تمهيد
ليس من باب التجني وصف رواية “الحاج” للكاتب الأمريكي “ليون يوريس”(1) بأنها رواية التمثيل الثقافي للاستعمار، حيث تندمج فيها أشكال السرديات العنصرية والكولونيالية في إطار ما يطلق عليه إدوارد سعيد “الأبستمولوجيا الأخلاقية للإمبريالية” التي “صنعت” التاريخ “الأبيض” الاستعماري. ولن تتحقق عملية الصنع هذه (بالنسبة لرواية الحاج) دون الاتكاء على المرويات التوراتية و الاستعمارية لإنشاء نماذج عنصرية إقصائية تستند على التراتبية الثقافة\ الدينية وعلى الترويج الفظ لمقولة التفوق “الحضاري” للمستعمِر. ومن عنا تبرز أهمية أعمال يوريس وصفها تؤكد على قوة تلك المرويات، والخلط بين اليهودية والصهيونية في تزوير التاريخ وتشويه الحقائق من خلال تحويل الفلسطينيين -بما يحملون من إرث ثقافي وديني وحضاري- إلى “شعب بلا تاريخ” لتحقيق أغراض سياسيّة تندرج في إطار الصراع العربي الإسرائيلي القائم. وحالما يتم نفي الفلسطينيين: كشعب بكل مكوناته، من الذاكرة الجمعية لليهود الإسرائيليين، سرعان ما يروّج الكاتب للحق الأخلاقي والفكري و”الديني” للغزو، والبدء في كتابة تاريخ جديد يقوم على أسس العقيدة الصهيونية، مستغلاً العناصر التوراتية في التاريخ اليهودي وفي الذاكرة الثقافية الغربية.
بعبارة أخرى، تتحول الأحداث في الرواية، عبر آلية سردية، إلى “تاريخ” لشخصيات أحادية الجانب وذات بعد واحد بغض النظر عن ثقافتهم ومواقفهم وهوياتهم، فيظهرون كأنهم يحاورون أنفسهم في مونولوج داخلي مثير للضجر يعبر عن رؤية مزعومة منحرفة للمؤلف غايتها التأكيد على الطبيعة المشوهة والدونية للفلسطينيين باعتبارهم يمثلون حالة من ثقافة الكراهية، فيتحول أشخاص الرواية إلى نماذج نمطية و أبواق تردّد صدى أفكار يوريس العنصرية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين ضمن خطاب يرى في العملية الاستعمارية في فلسطين حركة حتمية تاريخية للتقدم.
وبهذا المفهوم -وغيره- تعدّ رواية الحاج(2) امتداداّ للسرديات المعادية للعرب وللإسلام السياسي والحركات الإسلامية الراديكالية التي بدأت تنتشر منذ ثمانيات القرن الماضي في وسائل الإعلام الأمريكية وفي الخطاب الثقافي الغربي، فشاع وصف العرب والفلسطينيين بالسلبية و الكسل والبدائية(3).
السرد الحكائي
تتحدث الرواية عن “تاريخ” الحاج إبراهيم الصقوري وعائلته\ عشيرته في فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الخمسينيات. وتبدأ الرواية بموت والد إبراهيم سنة 1922، ليصبح هذا الأخير زعيماً ومختاراً على عشيرته(4) في قرية (طابا) التي تقع في وادي إيلون، “قرب اللطرون” على الطريق الرئيسي بين القدس ويافا. ويتألف العنوان من كلمة واحدة معرّفة (مأخوذة من الأصل العربي قولاً ونطقاً ومعنىً) والهدف منها -كما يبدو من سياق الرواية- إظهار المعنى “الإسلامي” المباشر، أي الحج الديني إلى مكة، واسم الفاعل أي الشخص الذي يقوم بهذه الرحلة ويتم وصفه تبعاً لذلك بصفة الحاج، ويبدو أن قصد يوريس من اختيار هذه الكلمة العربية\ الإسلامية التضمين المجازي للمعاني العديدة التي تختزنها والتي تحتفي بها أثناء نطقها. فاسم المختار “إبراهيم الحاج” يشير بطريقة ما إلى ارتحال إبراهيم الصقوري من قريته إلى مكان آخر، وقبل ذلك ارتحال عشيرته من الجزيرة العربية إلى فلسطين. لكن هذا الارتحال لا يتشابه مع ارتحال إبراهيم التوراتي إلى أرض الميعاد، غير أن التعمق أكثر في المعنى سوف يلقي بظلاله على تضمين انطباعي آخر يشير إلى أن ارتحال إبراهيم الصقوري يشبه ارتحال إبراهيم التوراتي لجهة القدر الإلهي لمسيرة الرجلين، فإبراهيم التوراتي انتقل بأمر من يهوه ليسكن في الأرض الموعودة هو ونسله، وبالتالي فعلى إبراهيم الصقوري أن يخلي قريته لأحفاد إبراهيم التوراتي العائدين لأرض الميعاد من جديد بعد نفي طويل (رغم التأكيد على موقع إبراهيم الصقوري كزعيم وراثي لعشيرته، إلّا أن يوريس سوف يغمز من قناته ويشكّك في انتمائه للأرض، حين يؤكد أن الحاج إبراهيم وعشيرته قدموا للمنطقة منذ قرن فقط من جزيرة العرب بعد هزيمتهم على يد من يدعوهم يوريس “الجيوش الغازية” القادمة من تركيا ومصر(5) حيث مازالوا يحتفظون بعلاقات قرابة تربطهم بعشائرهم الوهابية هناك).
أوكل يوريس مهمة سرد الحكاية إلى إسماعيل ابن إبراهيم الصقوري والذي يتشابه اسمه مع اسم ابن إبراهيم التوراتي، ورغم أن إسماعيل ليس الابن الأكبر للحاج إبراهيم، غير أنه هو من وقع عليه الاختيار ليكون خليفته وزعيماً للعشيرة من بعده. ويضع يوريس ولادة إسماعيل في العام 1936 (وهو عام اندلاع الثورة العربية الكبرى في فلسطين). ولكن، قبل ذلك، سو تتغير حياة ومصير ومستقبل القرية وسكانها في العام 1922، عندما يشتري بعض المهاجرين اليهود أرضاً قريبةً من قرية الحاج إبراهيم، يشتروها من إقطاعي فلسطيني يدعى فوزي كبير أفندي ويقيم في دمشق ( سوف تكون له، لاحقاً، علاقة جنسية غير شرعية مع ندى ابنة الحاج إبراهيم، وسوف تتسبب هذه العلاقة بقتلها على يد أبيها).
يبني اليهود، على قطعة الأرض تلك، مستوطنة زراعية باسم “شيمش”. ويصف يوريس الأرض عندما وصول المهاجرين اليهود إليها بأنها لم : سوريّة، أو عثمانيّة، أو عربيّة، أو يهوديّة، بل أرض مشاع”(6). حتى طابا، قرية الحاج إبراهيم، ذاتها ليست عربيّةـ بل موطن سبط دان والبطل اليهودي التوراتي المشؤوم شمشون(7)، وقد اكتشف الآثاريّون بقايا حضارات قديمة قربها يزيد عمرها على أربعة آلاف عام(8)، كما شهدت القرية، عبر تاريخها، ثورات يهودية متعاقبة ضد الجيوش المحتلة “الآشوريّة والبابليّة، والمصريّة، والفارسيّة والإفريقيّة والرمانيّة”(9).
يتعرف الحاج إبراهيم على جدعون آش أحد قياديي كيبوتز شيمش (سنعلم لاحقاً، أن جدعون هذا رجل مخابرات وعضو في منظمة الهاغاناه ومستشار دافيد بن غوريون). تتطور العلاقة بين الصديقين، ويزور الحاج الكيبوتز بين الحين والآخر. وجدعون آش المولود في فلسطين، هو في الحقيقة ابنٌ لاثنين من المهاجرين اليهود من رومانيا أتيا إلى البلاد في نهاية القرن التاسع عشر. وبحكم عمله جاسوساً لمصلحة الجيش البريطاني، فقد عاش آش متنقلاً مثل “فأر الصحراء” وسط المجتمعات والقبائل البدوية العربية، يرشي هذا الزعيم و يستغل ذاك، من أجل الحصول على المعلومات التي يبتغيها، وهكذا، كان جدعون تجسيداً للحكاية الأسطورية و تمثيلاً لصورة “الرجولة” الملتصقة بالمستعمِر، فيظهر شخصاً يمتلك خبرة عميقة وطويلة في التعامل مع العرب، نظراً لسعة اطّلاعه على ثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم، فضلاً عن كونه مقاتلاً نزيهاً ملتزماً بالعقيدة الصهيونية، وحارس حدود مخلص “هاشومير” يصد الهجمات العربية العدوانية (ولهذا فشلت هجمات العرب على الكيبوتز، ويعترف الحاج إبراهيم سراً بهذا الفشل رغم تفاخر رجال عشيرته بقتل العديد من اليهود). غير أن صداقة الحاج وجدعون لا تفيد، كثيراً، في تخفيف حدّة التوتر بين أتباعهما، وهنا يبتعد يوريس عداً عن تفسير السبب الحقيقي، ويمضي إلى القول بأن المزاج العام في تلك الفترة سيطرت عليه مشاعر الكراهية ضد اليهود، وامتزاج هذه المشاعر بنوع من “البروباغاندة” النازيّة التي كان يروّج لها-آنذاك- المفتي الحاج أمين الحسيني، وجماعة الإخوان المسلمين ( يمثّلها في الرواية أستاذ المدرسة السالمي)، فضلاً عن الخطب الإذاعية المعادية لليهود (يقول يوريس بطريقة ساخرة أن هذه الإذاعة، بالإضافة إلى الكهرباء، كانا تقدمةً من الكيبوتز للقرية).
يتم استدعاء الحاج إبراهيم إلى دمشق للتشاور على خلفية قرار التقسيم (29 تشرين الثاني\ نوفمبر 1947)، فيجتمع مع فوزي أفندي (الإقطاعي الذي باع لليهود الأرض التي اقاموا عليها الكيبوتز) بحضور عبد القادر الحسيني وفوزي القاوقجي (يصف يوريس هذا الأخير بأنه انتهازي وحاقد ومؤيد للنازية وجندي سابق في الجيش التركي، وهو من أعطى الأوامر لاحقاً لاغتيال عدد من رجال الحاج إبراهيم). لا يكنُّ الحاج إبراهيم الكثير من الودّ لعبد القادر الحسيني ولا لفوزي القاوقجي بسبب إلحاحهما على إخلائه لقريته لموقعها الاستراتيجي الهام، طبعاً يرفض الحاج جميع العروض رغم إغراءات المال، ويغادر الجلسة دون الوصول لقرار حاسم، أو وعد قاطع بإخلاء القرية مما يثير حنق فوزي القاوقجي، ومع تردد الأنباء الواردة من دير ياسين، لم يستطع الحاج منع أهل القرية من مغادرتها، فيتجهون إلى يافا، وهناك يحاولن استئجار مركب ينقلهم إلى غزة، ولكنه يجد نفسه محاصراً مع قومه في حي المنشية بين قوات القاوقجي من جهة وعصابات الإرغون والهاغاناه من جهة أخرى، ومع ذلك يتمكن بمساعدة أحد التجّار (بسام البسام) من الاتفاق مع مالك سفينة يونانية لتبحر به مع عالته نحو غزة، لكنه لم يتمكن بسبب ملاحقة قوات القاوقجي له فيختبأ ومن معه في كنيسة القديس بطرس، ومن هناك يستطيع إسماعيل الوصول إلى جدعون آش الذي سوف يساعدهم على الفرار إلى طولكرم. ولكن قبيل غادرتهم يافاـ يحدث أن يعثر جنود القاوقجي على نساء العائلة، فيغتصبون أمام أعين إسماعيل والدته وحماته وأخت زوجته، لكنه لا يخبر الحاج (سوف يخبره لاحقاً في أحد أهم المواقف الدرامية في الرواية).
تنتقل العائلة من طولكرم إلى نابلس ويقوم الحاج بالتوال مع رئيس بلدية المدينة (السيد كلوفيس) الذي يعرّفه على فريد زيّاد أحد عناصر الفيلق العربي التابع للملك الأردني، ويحاول كلوفيس وزيّاد إقناع الحاج بدعم جهودهما السياسية، لكنه يفضّل أن يبقى على الحياد. ومع ازدياد الضغوطات عليه، يقرر مغادرة نابلس والعيش في أحد الكهوف على تخوم الصحراء بجوار موقع قمران قرب البحر الميت. وهناك ينضم إليهم الشاب صبري سلامة المراهق ذو الستة عشر عاماً (سنعلم أن أحد الضباط العراقيين الذين دخلوا فلسطين خلال حرب 1948 أجبر الفتى صبري على أن يكون “عشيقته”)(10).
رغم صعوبة الحياة في الصحراء، إلّا أنها بدت متوضعة ومقنعة لعائلة الحاج وخالية من الضغوطات والتوتر، ومنحتهم الفرصة لتجيد قوّتهم والتشبث بتقاليدهم الصحراوية الأصيلة. ومع قيام إسرائيل و سيطرت الأردن على الضفة الغربية سوف تتدهور الأحوال المعيشية للعائلة فتضطر لمغادرة كهف قمران والتجوال في منطقة أريحا لينتهي بهم المطاف في مخيم عقبة جبر عند سفح جبل القرنطل، ومن هناك سوف يتواصل الحاج مع عالم الآثار الدكتور نوري على أمل أن يصلهم بصديقه القديم جدعون آش، فضلاً عن إمكانية بيع اللقى الأثرية التي عثروا عليها في قمران. ولا يستغرق الأمر كثيراً حتى ينخرط الحاج، بتشجيع من آش، في حضور المؤتمرات التي تناقش الوضع الفلسطيني، فيسافر إلى عمّان ليلتقي بشخص “مسيحي” يدعى شارل معاني، ويلتقي كذلك بالشيخ أحمد التاجي، ويشترك هؤلاء الثلاثة في أنهم لا يمانعون الدخول في مفاوضات مع إسرائيل بهدف عودة الفلسطينيين إلى منازلهم. وينتقل الحاج من مؤتمر إلى مؤتمر وصولاً إلى مؤتمر بيت لحم الذي من المفترض أن يكون بديلاً عن جميع المؤتمرات السابقة من خلال تشكيل لجنة متابعة تقوم بعرض القضية الفلسطينية أمام لجنة دولية في زيورخ. ولكن المؤتمر ينتهي بكارثة حين تقوم عناصر تابعة لفريد زيّاد باعتقال القادة الثلاثة و مجموعة الشبّان المرافقين لهم (أحدهم جميل، ابن الحاج إبراهيم). ورغم كل هذا، سوف يسافر الحاج إبراهيم إلى زيوريخ رفقة شارل معاني والشيخ أحمد التاجي -رغم التهديدات بقتل ابنه- غير أن المؤتمر يفشل في تحقيق النتائج المطلوبة، بل على العكس من ذلك، يتم التشكيك والطعن في مشاركتهم في المؤتمر، فيقوم ارل بالاتصال بالفاتيكان بغية التوصل إلى حل من شأنه أن يعيد بعض الفلسطينيين المسيحيين إلى ديارهم، ويتم شراء الشيخ التاجي من قبل فوزي كبير أفندي الذي كان يمثّل أميراً سعودياً في لمؤتمر. يفقد الحاج الأمل في مؤتمر زيوريخ وتزداد خيبته في الزعماء العرب فيعود إلى مخيم عقبة جبر ليكتشف مقتل ابنه جميل، فيقرر الانتقام من فوزي أفندي. وفي منتصف العام 1951، يُقتل شارل معني، كما تحدث أعمال شغب ضد الفلسطينيين إثر اغتيال عبد الله بن الحسين ملك الأردن. ثم يقوم الحاج بقتل ابنته ندى، بعد أن لوّثت سمعته بفقدها عذريتها، ويخبر، في لحظة غضب، إسماعيل أباه بحادثة الاغتصاب التي جرت في يافا على يد رجال القاوقجي، أثناء الحرب، فيصاب الحاج بجلطة سرعان ما تودي بحياته. وتمثّل جنازته أكثر اللحظات المجيدة في سيرة حياته، رغم أنها أتت بعد موته، على حدّ قول ابنه إسماعيل الذي أصبح مختار العشيرة من بعده، ويستولي الحزن على الزعيم الجديد بسبب موت شقيقته (وليس بسبب موت الحاج إبراهيم كما يبدو)، ويستغرق الأمر بعض الوقت حتى تنتهي الرواية بجنونه المطبق.
العنصرية كموضوع للرواية
نحن العرب هم الأسوء.. تلك هي رسالة يوريس الدعاية الفظة عن العرب، فهم-أي اليهود- يريدون أن يصنعوا سنغافورة في فلسطين بينما يريد العرب أن يعيدوها للعصور الحجرية.
ولعل أبسط وصف للمعالجة الدرامية للأحداث القول بأن الكاتب يستخدم مقاربة “لا تاريخية” للتعبير عن قضايا تاريخية، حيث يستعرض تاريخ فلسطين بوقائع خيالية يرغب من خلالها إقناع القارىء بأنها حقيقية ويستخدم حججاً واضحة التحيّز والتعصب ليذكرنا بأن العرب “وحوشاً” بطبيعتهم، ولو أن مثل هذه الرواية صدرت ضد اليهود أو حتى ضد السود، ولو كموضوع درامي فنتازي، لما سُمح بنشرها في الغرب، ويستطيع يوريس -من أجل إقناع القارىء بطرحه- أن يقدّم الأمثلة المتنوعة والمحرّفة ذات الطابع السياسي والإيديولوجي عن الإسلام والعرب وتعزيز الخطاب العنصري والمفاهيم الخاطئة عن ثنائية التفوق والدونية ضمن السياقات الإيديولوجية للمجتمعات التي يدعوها إدوارد سعيد “مجتمعات التأويل”، بمعنى تعميم السّردية المهيمنة، حتى لو كانت تلك السّردية غير صحيحة وغير “تاريخية” أو لا تمتلك مصداقية أو مقومات تاريخية. وهكذا، كلما تعمّق القارىء في النص، تعلّم أكثر عن الصهيونية وعن الغرب (أمريكا) وازداد جهلاً والتباساً بما يعرفه عن الفلسطيني وعن الصراع العربي الإسرائيلي، فتتحول الرواية إلى محاضرة عنصرية كئيبة وقبيحة، حتى بين مؤيديها، فضلاً عن سياقها الدرامي الذي يمتاز بالضعف والهشاشة و”عدم الاحترافية” فالحوار ساذج ومصطنع ومدرسي تلقيني/ مليء بالخرافات غير المنطقية و المفارقات التاريخية، ولا يستطيع المرء أن يتخيل أن مثل هذا السّرد من إنتاج روائي محترف عاش في النصف الثاني من القرن العشرين في أعظم وأقوى دولة في العالم و حققت مبيعات بعض أعماله أرقاماً قياسيّة و تُرجمت رواياته إلى أكثر من 50 لغة حول العالم، واقتبس بعضها لإنتاج أفلام سينمائية شهيرة.
يعمل يوريس، من الناحية البنائية الدرامية للرواية، على فصل الحيز الأوروبي عن غير الأوروبي (بمعانيه المتنوعة: سواء كانت ماديّة أم روحيّة أم معرفيّة) وهو بهذا يتوافق مع حصريّة الخارطة المعرفيّة للعالم الذي غزاه الغرب منذ القرن الخامس عشر حتى الآن، فيتبنى يوريس التراتبية الغربية بمعناها (أو معانيها) الاستعماري (والذي يشتمل على التصنيف\ التفوق الإثني “العرقي”، والأفضليّة الذكوريّة كتقسيم معياري للتراتبية الجندريّة)، كوسيلة للسيطرة المباشرة على “الطبيعة” وتشييئها ومن ثم توظيفها لخدمة “الرجل الأبيض”، وإهمال المعاني الأخرى للطبيعة التي تخالف هذا المعنى الوظيفي ولا تتساوق معه، مما يعني، ضمناً، عدم النظر إلى أشكال وأنماط الحياة غير الغربية باعتبارها أشكال، أو تمثّلات، غير “طبيعيّة” وغير قابلة للحياة (بمعنى هدم أو إقصاء الحيوات الريفية والزراعية لصالح المدينة الغربية الحديثة، فالمدينة الغربية والإنسان الغربي هما اللذان يمتلكان الحق الحصري لتمثيل السلالة البشرية على الأرض، وكل ما هو سواهما من بشر وحجر وشجر وحضارة ولغات وتاريخ ليس سوى “كومبارس”، ومعالم فلكلوريّة لا تتوافق مع نظرية المعرفة وطبيعة العصر). وبهذا المعنى \ المعاني، أنشأ الصهاينة الأوائل في فلسطين “تاريخاً” يقوم على مغالطات عديدة، ليس أقلها تلك التي تقول أن آخر ما كان يريده المستوطنون اليهود هو الحرب، لقد أرادوا الاستقلال في دولة تخصهم، ولكن ليس على حساب الآخرين، وليس عن طريق ترحيل السكان العرب. وكما تقول الرواية الصهيونية الرسمية، فقد عمل العديد من المستوطنين -بوعي- خلال الجزء الأول من القرن العشرين على إشراك جيرانهم العرب في مجتمعاتهم، مما أدى إلى تحرير الفلاحين العرب من العلاقات الإقطاعية مع ملّاك الأراضي الذين عاشوا في القاهرة ودمشق، ولكن عندما ساد العنف، باعتباره الرد العربي على التغيرات التي قاموا بها، لم يكن أمام اليهود سوى الدفاع عن أنفسهم وعن دولتهم و”تاريخهم”.
تلك هي الأفكار المفضّلة لدى يوريس والتي عمل جاهداً على نقلها إلى القارىء الأمريكي، الذي ينظر إلى يوريس كمثقف يهودي يلتزم بتقديم التفسير الصهيوني للتاريخ اليهودي الحديث، بما يتلاءم مع الثقافة الشعبية المهيمنة في الثقافة الأمريكية ويتحدى الصورة النمطية السائدة عن اليهود، (لا عجب أن كلمات مثل استعمار واستيطان ومستوطنة، تلقى صدىً إيجابياً في الثقافة الأمريكية، ولا عجب، أيضاً، أن تحظى أفكار أخرى بقبول واسع، كتلك التي تقول بأن الفلسطينيين الحاليين ليسوا هم سكان البلد الأصليين، بل عم مجرد أقوام عربية قدموا إليها مع نهاية القرن التاسع عشر، بعد نجاح المشروع الصهيوني هناك، وكانت جين بيترز هي من اخترعت هذه الفكرة و أشاعتها في كتابها ” منذ زمن سحيق From Time Immemorial “، ثم روّج لها فيما بعد آلان ديرشوفيتز في كتابه “قضية إسرائيل The Case of Israel”). لقد عمل يوريس على روايته(11) انطلاقاً من جوهر الفكرة الصهيونية عن فلسطين ” أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، فيزعم أن فلسطين عادت لأمتها الأصليّة، وبالتالي، ينبغي للمستعمرين الصهاينة العودة إلى وطنهم “القديم” من أجل “بناء دولة متحضرة وحقيقيّة”، فاليهود هناك جميعهم “مواطنون” فلسطينيون بالدم، وهم كانوا أكثريّة في هذا البلد التوراتي منذ ألفي عام، بل، ربما منذ ثلاثة آلاف عام، وهم لم يتخلوا عن حقّهم به، وأن ادعاء الصهيونيّة بحق اليهود في فلسطين لا يخضع للمعايير التي تخضع لها “حقوق: بقية الأمم في أوطانها”(12). ولكي يتمُّ هذا الأمر، وتتحقق العدالة التاريخيّة، على الفلسطينيين مغادرة البلاد، ليس هذا فحسب، بل يتوجب طردهم من الأرض المقدسة -إن رفضوا المغدرة طوعاً- هذا ليس لأنهم يمثّلون “عرقاً” أدنى فقط، بل لأن وجودهم لا يتلاءم مع تعريف شعب إسرائيل لنفسه ولأرضه ولتاريخه وفقاً لسردية يوريس الصهيونية\ التوراتية المتجذرة في البناء اللاهوتي لـ “دولة إسرائيل” التي ترى في الفلسطينيين مقلوباً وجودياً لها ووجوداً طارئاً غير مرئي ينبغي التخلص منهم، أو حشرهم في “محميات ومخيمات لجوء”. فحتى الحاج إبراهيم، المتحدث باسم يوريس، والصديق المقرّب من الصهاينة والذي يخون شعبه إرضاءً لهم، من غير المسوح استيعابه في دولة إسرائيل “المتحضرة” لأنه شخص غير ذي ثقة واقل شأناً ومتوحشاً ولا يكافئ جدعون آش البطل الصهيوني نظراً لاختلاف عرقه بسبب دمه الأوروبي وتفوقه العنصري، وانطلاقاً من هذا، يظهر جدعون آش كبنية ترميزيّة لقدرة الاستعمار فرض السيادة والهيمنة، بغض النظر عن المخاطر والتهديدات التي تحيط له، فإسرائيل دولة حدود، هي استطالة “جغرافيّة\ استعماريّة” للحضارة الغربية، تقع عليها المسؤولية الأخلاقية، ليس في حماية المستعمرين فقط، بل أيضاً في حماية الحدود العسكريّة والسياسيّة للقوى الاستعماريّة الكبرى في الشرق الأوسط، وليس هذا إلّا صدى لما كان يردده هرتزل باستمرار-دون كلل- عن أن قيام دولة يهودية في الشرق الأوسط سوف يكون بمثابة حاجز أمام الهمجيّة الشرقية و درع يحمي الحضارة الغربية(13).
وهكذا يظهر جدعون آش البطل الصهيوني بطريقة يتمكن فيها من التغلب على جميع الأخطار والمؤامرات ويقف حارساً على الحدود الفاصلة بين الحضارة والهمجيّة، وهو يشبه نظيره الأمريكي، بطل الويستيرن، الذي يجمه بين نكران الذات في سبيل الغير وبين الفكرة “الصليبية” الحماسيّة لتدمير الشر، ومن هذه الخيرة يستمد يوريس جزءّ كبيراً من المعمار السردي والوصفي للرواية. فحين يتم تصوير آش بصورة البطل الصليبي القادم لتنقية الأرض من الدنس (أي العرب\ الإسلام) فهو سوف يصوّره بطلاً يواجه قوى الظلام التي تهدد المجتمع “السلمي” للمستوطنين ويصبح معادلاً موضوعياً لصورة الجنرال اللنبي التي رسمها ريموند سافاج في سرده للاحتلال البريطاني لفلسطين في العام 1917، والنظر إلى انتصار البريطانيين على الأتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى على أنه “الحملة الصليبية الأخيرة”، ووصف قائد الجيش البريطاني اللنبي بـ “هرمجدون” تلميحاً إلى أنه على الرغم من احتلال القدس ” المدينة القديمة حيث قدّم أبراهام العهد مع أبيمالك”، وانتصارات صلاح الدين في حطين وانتزاع المدينة المقدسة من يد الصليبيين، إلّا أن ما هم مهم، في اعتبار سافاج، دخول الجنرال اللنبي للمدينة المقدسة معلناً انتصاره على المشارقة المتوحشين بعد سبع مائة وثلاثين سنة من هزيمة الصليبيين(14).
وإذن، ليس مستغرباً أن تحفل الرواية بسرديات تكرارية للخطاب الصليبي القروسطي بهدف ربط الماضي بالحاضر وتبرير الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
وتكشف الرواية عن بعدها العنصري والإمبريالي من خلال زعمها بالتمثّل التاريخي للصراع في المنطقة ودمج الأحداث والحوارات بطريقة تخالف الحقائق التاريخية، ويستحوذ خطاب “العرق” و”الهيمنة” على مساحة كبيرة من الرواية، بما يتوافق مع ثقافة الكاتب الأمريكية( الرواية موجّهة بالأساس للجمهور الأمريكي). وبالتالي، يسهل الأمر على يوريس تصوير فلسطين قبل العام 1948 كأرض يهودية يسكنها-بصورة مؤقته وطارئة- قبال بدوية متوحشة، قدمت إليها من مجاهل الصحراء بفعل العوامل الاقتصادية والغزو والهب والسلب وطمعاً بمنجزات المشروع الصهيوني. وتقدّم الرواية، لقارئها الغربي، الكثير من المغريات التي تدعم الذاكرة الجماعيّة للثقافة الشعبية الغربية في شقّها المعادي للآخر “أي العرب هنا” والتأكيد على الصور النمطية المختزنة في هذه الثقافة عن البطل الأسطوري وصراع الخير والشر والشيطنة وغيرها، من خلال الاستفادة من النماذج العنصرية والاستعمارية التي أنتجتها الثقافة الأمريكية، فيقوم يوريس بإنشاء “خطاب متخيّل” يحلّ محل “الخطاب الحقيقي” لتقديم الوهم على أنه حقيقة ولتقديم التاريخ “الرسمي” كوصفة استهلاكية سطحية تعتمد على الأكشن والعنف والجنس والمؤامرة.. إلخ. ففلسطين، في الرواية، أرضٌ بدائية تسكنها قبائل متخلفة، أي الفلسطينيين، وهي بالتالي تشبه “مواطن سكّان القارة الأمريكية الأصليين قبل الغزو الأوروبي”، فالوجود الفلسطيني مثله مثل “الهندي الأحمر” وجود يهدد المشروع الاستعماري، وبالتالي، من الواجب القضاء عليه أو نفيه، ولا تختلف هذه المهمّة الصهيونية الخلاصية المسيانية كثيراً عن “خطاب الرغبة” الأمريكي، الذي هو امتداد للتمثيل العنصري المتجذر في الثقافة الأمريكية ( وكان يوريس قد أشار صراحةً في روايته الشهيرة “الخروج Exodus ” بأن ثمة جزء من التاريخ المكوّن لإسرائيل الحديثة يشبه كثيراً تاريخ أمريكا، فكلا البلدين وظّفا “أطروحة الحدود” بهدف التنمية العمرانية(15)).
لا يقوم المفهوم العنصري عن “الهمجية” الفلسطينية عند يوريس على التفسيرات الاجتماعية والثقافية والدينية والخلافات بين المستعمَرين والمستعمِرين فحسب، ولكنه يتضمن أيضاً مسألة “العرق”. فالفلسطيني، في الرواية، هو عربي من الناحية القومية ومسلم من الناحية الدينية وبدوي من الناحية الاجتماعية\الاقتصادية القائمة على نهب “الضعفاء”. وهذا الفلسطيني العربي المسلم البدوي يسترشد بـكلام “راعي إبل وتاجر جوّال” (16) وبالإرث الديني الإسلامي الذي لا ينتج عنه سوى العنف والكراهية.
تشويه التاريخ
لا تكف الرواية عن الربط الاعتباطي بين فلسطين و “إسرائيل القديمة”، ويتعلق الأمر هنا بعلاقة هذه الإسرائيل والكتاب [المقدس] بالاستعمار الاستيطاني للبلاد (رغم أن النصوص الكتابية نفسها لا تشير صراحة أو مواربة لانتماء بني إسرائيل لفلسطين(17)). وبدلاً من الإقرار بالطابع العنصري المتأصل في تلك النصوص كخطوة لرفض مفهوم الاستعمار الاستيطاني(18)، تبدو فلسطين بالنسبة ليوريس أرضاً يهودية أخذها العرب البدو بالقوة، لذلك لابد من غزوها وإعادة فتحها وإحيائها على يد الصهاينة الذين هم رسل الحضارة الغربية وأوصياء الرب على أرض الميعاد كما تذكر مرويات العهد القديم ذات التأثير الهائل على العالم المسيحي الذي تبنى إرث إسرائيل القديمة وحمل الكثير من العاطفة لـ”روحانية معنى إسرائيل العهد القديم”، حيث أصبحت هذه المرويات مداميك تأسيسية تأتلف بموجبها الجماعات البشرية عبر إعادة تدوير التأويلات المتحيزة للسرديات التوراتية و توسيعها لتشمل جميع الأمم و الشعوب.
بعبارة أخرى، لا يمكن لهذه السرديات في شكلها الأصلي( أي ارتباط المؤمنين بها بالادعاءات الإلهية لنصوصها) أن تفسر الرؤية المجتمعية لغزو بني إسرائيل أرض كنعان ما لم تحتفظ بتلك العاطفة اتجاه إسرائيل القديمة، وهذا ما يفسر تكاثر التأويلات والتنبؤات المتناقضة التي تروّج للعنف “الإلهي”، دون التمعن جوهرياً في الدور المتغير ظاهرياً لهذه السرديات في العهد الجديد مما يبرهن على استمرار الارتباط القوي بإرث الكتاب المقدس وموثوقية نصوصه لدى جموع المؤمنين.
مما سبق يمكن القول أن شرعنة العهد القديم لاحتلال الأرض و طرد سكانها يمكن قراءتها في المصطلحات الاستعمارية الاستيطانية، بما يمثل من استبدال السكان بوافدين جدد من خارج الحدود واعتبارهم – وحدهم دون سواهم- أصحاب الحيازة على الأرض. وينشأ ﻣﺜﻞ هﺬا اﻻدﻋﺎء عادةً ” ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﻜﺸﺎف أﻗﺼﻰ ﻣﺴﺎﺣﺎت اﻷراﺿﻲ، و” إعادة” تسميتها وﺗﻌﺰﻳﺰ ﺣﺪودها وتحريك هذه الحدود وﺗﻄﻮﻳﺮها بما يسمح باستيطان الكتلة البشرية الوافدة والمطالبة بالملكية الأخلاقية للأرض، فيصبح المهاجرون الجدد أسياداً فيها وعليها باعتبارها كانت” فارغة” قبل قدومهم. أرضٌ مهدورةٌ تملؤها المستنقعات والحشرات والأمراض والبدو قطّاع الطرق واللصوص اللذين أهملوها ولم يقوموا على خدمتها كما ينبغي ولذلك كان لابد لمشيئة الرب أن تسود من جديد ويعود نسل إبراهيم إلى “وطنه القديم ” ويمكنهم التغني- في لفتة استعمارية مذهلة- ” لقد اخترنا هذه الأرض؛ أخذناها و نحن من جعلها تطرح ثمارها” (19).
وبغض النظر عن موقفنا من الماضي وأحداثه, تبقى الاستجابة لمثل هذه القضايا الإشكالية رهناً بموقفنا الإيديولوجي بصورة عامة، ففي حين يتخذ العديد من ” المثقفين” و “المفكرين” في المجتمعات “الغربية” مواقفاً صارمة في مسائل تصفية الاستعمار أو الرفق بالحيوان أو حقوق المثليين أو البيئة .. إلخ، نجدهم لا ينظرون، ولو بالحدود الدنيا، بنظرة شك أو ارتياب إلى وجود وشكل ومستقبل دولة إسرائيل المعاصرة, بل أن البعض لا ينظر لها كـ “دولة احتلال” أصلاً .
في الواقع هذا بالضبط ما يقوم به يوريس، بالأحرى ما سمح ليوريس بكتابة ما كتب، أي التلاعب بالتاريخ لخلق واقع ملتبس عبر تقديم نسخة مشوهة عن الصراع و طبيعته، فإذا كان ما كتبه فرانز فانون صحيحاً بشأن العلاقة بين المستعمِر و المستعمَر (20), فإن يوريس يستخدم روايته كمنصة لطرح افتراضات إيديولوجية أحادية الجانب تتجاهل- بحكم طبيعتها هذه- تاريخ الفلسطينيين (المستعمَرين) بل تنفيهم من التاريخ -رغم أن هذا التاريخ يعدّ، من الناحية العقلانية، التاريخ الابتدائي للمكان- وتقدم، أي الرواية، تاريخاً استعمارياً بديلاً باعتباره عملية حتمية تهدف إلى نقل المنطقة إلى موقع حضاري متقدم، وبهذا تتحول الرواية من نص يفترض به أن يكون ذا قيمة أدبية إلى نص يتمترس في حيز السلطة والهيمنة والعلاقة بينهما ويسعى مادياً ورمزياً وحتى مجازاً إلى الإخفاء المتعمد للفلسطينيين من مخيلة القارىء ولو بصورة تعسفية.
ومن ناحية أخرى، وبالرغم من أن وجود الفلسطيني- أي الجوانب النفسية المتعلقة بعلاقة الجلاد و الضحية و تبادل الأدوار بينهما – يخدم أحد مبررات وجوده، أي وجود المستعمِر، فالفلسطيني -موجوداً- يعدّ بالنسبة له أحد الرواكز النفسية لضمان بقائه ضمن “نسقه الحضاري”، وسوف يكون سيء الحظ لو اختفى من حياته، فعدم وجود الضحية هو أحد أكثر لحظات الفشل (الذاتي والموضوعي) تجلياً عند الجلاد، مما يقلل من مساحة مناورته النفسية(21)، ويشبه هذا ما يدعوه ريناتو روزالدو بـ” توصيفات السردية الاستعمارية لمواقف الشخصية باعتبارها مواقع خصبة للحقل الإيديولوجي”(22). حيث يتم بناء ثقافات السكان الأصليين بشكل رمزي كآلية لإنتاج الأفكار الأساسية عنهم باعتبارها ثقافات “هشة” منقطعة عن اللحظة المعرفية المعاصرة، وتظهر هذه الهشاشة على لسان “ندى” ابنة الحاج إبراهيم حين تقول: “.. أنتم يا من تبكون على أنفسكم، حقّكم أن تبكوا عليّ أنا الآن، لم يكن مسموحاً لي أن أتنفس، بطريقة حرّة، ولو مرة واحدة في حياتي، أغلق على عقلي وصوتي ورغباتي في زنزانة، لا أستطيع أن أكون في غرفة حيث يجلس الرجال مجتمعين والتكلم بحرية، لا يمكنني على الإطلاق تناول وجبة طعام هناك، ولم أقم بذلك في حياتي قط، لا أستطيع السير وحيدة لأبعد من نبع الماء، ولا يمكنني قراءة كتاب حقيقي، ليس مسوحاً لي أن أغني أو أضحك حين يمر ذكر بقربي ولا حتى أمام إخوتي الذكور، لا أستطيع أن ألمس جسد صبي، لا يسمح لي في الجدل والنقاش، ولا أقدر أن أعصي أمراً حتى لو كنت على صواب. ومن المستحيل، بل من الواجب عليّ أن لا أتعلم، كل ما يمكنني فعله وقوله هو ما يسمح لي به الآخرون.. أتذكر ذات يوم في قريتنا رأيت فتاةً يهوديةً صغيرةً تنتظر الحافة على الطريق السريع مع والديها، كانت تحمل في يديها دمية صغيرة وقد أظهرتها لي وكانت جميلة جداً، لكنها لا تستطيع فعل شيء سوى فتح عينيها وغلقهما كلما تلقت ضربة على ظهرها.. تلك الدمية هي أنا”.
وفي حين يقر يوريس تحت عنوان “الواقعية السياسية” بوجود فلسطينيين على الأرض، إلا أنه يضع قيوداً و شروطاً على هذا الإقرار وعلى من ينطبق عليهم تعريفه للفلسطيني، ويمكن للمرء أن يلاحظ من أي مكان في فلسطين، سواء على حدود قطاع غزة أو في مدن وقرى ومخيمات الضفة أو المدن والقرى- الحية منها أو المدمرة- في مناطق الـ 48 الفلسطينية تلك “الأدوات الثقافية” لجموع السكان الأصلين سواء في طريقة اللبس والأكل والكلام والغناء والرقص والعبادة .. إلخ، وجزء كبير منها غير مرخص انتشاره من قبل السلطات الاستعمارية هناك باعتبارها أدوات تعبير ثقافية أقل تطوراً تنتمي لعرق أو سلالة أو شعب أقل تطوراً. (الملفت للأمر أن السلطات الاستعمارية ما فتأت تستولي على أشكال التعبير الثقافية للمستعمَر وتسطو عليها جهاراً نهاراً.). وبالتالي تظهر الرواية كسرد إمبريالي يدمج الأحداث والشخصيات بصورة ملفقة تجسد الفكر الصهيوني للمؤلف، ويتكثف السرد الدرامي في النص الروائي بضخ المزيد من الأساطير العنصرية المتجذرة في الثقافة والتاريخ الاستعماري الأميركي، والخطاب “العرقي” وتنميط الفلسطينيين كما لو أنهم وحوش لا يستحقون أن يكون لهم وطن بسبب الفجوة الحضارية الواسعة التي يمكن قياسها مجازاً بقرون ثقافية عديدة بينهم وبين “أبناء الرب”. ويتكرس تحيز يوريس ضد الفلسطينيين من خلال اعتماده سرداً يجسد منظوره السياسي وتقويل الأشخاص ما لا يعبر أو لا يمكن أن تصدر عنهم بقدر ما هي وجهات نظر الآخرين عنهم، فيذكر على لسان الدكتور نوري عالم الآثار “نحن أناس نعيش في الكراهية والظلام واليأس” و “اليهود هم جسر الخروج من الظلام”. إلى أن يقول في موضوع آخر “لا يستطيع الإسلام التعايش مع الغير بسلام، ونحن العرب هم الأسوء، فنحن غير قادرين على التعايش مع بقية العالم، بل ما هو أكثر فظاعة يكمن في عدم قدرتنا على التعايش مع بعضنا البعض، ففي النهاية لن تكون المعركة بين العرب واليهود، بل بين العرب والعرب، سيأتي يوم ينضب فيه نفطنا ونفقد قدرتنا على ابتزاز الآخرين.. ماذا قدمنا للعالم؟ فنحن على مدى قرون عديدة لم نساهم بما يخدم البشرية، إلا إذا كنت تعتبر القتل والإرهاب هدية للبشر، طال الأمر أم قصر لن يحترمنا أحد.. ونحن الذين سعينا لإذلال اليهود، سنجد أنفسنا أذلاء وحثالة الأرض”.
في الحقيقة من الصعوبة بمكان أن نعثر على عربي عاقل ومتزن يمكنه قول مثل هذا الكلام السابق حتى لو من باب جلد وكره الذات.. ليس هذا فحسب، فهذا العالم الآثاري يتحول إلى فيلسوف أخلاقي و واعظ جمالي يقدم لنا الحكم والنتائج الواحدة تلو الأخرى: “فنحن لا نحب أحد، فمنذ زمن ليس بقريب فقدنا قدرتنا على حب الغير، كتبت علينا الكراهية منذ أكثر من ألف ومئتي عام، حتى أمست هذه الكراهية إرثاً لنا يتجدد مع كل جيل، عقد إثر عقد، وقرن إثر قرن, وها هي عودة اليهود الآن فجرت كراهيتنا بطريقة عنيفة وبلا هدف وتحولت إلى قوة هائلة طائشة لتدمير ذواتنا وخلال عقد أو اثنين أو حتى ثلاثة عقود قادمة سوف يستهلك الإسلام نفسه إلى حد الجنون.. لا.. لا.. نحن- إلى الأبد- لا يمكننا التعايش مع ذواتنا، ولا مع العالم الخارجي أو حتى الاندماج فيه، لا نملك القدرة على التغيير، ها هو الشيطان الذي حولنا إلى مجانين يلتهمنا الآن بدوره، ولا نملك من أمرنا شيء، وإن لم نتوقف عن كل هذا الجنون فإننا نسير بالعالم بلا شك نحو الهاوية، نحو الحريق الكبير. ما نشهده اليوم يا إسماعيل هو بداية هرمجدون”.
قد يقول البعض -معترضاً- أن هذا عمل روائي، ومن حق الروائي تقديم الصورة كيفما يراها طالما تخدم فكرته، ولكن حتى لو تغاضينا عن هذا فمن الصعب القبول بها إن تخطت حدود العقلانية، فعلى سبيل المثال يجعل يوريس من الحاج إبراهيم خبيراً في السياسات العرببة ويتمتع بدرجة عالية من الإمكانيات الذهنية تجعله قادراً على تحليل وفهم الصراع العربي الإسرائيلي، رغم أنه شخص غير متعلم، ويهمس لنا يوريس بأن هذا لا يعود إلى صداقته مع جدعون آش، وإنما بسبب لقائه ومعاشرته لعاهرة أوروبية، أرشدته إلى حيلٍ وطرقٍ جديدةٍ للاستماع بالجنس، فتفتّح عقله ما جعله يستنتج أنه إذا كان بإمكانه أن يتعلم كل هذا من امرأة فيمكنه تعلم المزيد من اليهود. فيتحول الحاج إبراهيم إلى “محامي الشيطان” في المعسكر العربي، ورغم كون يوريس صهيوني بامتياز، غير أن الكلمات التي يجعل الشخصيات العربية ينطقون بها تعكس ارتباكاً حقيقياً في شرحه لقدرة الثقافة القبلية لهم التغلب على العقلانية مما يكرس دونية العربي سواء داخل وطنه أو خارجه، فيظهر الفلسطيني ابن مجتمع تلقيني هاجسه الكراهية والانتقام وحسوداً للمجتمع الإسرائيلي بسبب حرية التعبير وسيادة القانون هناك، وهكذا يظهر الفلسطيني جاسوساً وخائناً ومهووساً في الجنس، وهذه الصورة الأخيرة هي في الأصل اختراع “ثقافي” أمريكي استخدم للحط من القيمة الأخلاقية للأقليات، لاسيما المنحدرين من أصول أفريقية في للولايات المتحدة في عهد العبودية. ويتم تكييف الصورة النمطية هذه في الرواية لتتناسب مع الأغراض الإيديولوجية للمؤلف، مثلما هو حال التأكيد على الطبيعة الشرسة للفلسطينيين، حين يروي قصة هاني المتهم بقتل سيدة يهودية داخل حديقة منزلها، حين يقتحم مسكنها بهدف السرقة، لكنها تكتشف أمره فيحاول الهرب وأثناء محاولتها اللحاق به تقع على الأرض فيرى هاني جسدها العاري فيغرق في الشهوة فيهجم عليها و يمزق ما بقي عليها من ثياب محاولاً اغتصابها، ولكن المرأة اليهودية تقاومه وتضربه وتبدأ في الصراخ (23), وحالما يصل رجال الكيبوتز إليها يكون هاني قد لاذ بالفرار وتكون السيدة قد لاقت حتفها، طبعا لن يفلت هاني من العقاب، حين يحصل جدعون آش على موافقة الحاج إبراهيم لقتل هاني مقابل السماح لأهل قريته بالحصول على المياه.
وإذن هذه هي قصة الفلسطينيين بكل بساطة وسطحية وابتذال، فالقضية ليست قضية وطن محتل ولا اقتلاع قومي ولا اضطهاد قومي ولا بطيخ .. كل ما في الأمر حسد وغيرة ونسوان .. وصراع على حفنة ماء كاستعادة لجملة بيتر أوتول الشهيرة في فيلم لورنس العرب “أيها العرب إلى متى ستظلون تتقاتلون على حفنة ماء” ( لعب بيتر أوتول دور لورنس في الفيلم).
لا يغيب عن بال يوريس الإشارة إلى أن الإسلام يشكل مصدر ذعرٍ ليس للمستعمِرين فقط، ولكن أيضا للسكان العرب في قرية الحاج إبراهيم. فيعزل إسماعيل( ابن الحاج إبراهيم) نفسه لفقدانه المعنى الحقيقي للإيمان بدين لا ينتج سوى الألم والمعاناة، ويشبه هذا موقف شارل معاني ” المسيحي”، الذي يرى في عرب فلسطين مجتمع يائس وجاهل بسبب الإسلام، فهذا الدين -بزعمه- سيقود من يؤمن به إلى الجنون، لأنه دين مدمِّر.. “شيطان يفترسنا ويقودنا للجنون”، وبحسب يوريس -ودائماً على لسان شارل معاني- تكمن الإمكانية الوحيدة المتاحة لخلاص الفلسطينيين في التخلي عن التقاليد الإسلامية / العربية وفي أن يصبحوا جزءً من الدولة اليهودية. يقول شارل “ماذا فعل بنا اليهود بالمقارنة بما فعله بنا العرب”؟
مثل هذا التساؤل، وغيره يتيح ليوريس تسويغ سلسلة الحروب “الحدودية” التي تفصل المستوطنين عن الفلسطينيين آخذاً بعين الاعتبار أنها تشكل مرادفاً معاصراً للحروب الصليبية القروسطية. ويلعب جدعون آىش وجماعته في فلسطين دوراً هاماً ومحورياُ في عملية إعادة خلق الشعب اليهودي كأمة حضارية لشعب قديم قد عاد مجدداً لوطنه القديم بموجب الصك الإلهي المتجدد غير القابل للتجيير أو التعديل أو الإلغاء.
بكلام آخر: شكلت مثل هذه المبالغات في تصوير الشخصية اليهودية \ الصهيونية والمجتمع الاستيطاني { الييشوف} ومازالت تشكل جزءً تأسيسياً جوهرياً من العقيدة الصهيونية التي هي بدورها أساس البنية الدرامية للرواية بما تنطوي عليه من مقارنات وثيمات مضللة تلقينية سطحية بين “الليبرالية والثقافة العالمية المنفتحة لليهود” من جهة، وبين “ثقافة الصحراء المتخلفة المتمثلة في الخيانة والارتياب والكراهية والهوس الجنسي والعنف” من جهة أخرى، وهو ما يعني ضمناً أن استحالة “المصالحة” بين الفلسطيني واليهودي\ الصهيوني\ الإسرائيلي لا يعود إلى ما يسمى حقوق سياسية أو نزاع على ملكية الأرض أو ما شابه ذلك، بل يعود إلى الاختلافات “العرقية” والثقافية بينهما، وبذلك يستبدل يوريس- بوصفه روائي ومثقف وعبر تقنيات متعددة لكتابة و تأويل التاريخ – الخطاب الأدبي\ السياسي الحقيقي بخطاب آخر وهمي يمتلك تأثير هائل متنوع نفسي وذهني ومادي على المستعمَر يستهلك فيه التاريخ ويجعل من هذا الوهم نموذج من التفكير المرغوب فيه لتبرير الحالة الاستعمارية من خلال تصويرها كحركة حتمية “تاريخية” تقدمية في طريق بناء الحضارة الإنسانية. فعملية صنع التاريخ التي يسعى المستعمِر من خلالها إسكات التابع المستعمَر هي أداة للهيمنة الاستعمارية لأن المستعمِر يهدف ليس فقط للسيطرة على البلاد فحسب ولكن لفرض تاريخه الخاص والنماذج الثقافية، باتباع وسائل وتقنيات متعددة لكتابة التاريخ من وجهة نظره، لما لهذه العملية من تأثير هائل متنوع نفسي وذهني ومادي على المستعمَر حتى بعد أن ينجز استقلاله..
“الحاج” كرواية “دولة الحدود”
لابد من التوقف- استطراداً- عند نشأة مفهوم “دولة الحدود” في الذهنية الأمريكية -ويوريس جزء منها- بما يخدم موضوع البحث هنا. فخصائص الثقافة الأمريكية التي نعرفها نشأت من التشبع العميق لأفكار” الحدود” كمواقع طرفية في المجتمع يتشكل فيها المعنى الثقافي لـ “الحياة الحدودية”, فسمات حياة الحدود المفعمة بالطاقة القلقة؛ و الهيمنة الفردية، و الخير و الشر و الحماس الممزوج بالحرية (24) , كلها سمات تتصف بالخشونة والقوة و الحدة والفضول؛ و الامتثال العقلي العملي للابتكار و البحث عن الحلول و الأدوات و الوسائل و الفهم البارع للاستفادة من الأشياء المادية ذات التأثير القوي في بلوغ الأهداف حتى لو افتقرت -في البداية-لتلك اللمسة الفنية. وعلى الرغم من أن الجمهور الأمريكي أصبح ينظر اليوم إلى ثيمة الحدود هذه كقصة رومنسية ذات تنويعات تأويلية متعددة ومعقدة تشتمل على الأساطير المؤسسة للأمة, فقد مثّل التوسع في الحدود بالنسبة لأمريكا معنىً رمزياّ, فضلاً عن المعنى الجغرافي المتمثل بالبعد عن التأثير الأوروبي، بما يمكن لهذا التوسع أن يقدم “الجزء الأمريكي الحقيقي من تاريخ أمريكا البيضاء”(25). حيث تعتمد عقلية الحدود الأسطورية في الثقافة الأمريكية على عقيدة الإيمان بالاستكشاف و الاستيطان. فعلى الرغم من زعم السكان الأصليين بوجودهم منذ آلاف من السنين فإن كولومبوس هو من “اكتشف” أمريكا. وتتطلب عقلية الريادة الإيمان بحق الاستيطان وهو حق يمكن المجادلة بأنه حق إلهي، وفي أحيان أخرى حق مكتسب كنتيجة لإحساس الجماعة بالتفوق، وفي بعض الأحيان مزيج من الإثنين معاً. فأية قصة غزو أو احتلال أو فتح هي بطبيعتها قصة ذات تمركز إثني، وفي حالة الرواد الأميركيين، شجع نجاحهم في مواجهة عدو يفوقهم عدداً لكنه أقل قوة مطالبتهم بالغرب الأمريكي. و في المقابل, مثلت “معركة الحدود” في إسرائيل الحديثة نوستالجيا حادة عند الأمريكيين كمعيار تمييزي لاستيطان “ما وراء الحدود” على يد رجال حديثين أقوياء ورواد مثاليين تخلوا عن هوية ” شيلوك المرابي” و ” اليهودي المرتحل” ليتحولوا إلى ” صابرا” بما يمثله هذا التعبير من مجاز واضح , فثمار ” الصبار” مليئة بالشوك من الخارج, لكنها من الداخل طرية و ذات مذاق حلو, وهكذا كان الصابرا , رجال صعبين ظاهريا, لكنهم عكس ذلك من الداخل يمتازون بالعطاء الدائم دون كلل أو تذمر, وقد شاع مفهوم الصابرا في أمريكا بفصل الصحافة و الخيال الشعبي وكثيراً ما كان ينظر إليهم كرجال شديدي الشبه بالرواد الأمريكان الذين فتحوا الغرب وكثيراً ما كان يتم المزج بين صورة الشباب الأمريكي و الصابرا الإسرائيلي. وسوف تصبح إسرائيل- من خلال صورتها الخاصة هذه في الوعي الأمريكي- تجسيدًا لذات الرابطة الأسطورية التي يمتلكها الأمريكيون عن روادهم وجنودهم, الأمر الذي يسمح لهم -دون أي قلق نفسي- الإيمان حقاً بفضائل استخدام القوة في سبيل استيطان و استعمار الأرض كوسيلة مشروعة للتوسع الإقليمي وهذا عملياً ما تقوم به إسرائيل وينظر له الأمريكيون كسلوك شرعي له ما يبرره , وإن كان يسبب هذا السلوك آلاماً معينة عند البعض ( كالفلسطينيين ومن يؤيدهم). ( من الشائق هنا متابعة معنى كلمة استعمار في تلك المجتمعات ووقعها النفسي و الاختلافات الجوهرية لهذا المعنى و الأثر عند المجتمعات التي عانت من الاستعمار).
ولكن كيف تحولت قصة تفتقد إلى حوامل ثقافية مثل قصة ” الحدود” و الغرب الأمريكي إلى قصة مكاسب أبدية؟ كيف تحول هذا الهامش إلى مركز الأرض و قلبها النابض؟ كيف كان على هذا الشعب “المختار” “احتلال” أرضه “المختارة” و إنشاء “إنكلترة جديدة حقيقية” أو “أورشليم جديدة”؟
لقد مثلت هذه الأسئلة ذات الطابع الوجودي قضية شائكة ينبغي حلها, ومن الواضح أنه لا يمكن الإجابة على جميع تلك الأسئلة مادام هناك “شعب وثني” يحتل مجاهل الصحراء الأمريكية America Deserta ذلك الفراغ الكبير الذي تصوره البوريتان الأوائل على أنه برية غير مأهولة سيبنون عليه مدينة الرب بوصفهم الإسرائيليين الجدد, ولكي ينجزوا هذه المهمة ينبغي للأرض أن تكون “فارغة” ينبغي لسكانها الأصليين مغادرتها نحو المنافي لافتقارهم إلى الإيمان و لعدم نقائهم “العرقي”, سوف يكون وجودهم هامشياً بالنسبة للأوروبيين الأكثر إيماناً و نقاءً (26). ولايمكن لسردية الاقتلاع القومي هذه أن تزدهر بغياب مفردات جديدة في عقول أولئك الرواد, وعلى عكس الغزاة الإسبان -الذين هم غزاة من حيث التعريف- يعتبر الرواد الأمريكيون مشروعهم مسألة “استيطان” وليس” اجتياح” والتحرك غرباً إنما هو ” تحرك توسعي” وليس “غزواً”(27). والتوسع هنا ليس اختياراً بقدر ما هو مصيراً جليّ Manifest Destiny ، لأنه يعني من ضمن ما يعني حركة “تقدمية” بطبيعتها، فالاستكشاف و التوسع يحرضه خيال غائي يتتبع مساراً مزدوجاً لتلك الحركة “التقديمة” فلكي تكون تلك الحركة توسعا و ليس غزوا لابد أولاً من تصور الأرض كما لو أنها أرض بكر شاغرة . و ثانيا، إذا لم تكن الأرض بكراً وخالية، فلا بد أنها سكنت من قبل ناس لا يستأهلون سكنها:
“تلك البريّة اليباب المتصدعة
الخالية من ساكنيها
إلا أولئك المتوحشون
عبدة الشياطين”(28)
مثل هذه الأسطرة تعد تشويهاً للتاريخ وتسطيح للأحداث تتجاوز الثيمات المفترضة في سرد الأحداث التاريخية و عناصرها المتعددة, ويمكن اعتبار أسطورة الريادة جزء من ” مجموعة الأدوات الثقافية” التي ينظر لها كوسيلة لتفسير التاريخ ورؤيتنا للعالم(29). و بالتالي وجدت تصورات الإسرائيليين عن أنفسهم منذ أربعينيات القرن الماضي صداها في التراث الثقافي الأمريكي، وفي عقول الأميركيين, فاستطاعت إسرائيل تأطير ذاتها بما يتناسب مع أسطورة النزعة الريادية للفاتحين من خلال خلق موازيات إسرائيلية تقابل الموازيات الأمريكية و تتمثل في إعادة إحياء إسرائيل القديمة في أرض كنعان بطريقة تظهر التماثل المصيري للمسار المشترك لكل من إسرائيل و أمريكا باعتبار أن فلسطين-مثل أمريكا- قبل الغزو- أرض فارغة مهجورة لا احد يرغب فيها, ولاشك أن النخبة الأمريكية لعبت دوراً لا يستهان في تضخيم مثل هذه التخيلات عن الإنجازات “الحضارية” لمجتمع المستعمرين في فلسطين, ولا يغيب عن بالنا في هذا الصدد أن دافيد بن غوريون كان الموضوع الرئيسي لغلاف المجلات الأمريكية على مدى عدة سنوات وغالباً ما يتم ربطه بالموتيفة الرمزية للريادة و اقتحام مجاهل الصحراء وتطويعها وتحويلها إلى جنة خضراء (30) , ورغم صرامته و قسوة ماضيه فهو معروف بتواضعه وزهده. فضلاً عن القصص الأخرى التي امتلأت بها الصحافة الأمريكية عن التطورات الهائلة في المكننة الزراعية و الكهرباء و استجرار المياه والنهوض العمراني وهي أمور كانت تتميز بروح الريادة أكثر من ارتباطها بمسائل الابتكار التكنولوجي الغربي. وقد وصفت افتتاحية الواشنطن بوست في العام 1957 ،إنجازات إسرائيل بأنها استعراض إعجازي للتقدم و للمنجزات التي حققتها إسرائيل خلال عمرها القصير نسبياً: ” لو كان مقدراً لصحراء ما من هذا العالم أن تزدهر مثل وردة فهذه الصحراء هي إسرائيل الحديثة”. ويعود السبب في ذلك إلى ” العقيدة القومية الإسرائيلية ” المسؤولة عن ” نجاح إسرائيل وقوتها التي لا تقهر و التي تعبر عن روح رائدة كامنة منذ ألفي سنة من التاريخ المأساوي. “(31) .
يضمّن يوريس في تصويره للمجتمع الفلسطيني – بعكس الحكمة التي نطق بها المنظّر السياسي الأمريكي من أصول تشيكية كارل دويتش بأن “الأمة مجموعة من الناس يوحدها خطأ مشترك حول أصلها وعداء جماعي تجاه جيرانها”- اثنتين من الأساطير المؤسسة للأمم: أسطورة الأرض البكر و أسطورة المجموعة الصغيرة من السكان التي تغزو الأرض و تفتحها و تقوم بإعادة إحيائها من جديد, ويظهر التاريخ العسكري والريادي لإسرائيل كأنه تكرار مكثف للتاريخ الأمريكي، بوصفه حروب دفاعية ضد جيران معادين. ويلعب مفهوم “القدر” دوراً هاماً في تسويغ التوسع الإقليمي, كما تتيح القصص القومية للنزعة الريادية لإسرائيل مكاناً لها في الأسطورة الأمريكية، ونظراً لهذه السمات المشتركة بين “تاريخ” البلدين فقد كرست الثقافة الشعبية الأمريكية إسرائيل باعتبارها دولة رائدة جديرة بالدعم, و يمكن التوصل إلى جوهر هذه النتيجة من خلال التعرف على نزعة الريادة في الثقافة الأمريكية المتمثلة بغزو الحدود باعتبارها تمثل” بوابة للانعتاق, حيث الفردية والمساواة الاقتصادية والديمقراطية العامة، والارتقاء إلى مصاف السادة ( تحول رجل الكاوبوي من قاطع طريق و لص إلى تاجر أو صاحب مزرعة أو مصرف … إلخ , مثلما تحول موشيه دايان من رجل عصابة إلى جنرال إلى وزير و إلى جامع آثار [ في الحقيقة دايان لص آثار].
تندمج كلتا الأسطوريتين التأسيسيتين ( الأرض البكر و الفارغة من السكان) في الثقافة الأمريكية بصورة عميقة لما تنطوي عليه من أهمية في التاريخ الأمريكي من خلال سردية تشكيل ” الأمة الأمريكية” ويعزز يوريس هذه السرديات الأسطورية بتأكيده على الصورة النمطية لفلسطين باعتبارها أرض فارغة غير مأهولة تنتظر بفارغ الصبر وصول المستعمرين لإعادة الحياة لها, ولا ينسى يوريس اختزال السكان قدر المستطاع ليتسنى له لاحقاً التسويغ الأخلاقي لترحيلهم أو القضاء عليهم أو على الأقل, الهيمنة عليهم, ولذلك لابد من ترافق أسطورة العدد القليل من السكان مع أسطورة الأرض البكر بما يناسب المذهب الاستعماري باعتباره المقدمة لتحقيق النصر على تلك القلة من السكان المتوحشين, وتوصيف الفلسطينيين كأقلية يناسب هذا الطرح, لأن وجود عدد لابأس به منهم سوف يفهم منه بلا شك وجود بنى اجتماعية فيما بينهم و نظام حكم و ثروات .. إلخ, بينما القلة تعني الفوضى الواسعة وهيمنة ثقافة بدوية قبلية.
وتوصيف الفلسطينيين كأقلية يناسب هذا الطرح، لأن وجود عدد منهم سوف يفهم منه بلا شك وجود هيكلية اجتماعية فيما بينهم ونظام حكم وثروات .. إلخ بينما القلّة تعني الفوضى الواسعة وهيمنة ثقافة بدوية قبلية، وتتمثل نزعة الريادة في الثقافة الأمريكية بغزو الحدود باعتبار هذه الأخيرة تمثل “بوابة للهروب، حيث الفردية والمساواة الاقتصادية والديمقراطية العامة، والحرية في الارتقاء إلى مصاف السادة،
صاغ يوريس نموذج بطله على صورة البطل الغربي” الأسطوري: باعتبار هذا النموذج ظاهرة عابرة للثقافات والتزم بالمثال الأمريكي, مع الأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة و إسرائيل هما قوى استعمارية ودولتي “حدود” من حيث نشأتهما و توسعهما, ولذلك سوف يعكس البطل الأسطوري صورة الاستعمار كما يراها الكاتب بالطريقة التي أراد و يريد أن يرى نفسه كبطل قوي مفتول العضلات و مستقيم أخلاقياً, وفي هذا السياق يجسد جدعون آش أنماطا “السلوك الحضاري الهوليوودي ” المطلوبة, فهو شخص نبيل و أخلاقي و جريء و مقاتل بعكس الفلسطينيين اللصوص و الهمج و المهووسين بالجنس و الغارقين في النذالة و التآمر, يظهر جدعون آش كرجل مسالم “لا يحمل سلاح” أتى إلى المنطقة لتحديثها و نقلها إلى حافة الحضارة بعد أن ظلت مستنقعاً آسناً لعقود طويلة, ورغم أنه مسالم, لكنه يدافع بقوة عن المستوطنات اليهودية بطريقة لا تشعرك أنه يفقد السيطرة على نفسه مثل العرب المتعطشين للدماء من خلال غزواتهم ضد المستوطنات حين يصرخون “الله أكبر”.
ويدفع الالتزام الأخلاقي لجدعون في سعيه لتحقيق العدالة و مواجهة الشر أن لا يكون سعيداً حين يقتل أحدهم، فهو ليس قاتل بطبعه وهذا ليس من شيمه، تماماً، مثلما نظرت غولدا مئير إلى نفسها وإلى الفلسطينيين باعتبارهما كيانين منفصلين مكانياً و ثقافياً وسوف تشتكي- حين تحاول أن تبرز “عمقها ” “الحضاري” و ” الإنساني”- بأنها يمكنها أن تسامح العرب على قتل الأطفال اليهود، لكن لا يمكنها أن تسامحهم بإجبارها على قتلهم ( أي قتل الفلسطينيين) وهذا تخريج استعماري وعنصري فظ لمقولتها الشهيرة” الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت”.
هذا هو بطل ليون يوريس , وهو لا يختلف كثيراً عن البطل الأمريكي المكرس لإنقاذ الضعفاء والذي لا ينتظر شكر على عمله, بل يختفي بعد اكتمال مهمته في أقصى “الحدود”, وكذلك جدعون آش” ثعلب الصحراء” يختفي دائماً في البوادي بعد القضاء على الأشرار كمعادل موضوعي لوظيفة البطل ” الأبيض” رمز الحضارة الغربية وهو بهذا لا يقترب من صورة البطل الأسطوري العابر للثقافات فقط، بل يكاد يتاخم أو يزاحم تصورنا عن الأنبياء بصفته قادم لنصرة الفقراء و الضعفاء (لا يضير جدعون آش تقديم المساعدة للنساء و الأطفال الفلسطينيين، فكثيراً ما يتدخل لإنقاذ ” الأبرياء” منهم و ” الضعفاء” ضد هجمات المستوطنين الانتقامية) . وفي حين يؤيد يوريس بطريقة لا لبس فيها ثبت العنف والاستيطان اليهودي في فلسطين، فإنه ينطلق من واقع ثقافي لمجتمع “غربي” هو بالأساس نتاج هذا النوع من الاستعمار الاستيطاني، ويمكن بمزيد من التحليل استنباط دور وأثر “النصوص” الدينية في دعم الاستعمار الاستيطاني. وبشكل أكثر تحديداً تعيينها وفقاً لآليات الاستعمار الاستيطاني الذي تروّج له رواية” الحاج”.
تبدو فلسطين -كما يراها يوريس، أو يريد لنا أن نراها -أرضاً يهوديةً أخذها العرب البدو بالقوة، بقيادة صلاح الدين، لذلك لابد من غزوها وفتحها من جديد، وإحيائها على يد الصهاينة، الذين يمثلون الصليبين الجدد، بما يضمن من جديد هيمنة الدين المسيحي الغربي والحضارة الغربية على الأرض المقدسة. وفي سياق هذه المعركة يمكن ليوريس أن يبرر سلسلة الحروب ” الحدودية” التي تفصل المستوطنين عن الفلسطينيين آخذاً بعين الاعتبار أنها تشكل مرادفاً معاصراً للحروب الصليبية القروسطية، علاوة على ذلك، يلعب آش وجماعته من المستعمِرين في فلسطين دوراً هاماً ومحورياُ في عملية إعادة خلق الشعب اليهودي كأمة حضارية قديمة تعود إلى وطنها القديم بموجب الصك الإلهي المتجدد غير القابل للتجيير أو التعديل أو الإلغاء، بمعنى أن مثل هذه المبالغات في تصوير الشخصية اليهودية \ الصهيونية والمجتمع الاستيطاني { الييشوف} شكّلت ومازالت تشكّل جزءً تأسيسياً جوهرياً من العقيدة الصهيونية التي هي، دورها، العمود الفقري للسردية الدرامية لرواية “الحاج”، بما تنطوي عليه من ثيمات مضللة عن الخلفية التاريخية للثقافة والتقاليد والعادات العربية السائدة آنذاك ومقارنات تلقينية ساذجة وسطحية واعتباطية بين “الليبرالية والثقافة العالمية المنفتحة لليهود” من جهة وبين “ثقافة الصحراء المتخلفة المتمثلة في الخيانة وعدم الثقة والكراهية والهوس الجنسي والعنف عند العرب”، فعملية صنع التاريخ التي يسعى المستعمِر من خلالها إسكات التابع المستعمَر هي أداة للهيمنة الاستعمارية لأن المستعمِر يهدف ليس فقط للسيطرة على البلاد فحسب ولكن لفرض تاريخه الخاص والنماذج الثقافية، فهو- على حد قول فرانز فانون- “لا يكتفي بالسيطرة على البلاد فقط، من خلال إحكام قبضته على رقاب الناس، بل يهدف إلى تفريغ أدمغتهم شكلاً ومضموناً، فيشوّه ويدمّر ماضي الشعب المظلوم عبر منطق مشوّه و منحرف”
…..
هوامش
بودي أن اشكر الصديق زياد سيقرق رئيس تحرير وصاحب مجلة الأبجدية الأولى الإلكترونية الذي أتاح لي فرصة نشر هذه الدراسة على صفات جلته في عددين متتالين 15 و 16 ويمكن الرجوع إليهما من خلال الروابط التالية
الجزء الأول ، العدد 15: http://online.fliphtml5.com/shhn/ifmn
الجزء الثاني العدد 16 : http://online.fliphtml5.com/shhn/xnwp/
1–ليون ماركوس يوريس ( 1924-2003) روائي أمريكي يغلب على إنتاجه طابع الرواية التاريخية من أهم رواياته ” الخروج Exodus ” سنة 1958 ( تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة بول نيومان) و رواية “الحاج The Haj” سنة 1984 ، فضلا عن أعمال أخرى عديدة انهمك فيها في الترويج للتفسير الصهيوني لتاريخ اليهود الحديث. ولد ليون يوريس في ولاية ميريلاند لعائلة يهودية والده من أصول بولونية ووالدته من أصول روسية، وكان والده قد أمضى عاما في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى قبل هجرته إلى الولايات المتحدة. واسم يوريس Uris مشتق من الكلمة العبرية يروشلايمي ירושלמי وتعني ” الأورشليمي، أو الذي من أورشليم”. التحق وهو في السابعة عشر من عمره بمشاة البحرية الأمريكية “المارينز” في العام 1942، ومثله مثل نظرائه المعاصرين جيمس جونز ونورمان ميللر، خدم في حملة المحيط الهادي خلال الحرب العالمية الثانية، وبسب إصابته بالملاريا تم إعادته إلى الولايات المتحدة، وبعد انتهاء خدمته العسكرية، بدأ يكتب للصحافة عن تجربته في المحيط الهادي، واتخذ أسلوباً يمجد فيه الجيش والحرب، فظهرت روايته الأولى Battle Cry التي حققت أفضل المبيعات، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي. و تعد رواية الخروج من أهم كتابات يوريس وهي التي صنعت له الشهرة و يظهر فيها بوضوح التزامه وموقفه من إسرائيل .
2-ينبغي التنويه بأن الطبعة الأولى للرواية ظهرت في العام 1984 في الولايات المتحدة الأمريكية باللغة الإنكليزية {وعلى حد علمي لم تترجم للغة العربية بعد}, كما أن أسماء الأشخاص ووقائع معيشهم اليومي والعديد من الأماكن ليست سوى خشبة مسرح خيالية حاول الكاتب من خلالها أن يعالج درامياً قضايا الصراع العربي الإسرائيلي وبث أفكاره وتصوراته وحلوله المقترحة للمنطقة ومستقبلها.
3- تكاد تنحصر الصور النمطية عن العرب والمسلمين في الخطاب الغربي في ثلاث نماذج عريضة: النموذج الأول يمثله الإرهابي الانتحاري، عدو الحياة والمثير للاشمئزاز، النموذج الثاني الشيخ الغني الشرير المهووس في الجنس، النموذج الثالث اللص قاطع الطريق الجشع والوغد والجبان. ويتفق كل هؤلاء على الكراهية والتعصب ومعاداة الغرب و”أمريكا” وإسرائيل واليهود والمسيحية، ويحتقرون الحرية والديمقراطية ويضطهدون المرأة ولا يؤمنون بالحقوق الشخصية والحريات الفردية.. باختصار، هم أجلاف، بدو سكان صحراء متعطشين للقتل ملابسهم وسخة ورائحتهم كريهة. وانعكاس صورة العربي هذه في رواية “الحاج” ليس سوى امتداد للتمثيلات والصور النمطية التي يسعى الاستشراق لاستدامتها عن أفريقيا والشرق الأوسط. ويستند توصيف يوريس للمجتمع الفلسطيني في الرواية وفقاً للصورة النمطية والنماذج المذكورة أعلاه التي تخترق السرد وترسم الشخصيات، مما أفقد العمل الروائي وظيفته الأدبية الفنية وحوّله إلى نوع من “الخطاب الأخلاقي” حول شرعية الاستعمار تحت شعار “إذا انهارت إسرائيل، فسوف ينهار الغرب معها”.
4- تبدأ الرواية في صفحتها الأولى بمشهدية درامية تقليدية، حيث يجلس الشاب إبراهيم على طرف السرير قرب أبيه، الذي يعاني من سكرات الموت، ويقوم الشيخ الأب بسحب خنجر مرصع بالجواهر من تحت وسادته ويقدّمه لابنه (كناية عن انتقال السلطة له) فيحتج إبراهيم على اعتبار أن الخنجر من المفترض أن يكون من نصيب شقيقه فاروق، فيهز الأب رأسه بنفاذ صبر ويقول بلغة تقريرية جافة ” أخوك كلب بلا أنياب.. ينبغي للسلطة أن تبقى في يد عائلتنا، ها هم أفراد العشيرة خارجاً يتهامسون فيما بينهم لاختيار مختار جديد”، ثم يدفع بالخنجر ويضعه في يد ابنه ويردف “قد تراه صغيراً .. نعم، هو خنجر صغير، لو شئت النظر إليه كسلاح، ولكن هذا هو السلاح الذي نحكم به قومنا، وهم يعرفون معنى الخنجر ومعنى وشجاعة الرجل الذي يحكم قبضته عليه “.. للمزيد انظر The Haj; leon Uris. Doubleday, 1984.
5 The Haj; Leon Uris. By: Doubleday. New York ,1984, p 17
6 Ibid.,21
7 Ibid.,15
8 Ibid.,14
9 Ibid.,15
10 Ibid.,275
11- يقول يوريس في أحد المقابلات معه “إن أول شيء عليك القيام به هو الانغماس في مشروعك، وتنظيم نفسك، و أن تعرف إلى أي المطارح سوف يقودك عملك و ماهي الأشياء التي ينبغي لك تجنبها ومن المهم أن تعرف ما هو المهم و ما هو الأكثر أهمية في الكتابة. هذا هو الأساس الذي تبنى عليه الكتاب. “و على سبيل المثال أثناء كتابة روايته الشهيرة ” الخروج” سافر 12000 ميل داخل إسرائيل وقابل حوالي 1200 شخص (لم يقل لنا كم فلسطيني كان من بينهم), كما عمل مراسل خلال حرب 1956 و كتب سيرة ذاتية بعنوان “ممر متلا” استناداً إلى تجربته تلك.
12- للمزيد عن هذا الموضوع، انظر، Ben-Gurion, The Redemption, Der Yiddisher Kempfer, 39, 16 Nov. 1917,( Quoted from Idith Zertal, Israel’s Holocaust and the Politics of Nationhood (Cambridge Middle East Studies) Cambridge University Press, 2005, 39
13-يقول هرتزل في يومياته عقب انتهاء المؤتمر التأسيسي ( الأول) للحركة الصهيونية عام1897، في بازل السويسرية” لو أردت أن أختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة – وهذا ما لن أجاهر به صراحة – لقلت: في بازل أسّست الدولة الصهيونية. ولو قلت ذلك اليوم لقابلني العالم بالسخرية والضحك. ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد، سيرى هذه الدولة جميع الناس”
14 Rymond Savage: ALLENBY OF ARMAGEDDON: A RECORD OF THE CAREER AND CAMPAIGNS OF FIELD-MARSHALL, VISCOUNT ALLENBY GCB, GCMG.,p 217. Hodder 15-“لم تتوقف[هناك] أصوات المطارق و لا صوت خلاطات الخرسانة ولا الشرر المتطاير من قضبان اللحام, وكان لوقع طرقات الحفر المتواصلة صوت يشبه الموسيقا ..كل هذا لم يتوقف في إسرائيل”…”هل يمكنك أن تصدق أن هذا المكان كان قبل بضع سنوات فقط مجرد صحراء مترامية الأطراف …” للمزيد, أنظر Michelle Mart, Eye on Israel: How America Came to View Israel as an Ally (Albany: State University of New York, 2006) ., 60. 171
16 The Haj; Leon Uris. By: Doubleday. New York ,1984, p 124
17- ينبغي الإشارة أنه لا يوجد دليل مباشر على هجرة جماعية لقوم عرفوا باسم بني إسرائيل كما تذكر ذلك مرويات العهد القديم في سفر الخروج ، كما أن هذه المسألة تعد من الناحية التاريخية و الآثارية مسالة خلافية حادة للعديد من الاعتبارات.
18- المستعمرة Colony كيان ذو طابع سياسي ينشأ عن طريق الغزو ( استعمار و \أو استيطان) رغم أن ظروف نشأتها عادةً ما تكون سابقة للاستعمار ذاته, ويعتمد حكام أو مدراء المستعمرة على ” مركز إمبريالي” متروبول أو ” بلد أم” يقع بعيداً عن المستعمرة ويستطيع هذا المتروبول أن يدعي -بالقوة أم بغيرها- حقوقاً حصرية لحيازة المستعمرة. و طبيعة العلاقة بين حكام المستعمرة و السكان الأصليين هي علاقة هيمنة تعبر عن قناعة الحكام بتفوقهم ” العرقي” أو ” الديني” أو الثقافي” . وهذا ما ينعكس في طريقة و آلية اتخاذ القرارات السياسية في المستعمرة, وفي حين أن نظرية الاستعمار هذه غالباً ما تتطلب حاضرة داعمة، فإن هذا لا ينطبق بالضرورة على حالات الاستعمار الاستيطاني. للاطلاع أكثر راجع , Jürgen Osterhammel، Colonialism: A Theoretical Overview (Princeton, N.J.,Markus Wiener, 2005 ) وبخصوص الادعاء السيادي المتأصل عند المستوطنين و الذي يجعلهم ” مستقلين” بهذا القدر أو ذاك عن العاصمة أو العواصم الاستعمارية يرجى الاطلاع على Veracini, Settler Colonialism: A Theoretical Overview (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2010)
19- انظر:Anatol Lieven, America Right or Wrong (New York: Oxford, 2004)., 180.
20- لا يكتفي المستعمِر -كما يرى فانون-” بالسيطرة على البلاد فقط, من خلال إحكام قبضته على رقاب الناس, بل يهدف إلى تفريغ أدمغتهم شكلاً و مضموناً فيشوّه و يدمّر ماضي الشعب المظلوم عبر منطق مشوّه و منحرف … للمزيد انظر فرانز فانون: معذبو الأرض , فصل ” في الثقافة القومية” و ما يليه , طبعة وزارة الثقافة الجزائرية 2007 (طبعة خاصة بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية)
21- أشار عالم النفس الأمريكي ستيفن كاربمان إلى هذا الملمح من الخلل في المناورة النفسية لتفسير مسار العلاقات الاجتماعية في مقال له نشر في العام 1968 , وكان استاذه إيريك بيرمي بعد اطلاعه على تلك المقالة هو من أطلق على هذا التفسير مصطلح “مثلث كاربمان” حين تلجأ الذات في سياق تفاعلها مع محيطها (بغية الحفاظ على التوازن) إلى تقمص ثلاثة أدوار نسقية : مستبد, ضحية, منقذ, و على المرء تطوير هذه الأدوار “الدرامية” و أنماطها السردية من أجل التوصل لحل أية أزمة تعترضه، وأي واحد منا يراقب علاقته مع شريكه لابد أن يلحظ هذه العناصر بسهولة و تبادل الأدوار بينه و بين شريكه و التنقل بين المستبد و الضحية و المنقذ بطريقة لا واعية, ويبدو أن مثلث كاربمان أكثر شيوعا في العلاقات الفردية العاطفية مثل البطل المنقذ لحبيبته من الأشرار أو من ماضيها أو من الرذيلة….إلخ , أو حين يضحي الجندي بنفسه في سبيل أن “ينقذ” رفاقه و يساهم في انتصار بلده , فالجندي و العاشق و البطل , والزعيم, و الحزب , والرئيس و الحبيبة , و المومس الطاهرة و العبد الثائر , الطيب القوي تعتبر عناصر أساسية في تشكيل العلاقة الترادفية لأضلاع مثلث كاربمان فضلاً عن كونها-أي العلاقة- أساس الظاهرة النفسية المعنية بمعناها التوزيعي في مثلث كاربمان أي الضحية و المنقذ و المستبد.
22- للتوسع, راجع عمله : Renato Rosaldo: Imperialist Nostalgia, University of California Press.1984P.108
23- أنظر The Haj, p.45
24- انظر مثلاً: Frederick Jackson Turner, “The Frontier Experience,” in The Character of Americans: A Book of Readings, ed. Michael McGiffert (Homewood, IL: Dorsey, 1970)., 97.
25- انظر:Michael McGiffert, ed., The Character of Americans: A Book of Readings (Homewood, IL: Dorsey, 1970).96.
26- انظرTom Engelhardt, The End of Victory Culture (University of Massachusetts, 1995)., 21
27- المرجع السابق , 21
38- المرجع السابق , 10
29- انظر:Ann Swindler, “Culture in Action: Symbols and Strategies,” American Sociological Review 51 (1986)., 273.
30- انظر: Michelle Mart, Eye on Israel: How America Came to View Israel as an Ally (Albany: State University of New York, 2006).p. 59
31- انظر: Bat-Ami Zucker, U.S. Aid to Israel and Its Reflection in the New York Times Nd the Washington Post, 1948-1973: The Pen, the Sword, and the Middle East (Lewiston, NY: Edwin Mellen, 1991)., 28