.. يسير هناك
-أين
-هناك.. هناك انظري إنه يعبر الشارع هناك، يا إلهي، يبدو على عجلة من أمره.. انظري
وقد بدأنا نراقبه وهو يتنقل بين السيارات برشاقة، وعندما وصل إلى الجانب الآخر من الشارع، اتجه يساراً بخفة وسرعة كبيرة، فنظرت نحو أمي وقلت لها” لا يبدو هذا الرجل متعباً كما أراه، أليس كذلك؟ . لم تجبني فتابعتُ:” لا يبدو عليه أنه يبحث عن سيارة أجرة أيضاً. كانت أمي تقف صامتة وقد تيبس جسمها مثل خشبة قاسية. تحدّق عبر الشارع، تتابع الرجل العجوز بنظراتها، وقد بدا واضحاً لنا الآن، كان يسير بسرعة على الرصيف ويحاول عدم الاصطدام بالمارة ويلوح بذراعيه على جانبي جسده مثل جنود المسيرة.
-كأنه يخطط لأمر ما.. قالت أمي ذلك وقد بدا وجهها قطعة واحدة متجمدة لا ملامح فيه
-مثل ماذا؟
-لا أعرف.. ولكن لن يطول الأمر قبل أن أكتشفه.. هيا تعالي، وأخذتني من ذراعي فعبرنا الشارع ثم توجهنا يساراً
-هل ما زال أمام ناظريك؟
نعم.. نغم مازلت أراه، ها هو هناك يلوح بذراعيه وقد ذهب إلى جهة اليمين هناك أسفل الشارع التالي.
وكنا قد وصلنا إلى زاوية الشارع وانعطفنا لليمين وكان الرجل العجوز يبعد عنا بأقل من عشرين متراً، وكان يبدو مسرعاً ويقفز مثل أرنب مما جعلنا نعدو نحوه بمثل سرعته لنحافظ على المسافة بيننا بينه، وقد بدأ المطر يزداد غزارة الآن، وكلما اقتربنا منه كنت ألمح قطرات المطر تتناثر من طرفي قبعته لتنحدر على كتفيه، أما نحن فكنا تحت مظلتنا الكبيرة والجميلة نشعر بالراحة والجفاف، همستْ والدتي “ماذا يخطط؟ آه لو أعرف” فسألتها ” طيب… ماذا لو التفت نحونا؟” فقالت والدتي بحزم “لا يهمني.. لقد كذب علينا، لقد قال أنه متعب جداً لدرجة أنه لا يستطيع المشي، وكما ترين فنحن حتى لا نستطيع لحاقه، ويجعلنا نركض خلفه بلا مبرر، هذا كذب.. كذب واضح.. إنه شخص محتال ونصّاب”، فقلت لها “هل هذا يعني أنه رجل غير نبيل حقاً؟. فقالت : صه.. انصتي. فقد كان الرجل يقطع الشارع ويتجه نحو اليمين ثم يساراً ثم يميناً..
-هيا.. علينا اللحاق به.. لن استسلم الآن
-لقد اختفى يا أمي، لم أعد أراه
-هنا .. هنا. لقد دخل من ذلك الباب.. أنا أراه. دخل إلى ذلك المبنى.. يا إلهي ، إنها حانة
وظهرت أمامنا حانة كتب على واجهتها بأحرف كبيرة “الأسد الأحمر”
-ألن ندخل؟ ألن تدخلي يا ماما
-كلا.. بل سنراقبه من هنا من الخارج
كان ثمة نافذة كبيرة على طول الواجهة الأمامية للحانة، ورغم جوها العابق بالبخار كنا نستطيع رؤية ما بداخلها بوضوح كلما اقتربنا أكثر. وقفنا قرب النافذة متجمعتين على بعضنا البعض وكنت أمسك بذراع أمي، وكانت قطرات الماء الكبيرة تصدر ضجيجاً عالياً وهي تسقط على مظلتنا. انظري يا أمي انظري أنه هناك. كانت الغرفة حيث أشرت تغص بالناس ودخان السجائر، وكان الرجل العجوز صغير الحجم يقف في منتصفها تقريباً. كان شكله واضح أمامنا وقد خلع قبعته ومعطفه وبدأ بالتحرك نحو البار، وضع كلتا يديه على طاولة البار وتحدث إلى النادل، فقد رأيت شفتيه تتحركان، انفتل النادل مبتعداً عنه للحظات قليلة ليعود بكأس صغيرة ممتلئة حتى حافتها بسائل بني فاتح، تناول الرجل العجوز الكاس ووضع جنيه على طاولة البار.
-هذا جنيهي. كم هو جريء ومستفز هذا الملعون
-ماذا في الكاس يا ماما
-إنه ويسكي يا عزيزتي… ويسكي صرف
ولما لاحظت أمي أن النادل لم يعد له أي فكة من الجنيه استنتجت أن ما طلبه هو كأس ويسكي مضاعف
-ماذا يعني مضاعف؟
-أي أكثر بثلاث أضعاف الويسكي العادي
وفي تلك الأثناء كان الرجل يمسك الكأس بيده ويرفعه أمامه ثم يضعه على شفتيه ويميله قليلاً ثم يرفعه من أسفله بخفة نحو الأعلى ثم أعلى ثم أعلى وليس إلا هنيهة حتى كان الشراب قد اختفى في حلقه على نفس واحد طويل.
-لابد أنه شراب باهظ الثمن، أليس كذلك يا أمي
-بل أن الأمر سخيف برمته.. تخيلي أن تدفعي جنيهاً كاملاً مقابل حفنة شراب تبتلعينها دفعة واحدة
-ليس كذلك، لم تكلّفه هذه الحفنة من الشراب، كما تصفينها، جنيهاً واحداً بل عشرين
-أيا يكن.. تخيلي إذن.. هذا هو الجنون بعينه
ثم انتبهنا أن الرجل العجوز كان يقف قرب البار وفي يده الكأس الفارغة، وقد لاحت ابتسامة رضا على وجهه الوردي المستدير، ثمة ملامح سعادة تغمره، لقد رأيت كيف كان يدفع لسانه ليمص شاربيه، كما لو أنه يبحث عن قطره أخيرة هاربة من هذا الويسكي الثمين. أدار الرجل ظهره للبار وعاد ببطء إلى وسط الحشد حيث معطفه وقبعته، فتناولهما، ثم وبطريقة رائعة لا تخلو من البراعة وبعيدة عن التكلف رفع من مشجب المعاطف إحدى المظلات المبللة المعلقة هناك وانطلق خارج الحانة. فصاحت والدتي: هل رأيت ذلك، هل رأيت ما فعل؟
-ششش ها هو يخرج، همست لها برفق، ثم أخفضنا مظلتنا لإخفاء وجهينا وتابعنا النظر نحوه من تحتها. صار الآن خارج الحانة، لكنه لم يلق نظره نحونا، بل فتح مظلته الجديدة واندفع مسرعاً نحو الجهة التي أتى منها
-إذن هذه هي لعبته
-ولكنها لعبة رائعة يا أمي، إنه شخص ظريف حقاً
عدنا إلى الشارع الرئيسي حيث التقينا به أول مرة ونحن نتابعه، ورأيناه كيف يخطط، دون أن يلمحنا طبعاً، لاستبدال مظلته الجديدة بجنيه آخر، وهذه المرة كانت مع رجل طويل القامة ونحيل لا يرتدي لا معطف ولا قبعة، وبمجرد إتمام الصفقة انطلق الرجل العجوز صغير الحجم في الشارع واختفى بين الحشود، لكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس
-يا له من رجل ذكي، هل رأيت كيف أنه لا يذهب إلى نفس الحانة مرتين.. قد يستمر على هذا المنوال طوال الليل
-نعم يا أمي… رأيت ذلك
-بالطبع، أراه يتضرع ألا يتوقف المطر