لاشك أن هذه الصورة النمطية للكاوبوي ذات الفضاءات الطقسية متأثرة بماضي القارة الاستعماري والإرث الأنغليكاني التطهري المتمحور حول الصراع بين الخير والشر وفضيلة “الرجل الأبيض”. هذا المزيج من العوالم المتداخلة والمتناقضة يؤججه (حقيقةً وليس مجازاً) موسيقا الفيلم الخالدة التي تتناوب مع لحظات الصمت التام التي تطول أحياناً حيث تبقى الصورة وحدها تنقل تفاصيل المشهد، يضاف لهذا ولع المخرج المفرط في التفاصيل، حتى لتشعر أنها لم تعد تفاصيل، بل شيء أشمل وأكبر من أن يحتويها مشهد أو مشاهد، ناهيك عن أسلوب شغل الفيلم الذي يضعه في مسافة قريبة من الجهد المسرحي، عندما يدع المتلقي حائراً أمام خيارات التضامن مع أبطاله، لاسيما تلك الاحتفالية المبالغ فيها -من باب السخرية ربما- في الدفع بفكرة البطل نحو مطارح أسطورة، رغم إبهام اسمه (يكتفي بوصفه بـ “بلوندي”) والشكوك الواضحة في دوافعه الغامضة حين يتقمص صفة “الطيب” أو “الجيد”، ولكن المعنى الحقيقي له هو السعي وراء الثروة، ويصبح الدفاع عن شرفه لا عن شرف المجتمع هو المعيار الناظم لعلاقته بالآخرين وبما حوله من رجال، حيث يكون الحكم عليهم واقعياً وسريعاً من حيث أفعالهم وليس أقوالهم فـ “بلوندي” هذا لا يعنيه، بالأحرى، لا يبحث عن أي تضامن إنساني من أي نوع، بل كلّ همّه حفنة من الدولارات، ولا ندري في نهاية المطاف ماذا سيفعل بها لو حصل عليها.
بإيجاز..، هنا على الأقل، يشبه الفيلم بوتقة انصهرت فيها جميع تلك العناصر لتنتج لنا الأمريكي الذي نراه اليوم.
هي، إذن، الغواية الكامنة وراء صورة البطل التي ترسّخها نمطية الكاوبوي: هابيل الأمريكي الذي سيواجه قابيل ابن الحصن الغربي البعيد في أعماق الصحراء أو القرية الحدودية النائية المتهالكة جفافاّ وعطشاّ وفقراّ والمليئة بـ “المحليين المتوحشين”، أو المدينة التي توشك على نهوضها للتو وتحديد هويتها ومعبدها وسوقها، حين يظهر فيها هذا “الطيب” على صهوة جواده، يعدو دون تحديد، وحيداً طبعاً، دون أسرة وبيت دافئ وأطفال يحبهم ويحبوه، دون عشيقة تشبع أنانيته وقلقه وغروره وكسله المزمن وتراخيه الذي يجعله يرفض الثبات والاستقرار، سلاحه رفيقه وقبعته ومهماز حذائه. ينغمس -دون أن يغرق- في غوايات الرأسمالية الناشئة، السيجار والشراب والنقد\ الذهب والقمار والجنس ويتوج امتلائه بعنف نزق مفرط غير مبرر.
هذا هو شكل غواية الكاوبوي، الذي يعتبر، مع رجل العصابات أو “الأشرار” أهم مداميك السينما الأمريكية، فهو هادئ، مستفز بهدوئه، حكيم دون إفراط، كئيب دون ضجر، لكنه لا يعترف بذلك، يؤمن بقدراته اللامحدودة في مجتمع ذكوري بامتياز عبّر عنه الضمير والعقل الجمعي الأمريكي “الأبيض” حين حدد ملامحه الأخلاقية المختلطة بكبرياء قومي فظ وجلف.
لست أدري أين قرأت ما قاله وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ،أثناء المفاوضات مع الثوار الفيتناميين، عن مصدر جاذبية وسحر شخصيته الذي يأتي من تصوره لأبطال الكاوبوي راكبين على ظهور جيادهم، وأن المفاوضات ليست سوى حكاية “غرب متوحش”. قد تربح المدينة -في النهاية- حربها ضد الكاوبوي لكنها لن تحقق “النصر”، وثمة فرق بين النصر والربح، على الأقل بالنسبة لرجل الكاوبوي الذي يجيد لعبة البوكر، ويعتبرها ترياق هدوئه وصفاء ذهنه. قد يرى البعض أن العنف غايته، لكن هدفه في الحقيقة كبطل خلق مجده الشخصي وأسطورته المؤسسة، في بعدها الفردي الأناني، من خلال صراعه الدرامي مع المدينة والخارجين عن القانون. فعلى مر العصور، كانت قصص الأفراد، وليس الجماعات، هي الناجحة، والتي يتم تخليدها وتدوينها في سجلات الشعوب من غلغاميش إلى قدموس إلى أنبياء العهد القديم وأبطال الإغريق وصولاً إلى الزير سالم وحي بن يقظان وروبين هود وغاليفر وروبنسون كروزو وصلاح الدين.. وغيرهم وصولاً لأعتى الديكتاتوريات المعاصرة، وقد يكون الدافع هنا هو إرواء شغف الحاجة الإنسانية العاطفية للبطل، وصوره المتعددة، ولعل أهمها تمثّله للشكل الإلهي، فالإله فرد وليس جماعة، وهكذا سيكون رجل الكاوبوي صورة عن الاحتجاج الفردي ضد سطوة الجماعة وقانونها، وإذا كان النقد الاجتماعي المؤثر يتطلب إحساساً بمثل هكذا بُعد كنوع من الحماية -على حد قول بريخت- فعند هذا البُعد يمكن لنا أن نضع في تصورنا عمق نمطية الكاوبوي في المجتمع الأمريكي، التي يُراد لها أن تنقل رسالته للعالم، حيث فردانيته، التي تعرّف نفسها من خلال “الحدود” لتُذيب الطبقات وتحقق الديمقراطية الخاصة بها.
وبالتالي سوف تكون “حدود” هذا الكاوبوي مفتوحة لتنتهي عن وقع آخر حافر لحصانه، وقد نقل لنا لاحقاً جيمس بيكر هذه الرسالة في حرب الخليج حين خطب بجنود مشاة البحرية الأمريكية، المحتشدين في جزيرة العرب، فقال: إن على العالم أن يدرك أن حدود بلادنا تنتهي عند موطأ قدم آخر جندي على هذه الكرة الأرضية.
يحذرنا المخرج (سيرجيو ليوني) بأن ما كان يثير إعجابنا وينال رضانا، فيما سبق، عن البطل الذي يقضي على “الأشرار”، لم يعد له وجود فعليّ على أرض الواقع، أقلّه في أفلامه، فهذا البطل \ النبي المنتظر القادم لتحقيق العدالة شاهراً سلاحه (مثل نبوءات العهد القديم) قد تحوّل، وبطريقة تهكمية، على يد ليوني إلى انتهازي لا يخلو من الطرافة والبراغماتية يسعى وراء الكسب والمنفعة الشخصية، في عوالم ذكورية عنيفة، لامجال فيها للعواطف والأحلام الوردية يمكنها أن تشغل حيزاً من انشغالاته، عالم ينقسم فيه الناس إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم يطلق الرصاص دون رحمة أو تفكير، وقسم يتلقاه دون أن يعترض أو يتذمر، بما يشبه عوالم ديستويفسكي الكئيبة، التي تحدث عنها لى لسان راسكولنيكوف -في الجريمة والعقاب-، وعلى هذا سيكون طموح ليوني ليس التشكيك في المرجعية الأخلاقية الرسمية السائدة فحسب، بل سوف يصل بطموحه إلى أقصاه من خلال النقد الساخر لمصفوفة القيم الأمريكية، التي قامت عليها الثقافة الرسمية والشعبية المهيمنة المتمثلة في سيطرة ذهنية رعاة البقر على الحياة الأمريكية، ولم يعد مقبولاً، منذ الآن، اعتماد المسدس-فعلاً ومجازاً- كأسلوب عمل أو نقاش كي تتحقق العدالة، وحتى إن وُجد فينبغي أن يبقى في الجراب طالما هناك قاضٍ ومحكمة كفيلين بتحقيق العدالة.
مثل هذه النظرة القاسية لـ “الويستيرن” والتقسيم “الميكانيكي” لعوالمه كان قد عبّر عنها ليوني بقوله: “إذا كان المخرج الأمريكي، جون فورد، متفائلاً، فأنا، بطبعي، على نقيضه متشائمٌ، فعندما تفتح شخصياته نافذة تتأمل من خلالها الأفق البعيد وهي مفعمة بالآمال، تخشَ شخصياتي، في حال فتحت تلك النافذة، أن تتلقى رصاصة بين العينين”.
إذن الكاوبوي ليس ذلك العالم المثالي، أو النموذج الأخلاقي الذي يمكن للأب أن يحدث أبناءه عنه، فحتى لو كان لهذا الكاوبوي من صفاته أن يكون “الطيب” أو “الجيد”، فهو كذلك إنما بمعايير أخرى، غير تلك المتعارف عليها، ربما هنا تكمن رسالة ليوني حين يحاكي -بسخرية- الويستيرن باعتباره أحد ركائز الثقافة الشعبية الأمريكية الراسخة، منتقداً بذات الوقت الرأسمالية الحديثة، وقوتها عبر العالم وقوة رمزها، أي الكاوبوي الذي تحوّل إلى منبر للدفاع عن الإيديولوجيا المحافظة المتصلبة (مثلما دافع جون واين بطل أفلام الويستيرن الشهير عن موقف الحكومة الأمريكية من حرب الفيتنام سنة 1968 في فترة كانت تعيش فيها أمريكا حالة من الاضطرابات الحرجة والتحولات الجذرية، وتمر بمرحلة شبه انتقالية في هويتها، ومكانتها في العالم وسعيها لنشر قيمها، وأسلوب الحياة الأمريكية كنمط ثقافي مرغوب فيه).
لقد ساهم ليوني في تعميق انتقاد ما ترسخ في ذهن الجمهور عن أفلام الويستيرن التي يمثّلها جون واين وغريغوري بيك وغاري كوبر.. وغيرهم، فجاءت سلسة أفلامه المعروفة باسم “ثلاثية الدولار” كرد فعل أوروبي” على هذه الثقافة مستخدماً أسلوب رومنسي ساحر ولوحات جمالية مميزة، لكنها ساخرة بذات الوقت من مفهوم “الاستثنائية” الأمريكية و”القدر الأمريكي” وغيرهما من التعابير ذات النزعة السوبرمانية، فقامت ثلاثية الدولار بإضاءة الجانب المظلم من هذه القيم ودور المؤسسات الرسمية في تكريسها، رغم ما يأخذه البعض على أفلامه من زيادة منسوب العنف فيها، بيد أن هذه “الدموية” المفرطة التي يراها البعض عيباً أخلاقياً في أفلام ليوني، يراها البعض الآخر أسلوب إخراجي، يتوخى توضيح المعنى الحقيقي للعنف. وعندما يشير ليوني إلى العنف في الفيلم فهو يدافع عن ذلك بقوله “لاشك أن هناك مبالغة في عمليات القتل في أفلامي، هذا لأني كنت أسعى للسخرية والتهكم على أفلام الويستيرن الأمريكية المبتذلة.. لقد صُنع الغرب الأمريكي بواسطة العنف و الرجال البسطاء، وأنا أحاول تصوير هذه القوة وتلك البساطة”.
فتصوير العنف هو السبيل لتفكيك الرومنسية المبتذلة عن الغرب الأمريكي، حين “يضطر” الشخص، في بعض الأحيان، أن يخضع لإرادة العنف دون أن يتمكن من الرد، ويكون عدم فضح هذا الخضوع أكثر من مجرد نفاق. وإذ تعلن ثلاثية الدولار عن الموت “المجازي” للويستيرن، فهي بذات الوقت تعلن عن ولادة شبه سوريالية لحيّز جديد من الكشف السينمائي، لكنه هذه المرة يأتي بعيون أوروبية- إيطالية- تلتحم فيها الميلودراما، بالنفس الأوبرالي، وبالموسيقا، لتنتج ملامح وتفاصيل لم نعتدها من قبل، عن البطل، يتداخل فيها الغضب والعنف والجشع والاحتكار والسلبية والتطلعات النهمة للثروة والسلطة والاكتفاء بدور رمزي للدين. فنحن أمام أوبرا تتصف بالعنف المبالغ فيه “لاعتبارات ذات أهمية قصوى لدى المخرج”، وهو ما كان قد أشار إليه مارتن سكورسيزي حين وصف الثلاثية بأنها “أوبرا معاصرة.. امتداد للأوبرا وللتقاليد المسرحية الإيطالية، فالموسيقا والكادرات وحركة الكاميرا والشخصيات الملحمية، تبدو كأنها اشتقت من أسطورة عتيقة. في الواقع، لا يصنع الطليان أفلام ويستيرن، بل يقومون بصنع أوبرا، لذلك يكون للموسيقا، في جميع أفلام ليوني، أهمية قصوى”.
وإذ يبدو واضحاً اختلاف أفلام ليوني، عن بقية صناعة أفلام الويستيرن، فذلك يعود إلى العلاقة المتينة بين الشكل والمضمون في أفلامه، فالعنف ليس من اختلاق المخرج ولا هو فانتازيا تقضيها حبكة الفيلم أو ضرورات فنية أخرى، بل هو تصور لمرحلة من التاريخ الأمريكي كان فيه العنف هو المهيمن حيث سادت الفوضى، فترة الحرب الأهلية، وازدياد أعداد الخارجين عن القانون وسيطرتهم على المجتمع الأمريكي، ولاشك أن تصوير هذا العنف بتلك الطريقة الواقعية ربما يعود في بعض صوره إلى تشابه المجتمع الأمريكي آنذاك، أي القرن التاسع عشر، مع إيطاليا في ستينيات القرن العشرين، حيث كانت عصابات المافيا تسيطر على الحياة السياسية والاجتماعية هناك، مما جعل البلاد تعيش حالة من الفوضى تشبه إلى بعيد ما عاشه المجتمع الأمريكي، لاسيما الغرب، من قبل.
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على إنتاج الفيلم فمازال يصنف كأحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما، حتى أن المخرج كوينتين تارانتينو قال عنه إنه أفضل فيلم تم إخراجه على الإطلاق. فقد استوفى، تقريباً، الشروط العامة لصناعة فيلم ناجح من حيث الصورة والحركة والموسيقا، وهو لا يخلو -حقاً- من الابتكار، وقد جاء في وقت كانت تعاني فيه صناعة السينما من الفقر على مستوى الأفكار وسيطرة الصور النمطية والعنصرية، فجاءت أفلام ليوني لتحقق، في مضمارها، نهضة بارزة في العقلية السينمائية وصناعة الأفلام، وثوة تقنية زاوجت بين الحركة والمتعة على قاعدة الصراع التقليدي بين الخير والشر، كأهم ثيمة سينمائية، ولكن بطريقة استفزازية غير تقليدية اعتمدت على اللقطة المقرّبة والحوار القصير والمختزل، والسخاء الموسيقي المذهل، فضلاً عن أهم ميزة أتى بها ليوني، وهي التغيير الحاسم في طبيعة البطل: “الطيب” وقيم “الرجولة”، كفضيلة أخلاقية تسعى لترسيخ قيم الجماعة على حساب الأنانية الفردية، وكان عماد هذه الثلاثية، رجل واحد هو “كلينت إيستوود” الرجل بلا اسم، الذي قيل له ذات يوم: “ابحث لك عن مهنة أخرى غير التمثيل”.
نحن، إذن، أمام نخبة جديدة من رعاة البقر في صورها المألوفة لكنها بهيئة متجددة، فقبل الثلاثية كان بطل الويستيرن يبدو بمظهر جيد وثياب نظيفة ورجل ورع مثقل بالقيم كي يتمكن من مواجهة “الأشرار” والتغلب عليهم. ولكن اختلف الحال مع أبطال ليوني، فهم في الحقيقة ليسوا أبطالاً بالمفهوم الأخلاقي أو الديني، بل هم ليسوا سوى حفنة من الأوغاد بملامح قاسية ووجوه مغبّرة وذقون غير حليقة وأحذية مهترئة ووجوههم تنضح عرقاً، ويزيدهم قسوة تغضّن جباههم وإغماض عيونهم المسقوفة بحواجبهم من كثرة تحديقهم في عز الشمس الحارقة.
حفنة رجال يحركهم جشعهم وأنانيتهم، يتقاتلون فيما بينهم، يتآمرون على بعضهم وينتقمون من بعضهم ببرودة مدهشة، هم في الحقيقة أوغاد، لكنهم أكثر واقعية من أمثالهم السابقين، الذين كانت تدور حكاياتهم وسيرهم حول المال والحرب والجشع والخيانة والنساء والغدر والدناءة. قصص لا تخلو من طرافة وحكمة بآن معاً، يجسدها ليوني بطريقة غير متكلفة وغير مبالغ فيها، من خلال تصوير دقيق وقريب للوجوه وملامحها وتقاطيعها التعبيرية والتشريحية. ولعل هذا بحد ذاته يعدّ مأثرة فريدة لسيرجيو ليوني حين استغل “سخافة” الحرب الأهلية كخلفية للأحداث بما تمثله تلك الحرب من صيغ قتل لاعقلاني “حيث يقتل الأخ أخاه”، ونظراً لعشق ليوني لتصوير الملامح والتقاط أدق انفعالاتها، فقد سمح للزمن بالتمطط، على حساب الحوار، بشكل سائب، قدر ما يشاء، دون رادع، فتطامنت السردية البصرية واستطالت بطريقة بدت مملّة أحياناً، لاسيما حين تخلو من الحوار، (قد يصل الأمر في بعض المشاهد لأكثر من خمس دقائق كاملة دون سماع كلمة واحدة). فنحن هنا أمام بانوراما ملفتة للنظر للطبيعة المتناقضة، تتقاطع مع صور الوجوه القريبة جداً والموسيقا عالية الأداء، وصهيل الخيول، ووقع سنابكها، وأزيز الرصاص، ودويّ قذائف المدفعية.
صمت يفجره صمت آخر لكنه أكثر صخباً، إنه صمت تلك الوجوه المنفعلة المتغضنة والسحنات المغبّرة المتعرّقة اللّاهثة، وجوه ينزرع فيها عيون قلقة تكاد تبوح بأسرارها دفعة واحدة، حتى الحوارات المختزلة لا تخرج عن هذا الصمت، وما يضفي بعداً إضافياً على ملحمية المشهد هو طريقة التصوير الرائعة، تلك اللقطات السريعة والمقرّبة للوجوه، ولعل هذا الأسلوب ربما يكون تعويضاً عن الاقتصاد في الحوار، فتأخذنا التراكيب البصرية إلى مطارح غير مألوفة سوريالية تصور العنف المفرط الفقر المدقع والثراء الفاحش “للشمال الأمريكي الغني الذي ينفق الأموال الطائلة لكسب الحرب”. وفي خط موازٍ لهذا، أي السعي للحصول على الثروة، ثمة ما هو موارب هنا، نكتشف، عبر سبر غوره، قدرة السلطة السياسية على فرض مفرداتها الأخلاقية وتسويقها وتسليعها وحتى بيعها، فالحرب الأهلية تقودها الحكومة ضد من تعتبرهم خارجين عن إرادتها، ولكن أن تعيش في مجتمع حرب أهلية، هذا لا يمنع من أن تكون لصاً.
فمن هو اللص، ومن هو البطل؟
من يمتلك، أساساً، حق التسمية والتعريف والتصنيف؟
ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن الإنسان -على وجه العموم- ابتدع التصنيف منذ تلك اللحظة التي اعتبر فيها نفسه أذكى الكائنات، ونحن هنا أمام سلسلة من التصنيفات، لا تعدو أن تكون تعريفاً غير جازماً،
من هو الطيب، ومن هو السيء، ومن هو القبيح؟
من هو الجيد، ومن هو الشرير، ومن هو البشع؟
كيف يمكن لهذه الصفات أن تكتسي لحماً وعظماً، وتتحول إلى متواليات اجتماعية لشخصيات سوف نرتحل معها لأكثر من ساعتين في مجاهل الغرب الأمريكي: فالطيب الذي يدعوه الآخرون “بلوندي \ الأشقر”، لا نعرف له اسم فهو “رجل بلا اسم”، شخصية غامضة وباردة وصامتة حد الاستفزاز، وهو صديق قديم للشرير\ آينجل آيز (يا لمفارقة الاسم). يظهر بلوندي والسيجارة في فمه لا تفارقه، ويكز عليها بأسنانه على طريقة “لاكي لوك”، وهو دائم البصاق ويلف كتفيه بالعباءة المكسيكية “بونشو”، وهو بارع في الرماية والتصويب وسريع مثل البرق، صائد جوائز من الطراز الأول وبراغماتي لا يشق له غبار، لا يضيره مقتل شريكه عندما يجد شراكة أخرى أكثر ربحاً. إنها صورة لن تُمحى لكلينت إيستوود بنى عليها، ربما، مجد شهرته لاحقاً.
أما الشرير، والذي لعب دوره “لي فان كليف” باقتدار باهر، يحمل اسماً يتناقض مع طبيعته، فهو قاتل مأجور لا يخشَ أحد، عديم الرحمة ونزق، رغم مفارقة مجاز اسمه “آينجل آيز”. لم يتورع عن قتل قائده مقابل المال، هو شخص سيء الخلق ومتوحش، وعلى استعداد لأن يكون شيطاناً لتأدية أي مهمة تناط له ولا يهمه من سيموت ومن سيعيش، يستطيع أن يقتل كل من يقف في طريقه لتحقيق مصلحته.
أما القبيح ” المكسيكي توكو” فلا بأس لو أطلنا الحديث عنه قليلاً:
جرت العادة، في أفلام رعاة البقر، أن يتم إقصاء كل من هو غير أبيض وغير “أمريكي \ أوروبي”، وتصوير تلك الشخصيات الأخرى بمنتهى الوضاعة والقبح مثل السكان الأصليين [الهنود الحمر] ومن هم من أصول أفريقية والمكسيكيين.
يتابع ليوني سخريته من تلك الصورة من خلال المبالغة في إظهار “قبح” توكو ليس لشيء إلا لأنه مكسيكي، فيظهر كشخص قميء وبشع ومبتذل وغبي، تجتمع فيه ليس الصفات السلبية فحسب، بل، أيضاً، الصفات السيئة، وإن كان لا يخلو من الطيبة الممتزجة بالغباء، وتلك صفات التصقت به واكتسبها من كونه مكسيكي، وليس من كونه رجل عصابات وقاتل، لذلك يتقبل توكو صفاته تلك ولا ينكرها، ولا يتمرد عليها، وتحمل شخصيته بعض القسوة بسبب ماضيه وذكرياته عن الفقر الذي عاشه قديماً، لذلك تتعاظم كراهيته لما حوله ويتحول إلى شخص عديم الرحمة، لا يكن احتراماً لأحد بمن فيهم أخيه القس، ورغم محبته له، فهو غير معجب بتجربته ولا بمبدأ “إدارة الخد الأيمن”، لأنه يكره الضعف، وهذا ما يحوّله، في الحقيقة، إلى قاتل في بيئة لا تعرف الشفقة ولا تعترف سوى بالقوة والقسوة.
توكو هذا، الذي يطلق عليه كل من بلوندي وآينجل آيز لقب الجرذ، هو فعلاً شخص قبيح مثل الجرذ وساخر وأخرق، لكنه خطير، وهذا الاتقان في دوره للمثل إيلي والاك يستحق الكثير من الإشادة بسبب قدرته العالية على تقمص التفاصيل التي أرادها سيرجيو ليوني أن تكون فيه، واستجابة والاك جعلت ليوني يفجر الطاقات الكامنة فيه ليظهر كبطل حقيقي صريح، رغم قبحه وعيوبه الجسدية، وليس مجرد شخصية مساعدة، وهذا تأكيد على منطق ليوني الذي يقول بأنه ليس سهلاً أن نحكم على تفوق أخلاقي لشخص على حساب شخص آخر، إذا ما اعتبرنا أحدهما “جرذاً” و الآخر “خنزيراً”، كما هو حال توكو وبلوندي، فهما يستمتعان بغدر بعضهما البعض، يطعنان بعضهما ويتحينان الفرصة ليتخلص أحدهما من الآخر. وفي الحقيقة، توكو ليس أكثر قسوة من بلوندي، لكن من الواضح أنه أقل ذكاءً، على الأقل هكذا يراهما آينجل آيز. ويؤكد ليوني على محدودية تفكير توكو، عملياً، حين يصوّره عاجزاً عن قراءة كلمة “مجهول” على شاهدة القبر، غير أن هذا لم يمنعه، وهو يمتلئ بنشوة العثور على الذهب، من التجول سريعاً بين القبور، وتأمل الأسماء حتى يعثر على اسم الشخص المطلوب.
ينظر بلوندي و آينجل آيز إلى توكو على أنه غبي، في الحقيقة، ينظر آينجل آيز إلى بلوندي أيضاً بذات النظرة على الرغم من مجاملته لذكاء بلوندي، لكن توكو في أحد اللقطات يمتلك اللحظة الأكثر ذكاءً في الفيلم حين يقول “عندما تشهر سلاحك عليك أن تطلق النار، لا أن تتحدث” فقانون الغرب الأمريكي يقتضي أنه عندما يتوجب عليك قتل أحدهم، فاقتله في الحال، بدلاً من إضاعة الوقت في الكلام الذي قد يكون سبباً في قتلك أنت.
يتحمل توكو العبء الأكبر من الصفعات، بالمعنى المجازي، ورغم قبحه وفساد أخلاقه، فهو الأقرب للتعاطف من بين “الفرسان الثلاثة”، وإحدى لحظات التعاطف تلك تظهر أثناء حواره مع أخيه الكاهن، ورغم حالة الرثاء هذه يبقى بلوندي صامتاً تماماً يستمع للحوار مثل صنم. ونحن لا نعلم الأسباب التي دفعت بلوندي، في نهاية الفيلم، عدم قتل توكو، ربما أحد صفاته كشخص “جيد”، أنه سمح لتوكو القبيح في العيش في الوقت الذي كان قادراً فيه على قتله بسهولة، والمنطق الداخلي لقانون الغرب يجيز قتل توكو على كل حال، ورغم اقتناع بلوندي بنفاق وانتهازية توكو، ففي الشهد الذي يلتقيان فيه بالجنود ذوي البدلات الرمادية، يقول بلوندي: “الرب يكره الحمقى أيضاً”، رداً على صراخ توكو المنافق “تقدموا أيها الأبطال الجنوبيون.. إن الرب يكره الشماليين”.
هؤلاء هم أبطال سيرجيو ليوني، يطاردون بعضهم البعض في مكان ما قريب من الحدود المكسيكية، حيث ينمو عالم مليء بالرعاع والأوغاد، ثلاثة لصوص من أقل صفاتهم الطيبة والشر والقبح، يجيدون الرماية، ولا يتورعون عن قتل من يقف في وجههم، تغمرهم انتهازية فجة، يتحكم فيهم مخرج فذّ يقودهم نحو أسطرة جديدة للويستيرن الأمريكي بأسلوب ساخر بطريقة غير مباشرة تنتقد التنميط السائد لتكشف المعنى الحقيقي للكاوبوي المكافح من أجل الارتزاق واللصوصية، عن طريق الغدر والخداع والانقلاب على رفاق الدرب، فالجيد هنا ليس جيداً لأنه اختار ذلك، بل هو جيد، ربما بالنظر إلى ابتسامته الباردة، ولأنه أذكى من خصميه فضلاً عن موهبته النادرة في استعمال السلاح، مما يمنحه أفضلية العيش لفترة أكثر من غيره ليس إلا، والسيء ليس سيئاً لأنه مرتزق، بل لأنه لا يختلف مع الجيد في تعريف القبيح، وهذا القبيح ليس قبيحاً بمحض إرادته واختباره، فهو ليس قبيحاً بالمطلق أو بالضرورة، بل هو كذلك لأنه أراد له الجيد والسيء أن يكون قبيحاً، ولأنهما لا يريان فيه سوى جرذ ثرثار لا يشكّل موته من عدمه أي فرق لهما.
في ظل هذه الخلفية، ومع لهيب شمس حارقة، وعرق يتصبب، وُلدت ملحمة الدم والدولار في الغرب الأمريكي، حيث تمضي الحياة هناك، بدون انتباه على الأغلب، فقد يموت المرء بسبب حسابات خاطئة، أو طلقة مسدس لا تقصده هو بالذات أو بسبب النزاع على شربة ماء أو القتال من أجل مومس، أو ربما بسبب لسعة عقرب أو لدغة أفعى، هكذا يتم تأطير الكاوبوي، لتكريس مفاهيم القوة والتفوق التي يمثلها الرجل الأبيض على حساب الألوان الأخرى.
وتبدأ سخرية ليوني من العنوان بذاته، حين يحدد لنا حقيقة البطل الحقيقي المطلوب في الغرب، دون روتوش أو مجازات بلاغية، تتحكم فيه غرائزه ضمن عوالم يختلط فيها الخوف بالعنف والجشع بالمكر والنفاق بالخديعة، يقول ليوني: “في السعي وراء الربح أو الفوز، لا يوجد ثمة خير أو شر، مروءة أو خداع، بل يعتمد كل شيء على الصدفة، وليس بالضرورة أن يربح من هو الأفضل، بل من سيربح هو من سيكون الأوفر حظاً بلا ريب”.
مزيج من ثلاث رجال وثلاث صفات \ تصنيفات \ تعريفات كان الهيكل الذي بنى عليه ليوني ثلاثية الدولار، هذا المزيج صنع أسطورة بصرية لن تنسى، يؤكدها ما قاله مخرج أفلام الويستيرن الأشهر جون فورد: “لكي تصنع فيلماً جيداً يكفيك ثلاث مشاهد جيدة، وأن يخلو فيلمك من أي مشهد سيء”. لم يكتف ليوني بهذا الإيجاز كي يصنع فيلماً جيداً، بل دفع بمقولة فورد نحو أقصى حدود البلاغة السينمائية فأنتج، ليس ثلاثة مشاهد فحسب، بل، فيلماً جريئاً، كان له أكبر الأثر على صناعة السينما لاحقاً، واعتبر في حينه ثورة وخروج عن مألوف التقاليد السائدة في التصوير أو اختزال الحوار (عملاُ بالقاعدة التي تحذر من كتابة حوارات مطوّلة لأن “الحوار أداة خادعة قادرة على إفساد العمل”) أو الموسيقا التصويرية التي تكاد تلتصق بالمشهد البصري، أو في سلسلة المشاهد البانورامية المتتالية من خلال ابتكار طريقة تصوير جديدة، فكانت النتيجة تحفة سينمائية خالدة. ويبلغ هذا الإطار الشكلي (الذي برع فيه ليوني) بالاعتماد عل اللقطات المقربة التي تركّز على الملامح الدقيقة للممثلين التي تظهر كجزء رئيسي من المشهد، واختصار الكلام قدر الإمكان، على مبدأ “دع الموسيقا تتكلم.. دع الصورة تتكلم”، ضمن معمار درامي يرفع من شأن اللقطة الواحدة والمشهد الواحد، في سبيل أن تقول الحكاية أسرارها، وحتى مع قلة الحوار واختزاله، يقوم ليوني بتوظيفه لزيادة حدة التصعيد الداخلي لتأسيس عناصر جذب يصعب على المتلقي الإفلات منها ليجد نفسه في نهاية المطاف متورطاً دون أن يدري في مغامرات رجال الويستيرن الثلاثة، وليس أدلّ على ذلك من المشهد الأخير في مقبرة ساد هيل ( لقطة المبارزة): بطء في الحركة، موسيقا تكاد تنطق.
هذا هو أسلوب ليوني، لا يتعجل في عرض المشهد الدرامي قبل الوصول للذروة، ونظراً لامتلاكه حاسة بصرية مذهلة، فقد استطاع أن يخلق قدراً كبيراً من الواقعية الشديدة التي ساهمت في تحرير اللحظة الختامية الساحرة.
وفي غمرة استغراقنا في تلك اللحظات، نكاد ننسى بطلاً رابعاً يضاف إلى أبطال ليوني الثلاثة، وأقصد، الموسيقا.
ولعل الموسيقا الصاخبة والإيقاعات المتواصلة، كانت، أحد أهم عوامل نجاح الفيلم أيضاً. فنحن مع الزمن سوف نسى الكثير الكثير من تفاصيل الفيلم، بل ربما ننسى معظمه أو مجمله، لكن لا يمكن أن تغيب عنا موسيقاه الممتزجة بصوت الرصاص والصفير والعواء الذي يشبه عواء ذئب، لحن يخلق النشوة والحماس والترقب، وربما بعض التبرم في انتظار اللحظة التالية.
تستخدم الموسيقا التصويرية في الفيلم ثلاثة نغمات رئيسية، كل واحدة تتوافق مع أحد أبطال الفيلم، فموسيقا آلة “الفلوت” تكون سائدة عند ظهور بلوندي، بينما يزدحم الصوت البشري والصياح مع صورة توكو حال ظهوره على الشاشة، أما الأوكارينا “وهي آلة نفخ” تخص ظهور آينجل آيز. ويبقى العواء هو اللازمة على مدار الفيلم، وتمتزج الموسيقا مع طريقة التصوير الذي يزاوج بين اللقطة البعيدة واللقطة القريبة ليخلق سلسلة ملتحمة من الوجوه والأيادي والأصابع، حين تطبق على زناد الأسلحة ببطء، وتتصاعد الموسيقا ويتصاعد معها التوتر والتشويق المطلوبين لمثل هذا النوع من الأفلام، وتكتمل صورة الويستيرن في المشهد البانورامي للتلال والسهوب والغبار المتناثر والأشواك المتطايرة.
هذا هو الغرب الذي يريد لنا ليوني أن نراه، ولست أدري إن كان يُراد لنا أن نُعجب أو نكره هذه الصورة. ليس هذا الملفت فحسب، بل سوف نندهش حين نعلم أن المخرج طلب وضع الموسيقا، أولاً، ثم بعد ذلك تم تركيب المشاهد عليها، ولاحقاً، سوف تكون موسيقا المشهد الختامي، في المقبرة ذروة الحدث، والتصعيد الدرامي، وهي بحق من أجمل الألحان التصويرية، حيث تندمج فيها أحداث ومشاهد الفيلم ويعززها خواء الصحراء وقسوتها وشدة حرارتها ووحدة وعزلة أبطال الفيلم، ويقال أن ليوني أخبر موريكوني واضع الموسيقا أثناء إعداد الفيلم أنه يريد موسيقا تشبه نشور الموتى من قبورهم، فأبدع موريكوني بإنتاج تحفة نادرة، ربما هي الأشهر في عالم الموسيقا التصويرية، وما الذي يمكن أن يكون أقرب إلى النشور وخروج الموتى من صوت النفير الذي يتبعه قرع الطبول ثم يليه ضجيج صاخب مثل صوت اصطكاك العظام وطقطقتها.. صراخ يتبعه صراخ، وثمة شعور باقتراب الموت هنا، كيف لا، والموت يحوم في كل مشهد، ويقف متحفزاً على فوهة مسدس.
باعتقادي، لم يعد بمقدور أي واحد منا الآن، أن يتصور المشهد الختامي دون موسيقاه، بل على العكس، يمكن إغماض العينين وتحسس الصورة عبر الموسيقا، فتمر اللقطات السريعة لوجوه رعاة البقر، ثلاث لقطات مقربة للوجوه، ثم ثلاث لقطات لمسدساتهم، ولا تتوقف الموسيقا، وهكذا، تنهال علينا اللقطات المتتالية للوجوه غير الحليقة، ويتزايد تقريب الصورة مع إيقاع وسرعة الموسيقا، ثم ترقب وحذر يلف المكان والوجوه، وأخيراً يكون الخوف هو العنوان.
نعم، لابد من الخوف، فالحياة على المحك مع كل حركة، تتزايد النغمات وتتصاعد حتى تصل إلى الذروة.. ثمَّ!.. لا ثمَّ هنا. فمن منا يمكنه أن ينسى منظر وجه توكو وهو يصرخ غاضباً في آخر مشهد يشتم بلوندي بكلمات بذيئة تتلاشى وتتبدد ولا نسمعها لأن الصرخة الشبيهة بعواء الذئب تحل محلها وتتعالى لتخرس في النهاية صرخة توكو.
ملاحظة ختامية: من الصدف الغريبة أن نرى كحالة نادرة أن يتحول هذا الفيلم إلى كتاب \ رواية على يد جوي ميلارد.
مختصر أحداث الفيلم:
يقع توكو “القبيح” المطلوب للعدالة في أسر بعض صائدي الجوائز فيقوم بلوندي “الطيب” بتخليصه من الأسر، ويتفق معه على خداع رجال القانون، حيث يلعب بلوندي دور صائد جوائز ليقوم بالقبض على توكو، وتسليمه للسلطات فيحصل بلوندي على الجائزة، وأثناء تنفيذ حكم إعدام توكو، ينقذه بلوندي، ويحمله وراءه على صهوة حصانه، وينطلقان بعيداً، ويتقاسمان الجائزة. تستمر العلاقة بينهما لفترة معينة على هذا المنوال، إلى أن يقرر بلوندي، ذات يوم، وبعد أن ينقذ توكو أن يتركه لمصيره في الصحراء (ربما توصل بلوندي إلى اتفاق مع قبيح آخر جائزته أكبر من توكو)، لحسن حظ توكو أنه لا يموت في الصحراء، فيجمع حوله عدد من المرتزقة للانتقام من بلوندي. يفشل توكو في قتل بلوندي، بعد أن عثر عليه في أحد الفنادق، إذ يتمكن هذا الأخير من النجاة من الموت بأعجوبة.
ومن هنا تبدأ رحلة توكو المضنية، في البحث عن بلوندي، وتتحول إلى قضية شديدة الخصوصية والشخصية بينهما، إلى أن يعثر عليه وهو يحاول أن يخلّص أحد المجرمين من حبل المشنقة، في تكرار لذات اللعبة التي كانا يلعباها سابقاً، يقوم توكو بتقييد بلوندي ويمضي به إلى عمق الصحراء، فيظهر توكو ممتطياً جواده وهو يدفع بلوندي أمامه بقسوة، وقد تقرح وجه وشفتاه من شدة الحرّ والعطش، فينهار تدريجياً حتى يفقد القدرة على الحركة ويسقط متدحرجاً من فوق كثيب رملي، عند هذه اللحظة تمتلئ نفس توكو بالرضا، ويشع وجهه انتقاماً، وقبل أن يفكر بالتخلص من بلوندي، تظهر في الأفق عربة، تسير بسرعة كأنه لا يقودها أحد، فيسرع توكو نحوها ليعثر على جثث جنود جنوبيين، يقوم بتفتيش جيوبهم، لعله يجد ما هو ثمين، ليكتشف أن أحد الجنود (بيل كارسون) مازال حياً يتوسل شربة ماء، يهم توكو بقتله لكن الجندي يخبره أنه لو أعطاه ماء فسوف يكشف له سر كنز الدولارات الذهبية، التي كان قد سرقها من الجيش، وفرَّ هارباً، لكن توكو يصرّ بخبث على معرفة مكان الذهب أولاً، فيخبره الجندي بمكان الذهب وهو أحد المقابر وقبل أن ينطق باسم القبر الذي دفن فيه الذهب، يغمى عليه فيسارع توكو ليجلب الماء، وعند عودته يجد الجندي متدلياً من العربة، وبجانبه بلوندي الذي وصل إليه زحفاً، مات الجندي دون أن يعرف توكو اسم القبر، فيغضب ويخرج مسدسه، يريد قتل بلوندي الذي يهمس له بأنه أصبح يعرف اسم القبر الذي يحتوي الكنز. وهنا تدخل العلاقة بينهما في منعطف جديد، يجعل من توكو حريصاً على حياة بلوندي فيذهب به إلى دير قريب بمعالجته، ثم يمضيان للبحث عن الذهب، وكل منهما يعلم أنه لا يمكنه التخلص من الآخر، فكل واحد يحتفظ بنصف الأحجية، يقترح بلوندي أن يرتديا ثياب الجنود الجنوبيين، ويركبان العربة التي وجداها، لكنهما يقعان أسرى بيد إحدى الكتائب الشمالية، يستبدل توكو اسمه في معسكر الاعتقال باسم “بيل كارسون” وحين ينادى على أسماء الأسرى، ينتبه آينجل آيز الذي يخدم برتبة رقيب في الجيش الشمالي إلى اسم توكو الجديد، فهو ما كان يبحث عنه منذ مدة، فيأمر بعض الجنود بإحضار توكو\بيل كارسون إلى غرفته، وهناك يدعوه للطعام فهما يعرفان بعضهما البعض من قبل، ويسأله عن سبب انتحاله اسم بيل كارسون فيجيبه توكو إنه مجرد اسم، مثله مثل غيره من الأسماء، فيغضب آينجل آيز، ويبدأ بتعذيب توكو حتى يعترف له بقصة الذهب والمقبرة، ويقول له أن بلوندي وحده من يعرف اسم القبر، فيعرض آينجل آيز صفقة مع بلوندي، يتعهد فيها بإخراجه من المعتقل بشرط أن يكون شريكه في الذهب، بدلاً من توكو الذي قام بإرساله مع باقي الأسرى إلى مكان بعيد، لكنه يتمكن من الهرب ويصل إلى إحدى البلدات التي كانت تتعرض للقصف، فيدخل إلى أحد الفنادق، وفي الحمام يدخل عليه رجل مسلح كان قد لمحه من قبل (كان توكو قد تسبب ببتر يده فيما مضى) لكن توكو يعالجه برصاصة من مسدسه الذي كان يخفيه في حوض الحمام، في تلك الأثناء كان بلوندي برفقة آينجل آيز يرتاحون في أحد المنازل المهجورة المجاورة، فيتبه بلوندي لصوت الرصاص ويستطيع تمييز صوت مسدس توكو، فيخرج ليستطلع الأمر، فيرسل آينجل آيز أحد رجاله خلفه، لكن بلوندي يقتله حالما يراه، ثم يمضي نحو توكو ويخبره بأن آينجل آيز لا يعرف اسم القبر وأن عليهما أن يتخلصا منه، فيخرجان معاً ويكون رجال آينجل آيز بانتظارهما، فتدور معركة في الحال، يتخلصان على إثرها منهم ويختبئ آينجل آيز، ثم يهرب تاركاً رساله إلى توكو تقول “أراك قريباً أيها الغبي”.
ينطلق بلوندي وتوكو مجدداً للبحث عن ” كنزهما”، وبينهما هما في الطريق يتم القبض عليهما مرة أخرى من قبل الشماليين، ولكن هذه المرة في إحدى جبهات القتال حيث يحاول كل من الشماليين والجنوبيين الاستيلاء على جسر خشبي، على أحد الأنهار القريبة، فقوم بلوندي وتوكو بتلغيم الجسر لتفجيره، مما يعني نقل المعركة إلى جهة أخرى بعيداً عن موقع المقبرة، وأثناء تلغيم الجسر يتفق كل منهما على البوح للآخر بجزء من السر الذي يحفظه نظراً لاحتمال موتهما أو موت أحدهما، وهنا نعرف أن اسم المقبرة هو “ساد هيل” واسم صاحب القبر هو “آرش ستانتون”، فيشعل بلوندي الديناميت ويخرجان مسرعين من النهر ويختفيان خلف أحد التحصينات. يتطاير الجسر الخشبي، بفعل الانفجار، وتدور معركة بين الجيشين طوال الليل. وعند الصباح يسود الهدوء المكان، فقد غادر الجيشان مواقعهما مخلفين الدمار وجثث القتلى، فيترك بلوندي وتوكو المكان أيضاً. و يعبران ضفة النهر المقابلة، وعند مرورهما بإحدى الكنائس المدمرة، يرى بلوندي جندياً جنوبياً شاباً يحتضر فيضع بلوندي في فمه سيجارة، لكنه يموت في الحال، فيأخذ توكو حصانه وينطلق هارباً، فيشعل بلوندي فتيل مدفع قريب منه ويوجهه نحو توكو فتنطلق القذيفة ويسقط توكو من على صهوة الحصان بسب القذيفة التي وقعت بالقرب منه، وما إن ينهض حتى يجد نفسه في مقبرة “ساد هيل” محاطاً بالمئات من شواهد القبور، فيبدأ في الركض كالمجنون باحثاً عن قبر “آرش ستانتون” حتى يعثر عليه، فيقوم بنزع الشاهدة الخشبية ويستخدمها ليزيح بها التراب الذي يغطي القبر والطمع يملئ عينيه الصغيرتين، وبينما هو كذلك يقترب منه بلوندي ويرمي له مجرفة ويأمره بالحفر، فيمتثل توكو عندما يرى بلوندي قد أزاح طرف “البونشو” كاشفاً عن مسدسه. يستمر توكو بإزاحة التراب، حتى ينكشف التابوت الخشبي وسط القبر، وهنا يظهر إينجل آيز فيرمي مجرفة ثانية لبلوندي، ثم يأمرهما بالحفر معاً، فيشعل بلوندي سيجاره متجاهلاً الأمر، فما كان من آينجل آيز إلا أن جهز مسدسه مهدداً بقتله، فيخبره بلوندي بأنه لو قتله فلن يرَ سنتاً واحداً من الدولارات الذهبية، فيبدي آينجل آيز استغرابه، فيزيح بلوندي غطاء التابوت برجله فإذا به يحتوي على هيكل عظمي. وهنا يقرر بلوندي أن يتبارز الرجال الثلاثة للحصول على الاسم الحقيقي للقبر، حيث يكتب بلوندي اسم صاحب القبر على سطح حجر صغير، ويضعه في وسط الساحة التي تتوسط المقبرة، لينتهي النزال بمقتل آينجل آيز على يد بلوندي، بينما أبقى على توكو حياً، الذي لم يستطع استخدام سلاحه، لأن بلوندي كان قد أفرغه من الرصاص في وقت سابق من ليلة تفجير الجسر، دون علم توكو.
يخبر بلوندي توكو عن مكان القبر الحقيقي، ويطلب منه أن يحفر، وماهي إلا لحظات حتى يخرج توكو أكياس الذهب، ويضرب أحدها بطرف المجرفة فتتناثر القطع الذهبية على التراب، فيجثو على ركبتيه، ويلمس الذهب، وهو يكاد يطير من الفرح وعندما ينتصب واقفاً، يتفاجىء بأن بلوندي، قد أعد له حبل المشنقة طالباً منه أن يضع رأسه داخل الأنشوطة، وهو يهدد بمسدسه، يظن توكو للوهلة الأولى أن الأمر مجرد مزحة، ولكنه يكتشف جدية بلوندي، فيصعد فوق شاهدة القبر المتهالكة ويدس رأسه في الحبل، فيقوم بلوندي بشد الحبل حول رقبة توكو، ويوثق يديه إلى الخلف، يحمل بلوندي نصف أكياس الذهب، ويترك النصف على حافة القبر، وتوكو مازال معلقاً يتأرجح فوق الشاهدة. ينطلق بلوندي بعيداً، وتوكو يناديه بحرقة بينما قدماه ترتجفان فوق الشاهدة المتداعية، يتوقف بلوندي فجأة، وينظر نحو توكو، ثم يصوب بندقيته نحوه، ويطلق رصاصة فتقطع الحبل، ويسقط توكو داخل القبر فوق الذهب، يبتسم بلوندي، ويستدير متابعاً طريقه. ينطلق توكو راكضاً نحو وسط ساحة مقبرة ساد هيل ويداه مقيدتان خلفه، وهو ينهال بسب ولعن بلوندي الذي كان قد اختفى تماماً في الأفق.