قراءة في فيلم
أذكر في نقاشٍ عن الفيلم مع أحد الأصدقاء أن ختم بقوله أن حكاية الفيلم تشبه بعض قصائد محمود درويش وذكر منها هذه المقاطع:
- حين تَسيرُ ولا تجد الحُلْمّ
يمشي أَمامك كالظلّ
يصفرُّ قلبك
(من قصيدة: كزهر اللوز أو أبعد)
……..
- أعطِ عُمْرَكَ فُرصَةً أخرى لترميم الحكاية
(من قصيدة: انزل هنا و الآن)
…….
- كان ثُقب في جدار السور يكفي
كي تعلّمك النجومُ هوايةّ التحديق
في الأبديّ…
(من قصيدة: في بيت أمي).
منذ ذلك الحين، كلما شاهدت الفيلم أو أي مشهد منه أتساءل إن كانت قصائد درويش، تلك، تتاخم أو تتناص، بطريقة ما، مع حكايته، لاسيما عند مستوى حدة التجارب في “الخلاص من شاوشانك”* المرتبطة بالمعاني الأخلاقية المتعددة؟ ويخطر في البال هنا معاني الأمل والحرية. فالأمل هو العلاقة الناظمة لتعلقنا بالحياة من عدمه، وينعش فينا روح المثابرة والمضي قدماً لإنجاز مشاريعنا المؤجلة، وعكس الأمل هو الجحيم بلاشك، وما أصعب الجحيم حين يكون دنيوي، إذ يظهر وكأنه مطرح لا يعج بالشياطين فحسب، بل أيضاً بمجازات العذاب المختلفة، وهل مثل السجن جحيم؟ لو شئنا مقاربة معنى الجحيم بعبارة جان بول سارتر الشهيرة “الآخرون هم الجحيم”، حيث يكافح الأشخاص-كما يرى سارتر- من أجل الإبقاء على حريّتهم بعيدة عن عيون ونظرات الآخرين التي تلتهم كل ما تقع عليه من شدة شراهتها**. أما الحرية، فهي التوهج السارتري لمنزلة الإنسان على قمة الكائنات حين ينظر إلى حريته كقضية وجودية لطالما احتلت مكانة مميزة في الوقائع الفكرية والفلسفية الإنسانية على مر العصور كحالة سائلة مدفوعة بعوامل وظروف حتمية مرتبطة بجهد الإنسان وسعيه للقبض على حريته مهما كان الثمن. وكون الإنسان حراً لا يعني حصوله على كل ما يريده ويرغب به، بل تعطيه حريته القدرة على الاستمرار في أن يختار ذاته، بمعنى “أنه يقرر بذاته أن يريد، بالمعنى الواسع لكلمة يختار”***.
يقول ريد (راوي الفيلم): “هرب آندي دوفرين في العام 1966 من سجن شاوشانك؛ لم يجدوا من أثره له سوى نتف من ملابس السجن البالية وقطعة صابون ومطرقة صخور قديمة متآكلة تماماً.. كنت أعتقد أن بمثلها قد نستغرق 600 عاماً لحفر أخدود عبر الحائط، لكن آندي فعلها في أقل من 20 عاما”.
بهذه الكلمات البسيطة، يلخص ريد -مثل محمود درويش- معاني الأمل والحرية ويضاف لهما معنى الخلاص كمنتج نهائي “للأمل” في ممارسة “الحرية”. وقد كان المدخل إلى حرية آندي تساؤل بسيط طرحه على السجان قاسي الملامح هادلي: “هل تثق بزوجتك؟” ليبدو كأنه سؤال في غير محله، ولكن من شاهد الفيلم أكثر من مرة يعرف أنه كان -بحق- مفتاح حرية دوفرين وبداية فهم وضعه داخل السجن وصولاً للانعتاق النهائي. وهنا يكمن فهمنا لمعنى الخلاص \ الانعتاق كحل لقضية الحرية مبتدئين بتحديد ما هو ذاتي وصولاً لما هو تنافر بين الذاتي والموضوعي.
والفيلم بهذا المعنى يصور السجن الذي بداخل عقولنا والذي يمنعنا من عيش تجربة الموضوعية، أي أن نكون داخل أنفسنا وخارجها في ذات الوقت.
هل يمكن ذلك؟
لقد لعبت إمكانيات آندي الذاتية وبراعته دوراً كبيراً في نجاته وفي جعل الإجابة ممكنة.
ولكن هل خطر على بالنا أن نسأل السؤال الساذج: ماذا لو كان آندي شخص فاشل؟ أو موظف متوسط الموهبة؟ ماذا لو لم يستطع نيل ثقة هادلي ونورتون؟
ينبغي الأخذ في الاعتبار، قبل الاسترسال في التساؤلات، أن الفيلم يتمحور أساساً حول آندي دوفرين كنموذج نمطي للبطل الفردي الهوليوودي ولهذا تطورت الحبكة الدرامية معه وبه وحوله؛ وسوف تسير بنا اللحظات السينمائية نحو إبداء أكبر قدر ممكن من التضامن معه فيبدو كشخص طيب القلب؛ يحظى بتعاطفنا باعتباره أدينَ ظلماً بقتل زوجته وعشيقها في العام 1947 (وهذا أحد الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد ببراءته، ربما حتى قبل أن نكتشف ذلك), ومن خلال هذا التعاطف تتجلى الآلية الإخراجية لفرانك داربونت التي تسيطر على أحداث الفيلم؛ فبعد عبارة دوفرين تلك التي قالها لهادلي يتحول آندي إلى شخص مشغول بفكرة واحدة فقط: حريته، لقد قرر أن يحل مشكلته بشكل شخصي بعد أن فشل في حلها عن طريق المؤسسة التي أدانته، وسوف نكتشف أن آندي “أو أي سجين آخر في هذا العالم” ليس بالضرورة طيباً خالصاً أو شريراً خالصاً. فآندي ليس، ولم يكن، ملاكاً وهو قطعاً ليس روبين هود، لقد قال ذات مرة أنه هو من قتل زوجته “ليس بالضرورة بإطلاق النار عليها”.
تلك هي البنية السردية البصرية والحكائية التي تتحدث عن آندي دفرين المصرفي المحترف ذو المستوى الثقافي العالي نسبياً، والمتهم بقتل زوجته وعشيقها وهو في حالة سكر شديد، وعلى الرغم من دفوعه بالبراءة، إلا أنه يُحكم بالسجن مدى الحياة مرتين عن كل ضحية. ويتعرض في السجن إلى مضايقات واغتصاب على يد مجموعة من المساجين، رغم مقاومة آندي لهم، هكذا كان عالم/ جحيم شاوشانك، حين وصله آندي حيث تراهَنَ السجناء القدامى على أن هذه السمكة الجديدة (يقصدون دوفرين) سوف يبكي مستنجداً بأمه حال سماعه أبواب السجن تصفق بقوة في الليلة الأولى لوصوله. وهم يتذكرون كيف أن النزيل الجديد الذي قبله والذي بكى بحرقة مات بعدما تلقى الضرب المبرح على يد هادلي ****
ضمن هذه البنية السردية سوف تؤثر حركية آندي على سير الأحداث وتتطور وفقاً لمستويات التأثير والعقبات التي سوف يصطدم بها في سعيه لتحقيق أهدافه. غير أنه ضمن هذه الأطر يعرض الفيلم قصة بطله لكن ليس بروايته، ولهذا يعتمد الفيلم على “الصوت” بالدرجة الأولى لإيصال رسالته وهذا يعني أن صوت الراوي ونبرته ونغمته وطريقة كلامه سوف تلعب دوراً هاماً في علاقة المتلقي بشخصيات وموضوعات الفيلم؛ وهو ما يجعل الراوي يقع عليه عبء كبير في إيصال المشاعر والأفكار المطروحة بما فيها أفكاره نفسه؛ ويتوقف على نجاح الراوي في عملية النقل هذه خلق التوازن المطلوب بين السرد البصري والسمعي لبناء العناصر الدرامية بما يؤدي في النهاية إلى حالة التصعيد التي ستجذب المشاهد للأحداث دون ضجر أو تبرم.
يبدأ السيناريو (الذي يظهر كأنه أفضل ما في الفيلم)، بعبارة سيرددها ريد لاحقاً “الأمل شيء جيد، ربما هو أفضل الأشياء، والأشياء الجيدة لا تموت قط”. وتظهر الأحداث كأنها لا تنتمي للحياة الحقيقية. يقول فرانك داربونت عن الفيلم بأنه يتحدث “ببساطة عن الإرادة والقيم والطاقات والكرامة التي يحملها كل واحد منا وإن دفنتها الظروف والحياة، أو فقدنا الأمل فيها فتقاعسنا عن إخراجها أو عدم التصديق أننا نمتلكها فعلاً”؛ ما يريد قوله داربونت هنا أن ما يجري في الفيلم من أحداث قد يختبره أي واحد منا؛ فالرسالة -إذن- واضحة وهي ليست على درجة عالية من الغموض أو التعقيد، حين يطالبنا داربونت إن أردنا تغيير نمط حياتنا كإطار لحل مشاكلنا أن نحفر-أكثر مما يمكن أن نتخيل- مثل آندي لعلنا نجد الأمل المؤدي لحدود حريتنا لأنه وحده كفيل بطرد الخوف الذي يعطل تفكيرنا ويجعلنا فريسة سجننا.
يبني داربونت عمله من خلال بنية سرد لا يسعى إلى تطويرها سينمائياً بقدر ما يريد إظهار قوتها الكامنة فيها والتي يبدو أنها راقت لداربونت لسبب ما لا نعرفه فيظهر الممثلون ملتصقين بأدوارهم غير قادرين على التحرر من شخوصهم، ويكاد يبدو الزمن ثابت لا يتحرك، فينعكس المرور البطيء للسنين عليهم بهدوء قاتل يعج بمحاكمات عقلية ومقاربات فلسفية عن الحياة والأمل واليقين والبراءة والحرية وموقفنا الشخصي من المؤسسة وعلاقات القوة ضمنها وكذلك القانون والعقاب والثواب والحساب والخلاص والانعتاق.. وغيرها، وتتحرك بنية السرد هذه ببطء وانتظام، ويتم ضمنها التعرف على الشخصيات الرئيسية (آندي وريد وبروكس والمكتبة) والشخصيات الثانوية (المأمور نورتون والحارس هادلي ) وأهداف كل منهم و العقبات التي ستواجههم أثناء سعيهم لتحقيق هذه الأهداف. ومن الواضح أن هدف الشخصيات المركزية الرغبة في أن يكونوا أحراراً بينما غاية الشخصيات الثانوية الحفاظ على الأمر الواقع بالتمسك ببيروقراطية وتضليل الاستبلاشمنت بما يضمن استمرار حالة الفساد، وكلما تقدمنا في الفيلم كلما تكشفت أمامنا العقبات، لاسيما نورتون بوصفه خصم لآندي حين يتصرف، كما هو متوقع، بطريقة استبدادية وفقاً لموقعه ومنصبه، حيث الصرامة والانضباط جزء من طبيعته وسلوكه، لذلك تسير العلاقة بينه وبين آندي لأن تكون علاقة جافة ومجردة من أي قيمة إنسانية وهذا ما يخلق بينهما حالة تنافر طوال الفيلم سوف تكون السبب والنتيجة لما سوف يحدث تالياً وما يلي ذلك من ردود أفعال وعواقب. لكن نورتون لا يبدو في النهاية شخص شرير في المطلق ويمكن رؤية ذلك من خلال مثالين:
المثال الأول: لنستمع إلى ما يقوله مخاطباً النزلاء الجدد “هذا السيد هادلي، قائد الحرس هنا، وأنا السيد نورتون المأمور، وأنتم الحثالة والمذنبون، لهذا أرسلوكم لي، القاعدة الأولى: لا تشتم. لن أسمح لأحدكم أن يعبث باسم الرب في سجني. القواعد الأخرى ستعرفونها طالما أنتم هنا. هل لديكم أسئلة؟ أنا أؤمن بشيئين، الانضباط والكتاب المقدس. هنا سوف تؤمنون بهما أيضاً، إن كان الرب يعتني بأرواحكم، فأجسادكم لي، أهلا بكم في شاوشاناك “.
المثال الثاني: من خلال مشهد تفتيش زنزانة آندي بحضور نورتون؛ حيث يضعنا داربونت أمام سلسلة من الحوارات التي نحتاج لإعادتها أكثر مرة للتعمق في فحواها، مثل النقاش حول ملصق ريتا هيوارث أو عندما يسأل آندي عن المقطع المفضل لديه من الكتاب المقدس “حيث الخلاص يكمن فيه”، فيقتبس آندي من إنجيل مرقص “اِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا “(مرقص,13 :35). كما يقتبس نورتون على لسان السيد المسيح “أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (يوحنا,8:12)؛ وهنا يحدث قطع في التصوير وتركز الكاميرة مباشرة على آندي بعد كلمة “يتبعني” كما لو أن داربونت يريد القول إن أندي سوف يكون صورة المسيح والمثال الذي علينا أن نتبعه لخلاصنا، وليس خافياً ما يوحي به عنوان القصة أو الفيلم من إشارات وتفسيرات متعلقة بمعنى الخلاص والانعتاق “الذي ناله آندي وريد”. كما تحمل كلمة redemption معنى الإصلاح أو تكفير الذنوب، وهو أحد معاني السجن يأن يكون “إصلاحية”، كما أنه يحمل تلميحاً مبطناً “للإصلاح” الذي أحدثه آندي على شخصية ريد وبقية السجناء، ولما سيقوم به لاحقا بعد نيله حريته، إذ تشكل نزاهة آندي عنصراً درامياً هاماً للحفاظ على اتساق الفيلم, لاسيما خلال فترة وجوده في السجن، حيث عادةً ما تنعدم النزاهة في مثل هذه الأمكنة، فيقف آندي كنموذج للاستقامة ضمن مجموعة من “السجناء المجرمين” الذين تنقصهم النزاهة. من هنا يرى البعض في الفيلم موعظة دينية يجسدها دوفرين “المخلّص” رغم نفي داربونت هذا التأويل بقوله “مدهشة حقاً هذه الملاحظة”. وربما هذا ما يفسر انجذاب العديد للفيلم. ولكن لو شئنا تجاوز أي فكرة روحانية بنزع هذا “الإسناد الديني” سنكتشف أننا أمام حكاية يراد منها أن تكون حكمة حقيقية عن الوجود الإنساني و سعيه لحريته عبر تمسكه بالأمل كطريق للخلاص، رغم الكثير من الإشارات التي تعطي إيحاءات ما عن عظة دينية يقدمها الفيلم حتى ببعض الصور الترميزية مثل اختفاء آندي من زنزانته بما يمكن أن يوصف كأنه معجزة أو وقوفه تحت المطر بعد هربه بذراعين ممدودتين وهو يتطلع نحو السماء بما يشبه طقوس تطهير الجسد بماء المعمودية.
مشاهد بصرية مذهلة تجعلنا نتساءل هل فرانك داربونت في الحقيقية مخرج عظيم أم هو مجرد ” كاتب مشاهد بصرية”؟ لأنه غالباً ما يشار إليه في الوسط السينمائي على أنه مؤلف مشاهد بصرية عظيمة أكثر من كونه مخرج ماهر. وحتى في فيلمه المهم الآخر “الميل الأخضر” The Green Mile (1999) لم يكن كافياً لإقناع المتشككين في قدراته الإخراجية. ثم، هل يعود اهتمام داربونت في السجون بسبب ماضيه البعيد وجذوره القديمة؟ حيث ولد في مخيم للاجئين، في فرنسا، لأبوين هنغاريين هربوا من بودابست إبان فشل الثورة الهنغارية منتصف القرن الماضي؟
قد لا يصمد هذا التفسير طويلاً عند الحديث عن شاوشانك، فمن خلال اشتغال داربونت على أهداف وغايات شخصياته فإن أموراً أخرى تكاد تختفي في السياق العام إذ لا يقدم الفيلم تساؤلات واضحة عما إذا كان السجن مظلم أم كئيب أم قاس أم ممل، أو غير ذلك، فهذه أمور يفترض وجودها، لأن على السجن أن يلقي بظلاله القاتمة على حياة السجناء بما يخلق البيئة السينمائية المناسبة، فمثلاً يصور لنا المخرج، بطريقة بارعة، شعور الحرية أو الأمل الذي ينتاب السجناء وهم يتناولون الشراب على سطح السجن حيث تصدح الموسيقا، وربما الأمل والحرية المعقود عليهما الخلاص هما النقطتين الأساسيتين للفيلم؛ لذلك يقول الراوي\ السجين ريد “جلسنا واحتسينا الشراب وكانت الشمس فوق أكتافنا، لقد شعرنا بأننا رجال أحرار؛ ويا للهول لقد كنا نطلي السقف كما لو كنا نطلي أسقف منازلنا، كنا أسياداً..(…). هذا هو شعور الحرية والأمل؛ فالأمل خطير قد يقود إلى الهلاك، يقول ريد لآندي، مختصراً بذلك النقطة التي ربما تحول بينهما لأن يصبحا ندّين. فآندي يرى العالم بصورة مختلفة عما يراها ريد. يعيش آندي على الحلم\ الأمل بينما يمضي ريد أيامه مدجناً، يقول ريد: “(….) عندما يضعوك في تلك الزنزانة ستمر حياتك القديمة مسرعة مثل رمشة عين، وحينها لا يتبقى لك سوى كل هذا الوقت في الكون للتفكير” (..) “سوف تتأقلم فالجميع هنا أبرياء!” وكأنه يشير إلى نفسه. فبعد خمسين عاماً خلف جدران السجن، تبدو مضحكة “تكرهها في البداية ثم تعتاد عليها بعد ذلك، وتشعر مع الوقت أنه لا يمكنك الاستغناء عنها.. لقد أحضروك هنا من أجل الحياة وهي بالضبط ما أخذوها منك.. هذا هو الجزء المهم بكل الأحوال”.
وهنا يشبه ريد شخصية أخرى هي بروكس من حيث مدى تأثير الأضرار التي تشكلها تجربة السجن على شخص يمضي فيه خمسين عاماً، فحين يتم الإفراج عن بروكس، لا يستطع التكيف مع الحياة الجديدة “الطبيعية”، فالحياة خارج السجن سريعة؛ أسرع مما يتخيلها أو مما ينبغي لها أن تكون، وهناك عدة خيارات له من بينها الانتحار، وكونه اعتاد على حياة السجن فهو لن يتمكن من العيش مع أية أنماط اختيارية مختلفة للحياة، وهو في الحقيقة لا يستطيع تعريف معنى الاختيار، فالاختيار يقوم به إنسان حر، ولكن بروكس لا يشعر من داخله بأنه حر، حتى لو كان يحلم بالحرية، وحتى لو شعر بالحزن الشديد على موت عصفور، أو اختفاء فأر صغير، وهذا بالضبط ما يدفعه للانتحار، تاركاً خلفه نقش على إفريز النافذة: “بروكس كان هنا”، ورسالة لزملائه في شاوشانك:
“لا أكاد أصدق كم أصبحت الحياة سريعة خارج السجن. لم أرَ، في صغري، سوى سيارة واحدة، أما الآن فهي متناثرة في كل مكان، بات العالم على عجلة من أمره، ويلهث وراء كل شيء. أرسلتني لجنة إطلاق السراح المشروط إلى مؤسسة صغيرة. لأعمل في تعبئة البقالة في أحد المتاجر، وهو عمل شاق أحاول التأقلم معه لكن يداي تؤلماني في أغلب الأوقات. وبعد العمل، أذهب أحياناً إلى الحديقة لأطعم الطيور، وأفكر، ربما سيأتي “جيك” ليلقي عليّ التحية، لكنه لم يأت بعد، أتمنى له أن يكون بخير حيث هو، وأن يعثر على أصدقاء جدد. أما أنا فتنتابني اضطرابات في الليل، وأرى كوابيس كأنني أسقط، فأستيقظ مذعوراً ولا أعي من أنا إلا بعد وقت. ربما علي أن أبتاع مسدساً لأسرق به المتجر فيعيدوني إلى شاوشانك، أو ربما عليّ أن أقتل صاحب المتجر كي أضمن أنهم سوف يرسلوني للسجن؛ لكني كبرت جداً على هذا الهراء. لم أحب الحياة هنا قط. سئمت الخوف طوال الوقت، لذا قررت ألا أبقى، وأظن أنهم لن يشغلوا بالهم بعجوز محتال مثلي.
صديقكم بروكس.”
تشكل قصة بروكس تصوراً معيارياً رادعاً لأي أمل قد يحلم به أي سجين حيث يسيطر عليه الخوف من العالم الخارجي وهو ما يعد عقبة أخرى للشخصيات الرئيسية التي تأمل في التغلب عليها من خلال الأمل. يقول ريد عن شاوشانك وعن بروكس: “هذا هو المكان الوحيد الذي يعرفه”. وهذا ما يتأكد من خلال تصوير مشهد بروكس وهو يغادر السجن، فهي صورة تغني عن كل الكلام والحديث، سردية بصرية تتفوق على كل ما يمكن أن يكتب، فبروكس من الناحية التقنية رجل حر، لكن داربونت يؤسس للمشهد من خلفية السجن حيث يقف بروكس ثابتاً وهادئاً وسط ظلال قضبان السجن العمودية حول قدميه، صحيح أنه تخلص من جدران السجن، لكن الصحيح أيضاً أنه وجد نفسه ضمن جدران سجن جديد. أي أن يكون وحيداً في العالم الواقعي. وفي مشهد لاحق، ،لحظة الإفراج عن ريد، نرى الكاميرة تواجه العالم الخارجي بدون ظلال عمودية للقضبان حيث يقف، وهذا ما سوف يفسر لاحقاً اختلاف مصير ريد عن مصير بروكس، رغم اتخاذهما نفس المسارات. وما يؤكد اختلاف المصائر، وصف ريد لبروكس عقب انتحاره بأنه أصبح “مؤسساتي” مدجن بطريقة تجعله لا يستطيع العيش سوى داخل جدران السجن.
إذن ليس من قبيل المصادفة أن يكون ريد وبروكس هما الراويتان في الفيلم، إن ما يقوله ريد عن بروكس هو من أشد اللحظات التعبيرية في الفيلم، فكلاهما استجاب لخيار “الانشغال بالحياة أو الانشغال بالموت” الذي طرحه آندي سابقاً، والارتباط بهذا الخيار هو موضوع إضافي يحاول، أو يطمح لأن يحاول معرفة ما يمكن لأي منا أن يتركه خلفه في هذه العالم، كتلك العلامة التي تركها بروكس ومن بعده ريد وقبلهما آندي.
انتحار بروكس هو حكاية تحذيرية مفصلية ونوع من الاحتيال الوجودي لقسوة المؤسسة البيروقراطية على حياتنا، ولكن هذه الحيلة لا تنطلي على ريد، فبحكم وجوده في قلب المؤسسة مدة أربعين عاماً يستطيع أن يفسر أكثر من غيره معنى أن يسلب أحدهم حياتك عنوةً.. هيك على عينك يا تاجر.
يقول ريد مخاطباً زميله: “إنه هنا منذ 50 عاماً يا هايوود، هذا المكان هو كل ما يعرفه، هنا هو رجل مهم، متعلم، أما في الخارج فهو نكرة.. دعني أخبرك شيئاً، هذه الجدران مضحكة، في البدء تكرهها، ومن ثمّ تعتادها. ومع الوقت تشعر أنك مشروطاً بها ولا يمكنك الاستغناء عنها، هذا هو التدجين، أن تكون ابن “الاستبلاشمنت”، أرسلوك هنا من أجل الحياة وهي بالضبط ما أخذوها منك”.
سوف نسمع مثل هذا الكلام من ريد مرة أخرى، وإن بصيغة أخرى، وسياق مختلف في الجلسة التي تعقدها مصلحة السجون كل عشر سنوات معه للتأكد من إعادة تأهيله، ففي جميع الجلسات السابقة كان يتم رفض ملف ريد لعدم اقتناع المصلحة بتأهيله، فعلى مدار أربعين عاماً كان يطوى ملف ريد لعشرية قادمة، ولكن بعد هروب آندي تبدلت الأمور، إذ صار ريد عجوزاً أشيباً (في حدود العام 1967) ولم يعد يشعر بكبير فرق أن يكون داخل السجن أم خارجه.. لنتأمل الحوار التالي حين يسأله موظف اللجنة عما إذا كان يشعر بأنه تمت إعادة تأهيله وهو الذي أمضى 40 عاماً في السجن، فيبتسم له ريد ويقول: إعادة تأهيل؟ حسناً، دعني أفكر الآن. فكما ترى ليس لدي أدنى فكرة عمّا تقصده بالضبط.
-الموظف: إعادة تأهيل يعني أنك جاهز للانضمام للمجتمع من جديد.
-ريد: أدرك قصدك جيداً يا بني. لكنها بالنسبة لي مجرد كلمة مصطنعة. مصطلح سياسي.. يستطيع البعض، أمثالك، بفضلها أن يرتدي بدلة وربطة عنق ويحصل على وظيفة. ولكن دعك من هذا وقل لي ما الذي تريد أن تعرفه حقا؟ هل تريدني أن أقول إني آسف عما فعلت؟
-الموظف: طيب، كما تريد، إذن هل أنت آسف؟
-ريد: لتعلم إذن، لا يمر يوم عليّ إلا و شعرت فيه بالندم . ليس لأني هنا، أو كما تعتقد بأني يجب أن أكون نادماً. لكني عندما أنظر خلفي إلى الطريق الذي كنت فيه، أجدني شاباُ غبياً ارتكب تلك الجريمة الفظيعة، أريد أن أتحدث معه، أحاول توعيته، أخبره كيف تسير الأمور وكيف هي العاقبة. لكني لا أستطيع، فذاك الشاب رحل منذ زمن بعيد ولم يترك خلفه سوى هذا العجوز الذي تراه. لذا لابد أن أتعايش معه. قلت لي إعادة تأهيل؟ إنها ليست سوى هراء، فامض يا بني، تابع عملك واختم الاستمارة وتوقف عن إضاعة وقتي لأني في الحقيقة.. لا أبالي مطلقاً.
هذا هو ريد “الرجل الذي يمكنه الحصول على الأشياء” كما يعرّفه سجناء شاوشانك، والذي لا يمكنهم الاستغناء عنه. يصبح ريد وآندي صديقين بعد فترة من وجودهما معاً في السجن، دون توضيح كيف تطورت هذه الصداقة وكيف صارت مليئة بالأسرار، ولعل ذلك يعود إلى أن ريد أحب دوفرين منذ البداية على حد قوله ورغم أنه راهن عليه بأنه سينكسر و ينهزم. ولكن إذا افترضنا أن ريد هو شخصية داعمة للبطل الكلاسيكي، أي آندي، يمكن حينها التغاضي عن تفسير العلاقة بينهما. ربما هكذا فهم داربونت فلسفة ستيفن كينغ، فضلاً عن تلك الصورة الجمالية الكامنة وراء العلاقة بين ريد وآندي. ويبدو أن داربونت قد احترم هذا الفهم وتلك الفلسفة، لكنه يبدو أيضاً كما لو أنه لم يوفق كثيراً في تطبيقها على مجموع السجناء لانشغاله طوال الفيلم بهذين الصديقين، وهو ما يجعل الفيلم في حالات عديدة يتحول إلى مجرد “ثرثرة” لا طائل منها حتى لو كانت ذات طابع وجداني، فحياة السجن، في الواقع، لا يمكن قياسها بما نراه في شاوشانك بسبب المنسوب العالي من الاستقطاب حول شخصية آندي.
بدت شخصية ريد حيوية بوصفه الراوي الأساسي، وظهر في كثير من الحالات كأنه البطل في القصة، وتمايزه عن آندي باعتباره رجل فقد إيمانه بالنجاة من السجن، ولا أمل له في الخروج، ومع ذلك يقدم الكثير من الدعم لآندي. فضلاً عن أنه، بخلاف آندي، مجرم “حقيقي” ارتكب جريمة قتل. ورغم أننا ندهش من تطور العلاقة بينهما، إلا أن هذا لا يمنع من أن نقف حائرين أحيانا أمام بعض “الابتذال” في سردية ريد للسجن الذي يظهر بالنسبة له كأنه ليس بالشيء السيء، ولم يظهر ريد كأنه يعاني من قلق اجتماعي أو رهاب أو هواجس بسبب لونه، وهذا غير منطقي -على الأقل في أمريكا خمسينيات وستينيات القرن الماضي- بل على العكس يحصل على إطلاق سراح مشروط في الوقت الذي كان فيه ممنوع على السود الركوب مع البيض في المواصلات العامة. ويمكن الاستنتاج هنا، أنه إذا كان آندي ليس سوى قديس أجوف، فإن ريد بأحسن أحواله لن يعدو أن يكون بوق له. (ريد في القصة الأصلية رجل أبيض من أصول إيرلندية، ولكن يبدو أن داربونت يحب فريمان فأسند له هذا الدور. وحسنٌ فعل؛ إذ لا أعتقد أن أحد منا قادر على تصور صوت راوٍ آخر غير صوت فريمان يقص علينا أحداث الفيلم ).
هناك الكثير من المشاهد التي لا تنسى في الفيلم. مثل مشهد سماع السجناء للموسيقا، والمشهد الختامي حيث ريد في الحافلة ليعبر الحدود ثم لقاء صديقه على شاطئ المحيط في المكسيك وغير ذلك من اللحظات البصرية الخالدة. ولكن عند تفحص جزئية ريد ووجوده في السجن وعلاقته بآندي تنكشف لنا سطحية بعض المواقف، وهنا تمتصنا لحظات التألق والإمتاع المتحصل عليها من الفرجة.
يا للسخرية؛ أن يحصل رجل أسود على حريته رغم كونه قاتل؟ أهكذا كانت تكافئ أمريكا مواطنيها “السود”؟ (لا يتحمل المؤلف عبء ومسؤولية هذه المسألة لأنها من اختيارات المخرج، مثلما لا يتحمل نجيب محفوظ المعمار السينمائي لشخصية حميدة في زقاق المدق لأنها كانت من اختيار المخرج حسن الإمام).
ولكن أكثر المشاهد مرونة وإثارة كانت تلك اللحظة التي يغلق فيها دوفرين باب غرفة المأمور على نفسه ثم يدير أسطوانة موسيقية لموزارت ويغلق عينيه مستمتعاً وذاهلاً عن كل ما حوله. يقول ريد لاحقاً عن تلك اللحظة: “ليس لدي فكرة حتى الآن ماذا وعن ماذا كانتا تغنيان تلك السيدتان الإيطاليتان. وحقاً، لا أريد أن أعرف. من الأفضل أن ندع بعض الأشياء هكذا دون ذكر ودون أن نعرفها، أحب أن أقنع نفسي بأنهما كانتا تغنيان عن شيء جميل جداً، إلى الحد الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات دون أن يوجعك قلبك من فرط جماله.. الحق أقول لكم حلّقت تلك الأصوات ورفرفت وصدحت عالياً وبعيداً، أبعد بكثير مما يمكن لشخص سجين في مكان كئيب كهذا أن يحلم به؛ لقد كان الأمر أشبه بطائر جميل يخفق بجناحيه في قفصه الباهت والتافه هذا؛ فيذيب تلك الجدران ويجعلها تضمحل، وللوهلة الأولى، وبما يشبه لحظة عابرة شعر جميع رجال شاوشانك بالحرية”.
وكأن ريد وجميع الرجال هناك شعروا بوخز الأصوات الملائكية التي عمّت أرجاء السجن، لقد بدى ريد وكل السجناء وأولهم آندي مفتونين بالموسيقا. لقد جعلت تلك الأصوات، كما أشار ريد، كل واحد منهم يشعر أنه حر ولو لفترة وجيزة.. لقد قال آندي ذات مرة لصديقه ريد “ها هنا [وأشار إلى رأسه]. وهنا [وأشار إلى قلبه] يكمن جمال الموسيقا، هم لا يستطيعوا أن يأخذوها منك. هل شعرت من قبل بالموسيقا بهذه الطريقة”؟.
آندي الذي كان يظهر قليل الكلام، ولا يبدو عليه أي حماس يذكر حين يتحدث، لدرجة أنه قادر على الحفاظ على رأسه منخفضاً لسنوات عدة، والذي لم يقدم لنا نفسه عن طواعية ليقنعنا ببراءته أو يبالغ في مشاعره، نراه فجأة، وفي مشهد لا ينسى “لاسيما لمن شاهد الفيلم أكثر من مرة”، وفي لفته مدهشة ينغمس كلياً في الموسيقا من مكتب آمر السجن مغمضاً عينيه مبتسماً. في مشهد يتسامى ليلخص موضوع الفيلم ويلخص مجمل حياة آندي داخل جدران السجن.
وتستمر المشهدية في التصعيد حين يهرع الحراس نحوه طالبين منه التوقف لتنتقل الصورة نحو وجهه ثم نحو السجناء، وهم يقفون متجمدين لسماعهم الموسيقا، تتعالى الصورة البصرية صعوداً وهبوطاً في هذا المشهد من سطح الأرض لترتفع إلى مكبرات الصوت، جمال الموسيقى: اللحظة الغنائية الموسيقية الأكثر إثارة في الفيلم تأتي عندما يحدث الانسجام بين حركات الكاميرة مع جمال الموسيقا لتلامس أرواح السجناء القلقة.
يُحبس آندي في الزنزانة المنفردة بسبب فعلته هذه، ويقول بعد خروجه منها “لقد كانت -الموسيقا- تستحق كل هذا العناء والتضحية، إنها الشيء الوحيد الذي يشعرنا بأنه مازال في أعماقنا أشياء حية تخصنا وحدنا، تخضع لإرادتنا، ولايمكن لأحد أن يمسها”.. لقد كانت لحظة سماع الموسيقا بمثابة تحدي يخوضه لخلاصه، تحدٍ نابع من براءته، تحد من شخص يعرف قيمة ومعنى الحرية. وهذا ما يفسر اندهاش زملائه من شكله الهادئ ومعالم الارتياح البادية عليه لعلمهم بهول العزل الانفرادي، ولعل هذا ما يفسر أيضاً قدرته على مقاومة عقوبة العزل و السجن الانفرادي الذي يعطل بدوره آلية التواصل ويخلق اضطراب في الإحساس بالزمان والمكان، فسوى نبضات قلبه، لا يمكن للسجين المعزول أن يسمع أحد أو يتواصل مع أحد *****، وعند خروجه من العزل، يزداد التشويه أكثر حين ينطوي خروجه على إحساس شاذ بالحرية.
كم واحد منا حاول أن يفهم ويفسر ابتسامته تلك وأسرارها؟ يقول آندي أن الوقت الذي أمضاه في المنفردة مر بسهولة لأنه قضاه في الاسترخاء والتفكير بموزارت، لم يفهم السجناء ما يرمي له، حتى ريد لم يقتنع وبدى مستاءً، لكن الموسيقا -عند آندي- تحولت إلى ما يشبه محرق تكثيف لفكرة الخلاص كواقع وليس كتورية كما تبدو من عنوان الفيلم والقصة، وهي رسالة يتردد صداها العميق وينمو أكثر مع مشاهدة الفيلم أكثر من مرة.
يتجلى تحدي آندي بأن يهب الموسيقا كهدية حرية للسجناء، لقد بدوا جميعاً، ولدقائق معدودة، أحراراً من داخلهم على الأقل. سلوك آندي برفضه فتح الباب يعزز مقولة ريد حول ذوبان جدران السجن، ولكن عندما يقول ريد بأنه ليس لديه أي فكرة عما كانت الأغنية، فإن داربونت يدرك تماما أن الأغنية تتحدث عن خادم غلب سيده، مثلما هو بالضبط النقاش الذي يدور عن الكونت دي مونت كريستو. عن رجل اتهم خطأ بالسجن وهرب من سجنه .
ترى ماذا كانت تحمل تلك الأغنية للسجناء (عدا عن ريد فقد عرفنا رأيه)؟ ماذا كان يدور في عقول أولئك الرجال ذوي الملامح الجامدة والفظة حين كانت تشخص عيونهم نحو مكبر الصوت ونحو آندي “مسيحهم المخلص” بطريقة تشبه ما يصف به ديستويفسكي نظرة الآخرين نحو “نبيهم المزيف” الأمير ميشكين في رواية الأبله.
هل فكر رجال شاوشانك في تلك اللحظة في حريتهم؟ أو في الأمل؟ أو بجسد شهي لأنثى تشبه ريتا هيوارث، جسد يزيل عنهم صدأ السنين؟ ربما هكذا فكروا. وربما لا، ربما فكروا بعائلاتهم، وأشغالهم، وذكرياتهم، وانتقامهم، بأي شيء يعيدهم لتلك اللحظة التي سبقت عبورهم بوابة شاوشانك؛ ولكن (ولكي لا نغوص عميقاً في التأويل) أليس من الأفضل لنا أن نسأل ماذا يعرف هؤلاء الرجال أكثر من سؤالنا بماذا يفكروا؟.
لا توفر تلك اللحظة التعريف بفشل السجن باعتباره “إصلاحية” ( مثلما سوف يمثل هرب آندي فشل السجن كمنظومة أمنية)، بل يتجاوز هذا الفشل ليصل إلى الخلل الواضع لنظرية أو مفهوم السجن كحالة عقابية تأسست على قاعدة “العقاب والثواب” وعلى علاقات التحكم والسيطرة والضبط والربط والأوامر والنواهي – بمعناها الإجرائي ولس بمعناها الهيغلي- بهدف الاستحواذ على السجين تماماً من خلال غلق المكان أمامه والتحكم في الحيز الذي يشغله في الفراغ، وكان نورتون قد عبّر عن هذه الأفكار بدقة وصدق يوم وصول دوفرين إلى شاوشانك، دون أن يغيب عن بالنا نظام الأكل والنوم والتفتيش الدوري والاستحمام وتحديد قوائم المسموحات والممنوعات.. باختصار، التدجين والخضوع التام لمنطق “الاستبلاشمنت” الذي استطاع دوفرين تحطيمه بمجدر دخوله لغرفة المأمور وتشغيل الموسيقا ولعل هذا الكسر لسلطة المؤسسة هو الذي ظهر على وجوه الحراس المذعورة.
تشهد شخصية ريد وتحت تأثير آندي تغيرات هامة لتصل في النهاية لخلاصها؛ وهنا ينتهي الفيلم، إذ لم يعد ثمة ما هو جدير بالسرد، علماً أن ستيفن كينغ ينهي روايته بمشهد ريد وهو يتلو صلاة “إنني آمُل” كتعبير عن الحرية والاجتماع النهائي بصديقه. وقد أثارت نهاية الفيلم سجالات لم تتوقف بعد، وعلى الرغم من أن الفيلم ينتهي-عملياً- بركوب ريد الحافلة المتجهة إلى المكسيك، إلا أنّ اللقطة البانورامية الواسعة لشاطئ مكسيكي، بينما آندي وريد يتعانقان، لاقت ترحيباً أكثر -قبل عرضه على الجمهور- من مشهد ريد داخل الحافلة، وهذا ما يمكن تفسيره بأنه، حسب الترسيمة الهوليوودية، ينبغي لنهاية الفيلم أن تكون مع خلاص آندي. فإذا كان هذا الخلاص مفروغ منه فعلى القصة أن تنتهي عنده، باعتباره محفز الانعتاق النهائي وهذا ما يتساوق مع البنية السردية الكلاسيكية في هوليوود، حيث يقهر البطل كل العقبات، وينال هدفه ويعيش في سعادة دائمة. وهذا ما يحاول دوفرين أن يقوله لصديقه “هـل تعلـم ما يقـول المكسيكيون عن المحيـط الهادئ؟ يقولـون عنه أنه مكـان بلا ذاكرة. وهذا ما أريده حقاً؛ أن أعيش بقية عمري في مكـان دافـئ دون ذاكـرة “.
ولكن ليس هذا ما يحصل في الواقع؛ فماذا عن ريد؟ وعن خلاصه؟
يجادل البعض بعدم إمكانية تبرير النهاية البانورامية للفيلم “سواء من الناحية الجمالية أو لجهة الاعتبارات الموضوعية، فهي وضعت لاسترضاء الجمهور واستجداء تعاطفهم، وهي تستهين بقدرة الجمهور على فهم الأمل الذي بدأ يتكشف للمشاهد لحظة صعود ريد إلى الحافلة”******.
يبدو أن خلاص ريد هو الذي استوجب إنهاء الفيلم حين تم حل جميع الصراعات والقضايا، والأفكار. وهنا يقول لنا فرانك داربونت رسالته “الخلاصية”: إذا رأيت سجيناً نائماً… لا توقظه، فربما هو يحلم، فكأنك-لو فعلت- تقتله
…..
*الفيلم من بطولة تيم روبنز و مورغان فريمان وإخراج فرانك داربونت سنة 1994، ومقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الأمريكي ستيفن كينغ التي صدرت مع مجموعة قصصية أخرى في العام 1982 بعنوان: ريتا هيوارث والخلاص من شاوشانك Rita Hayworth and Shawshank Redemption
**جان بول سارتر: مسرحية لا مخرج أو الأبواب المقفلة، ترجمة هاشم الحسيني، دار مكتبة الحياة، بيروت. ظهرت نسختها الأولى سنة 1944 بعنوان Huis Clos ، بمعنى دون مشاهدين أو خلف الأبواب المغلقة
***جان بول سارتر: الكينونة والعدم، بحث في الأنطولوجية الفنومينولوجية، ترجمة د. نقولا متيني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت. بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، 2009. صفحة617
**** انظر على سبيل المثال، Alexander Hooke :The Shawshank Redemption finds hell & existentialist hope in prison.2004. philosophynow.org/issues/102/The_Shawshank_Redemption
*****يقول بلال الكايد؛ الأسير الفلسطيني المحرر من سجون الاحتلال: “أدخلوني الحبس الانفرادي فلم أنطق سوى بخمس كلمات خلال سنة كاملة” ( 25/4/2017) . وتقول نور الخطيب (27 سنة) الناشطة السورية والمعتقلة السابقة في سجون النظام السوري: ” أصعب فترة هي الاحتجاز في (الزنزانة) المنفردة.. فترة قاسية من دون تحقيق، فقط (زنزانة) منفردة تُفتح وقت الطعام…(….) غرفة صغيرة و مظلمة لا يُعرف منها الليل والنهار….. رطبة متسخة لون جدرانها بني (….). وقت يدخل الضوء كنت أجد كتابات وأسماء معتقلين سابقين.. أحدهم يعد الأيام..”.( موقع زمان الوصل: 28/9/2019)
****** انظر، Kermode, Mark : The Shawshank Redemption. London: BFI Publishing. 2003