غلاف الكتاب

البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في العصر الحديدي الفلسطيني (2)

ترجمة محمود الصباغ

الفصل الثاني:  خصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي

تتمثل العقبة الرئيسية في أي محاولة لتلخيص المعطيات الآثارية التي تعود لفترة الاستيطان الإسرءيلي في كيفية تحديد موقع ما يعود للعصر الحديدي الأول كمكان كان مشغولاً في البداية من قبل الإسرءيليين. وشهد النصف الأول من القرن الثاني عشر ق.م أنشطة  كيانات إثنية أخرى في “أرض إسرءيل”، وعلى الأخص نشاط الكنعانيون، الذين تواجدوا في السهل الساحلي والوديان الشمالية، كما تشير إلى ذلك أيضاً نصوص الكتاب المقدس؛ كما استوطن الفلستيون السهل الساحلي الجنوبي والشفيلة في القرن الثاني عشر ق.م؛ بالإضافة إلى الجماعات المتنوعة التي كانت تشهد توحيداً إثنياً  في الوقت ذاته في شرق الأردن. وتشير المصادر التاريخية إلى تواجد مجموعات إضافية من  شعوب البحر على طول الساحل، والفينيقيين في الشمال، والعماليق في المناطق القاحلة في الجنوب، أياً منهم قد ترك وراءه أثراً يدل على وجوده. ولكن قبل محاولة تحديد خصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي، لا بد لنا من تحديد ما نعنيه هنا- وفي بقية فصول هذه العمل- بمصطلح “إسرءيل \ إسرءيليين “[ בני ישראל، بني إسرائيل. المترجم]. بمعنى آخر، من كان إسرءيلياً في العصر الحديد الأول؟ وتنشأ مشكلة تعريف من هو إسرءيلي من الفروق بين الجماعات الإثنية في بداية تلك الفترة التي مازالت تبدو غامضة لنا. علاوة على ذلك، يبدو أن جماعات أخرى -مثل الوحدات القبلية جنوب يهوذا، والحِوّيين חוים في إقليم بنيامين وعناصر كنعانية في إقليم منسّى – انضمت إلى الكيان الجديد المتنامي في منطقة الهضاب الوسطى. وليس يقيناً، على سبيل المثال، أن يصف أحد سكان القرن الثاني عشر ق.م في موقع جيلو نفسه بأنه “إسرءيلي”؛ ومع ذلك، فإننا نشير إلى هذا الموقع وثقافته المادية باسم “إسرءيل”*.

كانت  عملية تشكيل الهوية الإسرءيلية عملية طويلة ومعقدة و ملتوية والتي اكتملت، في اعتقادنا، في بداية الحكم الملكي فقط. ويرتبط مع  عملية التبلور هذه مرحلة وسيطة على درجة من الأهمية ترافقت مع إنشاء مراكز عبادة مقدسة فوق قبلية خلال عصر القضاة، لعل أهمها موقع شيلوه، الموضح دوره في سفر صموئيل الأول- العمل التاريخي الذي يتفق الجميع عليه (انظر الفصل الخامس).

تبعا لذلك، كان أحفاد الإسرءيليون الذين عاشوا في العصر الحديدي الأول هم من يستطيعون وصف أنفسهم كإسرءيليين- منذ الأيام الأولى لظهور شيلوه كمركز عبادة مقدس (في النصف الأول من القرن الحادي عشر ق.م ) أو حتى منذ بداية الحقبة الملكية-  وقد عاش هؤلاء، إلى حد ما، ضمن الإطار الإقليمي للملكية الإسرءيلية المبكرة، قبل توسعها (انظر وجهات النظر المختلفة حول حدود ملكية شاؤول في Aharoni 1979: 288-290 ؛ Vikander-Edelman  1986 : 130 -153 ). وهكذا، يمكن اعتبار أي شخص عاش في القرن الثاني عشر ق.م أنه إسرءيلي، حتى لو كان يعتبر نفسه حِوّي أو جبعوني أو قنزي وما إلى ذلك، وكان أحفاده الذين عاشوا في ذات القرية بعد بضعة أجيال ينظرون إلى أنفسهم، فيما بعد، على أنهم إسرءيليين أيضاً. بيد أنه ثمة، هناك، منطقتين تطرحان بعض الصعوبات، هنا، بخصوص هذا التعريف: أولاً، إقليم الجليل، الذي ينبغي اعتبار سكانه إسرءيليين، لكنهم لم يكونوا ضمن نطاق سلطة قضاء الملكية؛ ثانياً، تلال منسّي، في قلب الهضاب الوسطى، حيث واصلت المجموعات الكنعانية القوية في الوجود خلال زمن العصر الحديدي الأول، كما يمكن أيضاً تعريف المواقع بأنها “إسرءيلية” استناداً إلى خصائصها الاجتماعية، بما في ذلك مواقع العصر الحديدي الأول التي تنعكس في ثقافتها المادية المراحل الأولية من التوطن. وفي حين تصلح هذه المقاربة للتغلب على مشكلة تحديد هوية سكان الجليل وتلال منسّي، فلا يمكن تطبيقها على إقليم شرق الأردن، حيث ستصبح المجموعات الأخرى المستقرة في ذات الوقت شعوب مؤاب وإدوم وعمّون. قد يكون الحل الأفضل، هنا، المزج بين المقاربتين بالقول أن من يمكن وصفهم بالإسرءيليين، في العصر الحديدي الأول، هم أولئك الذين عاشوا ،في سياق عملية توطن، في تلك الأجزاء من البلاد التي كانت جزءً من مملكة شاؤول، وفي الجليل. وإذن، سوف يستخدم مصطلح “إسرءيليين” في هذا الكتاب لدى مناقشتنا لأحداث العصر الحديدي الأول، باعتباره ليس سوى “مصطلح تقني” لوصف “سكان الهضاب الوسطى أثناء عملية  استقرارهم”.  وعلى كل حال، لا ينبغي لنا تجاهل حقيقة أن مجموعة من الأشخاص الذين  عاشوا في كنعان في القرن الثالث عشر ق.م تصفهم مسلة مرنبتاح باسم “إسرءيل”. وتكمن المشكلة، بالطبع، في عدم إمكانية  تحديد تلك المواقع، وليس لدينا أي فكرة عن حجم هذه الجماعة أو بيئتها السياسية الاجتماعية** (للاطلاع على النقاشات الأخيرة حول إسرءيل في مسلة مرنبتاح انظر Stager 1985a; Ahlstrom and Edelman 1985, ومن أجل عرض رؤية عن أصل تسمية إسرءيل, انظر: Ahlstrom 1986).

ويعد النص الكتابي التاريخي ( المصدر الوحيد المتاح) نقطة الانطلاق في النقاش المتعلق بخصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي، حيث يحدد لنا النص موقع السكان الإسرءيليين في نهاية عصر القضاة وبداية عصر الملكية. لذلك يجب استنباط السمات الثقافية الإسرءيلية من مواقع العصر الحديدي الأول في الهضاب الوسطى، لاسيما في القسم الجنوبي، حيث لم تكن هوية السكان حينها موضع جدال. ويمكننا، من خلال المصادر المكتوبة والأدلة الأثرية، تحديد مناطق التوطن الكنعاني والفلستي. ومن السهل عموماً تحديد خصائص المواقع الكنعانية بناءً على ثقافتها المادية، وبشكل خاص الفخار واللقى الصغيرة التي تظهر استمرارية مباشرة للثقافة المادية لأسلاف سكان المواقع الذين عاشوا في العصر البرونزي المتأخر. ولا توجد أي صعوبة في تحديد المواقع الفلستية الرئيسية. فبالإضافة إلى الجانب الجغرافي، هناك الفخار الفلستي الأكثر تميزاً الذي يرتبط شكله وزخرفته بإرث فخار بحر إيجة. وقد عُثر  على هذا الفخار- الذي لا يمكن الخلط بينه وبين أي شيء آخر- بكميات كبيرة في المواقع الفلستية الرئيسية. ومن الواضح، إذن، أنه يمكن تعريف مواقع العصر الحديدي الأول في  القطاعين الجنوبي و الأوسط من الهضاب على أنها “إسرءيلية”، حتى لو كانت هناك عناصر أقدم أو عناصر أجنبية معينة في ذلك الوقت (انظر على سبيل المثال: Kempinski 1979: 39, 43; B.Mazar 1981:76-79) . غير أن المشكلة التي تواجهنا سوف تنشأ عندما نحاول تحديد هوية سكان المواقع في المناطق الهامشية، مثل وادي بئر السبع وشرق شيفلة عند سفوح الهضاب الوسطى، وعند الحواف الشرقية لسهل شارون. ونجد مثل هذه الصعوبة أيضاً، إلى حد ما، في إقليم منسّي في القطاع الشمالي من الهضاب الوسطى، حيث تشير الاعتبارات المختلفة -سواء الكتابية أو الأثرية- إلى وجود عنصر كنعاني قوي ظل موجوداً حتى مرحلة متأخرة من العصر الحديدي (على الرغم من أنه طبقاً للتعريف الذي قدمناه أعلاه، كانت المنطقة إسرءيلية بكل تأكيد).

تأثرت الثقافة بشكل طبيعي من كلا الاتجاهين في جميع هذه المناطق، التي هي أساساً مناطق انتقالية بين المرتفعات و السهول. لذلك، ينبغي النظر في ثلاثة عوامل بالإضافة إلى الموقع عند أي محاول لتحديد الهوية الإثنية لسكان المواقع في هذه المناطق الهامشية على أساس ثقافتهم المادية، وهذه العوامل الثلاثة، هي: الوظيفة والتحقيب الزمني والكمية. فترتبط وظيفة بعض اللقى، سواء كانت فخارية أم معمارية، ارتباطاً مباشراً بالمناطق الجغرافية التي استخدمت فيها وبالظروف الاجتماعية والاقتصادية للسكان. وبالتالي، لايعني وجود هذه اللقى، أو عدم وجودها في أي موقع مفترض، بالضرورة انعكاساً للخلفية للإثنية لسكانها، بل هو بالأحرى نتيجة ثانوية للعوامل البيئية التي تمليها الحياة اليومية على الموقع. تكمن أهمية العامل الثاني، أي التحقيب الزمني في قدرته على  المساعدة في تحديد أصل اللقى ذات الطبيعة الإشكالية. أما بالنسبة للعامل الكمي، من الواضح أنه  ليس من الصواب اتخاذ قرارات نهائية بشأن الهوية الإثنية على أساس وجود أو عدم وجود بعض اللقى النموذجية، لأنه على الرغم من العزلة الجغرافية الثقافية التي تميزت بها هذه الفترة، فقد كانت هناك تأثيرات متبادلة وعلاقات تجارية بين مختلف أجزاء البلاد. وعلى سبيل المثال، لا يؤدي ظهور كمية صغيرة من لقى فلستية في مستوطنة بخصائص إسرائيلية أخرى إلى تحويله إلى موقع فلستي. وبالمثل، ليس بالضرورة كل موقع يعثر فيه على عدد محدود من الجرار المخزونة المطابقة أن يكون موقعاً إسرءيلياً. و سوف نحدد الآن، مع أخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، خصائص المواقع الإسرءيلية كما تتضح في المناطق الرئيسية للاستيطان (انظر، مؤخرًا ، Kochavi 1982: 5 ؛ A. Mazar 1985a)

أ) الموقع الجغرافي: على الرغم من أننا تعاملنا مع هذا الموضوع للتو، فإننا نلاحظ مرة أخرى أن النص الكتابي التاريخي، يوفر لنا- كونه المصدر الوحيد المتاح- الأساس لتحديد مناطق الاستيطان الإسرءيلي الرئيسية، وقد كشف الباحثون، بالفعل، في مواقع العصر الحديدي الأول  في هذه المناطق عن ثقافة مادية ذات سمات مميزة، بعضها مناسب لمجتمع فقير معزول في المراحل الأولية من التوطن والتنظيم.

ب) حجم الموقع: تعد مواقع الاستيطان الإسرءيلية صغيرة نسبياً، حيث يبلغ متوسط مساحتها 5-6  دونمات أو أقل. موقعين فقط كانا أكبر من ذلك وهما شيلوه و عاي، حيث وصلت مساحة كل منهما إلى حوالي 10 دونمات. وأكبر عملية مسح لمواقع العصر الحديدي الأول كانت في إقليم منسّى، في الروافد الشمالية للهضاب الوسطى، وهنا كان ثمة عنصر استيطان قوي، وظهر في بعض المواقع، استمرارية من الفترة السابقة.

ج) نمط الاستيطان: لا ينبغي اعتبار أي موقع معين معزولاً عن غيره، بل ينبغي النظر إليه  كجزء من صورة أكبر وأكثر تعميماً، وعلينا أن نسعى لفهم علاقته بالمواقع الأخرى في المنطقة ومكانه في النمط العام لاحتلال الموقع.

د) العمارة ومخطط الموقع: يجب التأكيد على أربعة عوامل (سيتم التوسع فيها في الفصل السادس):

1- لم تكن معظم المراكز الإسرءيلية المبكرة مواقعاً محصنة، ويمكن تفسير بعض الاستثناءات القليلة على خلفية جهوية.

2- لا توجد في المواقع الإسرءيلية النموذجية مبانٍ عامة كمنطقة الحاكم أو أبنية المستودعات، بل كانت تتوفر على مساكن عادية بقدر ما هو معروف لنا حتى الآن.

3- يعد ظهور المباني ذات الأعمدة (بعض أنواع البيوت المكونة من أربع حجرات) أحد سمات مواقع الاستيطان في المناطق الجبلية، وينمّط هذا الظهور المواقع الإسرءيلية خلال عصر الملكية. علماً أنه تم العثور على أبنية شبيهة في مناطق غير إسرءيلية، مثل فلستيا ومرتفعات النقب، وربما يرتبط ظهور هذه الأبنية في هذه المواقع في عملية استخدامها تبعاً للظروف الطوبوغرافية. وتشير الأدلة المتراكمة الكمية والتحقيبية الزمنية المتحصل عليها من الحفريات والمسوحات إلى أن المصدر والتوزيع الرئيسي لهذا النوع المعماري يعود لمنطقة الهضاب الوسطى.

4- تكشف مواقع  العصر الحديدي الأول الإسرءيلية عن وجود العشرات من الصوامع المحفورة في بقعة من الأرض المبطنة بالحجارة. وتميزت هذه الصوامع خلال كل فترات وجودها بخصائص المجتمعات في المراحل الأولية من الاستقرار، حيث كان تخزين الحبوب يعتبر مشكلة ملحّة تحتاج إلى حل. ومن ناحية أخرى، لا توجد مثل هذه الصوامع في المجتمعات ذات التنظيم الجيد، فهي غير معروفة، تقريباً، في المدن الكنعانية، أو في المواقع الإسرءيلية التي تعود للحقبة الملكية.

ه) الفخار: تميزت مواقع الاستيطان الإسرءيلي بالفخار البسيط والهزيل نسبياً. واحتوت على ذخيرة محدودة جداً من الأنماط الفخارية. وكانت معظم الأوعية عبارة عن جرار تخزين وأوعية طهي مطوقة ” [ذات إطار على هيئة طوق عند فتحتها. المترجم]. (أنظر مثلاً: Mazar 1981a:31). ويرتبط هذا بلا شك بالخلفية الاجتماعية والاقتصادية للسكان. في حين أن جرة التخزين المطوقة (شكل 91)، -” النمط المتحجر” للمواقع الإسرءيلية منذ حفريات أولبرايت في تل الفول سنة 1922- عثر عليها أيضاً في مواقع في وادي يزرعيل و السهل الساحلي, ويجب أن يؤخذ العامل الكمي في الاعتبار كما لاحظنا بالفعل (و انظر أيضاً الفصل السابع) (2).

شكل(91) جرار تخزين مطوقة من موقع شيلو “منطقةC”

وبكل الأحوال، ينبغي أن يستند تحديد أي موقع على أنه موقعاً “إسرءيلياً” إلى غلبة جميع الأدلة، وليس إلى عامل واحد. ولتوضيح هذه النقطة، دعونا نبحث في حالة عزبة صرطة، وهو موقع يقع على الحدود بين إسرءيل وفلستيا، حيث يعد هذا الموقع ” إشكالياً”  من حيث الهوية الإثنية لسكانه. ستعرض المناقشة أيضاً مواقع إشكالية إضافية ( أنظر أيضاً A. Mazar 1985a:61-62 ) .

تقع عزبة صرطة -التي تحتوي على ثلاث سويات ( الفصل الرابع)- على حافة السفوح التلية على الحدود مع السهل الساحلي، على بعد 3 كلم فقط إلى الشرق من  تل آفق תל אפק [خربة كرداني؟] المدينة كنعانية التي أصبحت موقعاً هاماً للفلستيين. ومن وجهة نظر جغرافية الاستيطان, ثمة احتمالين لتحديد الهوية الإثنية لسكان الموقع، إما أنه كان موقعاً إسرءيلياً انتشر سكانه غرب التلال ليؤسسوا مجتمعهم هناك مقابل السهل الساحلي الخصب، أو كان موقعاً فلستياً استيطانياً تابعاً لآفق القريبة (3). لا يحسم الموقع الجغرافي للمستوطنة هذه المسألة لأنه كان يقع على الحدود بين الإسرءيليين والفلستيين. أما بالنسبة لنمط الاستيطان, فقد كشفت المسوحات الاستقصائية للمنطقة الواقعة بين جلجوليا شمالاً وروش هاعين*** רֹאשׁ הָעַיִן في الجنوب عن ستة مواقع إضافية تعود للعصر الحديدي الأول تقع بالمثل على حواف التلال و تطل على السهل( شكل1) ..

شكل 1 : عزبة صرطة ومواقع أخرى من العصر الحديدي الأول في المنحدرات الغربية لأراضي سبط أفراييم قرب أفيق

بكلام آخر، يعد هذا النمط ظاهرة جهوية وليس مجرد مسألة موقع فردي معزول. (وفقاً لأعمال المسح، لم تُعرف أي مستوطنة منفردة وغير محصنة تعود للعصر الحديدي الأول في الأجزاء القريبة من السهل الساحلي). وأظهرت الحفريات في آفق بأن الاحتلال الفلستي لم يكن كبيراً، لذلك لا يوجد سبب لافتراض تطوير شبكة من المواقع التابعة في تلك الجهة الشرقية التلية من جميع الأماكن. كما تشير أعمال المسح إلى أن آفق، حتى في أوج بروزها في العصر البرونزي الأوسط، لم تكن مرتبطة بأية مستوطنات تابعة لها في هذه التلال. ومن ناحية أخرى كان هناك سلسلة متصلة من مواقع العصر الحديدي الأول تمتد من التلال شرقاً وتتجه نحو الهضاب الوسطى. وهذا يعني افتراضاً أن المواقع الممتدة على طول حافة الهضاب تنتمي إلى شبكة الاستيطان في الهضاب، فهذه المواقع لا تتوافق مع نمط الاستيطان السائد في السهل الساحلي. لقد كان حجم عزبة صرطة يتراوح بين 2 و 4 دونمات ( في السويات الثالثة والثانية على التوالي), وهو ما يتوافق مع مواقع الاستيطان الإسرءيلي في الهضاب. إن بنية الموقع وتصميمه كما يظهر في السوية الثالثة Stratum III – عبارة عن حزام من الغرف حول فناء مركزي مفتوح- هو في رأينا بنية نموذجية لمجتمع رعوي في بداية تأسيس مستوطنة دائمة، بمخطط عام يعكس التقاليد المعمول بها قبل مرحلة التوطن (أنظر الفصل السادس). وكان المجتمع الوحيد الذي يلبي مثل هذا التوصيف في العصر الحديدي الأول هو مجتمع السكان الإسرءيليين. بعد ذلك بقليل، أي في السويتين الثانية والأولى تظهر اثنتان من السمات السائدة للمواقع الإسرءيلية: المنازل ذات الحجرات الأربع والعديد من الصوامع المبطنة بالحجارة. ومن المثير للاهتمام أن هذه المميزات لم تظهر في موقع آفق القريب حتى القرن العاشر ق.م (Kochavi 1981: 82). وهكذا ظهرت علامتان لا لبس فيهما للثقافة المادية للهضاب الوسطى، عند آفق، بالتزامن مع تراجع عزبة صرطة وفي الوقت الذي انتشر فيه الإسرءيليون في السهل الساحلي وفقاً للأدلة التاريخية.

أخيراً، ينبغي لنا النظر في الأدلة الفخارية، حيث يظهر الفخار الفلستي في عزبة صرطة، وإن بكميات ضئيلة للغالية. وشكّلت المادة الفلستية الملونة في تل قسيلة، على سبيل المثال، ما بين 14% إلى 24 % من مجموعة ذخيرة فخار السويات العاشرة إلى الثانية عشر XII-X ( A. Mazar 1985b: 105) وفي جازر 5% ولكن في عزبة صرطة شكلت فقط ما بين 1 % إلى 2% ( Finkelstein 1986: 46.91). وكانت كمية جرار التخزين المطوقة التي عثر عليها في عزبة صرطة كبيرة نسبياً بعكس الكميات المكتشفة في موقع أخرى في السهل الساحلي المجاور، مثل آفق وتل قسيلة و جازر، والتي يبدو أنها تناسب موقع إسرءيلي أكثر منه موقعاً فلستياً. من ناحية أخرى كان عدد جرار التخزين المطوقة قليل نسبياً بالمقارنة مع مثيلاتها من مستوطنات الهضاب، وهذا قد يفسر طابع الزراعة المحلي، وربما تعكس المجموعة الغنية نسبياً من الفخار التي عثر عليها في عزبة صرطة مقارنة مع مثيلاتها في منطقة الهضاب التواصل مع مواقع في السهل الساحلي. لقد كانت عزبة صرطة مختلفة تماماً عن المواقع القريبة في السهل الساحلي من حيث الطبيعة والموقع الجغرافي والمخطط العمراني واللقى. ولا يمكن تفسير هذه الاختلافات على أنها تعكس التباين بين قرية صغيرة ومركز حضري. وبالتالي يمكننا التأكيد، دون تردد، على أن ظاهرة الاستيطان على الحواف الغربية للهضاب المقابلة للسهل الساحلي ترجع في أصولها إلى الهضاب الوسطى.

……..

العنوان الأصلي للكتاب :The Archaeology of The Israelite Settlement

الكاتب:Israel Finkelstein

الناشر و تاريخ النشر:Israel Exploration Society. Jerusalem .1988

…..

ملاحظات المترجم

*سوف سيتكرر استخدام ” أرض إسرءيل” في هذا الكتاب كبديل لاسم الإقليم الجغرافي المعروف باسم فلسطين، والذي لم يعرف قط باسم “أرض إسرءيل”، كما سوف يتعمد فنكلشتين على استخدام التقسيمات الجغرافية التوراتية عند إشارته لأماكن توطن “القبائل الإسرءيلية”، أي الأسباط שבטי (شبط) وهي كلمة عبرية بمعنى “عصا” أو” جماعة يقودها رئيس يحمل عصا”. وحسب التقاليد اليهودية و المسيحية أطلقت كلمة سبط\أسباط  في البداية على أفرايم و منسّي ابني يوسف، ولم يكن لاوي محسوباً من الأسباط لأنه تم تعيينه لخدمة الهيكل كما اعتبر أفرايم و منسي سبطاً واحداً بدل من سبط يوسف، وبهذا تقسمت الأرض بين أبناء يعقوب” إسرائيل” وحفيديه ابني يوسف. وبقي الأسباط مرتبطين في المملكة المتحدة حتى وفاة سليمان فحدثت خلافات بين يهوذا وأفرايم كما هي مذكورة في سفر صموئيل الثاني( الإصحاح الثاني والإصحاح التاسع عشر)  أدت إلى انقسام المملكة إلى قسمين الأول بزعامة رحبعام ابن سليمان، وانحاز له يهوذا وبنيامين، وسميت مملكتهم باسم ” مملكة يهوذا” أو المملكة الجنوبية. وانحازت بقية الأسباط العشرة إلى يربعام ابن نباط ودعوا أنفسهم ” مملكة إسرءيل” أو المملكة الشمالية. وتشير التقاليد المسيحية المبكرة إلى قيام المسيح عيسى بتعيين اثني عشر رسولاً وفقاً لعدد الأسباط (ويذكر سفر الرؤيا في الإصحاح السابع والإصحاح الحادي و العشرين كيف قسّم يوحنا المناظر السماوية التي رآها كالأختام والأبواب والأساسات إلى اثني عشر قسماً).

** كما ذكرنا سابقاً يستخدم فنكلشتين التقسيمات الجغرافية التوراتية  التقليدية المرتبطة بالأسباط كما يلي:

– سبط أشير אָשֵׁר بمعنى ” السعيد” أو” المغبوط” ومسكنه كان “دور” جنوبي الكرمل إلى حدود صيدون ويتاخم منسّي جنوباً و زبولون ونفتالي شرقاً.

– سبط أفرايم אֶפְרַיִם\ אֶפְרָיִם  بمعنى ” الأثمار المضاعفة” , وكان نصيبه القسم الأوسط من الهضاب الغربية و يحدها شمالاً منسّي وبنيامين ودان من الجنوب ومن الشرق نهر الأردن والبحر غرباً. و تعد شكيم\نابلس أهم مدن إقليم إفرايم التي كانت عاصمة المملكة الشمالية لفترة من الزمن، ومن مدن أفرايم المهمة، شيلوه التي كانت مركزاً دينياً في عصر القضاة.

-سبط بنيامين בִּנְיָמִין بمعنى “ابن اليد اليمنى” أو “ابن اليمين” وتقع أراضيه بين سبطي أفرايم و يهوذا، ومن أهم مدن الإقليم أورشليم

-سبط جاد גָּד بمعنى” المحظوظ” أو ” الطالع الحسن”  الذي كان نصيبه شرق الأردن، بين رؤوبين جنوباً ونصف منسّي شمالاً، ويقع جبل جلعاد على حدهم الجنوبي من نهر يبوق إلى حشبون ومن حشبون إلى ربة عمون غرب وادي الأردن والشاطئ الشرقي للطرف الشمالي للبحر الميت قرب بيت نمرة، وأهم مدنه راموت جلعاد. ويعد إقليم جاد ساحة للمعارك التي دارت بين إسرءيل وآرام

-سبط دان דָּן بمعنى القاضي، و يقع بين يهوذا وأفرايم من جهة و بين بنيامين و البحر من جهة أخرى

-سبط رؤوبين רְאוּבֵן  ونصيبه في شرق الأردن

-سبط زبولون זְבוּלֻן بمعنى ” سكن، إقامة” وتقع أراضيه بين نفتالي وأشير شمالاً ويسّاكر ومنسّي جنوباً

-سبط شمعون שִׁמְעוֹן  بمعنى” السماع” وسكن في مدن تقع ضمن أراضي يهوذا جنوبي إقليم دان، وأهم مدنه حرمة وبئر سبع و صقلغ التي استولى عليها يهوذا.

-سبط لاوي לֵוִי وهم حسب النصوص التوراتية كهنة الهيكل  والقضاة والكتبة و البوابون والموسيقيون وتنتقل لهم هذه المهنة وراثياً، ولم يكن لهم إقليم محدد.

-سبط منسّي מְנַשֶּׁה. بمعنى” من ينسى”  وهو ابن يوسف ويقع جزء من أرضه في شرق الأردن والجزء الآخر غربي النهر شمالي إقليم أفرايم أما حدّه الشرقي فاتسع حتى وصل إلى حدود جبل الشيخ وحوران.

-سبط نفتالي נַפְתָּלִי بمعنى ” مصارعتي” وامتدت أرضه  حتى وادي الليطاني والأردن وبحيرة طبرية ويحده غرباُ أراضي يسّاكر وزبولون، ومن أهم مدنه  رامة وحاصور وقاديش وأذرعي وبين عناة ومجدل إيل وبيت شيمش

-سبط يسّاكر יִשָּׂשׁכָר بمعنى “الأجير أو “يعمل بأجرة”. وتشمل أراضيه سهل يزرعيل وجبل الكرمل حتى حدود الأردن، يحدها شمالاً زبولون وجنوباً منسّي وشرقاً جلعاد. من أهم مدنه مجدون ويزرعيل وشونيم وبيتشان وعين دور وأفيق وتعنّك

سبط يهوذا יְהוּדָה. من أبرز أسباط بني إسرءيل وهو أول سبط حصل على إقليم خاص به. وتشمل أراضيه جميع المنطقة التي تقع جنوب أورشليم و جزء من أدوم في شرق الأردن.

فيما يلي أدناه لوحة فسيفساء تصور أسباط إسرائيل الاثني عشر (الـ12 سبطا)، من حائط مجمع جعفات مردخاي في القدس المحتلة. بأعلى (من اليمين لليسار): سبط رأوبين – سبط يهوذا – سبط دان – سبط أشير | بالوسط: سبط شمعون – سبط يساكر – سبط نفتالي – سبط يوسف | بأسفل: سبط لاوي – سبط زبولون – سبط جاد – سبط بنيامين

***[ أقيمت مدينة روش هاعين في العام 1949 على جزء من أراضي مجدل يابا العربية إلى الجنوب من كفر قاسم.

……………

هوامش

2- هناك عامل آخر قد يتعين مراعاته في المستقبل وهو بقايا الحيوانات. لم يعثر في عزبة صرطة وشيلوه على عظام الخنزير (Hellwing and Adjeman 1986:150-151)، وهي حقيقة لا ينبغي تجاهلها. ومن ناحية أخرى، لم يعثر على عظام خنزير في السوية  السادسة VI في موقع لخيش الكنعاني (Drori 1979). لذلك، يجب أن ننتظر البيانات من المواقع الأخرى قبل إصدار الحكم. ومن المحتمل أن توفر مجاميع عظام الحيوانات معلومات عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للسكان أيضاً. حيث يشير، على سبيل المثال، وجود نسبة كبيرة من الأبقار إلى تقليد قوي للاستيطان الدائم، في حين يشير ندرتها ورجحان  وجود الأغنام / الماعز إلى تقاليد رعوية.

3- من الناحية النظرية، هناك احتمال ثالث، ألا وهو أن السوية الثالثة كانت موقعاً كنعانياً، ربما كان سكانها لاجئين من آفق المدمرة. وحتى لو كان هذا الاحتمال صحيحاً فإن ظاهرة الاستيطان الكنعاني غير المحصن بهذه الطريقة تعد في الواقع أمراً غير مألوفاً وغير معروفاً، ومن الصعب كذلك تصور مستوطنة كنعانية على الحدود بين إسرءيل وفلستيا حتى بداية القرن الحادي عشر ق.م.  على أي حال، لاتعد الثقافة المادية للموقع  مناسبة لسكان مرتبطين بشكل مباشر بالمجتمع الكنعاني الحضري في العصر البرونزي المتأخر.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

الفضاء الحضري في المدن المختلطة في إسرائيل: إعادة قراءة

ناحوم كارلينسكي ترجمة محمود الصباغ يقتصر استخدام مصطلح المدن المختلطة ערים מעורבות في إسرائيل، لتعريف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *